هل تراجع تأثير المفكرين في أوضاع مجتمعاتهم أم أنهم ماتوا نهائياً ولم تعد لآرائهم أي قيمة؟
يسود الآن بعض الأوساط الثقافية في الخارج جو من التشاؤم، حول وضع المفكرين في المجتمع المعاصر، ودورهم في تشكيل الحياة الاجتماعية والسياسية، من خلال مناقشة وفحص ونقد الأوضاع العامة التي تواجه مجتمعاتهم وتشغل بال الجماهير العريضة، وتؤثر في مستقبل المجتمع الإنساني ومدى مشاركتهم في تنوير الرأي العام سواء على المستوى الوطني أو المستوى العالمي، كما كان عليه الوضع في القرن الماضي، حين كان كبار رجال الفكر ينقدون من خلال كتاباتهم ومحاضراتهم ولقاءاتهم العامة، بل والمشاركة في المسيرات الجماهيرية وإصدار النداءات والنشرات والبيانات والاحتجاجات، ما كانوا يعتبرونه خروجا من الأجهزة الرسمية على القيم والمبادئ والحقوق المشروعة لشعوبهم. وكثيرا ما كانت هذه المواقف تدفع الحكومات وأصحاب القرار إلى تغيير سياساتهم الخاطئة، والخضوع لقوة الرأي العام. وقد نجد شيئا من هذا التشاؤم في مجتمعاتنا العربية، التي تشكو من خلو الساحة من المفكرين ذوي التأثير الواضح القوي الذي كان يتمتع به مفكرو القرنين الماضيين، الذين لعبوا دورا أساسيا في النهضة العربية في كل المجالات، وأسهموا في تشكيل العقل العربي المعاصر. فمشكلة تراجع دور المفكرين الذي يصفه البعض في الخارج بأنه (موت المفكرين)، مشكلة عالمية تعاني منها معظم – إن لم يكن كل – دول العالم، مع وجود تفاوت في مدى وعمق الشعور بهذه المعاناة ووسائل مواجهتها. وهي مشكلة سوف تتفاقم في الأغلب خلال العقود القادمة من القرن الحادي والعشرين. وقد يكون هناك شيء من المبالغة في دعوى موت المفكرين. فكل عصر ينجب مفكريه الذين يعبرون بآرائهم وإبداعاتهم وانتقاداتهم عن الأوضاع السائدة في ذلك العصر، وإن كان هذا لا ينفي تراجع التأثير، وبخاصة حين نقارن انكماش عدد رجال الفكر ذوي الرأي المستقل في الوقت الحالي ونوعيتهم ورتابة اهتماماتهم وضعف تأثيرهم في صياغة الرأي العام، وإحداث التغييرات الجوهرية في مجتمعاتهم وعدم انتباه الجماهير العريضة، فضلا عن خاصة المثقفين, إلى إنجازاتهم بما كان يحدث في الماضي، بل إن هناك شعورًا عاما يعبر عنه صراحة بعض الكتاب في الخارج بأن المفكرين لم يعودوا يحظون بالاحترام والتقدير اللذين كان مفكرو القرن الماضي يتمتعون بهما، وهذه كلها أمور تواجه المجتمع العربي، وأقيمت حولها مؤتمرات وندوات. وقد ظهر في الخارج في السنوات الأخيرة عدد كبير من المؤلفات التي تسترعي الانتباه وتدل على استفحال المشكلة أو على الأقل إدراك خطورتها الآن وتفاقمها في المستقبل. ويكفي أن نشير هنا إلى بعض هذه الكتابات الحديثة، حتى نتبين وضع المفكرين في بداية الألفية الجديدة وما سيكون عليه الحال في المستقبل ومدى عمق الشعور بالقلق إزاء هذه الأوضاع الجديدة. فقد صدر منذ سنوات قليلة لأحد المفكرين الجامعيين في بريطانيا وهو «ستيفان كوليني» Stefan Collini كتاب طريف بعنوان «العقول الغائبة: المفكرون في بريطانيا» يذكر فيه أن غياب المفكرين من الساحة وعدم إبداء الاهتمام الواجب نحوهم في بريطانيا ظاهرة خطيرة، تشير إلى التطورات المستجدة التي تهدد الثقافة العليا أو الراقية، والتي سوف تؤدي بالضرورة إلى تراجع دور رجال الفكر في توجيه الأمور في المجتمع البريطاني بالقوة والفاعلية نفسها التي كانت عليها الأوضاع تحت تأثير مفكرين من حجم ووزن برتراند راسل أو جورج برنارد شو. وهذه النظرة المتشائمة نفسها حول المستقبل نجدها في كتاب الأستاذ الأمريكي «راسل جاكوبي» Russell Jacoby عن «آخر المفكرين» أو في كتاب الأستاذ الأمريكي الآخر «ريتشارد بوزنر» عن: Public Intellectuals A Study in Decline وكلها عناوين كاشفة وذات دلالة.
الدفاع عن الفشل
وتجمع هذه الأعمال المهمة وغيرها كثير على أن تأثير المفكرين ذوي الرؤية العامة الشاملة أصبح ضعيفا للغاية في المجتمع المعاصر، وأن ذلك الضعف سوف يزداد وضوحا وخطورة بمرور الزمن، وأن دور هؤلاء المفكرين – في حالة وجودهم، وهو أمر مشكوك فيه – يتوارى بسرعة رهيبة وتقل فاعليته في الحياة الاجتماعية والسياسية، وأن الأجيال الجديدة من المفكرين يشغلون أنفسهم بأمور سطحية، ويدافعون عن قضايا ثبت فشلها وعدم جدواها، وأن كثيرا من الأفكار التي يتطوعون بتقديمها حول المسائل والمشكلات الحيوية غالبا ما تكون أفكارا ساذجة لا تصدر عن فهم دقيق وعميق لطبيعة هذه المشكلات أو حقيقة متطلبات العصر، وأن هذا هو الطابع العام الذي يطبع تفكير من يطلق عليهم بعض الكتاب اسم «المفكرين الجدد»، تمييزا لهم عن كبار مفكري القرن الماضي الذين ارتبطوا ارتباطا عضويا بمشكلات الإنسان والمجتمع، وسيطرت أعمالهم وكتاباتهم وآراؤهم على أذهان معاصريهم وتجاوز تأثيرهم في كثير من الأحيان حدود مجتمعاتهم إلى النطاق الدولي وأفلحوا في وضع بصماتهم القوية الواضحة على مختلف جوانب الحياة الفكرية والاجتماعية والسياسية في الفترة التي عاصروها. وليس ثمة ما يدعو إلى الخوض هنا في تفاصيل التعريفات العديدة المختلفة لكلمة Intellectuals التي نفضل ترجمتها بكلمة (المفكرين)، ويكفي أن نذكر أن المفكر شخص يتميز باتساع الأفق وتنوع الثقافات والاهتمامات، والإحاطة بما يجري حوله من أحداث لها انعكاساتها على المجتمع الذي ينتمي إليه بل وقد يشارك في صنعها ويفرض على نفسه مسئولية توصيل أفكاره عن القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المهمة إلى الجماهير المثقفة غير المتخصصة وإثارة اهتمامهم بهذه القضايا والمشاركة في مناقشتها بقدر الإمكان. ومن التعبيرات الساخرة التي يتعرض لها المفكرون على هذا الأساس وصفهم بأنهم (صائغو كلمات وألفاظ)، وذلك في إشارة واضحة لما يقوم به الأدباء والروائيون والشعراء والفلاسفة والأساتذة الجامعيون، الذين يشاركون في مناقشة الموضوعات والمشكلات العامة التي تقع خارج نطاق تخصصاتهم الدقيقة. وتمييزا لهم عن العلماء الذين يوصفون بأنهم (صائغو أعداد وأرقام) وعلى الرغم من السخرية الخفية أو المستترة وراء تعبير «صائغي الكلمات» فإن هؤلاء المفكرين – في رأي بعض الكتاب على الأقل – ينظرون إلى أنفسهم على أنهم هم صفوة المجتمع، بل وأهم عنصر في تكوينه، وأن الحياة السليمة لا تستقيم دونهم، وهو مايعتبره الكثيرون قمة الغرور والادعاء.
وبصرف النظر عن مدى صدق وجدية هذه العبارات والأوصاف، فالمفكر في آخر الأمر يعرف كيف يستثمر ذكاء ذهنه في التفكير والتأمل والدراسة والنقد وإثارة التساؤلات، واقتراح إجابات شافية لهذه التساؤلات المتعلقة بشئون الحياة والمجتمع والوضع الإنساني على مستوى العالم، مع تكريس جهوده للدفاع عن القضايا والحقائق الصعبة العسيرة التي تتقاطع مع الخطوط السياسية والأيديولوجية السائدة في المجتمع أو حتى في العالم كله، والتي يعتقد أنها خليقة بالمراجعة والفحص والنقد والدحض أو التأييد، بما يحقق مزيدا من الخير ويرفع الظلم والقهر ويحقق العدالة الاجتماعية ويتفق مع المبادئ الإنسانية الرفيعة. فهو يحاول إذن أن يستوعب بنظرته الشاملة الإنسانية ككل، أو كوحدة عضوية متكاملة حتى في الحالات التي يعالج فيها مشكلة جزئية أو محلية خاصة، وذلك على الرغم من كل ما قد يواجهه من اعتراض ورفض وأذى واضطهاد. فهو صاحب رسالة يؤمن بها قبل كل شئ ويعمل على الترويج لها ونشرها من خلال المناقشة والإقناع. بل إن رسالة المفكر تفرض عليه العمل على كشف جوانب النقص في القرارات التي تتخذها السلطات الحاكمة، والأسس التي ترتكز عليها هذه القرارات والأسباب الحقيقية التي تدفع إلى اتخاذها، على الرغم مما يعتورها من عيوب، والتي كثيرا ماتكون خافية على الشخص العادي.
الإنسان عديم الصفات
ويبدو أن هذا الدور التقليدي -أو المثالي – للمفكرين بدأ ينحسر ويتراجع في العقود الأخيرة، وأنهم يفقدون مكانتهم وفاعليتهم بالتدريج ولكن بانتظام واطراد، وأن الكثيرين ممن يوصفون الآن بأنهم مفكرون لايحملون الرسالة نفسها، التي حملتها الأجيال السابقة على الأقل بالقوة والالتزام، كما يبدو أن هذا التراجع سوف يزداد حدة ووضوحا في العقود التالية من هذا القرن، نتيجة للتغيرات العميقة التي يمر بها العالم المعاصر، وما ترتب على هذه التغيرات من ظهور مايطلق عليه في بعض الكتابات في الخارج تعبير (الإنسان عديم الصفات والخصائص the man without (qualities، الذي يتقبل كل شيء في الحياة السياسية بالذات بغير تفكير أو مناقشة أو إبداء رأي، بل على العكس من ذلك تماما يحاول تبرير ما يلقى إليه وما يصدر عن أصحاب النفوذ من قرارات. ولذا فلن يكون من الغريب أن يصبح المفكرون – بالمعنى (التقليدي) للكلمة، في المستقبل غير البعيد – إحدى الظواهر التاريخية التي ذهبت مع الريح، والتي يمكن أن نقرأ عنها فقط في كتب التاريخ وأن يحل محلهم فئة أخرى من «المفكرين الجدد»، الذين سيكونون بالضرورة نتاج عصرهم بكل خصائصه ومقوماته، والقوى والعوامل التي تتدخل في صياغته وتشكيله.
من أهم مظاهر العصر الحديث المسئولة بشكل مباشر عن ضمور القيم التقليدية لرجال الفكر ومثلهم العليا، مما مهد الطريق لظهور المفكرين الجدد، الإيمان الشديد والمتنامي بالتخصص الذي يؤدي في آخر الأمر إلى التعمق في فهم مجال معين بالذات من مجالات المعرفة وإغفال المجالات الأخرى بكل مايترتب على ذلك من ضيق الأفق الثقافي والانسحاب من الحياة الواسعة العريضة الزاخرة بالأحداث والمشكلات والقضايا الفكرية والإنسانية الشديدة التنوع والتعقيد، والانصراف بالتالي عن الاهتمام بالشأن الإنساني الذي يعطي المفكر أسباب ومبررات وجوده. فعدد كبير من مفكري الأجيال السابقة في كثير من بلاد العالم، بما في ذلك العالم العربي كانوا من الأكاديميين وأساتذة الجامعات المتخصصين في ميادين ومجالات أكاديمية مختلفة لا تتصل في كثير من الأحيان بالدراسات الإنسانية والاجتماعية، دون أن يمنعهم تخصصهم الدقيق من الاهتمام بمشكلات العصر وانعكاساتها على الوضع الإنساني العام، بل إنهم سخروا تلك المعارف المتنوعة لخدمة مجتمعاتهم وشعوبهم، بل وشعوب العالم أجمع، وهو ما لا نكاد نجد له مثيلا بين الأكاديميين الحاليين إلا فيما ندر، وفي حدود ضيقة للغاية. فعصر المفكرين الأكاديميين الذين يجمعون بين الاهتمام والعناية بفروع تخصصاتهم والالتزام الفكري والثقافي العام إزاء المجتمع قد انحسر أو هو في طريقه إلى الزوال والاختفاء بكل ماكان يحمله من فكر جاد مستنير وأفكار تقدمية وآراء رائدة وتحديات للأوضاع القائمة وتحريض على فحصها ونقدها والتمرد عليها من أجل تحقيق واقع أفضل. وقد أصبح الأكاديميون أشد اهتماما والتصاقا بحياتهم الأكاديمية المحدودة، وانسحب الكثيرون منهم من مجال العمل الفكري العام، وبذلك خلت الساحة أمام فئة المفكرين الجدد الذين ينتمون في الأغلب إلى مجالات الإعلام المختلفة التي لا تتوخى بل وقد لا تتطلب بالضرورة، التعمق في المعالجة بالدراسة والتحليل ولا تهتم في العادة بالقضايا الإنسانية الحيوية أو المشكلات الفكرية الكبرى بينما تحرص على مخاطبة الجماهير العريضة عن أمور ومشكلات حياتية عامة، بل وعارضة أحيانا بأسلوب بسيط، يحمل بين طياته بذور تسطيح الفكر وتكريس ما يمكن تسميته بثقافة القطيع، بعد أن كان مفكرو الأجيال السابقة يعملون على نشر الثقافة الرفيعة بكل أبعادها.
المفكرون وغريزة القطيع
والواقع أن صفة (القطيع) تصدق هنا على المفكرين الجدد أنفسهم، بقدر ما تصدق على الجماهير التي يوجهون إليها خطابهم الفكري والثقافي. وثمة شكوى عامة من اختفاء الأصالة والتفرد في الإبداع لدى الأجيال الجديدة من المفكرين الذين يقنعون بمعالجة الموضوعات الطارئة والعابرة بدرجة عالية من التسرع والسطحية التي قد تكون من مقتضيات الكتابة الصحفية والبث الإذاعي والتلفزيوني وغيرها من وسائل الإعلام الحديثة. ولقد جاء استخدام لفظ القطيع في سياق الحديث عن المفكرين الجدد في مقال بعنوان Earth to Intellectuals نشره Bowen Harris في جريدة Dallas Morning News بتاريخ 18 ديسمبر 2005 ذكر فيه أن المفكرين الجدد نوعان: مفكرون عاجزون عن فهم ومواجهة القضايا الكبرى، ولذا يتناولونها في الأغلب بطريقة فجة وخاطئة. ومفكرون يبهرون بالأفكار الجديدة فيقعون أسرى أو عبيدا لها, ويتقبلونها دون دراسة أو فهم أو تحليل، ويرددونها في أحاديثهم وكتاباتهم لأنها (موضة) جديدة ينبغي اتباعها والخضوع لأحكامها ومفرداتها، للتدليل على أنهم يسايرون ثقافة وتفكير العصر. فهم في عمومهم (قطيع) من العقول التي تبدو مستقلة أحدها عن الآخر، ولكنها في حقيقتها تسير كلها في المسار الفكري السائد نفسه، على الرغم من كل ماقد يبدو بينها من تفاوت ظاهري. ويتمثل تفكير القطيع بشكل واضح في العبارات الطنانة، والشعارات التي يرددها هؤلاء المفكرون الجدد بكثرة لا مبرر لها مثل الهيمنة الغربية، وعالم بغير حدود، وصحوة المارد الآسيوي، والكوارث الإيكولوجية، والعالم بعد الحداثي، وتجفيف منابع الإرهاب، وغيرها كثير، دون أن يضيف أي منهم شيئا جديدا إلى ما ذكره كل الآخرين.
فالمأخذ الأساسي الذي يؤخذ على وسائل الإعلام في هذا الصدد، هو أنها أصبحت إلى حد كبير أداة تسطيح للفكر ونشر الآراء والأفكار البسيطة، أو حتى الساذجة على نطاق واسع، مما حرم المفكرين الجادين من وسيلة قوية وفعالة، كان يمكن استخدامها بكفاءة في تنوير الرأي العام بحقيقة الأوضاع في العالم، وتحقيق التغيرات الاجتماعية والسياسية المطلوبة. وثمة الآن مخاوف حقيقية حول مستقبل الفكر الرصين والمفكرين الجادين من التأثيرات السلبية التي قد تنجم عن سيطرة المفكرين الجدد على وسائل الإعلام وتسخيرها لنشر آرائهم التي كثيرا ما تعوزها الأصالة والعمق والجدية والإحاطة، والقدرة على النقد والتقييم والحكم، كما هو شأن أعمال مفكري الأجيال السابقة التي كانت تترك آثارا راسخة وعميقة في نفوس وعقول المتابعين لها.
وداعاً للثقافة الرفيعة
ولا تخلو هذه الأحكام التي تملأ بعض الكتابات في الخارج والتي تتردد أحيانا على ألسنة بعض كبار المثقفين والمهمومين بمستقبل الفكر والثقافة الرفيعة، ودور المفكرين في توجيه السياسات العامة في العالم العربي من القسوة والتحيز للأجيال السابقة من المفكرين، فميادين البحث والدراسة والتحليل ومصادر المعلومات ومجالات المعرفة أكثر رحابة وتنوعا الآن أمام الفئات الجديدة من المفكرين، عما كان عليه الحال في القرن الماضي مثلا، وذلك بفضل الكمبيوتر والإنترنت، وما أتاحته وسائل الاتصال الإلكتروني من تدفق المعلومات وإمكان الحصول عليها ونشرها، وتبادل الأفكار على نطاق واسع يتعدى كل الحدود الجغرافية والسياسية. والمفروض أن هذا يسهم في توسيع آفاق المفكرين الجدد الفكرية وتنويع اهتماماتهم وإثارة أخيلتهم نحو ارتياد ميادين جديدة للإبداع والابتكار، كما يضعهم أمام تحديات جديدة ينبغي مواجهتها بقوة ووضوح، حتى يتسنى لهم المشاركة في تغيير الأوضاع التي تتنافى مع مبادئ العدالة الاجتماعية والقيم الإنسانية.
ولكن هذا لا يمنع – في رأي الكثيرين – من أن عهد المفكر الفرد المؤثر في أبناء جيله والأجيال التالية قد انتهى، أو أنه في سبيله إلى ذلك، وأن عصر الثقافة الراقية الرفيعة العميقة في طريقه هو أيضا إلى الاضمحلال والانكماش أمام غزو «الثقافات الدنيا» – حسب التعبير الأنثروبولوجي – والدعاوى العارضة السطحية التي تستحوذ على اهتمام المفكرين الجدد والتي لا تحتاج إلى جهد أو عناء في العرض والتقبل دون فحص أو اختبار. والخطورة هنا تكمن في أن هذا الاهتمام بتلك القضايا والدعاوى غالبا ما يكون اهتماما وقتيا، وأن الحديث فيها قلما يترك أثرا باقيا في الأذهان أو في حياة المجتمع، أو يؤدي إلى تغيير حقيقي في مجالات الحياة. وهو ما يحدث بالنسبة لكثير من الكتابات الصحفية والأحاديث الإذاعية واللقاءات التلفزيونية التي يزول أثرها فور الانتهاء من قراءتها أو الاستماع إليها أو مشاهدتها، مع وجود استثناءات من ذلك بطبيعة الحال. إنها ثقافة القطيع، التي يحمل عبء توصيلها ونشرها المفكرون الجدد، عن طريق وسائل الإعلام الحديثة. لقد انتهى عصر المفكر الفرد لكي يبدأ عصر المفكر الجماهيري – إن صح التعبير.
والملاحظ أيضا أن عددا كبيرا من المفكرين الجدد يشغلون وظائف حكومية تفرض عليهم الالتزام بسياسة الدولة، بل والدفاع عنها وتبريرها، بعد أن كان مفكرو الأجيال السابقة يقفون من تلك السياسات موقف الناقد، الذي كثيرا ما كان يتحول إلى موقف الرافض المتمرد الذي تصدر آراؤه وأحكامه عن مبادئ ذهنية واجتماعية وأخلاقية واضحة وراسخة، وكان هؤلاء المفكرون يدافعون بإصرار عن مواقفهم ومبادئهم على الرغم من كل ما كان يصادفهم من عنت ومتاعب، وعلى الرغم مما كانوا يتهمون به من سلبية وعدم فهم للواقع والإغراق في الخيال، بل والعمالة والخيانة في بعض الأحيان. وتلقي الوظيفة الحكومية ظلالا كثيفة من الشك حول مصداقية هؤلاء المفكرين الجدد الموظفين، الذين وصفهم لينين – ظلما – بالأغبياء النافعين useful fools والذين استبدلوا سياسة الدفاع والتبرير بمبادئ المكاشفة والنقد والتوجيه، وهو وضع يثير قلق البقايا الباقية من المفكرين (التقليديين) المهمومين بقضية استرجاع المصداقية المفقودة.
ولكن ما السبيل إلى ذلك؟.
2 تعليقات
إن ما تتحفنا به مجلة نقد وتنوير كل مرة، تحت إشراف رئيس هيئة تحريرها إ.د. علي أسعد وطفة، يزج بنا، ونحن نتأمل كلمات وسطور موادها المختلفة والمتنوعة، في عالم الرقي الفكري. فشكرا جزيلا لطاقمه الإعلامي والثقافي على القيمة المعرفية العالية التي يهدونها لنا بشكل منتظم.
أثارني هذه المرة مستجد المجلة تحت عنوان “المفكرون الجدد وثقافة القطيع – بقلم الدكتور أحمد أبو زيد.
في الحقيقة هذا المقال بحمولته دق ناقوس خطر محدق بالأمة العربية. هو مقال مغذي في عمقه التأويلي لطموح إعادة بناء الذات بتركيز شديد على المثقف وأدواره الريادية التاريخية في قيادة التغيير والتطوير الإيجابيين للشعوب والمجتمعات.
هناك اعتراف كوني وإقليمي بتراجع تأثير المفكرين في مجتمعاتهم، لكن فرضية استسلامهم للموت والاندحار النهائي تبقى قابلة للنقاش. فعلا، وقع آرائهم على الشرائح الشعبية تضيق قاعدتها الديمغرافية، وقد يتقلص إلى حدود مخيفة جراء تفاقم المقاومة النفسية لدى العامة لقراءة منتوجاتهم الفكرية، لينحصر التأمل في رسائل نصوصهم في صفوف ذوى المصالح الاقتصادية والسياسية.
هناك آلة إعلامية قتاكة لا تكل ولا تمل في بذل الجهود لخلق انحراف وميول وزيغ لبال الجماهير العريضة إلى فضاءات التيه والسذاجة والبساطة التواصلية، وبالتالي إبعادها عن اكتساب البلاغة اللغوية والإلمام بمصطلحات القواميس اللغوية بأبعادها الثقافية والفكرية والعلمية.
إنه بلا شك مسار تواصل لغوي استهلاكي قاطع الصلة مع الإبداع والاجتهاد واستفزاز التفكير والتأمل. تعيش المجتمعات بذلك حركية تفاعلية محسوبة ومضبوطة ومتحكم فيها، ويزداد ابتعادها عن المنتوجات الفكرية والفنية والعلمية للنخب العارفة والمطلعة بشكل متفاوت على متطلبات العصر والمستقبل.
أكثر من ذلك، كلما تفشى وتكرس هذا المنطق الهدام، تتقوى مرحليا الطبقات السائدة إلى درجة يمكن لها استغلال سذاجة القوات الشعبية وتجييشها وتحريضها ضد النخبة المثقفة والنيل من مصداقية العلاقة ما بين الفكر والرأي العام.
إن المبالغة في تقوية العقل الظرفي المادي المهووس بالسيطرة والتسلط لن يفضي إلا إلى تشييد معالم حضارة هشة تتخللها فضاءات فارغة إيديولوجيا، وإسقاط الإنسانية في مستنقع ما بعد الحداثة المتخم بتراكمات الإشباع عسير الهضم والكابس على أنفاس الأفراد والجماعات الترابية. ما يعتري التطورات من آفات ينم بتهديد العالم بشكل عام، والعرب بشكل خاص، بالغرق في مستنقع التيه والسذاجة والجهل بمتطلبات العصر وبالمشكلات المستقبلية.
والحالة هاته، لا مناص أمام المثقفين والمفكرين والعلماء من اتخاذ المبادرة لخلق منظمة كونية للفكر الحر، تعمل بقوة التزام عالية على بلورة وتنفيذ مخططات واستراتيجيات محكمة تستهدف بحرص شديد تنوير وتوسيع أفق تنويع الثقافات والاهتمامات الجماهيرية. هذا المبتغى يتطلب عملا مضنيا ومسترسلا زمنيا وجغرافيا يعتكف رواده على ترسيخ ثقافة المشاركة المعرفية للجماهير في تشخيص وتقييم أوضاعهم والمشكلات الطروحة ذات الراهنية المرتبطة بالآفاق المستقبلية.
العالم محتاج لمنظومة يتوازى فيها البعدين الفكري والسياسي، ولا يتمخض عنها إلا الأفكار النيرة المجنبة لآفة تحويل المفكرين في المستقبل القريب إلى مجرد ظواهر تعبث بها الرياح بيسر كبير. بهذه المنظومة، يمكن مقامة حدوث القطيعة ما بين القيم التقليدية لرجال الفكر ومثلهم العليا ومحفزات المفكرين الجدد، وبالتالي توفير شروط توطيد العلاقة بين السياسي والفكري بمنطق تيسير عمليات بناء نسق واقع إنساني أفضل ينعم بفكر عميق واق، ومناهض لآفة ترسيخ تسطيح ثقافة القطيع.
ألف شكر على مروركم الكريم استاذنا الحبيب الحسين بو خرطة وإنني باسم هيئة تحرير نقد وتنوير اتوجه إليكم بخالص الشكر والتقدير على ما أكرمتمونا به من طيب المشاعر وصفاء الكلمات .