“ليس المشكلة في أن يخاف الطفل من الظلام؛ لكن المأساة الحقيقية هي عندما يخاف الرجال من النور“.
أفلاطون.
تمهيد:
هناك من يخاف فرويد لأنه يكشف ضعفنا ويتغلغل في الجوانب الخفية لأنفسنا، ويغور في المناطق المجهولة المظلمة من عقولنا، يعرينا على حقيقتنا، يكشف الخفي المضمر من أسرارنا ويضيء النوازع الوحشية في سلوكنا. وهنا تكمن أسباب خوفنا وعناصر قلقنا ووجلنا. ولأن بعضنا يخاف النور، وقد أصيب برهاب التنوير، ولأننا نريد إخفاء عيوبنا والتعمية على مواطن قصورنا ومكامن ضعفنا، لذا ترانا نسب فرويد، نلعنه نزندقه نحقره، نصفه بأقذع الشتائم لأنه يكشف عيوبنا ويفضح أعماق نفوسنا – تعسا لك فرويد.
مقدمة:
لطالما ينتابنا شعور بالقرف والتقزز من دعاة التفكير والنقد الذي انتهجوا مبدأ السباب ومنهج الشتائم في تناولهم لأعمال المفكرين والفلاسفة والمبدعين. والغريب في الأمر أن هؤلاء الشتامين غالباً ما يلقبون أنفسهم كتابا ومؤرخين ونقاداً!! والغريب في الأمر هو من أين استطاعوا الحصول على هذه الألقاب ومن ذا الذي منحهم إياها؟ أية جامعة أو مؤسسة علمية منحتهم صفة المفكرين والمؤرخين والنقاد؟
وهذه الفئة من النقاد الشتّامين انتشروا على صفحات التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم يسفهون الآخر ويزندقونه، يتصيدون المفكرين ويكفرونهم، ويلصقون بهم الكفر والزندقة والتضليل في أي قول يقولونه وفي أي فكرة جديدة يحملونها. وهم في غالب الأمر يتمترسون في عملية التكفير وراء نصوص دينية يفسرونها على سجيتهم الغبية ومقياس فهمهم الضحل السقيم.
ومما لا ريب فيه أن الشتيمة تشكل منهج الضعفاء ودين الأغبياء وديدن الجهلاء ومنطق الخبلاء، وعذرهم أنهم لا يملكون في جعبتهم الفكرية إلا القبح اللفظي والسفالة الأخلاقية التي تتجسد في الشتم واللطم والهياج والتكفير في تناول الفكر والمفكرين، ويخال لهم أن هذا السقوط الأخلاقي علم ومعرفة ونقد.
وفقاً لعلم النفس فإن الشتائم اللفظية غالباً ما يطلقها الضعفاء ضد الأقوياء، وهي منهجية دفاعية ارتكاسيه تعبر عن عجز الضعيف عن مواجهة القوي بالوسائل الطبيعية للمواجهة سواء أكانت عقلية أم فيزيائية. وفي كل الأحوال فإن اعتماد السّب والشتم واللعن والتحقير منهجية مذمومة غير منطقية وغير أخلاقية تدل على السقوط الذهني والأخلاقي لصاحبها. وقد بينت الدراسات السيكولوجية أن الإنسان الضعيف الضحل الذي يواجه خصما قوي الحجة قد يلجأ غالبا إلى السب والشتم واللعن ليغطي ضعفه وإحساسه بالهزيمة الفكرية والأخلاقية وعدم قدرته على المحاججة والمواجهة الفكرية. ومن المعروف أن السب والشتم واللعن والتكفير هي لغة شوارعية سوقية، ولا يمكن أن تكون لغة معرفية قائمة على الفهم والتأمل والنظر المعرفي الخلاق. فالسخرية والشتم والانتقاص والمسبة والاحتقار هي أدوات الضعفاء والمهووسين والساقطين بصورة عامة.
فالنقاش الفكري بين المفكرين يجب أن يكون أخلاقياً إنسانياً يقوم على احترام الآخر وتقديره مهما كانت درجة الاختلاف في الرأي؛ لأن الخلاف لا يفسد الود بين المفكرين والباحثين الذي ينتمون إلى فضاء الفكر والعلم والأخلاق. ومن البداهة أن الفرد لا يلجأ إلى الشتيمة إلا إذا كان لديه إحساس عميق بعيد الغور بنقص قدرته على المحاججة والحوار الأخلاقي ومن هذا المنطلق يلجأ لاشعوريا إلى التعمية عن ضعفه وسقوطه المعرفي بالتسفيه والتكبر والتجريح الذي ما أنزل الله به من سلطان. فالرقي الثقافي يمنع المثقف من ممارسة الرعونة اللفظية وهمجية الكلمات الساخرة. فالناقد الشتام – الناقد الذي يلقب نفسه ناقداً – يعبر عن عجزه المعرفي وضحالته الأخلاقية وهو بذلك يضع نفسه في موضع القصور والضعف والسخرية وينحدر إلى مستوى الإفك الرعاعي السادي في تعامله مع المفكرين والباحثين.
الخوف من فرويد:
بالأمس وضعنا مقالة على صفحات المثقف حول فرويد بعنوان “الوليمة الطوطمية في سيكولوجية فرويد[1]. تحدثنا فيها عن نظريته وعظمة أفكاره دون أن نرفع فرويد إلى مرتبة القديسين، فالنقد واجب لكل أشكال الفكر. وفرويد لم يزعم لنفسه عصمة، بل جعل نفسه دريئة للنقد وقد عمل طيلة حياته الفكرية على نقد أفكاره ونظرياته ذاتيا وطورها مدى الحياة. ولم يقل عن نفسه أبداً أنه مفكر أو فيلسوف، بل سمى نفسه بالمغامر. وهذا يعني أن نظرية فرويد ليست أنجيلا مقدساً فقد خضعت هذه النظرية للنقد على مدى قرن من الزمن، ولم تزد هذه الانتقادات فرويد إلا رفعة وسمواً وتقديراً. ولا مراء في أن فرويد يعد أحد أخطر المفكرين في القرن التاسع عشر على الإطلاق؛ بما قدمه من نظريات في استكشاف الأعماق الإنسانية. وتأثيره في علم النفس، والفكر، والفن، والفلسفة، والأدب ما زال يأخذ اتجاهاً طاغياً حتى اليوم.
وعلى صفحات المثقف المنيرة يطالعنا أحد الكتاب[2] بمقالة عصماء يرد فيها على مقالتنا بعنوان: “خطر الفلسفة الفرويدية على الإنسانيّة “[3] وهو في هذا المقال يتشدد في وصف فرويد بالخبل والهُبل والجنون ولا يترك لفظا سوقيا إلا ويستخدمه في تحقير فرويد ونظرياته السيكولوجية. ويبدأ هجومه على فرويد ومن يقرّ بنظريته قائلا ” لا أدري لماذا يصرّ معظم النقاد والباحثين ودارسي علم النفس ومنظّريه على إلحاق صفة العالم بهذا الرجل المعتوه، فرويد؟ “.
وسؤالنا الذي يطرح نفسه بقوة، ألا يستحق عالم النفس فرويد وصفاً أكثر اعتدالاً من وصفه بالأبله تارة والمعتوه تارة أخرى!؟ هل يعقل أن يكون هذا الرجل الذي يدّرس في كل جامعات العالم ومدارسها بوصفه أعظم العبقريات في التاريخ الإنساني أن يسمى معتوها؟ ألا يستحق هذا الرجل الذي تدرس نظرياته التربوية في كل جامعات العالم أكثر من هذه الكلمة التحقيرية المبتذلة؟
ولا يتوان الأستاذ علي فضيل العربي هذه المرة مهاجمة المسلمين جمعا دون تمييز أو احترام قائلاً: “لكنّ العجيب أن المسلمين يدرّسون هذه الترّهات في مدارسهم وكليّات علم النفس بجامعاتهم، وكأنّها مسلّمات علميّة، في الوقت الذي كان عليهم الوقوف بحزم (فكري) في وجه هذه الأفكار الفاسدة والمفسدة“. وعلى هذه الصورة يحكم الكاتب علي فضيل العربي على المسلمين الذين يدرسون فرويد بالعته والغباء، وهو بذلك يرفع من مقام ذاته وفهمه ويضع نفسه في موقع الهادي البشير للعرب والمسلمين، فالمسلمون كما يراهم جميعهم على خطأ وهو على خلافهم يمتلك البصر والبصيرة في يمينه والحق والحقيقة في يساره. وعلى هذا الأساس يجب علينا جميعا ويشمل هذا الوزرات والخطط التربوية والمناهج وأساتذة الجامعات والمفكرين والمنظرين أن نقلع جميعاً عن تعليم نظرية فرويد ومقولاته، وهذا كله استجابة لرأي الإمام المعصوم علي فضيل العربي الذي يرانا جميعا على خطأ وهو الوحيد على صواب لا يشك فيه !!! وهكذا ينصب السيد العربي نفسه إماماً للأمة وهادياً لها ومبشراً. ما هكذا يكون الفهم والنقد يا أخ علي فضيل العربي في أن تحكم على الآخرين جميعهم بالجهل وتجعل من نفسك عالماً علامة يهتدى بهديه ويسير الآخرون على ومض أنواره المقدسة !
ثم يتابع الكاتب الأستاذ علي فضيل العربي تجهيله لفرويد قائلا: ” وهذه الفلسفة الفرويدية، تنمّ عن جهل فاضح بالغرائز الإنسانيّة السويّة. وما ادّعاه فرويد، ما هو إلاّ أوهام توهمها، ومشاعر نابعة من نفس مريضة، فاجرة” وعلى هذه الصورة يبدو فرويد جاهلاً محملاً بالأوهام ومريضاً يدعوا إلى الشفقة، بينما يتمتع الكاتب بالنبل والذكاء والعبقرية مقابل فرويد الجاهل المعتوه. ما هكذا يكون النقد يا أستاذ علي فضيل ففرويد لا يختلف عليه اثنان بأنه من أكثر عبقريات العصر نبوغاً وذكاًء وعبقرية!
ولم نسلم نحن (كاتب هذا المقال) من هجوم مبطن للكاتب إذ يستهجن علينا تناولنا لنظرية فرويد فيقول: ” ممّا جاء في المقال قول الكاتب، الأستاذ علي أسعد وطفة، مادحاً فرويد، قوله: ” ومما لا شك فيه أن جانباً كبيراً من عبقرية فرويد تكمن في قدرته الهائلة على توظيف الرموز والأساطير في إضفاء المعاني والدلالات على مكونات الحياة الأخلاقية والنفسية في المجتمع، إذ تتجلى هذه العبقرية في التوليف الخلاق بين الواقع الأسطورة، والتاريخ والرمز، والعلم والدين في تفسير الجوانب الخفيّة للحياة الاجتماعية والأخلاقية والسيكولوجية في حياة المجتمع والأفراد والجماعات. ” ثم يعقب مستهجنا بقوله: و الحقيقة، أنّ عبقريّة فرويد الوحيدة، تكمن في قدرته على مخادعة العقل البشري، ومحاولة تشويه الفطرة الإنسانيّة، في جانبها العاطفي. لقد أخلط – عمدا لغرض خبيث في نفسه المريضة – بين العاطفة والميل والجنس”. وعلى هذا النحو يبدو لنا ومن جديد أن فرويد مريض ومخادع وخبيث، والسؤال هل هذه لغة ناقد وروائي؟ هل هذا نقداً أم سباً وشتماً ولعناً وهجوماً؟ ولم يخبرنا إمامنا السيد علي فضيل الذي استطاع التوغل في باطن النفس عند فرويد ما هو الغرض الخبيث في نفسه؟ لقد ترك ذلك سرا لنفسه ولم يبح به !
ثم يتمترس الكاتب تحت ستار الدين ليأخذ صفة رجل الدين المدافع عن الدين والقيم مهاجماً فرويد واصفاً أفكار فرويد: ” إنّها مجرّد أوهام، وكوابيس – لا تقبلها الشرائع السماويّة، ولا الفطرة البشريّة السليمة، ولا الذوق الإنساني السويّ – يكون قد عاشها فرويد في طفولته وبيئته وتخيّلها في خضم معاناة، يكون قد كابدها في طفولته ومراهقته”. ثم يتابع قوله ” وانطلاقا من هذه المعطيات الوهميّة، كان من واجب الدارسين على هذه (الخزعبلات) الفرويدية، وذلك بدراسة نفسيّته وتتبّع أطوار نشأته العائليّة وفلسفته الدينيّة والأخلاقيّة، لاكتشاف مصادر ترّهاته النفسيّة وعقده المرضيّة. آن الأوان، لإعادة قراءة ثقافتنا المعاصرة وتطهيرها من الأفكار النجسة، الدخيلة، التي تسللت خفيّةً أو جهراً أو عنوةً إلى مناهجنا التربويّة”. ويلاحظ القارئ أنه هذه المرة يستخدم كلمة النجاسة والخزعبلات والترهات وينصب من نفسه ناصحاً للأمة مدافعاً عن مصالحها، إذ فقد الجميع في عالمنا العربي والإسلامي عقله وبقي الأستاذ عالي صامداً في أبراجه المثالية ينافح عن الأمة ويسعى إلى تطهريها من رجس الشيطان الفرويدي. أحسنت يا أستاذ علي فضيل العربي حفظك الله للأمة ناصحاً وللملة هادياً ومرشداً.
الأستاذ الناقد علي فضيل العربي يهاجم فرويد بعنف ويطعنه شتما ولكما في هذه المقالة وفي الوقت نفسه يمجد ذاته ويرفع نفسه فوق الآخرين علما وفكرا وثقافة. إذ يقول: “قد أساءت (عبقريّة العقدة الأوديبيّة) الفرويديّة كثيراً إلى الإنسانيّة، وأضّرت بالأخلاق النبيلة. وأخلط بين علم النفس القائم على العقل والمنطق والتحليل العميق، والأساطير والخرافات والأوهام والترّهات، والأنثروبولوجيا العارية من أي سند عقلي ومنطقيّ”. وبالمقابل، لقد تلقّف مريدوه وأتباعه علله النفسيّة وأوهامه المسمومة دونما إدراك لخطورتها على الفرد والجماعة. وكان من واجب العلماء وأساتذة علم النفس في مدارسنا وكليّاتنا، رفض تدريسها لطلبة العلم، بوصفها جزءاً من المناهج والمقاييس العلميّة والمقرّرة”. فنحن الأساتذة والعلماء في العالم الإسلامي أغبياء وجهلة كما تلمح وتقول صراحة، إذ كان علينا جميعاً أن نرفض تدريس فرويد ونظرياته، ويجب علينا أن نهتدي بتوجيهات الأستاذ علي فضيل العربي إماما هاديا، إماما يحمل راية العلم والحكمة والفضيلة والأخلاق. نعم يا سيدي المقدام يجب علينا العالم الإسلامي أن نهتدي بهديك ونسترشد بحكتك وأن نتخلى عن عتهنا وغبائنا !!! ولما لا يا سيدي المقدام! قد يكون من الواجب أن نصلي خلف قامتكم الكبيرة ونستلهم الحكمة والفضيلة على منبر هدايتكم، عسانا نرشد ونعود إلى جادة الصواب!
زندقة العلم والعلماء :
والسؤال للأستاذ علي فضيل العربي – كيف توجهنا إذن وكيف ترانا نفعل فيما يتعلق بدارون فنحن ندرس نظرياته أيضاً؟ وماذا عن كارل ماركس الملحد فنحن ندرسه أيضاً في علم الاجتماع؟ وماذا عن اليهودي الزنديق أينشتاين فنحن ندرس أيضاً كتبه؟ وماذا عن اليهودي المارق ماكس فيبر فهو أحد أبرز علماء الاجتماع؟ وماذا عن ترهات اليهودي الفاسق دوركهايم؟ وماذا عن زندقة ابن رشد هل تنصحنا بحذفه من مناهجنا؟ وماذا عن الجاحظ فهل نبقي على نصوصه؟ هل تنصحنا بحذف هؤلاء الزنادقة جميعا من المناهج؟ وماذا أيضاً عن كوبرنيكوس المهووس بدوران الأرض في فلك السماء؟ وماذا عن ترهات أفلاطون المثالية ونظريات أرسطو الحلولية؟ هؤلاء جميعهم يشبهون فرويد وهم من ملة واحدة ومشرب واحد هل علينا أن نرفض تدريسهم في مناهجنا وأن نشطبهم من عالم الثقافة والفكر أيضا؟
يبدو لي أن أخانا الروائي العظيم على فضيل العربي يريدنا أن نحذف من مناهجنا علوم الفيزياء، والكيمياء، وعلم النفس، والفلسفة المزندقة، وعلم الاجتماع، والفيزياء الكونية لأينشتاين ونيوتن كي نستقيم مع فضائل الحياة والأخلاق الكريمة !.
فرويد قامة فكرية شامخة:
أيها الروائي الكبير لتعلم -والله أعلم – أن نظريات فرويد -قبلتها أم لم تقبلها – لها تأثيرٌ منقطع النظير في الفكر الحديث في الأدب والفلسفة والفن، وهي اليوم علم ومدارس واتجاهات فائقة القوة والاقتدار. ومدارسها تتوزع على خارطة الكون بحثاً ودرساً في أعماق النفس الإنسانية ومتاهات العقل البشري. فرويد استكشف العقل للإنساني في أعماقه المجهولة وصارت نظرياته جزءاً من حياتنا اليومية في مجالات الأدب، والفن، والدين، وعلم الأجناس البشرية، والتعليم، والقانون، وعلم الاجتماع، وعلم الإجرام والتاريخ.
وقد أجمل برنار دي فوتو Bernard de Voto رأي كبار العلماء ومشاهيرهم في فرويد وفكره، قائلاً: «ما من عالم طبيعي آخر كان له على الأدب مثل ذلك الأثر القوي والواسع الانتشار.» فلم يكن أثره أقل عمقاً في التصوير والنحت وعالم الفن عموماً. ومن الصعب إحصاء ما أسهمت به عبقرية فرويد في معارفنا من نظريات وآراء متعددة النواحي، وذلك بسبب اتساع مجالاته المتعبة الشاقة وطبيعة اكتشافاته المتعددة الاتجاهات.
يقول وينفريد أوفر هولستر Winfred Overholster: «هناك سبب قويٌّ للاعتقاد بأنه بعد مائة عام منذ الآن، سيعدّ فرويد في مصاف كوبرنيكوس ونيوتن، بوصفه أحد الرجال الذين فتحوا أفقاً جديداً من آفاق الفكر. فمن المؤكد أنه في عصرنا هذا، لم يُلقِ أحدٌ ضوءاً على أعماق عقل الإنسان، كما فعل فرويد” .
النقد ليس تكفيرا وشتما:
يا سيد علي فضيل العربي أنتم في مقالتكم هذه حول فرويد تذكروننا بهؤلاء الذين كفروا العلماء ورموهم بالزندقة، من مثل: جابر ﺑﻦ ﺣﻴﺎﻥ ﻭﻫﻮ ﻣﻦ ﻋﻠّﻢ ﺃﻭﺭﻭﺑﺎ ﺍﻟﻜﻴﻤﻴﺎﺀ، كفروا ﺍﺑﻦ ﺳﻴﻨﺎ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩ ﺗﻤﺜﺎﻟﻪ ﺃﻣﺎﻡ ﺑﻮﺍﺑﺎﺕ ﺃﻋﺮﻕ ﻛﻠﻴﺎﺕ ﺍﻟﻄﺐ ﻓﻰ ﺃﻭﺭﻭﺑﺎ، وقد قيل فيه: ﺇﻧﻪ ﺇﻣﺎﻡ ﺍﻟﻤﻠﺤﺪﻳﻦ ﺍﻟﻜﺎﻓﺮﻳﻦ ﺑﺎﻟﻠﻪ ﻭﻣﻼﺋﻜﺘﻪ ﻭﻛﺘﺒﻪ ﻭﺭﺳﻠﻪ ﻭﺍﻟﻴﻮﻡ ﺍﻵﺧﺮ»، وما قيل ﻋﻦ تكفير ﺃﺑﻰ ﺑﻜﺮ ﺍﻟﺮﺍﺯﻯ ﻻ ﺗﻜﻔﻴﻪ ﻣﺠﻠﺪﺍﺕ، ومنه «ﺇﻥ ﺍﻟﺮﺍﺯﻯ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺠﻮﺱ»، ﻭ «ﺇﻧﻪ ﺿﺎﻝ ﻣﻀﻠﻞ؟ وزندقوا الخوارزمي عداك عن ابن رشد ﻭﺗﻬﺠﻴﺮﻩ ﻭﺣﺮﻕ ﻛﺘﺒﻪ، ﻭﻗﺎﻟﻮﺍ ﻋﻦ ﻧﺼﻴﺮ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﺍﻟﻄﻮﺳﻰ: «ﺇﻧﻪ ﻧﺼﻴﺮ ﺍﻟﺸﺮﻙ ﻭﺍﻟﻜﻔﺮ ﻭﺍﻹﻟﺤﺎﺩ». – ﻭﻗﺎﻟﻮﺍ ﻋﻦ ﺍﻟﻜﻨﺪﻯ: «ﺇﻧﻪ ﻛﺎﻥ ﺯﻧﺪﻳﻘﺎً ضالاً. وأحسبك أخي علي فضيل العربي تنهج نهج من كفرهم وزندقهم كما تفعل مع فرويد وربما دارون وكوبرنيكوس.
ونقول في هؤلاء التكفيرين قول ﺍﻟﻜﻨﺪي فيهم: «ﻫﺆﻻﺀ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻐﺮﺑﺔ ﻋﻦ ﺍﻟﺤﻖ، ﻭﺇﻥ ﺗُﻮﺟﻮﺍ ﺑﺘﻴﺠﺎﻥ ﺍﻟﺤﻖ ﺩﻭﻥ ﺍﺳﺘﺤﻘﺎﻕ، ﻓﻬﻢ ﻳﻌﺎﺩﻭﻥ ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺩﻓﺎﻋﺎً ﻋﻦ ﻛﺮﺍﺳﻴﻬﻢ ﺍﻟﻤﺰﻭﺭﺓ ﺍﻟﺘﻰ ﻧﺼﺒﻮﻫﺎ ﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﺍﺳﺘﺤﻘﺎﻕ، ﺑﻞ ﻟﻠﺘﺮﺅﺱ ﻭﺍﻟﺘﺠﺎﺭﺓ ﺑﺎﻟﺪﻳﻦ، ﻭﻫﻢ ﻋﺪﻣﺎﺀ ﺍﻟﺪﻳﻦ». ﻭﻛﺄﻥ ﺍﻟﻜﻨﺪﻯ ﻳﻌﻴﺶ ﻣﻌﻨﺎ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﻳﺎﻡ. ويرى هجومك الفاضح المريب على العلم والعلماء.
من يخشى فرويد اليوم هم أهل الضلال والسب والشتم والتكفير، لا أهل العلم والعمل. وفرويد يا سيدي لا يشكل خطراً على الإنسانية، بل يشكل خطراً على الأوهام والأسقام المعرفية، خطراً على الجهل والجاهلين، خطراً على أعداء العلم والمعرفة وحرية الفكر الإنساني. وهذا هو حال فرويد وأينشتاين ونيوتن وابن رشد وابن طفيل والقائمة تطول. كن مطمئناً يا صديقي فالإنسانية ليست في خطر من فرويد وأمثاله، بل الخطر يأتي من أهل الجهل والتكفير زنادقة الفكر أعداء النور والعقل والتنوير.
ختاما: النقد ليس تكفيرا وشتما:
النقد، يا سادتي، ليس تكفيرا وشتما بل هو احترام وتقدير وأناة وصبر وحلم وفن، الناقد لا يكفر ولا يشتم بل يبحث ويتقصى ويقارع الحجة بالحجة والسبب بالسبب، النقد تواضع ومحاججة يكون الهدف منه تطوير الفكر والمعرفة، النقد ليس انفعالا بل رؤية موضوعية، والنقد ليس خواطر انفعالية وهو كذلك ليس كراهية وحقد وزندقة وألفاظ نابية، النقد اتزان وخلق وتكريم للآخر، قد ترفض فكرة الآخر، ولكن إياك أن تحقره لأنه أخ لك في الإنسانية إن لم يكن لك أخ في الدين.
من يخشى فرويد اليوم هم عين من يخشى النور والضوء، من يخاف العقلانية والشفافية، هم باختصار أهل الظلمة والظلام والتكفير لا أهل العلم والعمل. ونؤكد نحن أن فرويد وغيره من المفكرين الكبار لا يشكلون خطراً على الإنسانية، بل يشكلون خطرا على الأوهام والأسقام المعرفية، إنهم بالتأكيد يشكلون خطرا على الجهل والجاهلين والغارقين في الأوهام والظلام، إنهم باختصار يشكلون خطرا على أعداء العلم والمعرفة وحرية الفكر الإنساني. هذا هو حال فرويد ومض فكري قد يخطئ ويصيب، لك أن تحاججه وليس لك أن تشتمه. ومن يخاف فرويد سيخاف بالتأكيد من أينشتاين ونيوتن وابن رشد وابن طفيل وروسو وفولتير وقبلهم أرسطو وسقراط وأفلاطون والقائمة تطول. الخائفون هم أهل الظلام وأعداء النور.
أخي الأستاذ علي الفضيل، الشتائم لا تقلل من قدر العلماء ولا تنال من قيمة المفكرين أو تهزّ كرامتهم، وقبلك مئات الألوف من أعداء العلم والفكر والتنوير انهالوا بالشتائم على فرويد وغيره من العلماء، ومع كل شتيمة صبت على رأس فرويد وغيره من العلماء ازدادت قوتهم واشتدت شكيمتهم وازدادوا علوا وتحليقا في الأجواء العالية للفكر والثقافة ، ومثل هذه الشتائم تزيدهم عزة وقوة وحضورا وتأثيرا. حرقوا كتب ابن رشد فطارت أجنحتها إلى أوروبا والعالم، قتلوا الحلاج فنهض في الكون وجدانا كليا، قطعوا رأس أبو العلاء فانتصب رأسه في ضواحي باريس. العلماء الذين تم تكفيرهم وقتلهم وحرقهم ازدادوا قوة وتأثيرا وحضورا وتنويرا في العالم. أما جلادوهم وقتلتهم ومكفروهم فقد احترقوا في مزابل التاريخ وتآكلت أرواحهم الكريهة.
كن مطمئنا يا صديقي الأستاذ علي فضيل العربي، فالإنسانية ليست في خطر من فرويد وأمثاله، بل الخطر يأتي من أهل الجهل والظلمة وهواة التكفير الساكنين في أعماق العتمة هؤلاء الذين يعيشون في الكهوف المظلمة فاعتادوا الظلام وأصبحوا كالخفافيش التي تخشى النور وترهب ضوءه . الإنسانية في خطر يمثله أهل السب للعلم والشتم للعلماء من زنادقة الفكر أعداء النور والعقل والتنوير. وليست المشكلة اليوم يا أستاذنا الروائي الناقد ” في أن يخاف الطفل من الظلام؛ لكن المأساة الحقيقية هي عندما يخاف الرجال من النور”. كما يقول أفلاطون. وفي عالمنا العربي هناك كثير ممن يخافون النور ولا يستطيعون العيش إلّا في الظلام. ودمتم.
مراجع وهوامش :
[1] – علي أسعد وطفة ، الوليمة الطوطمية في سيكولوجيا فرويد ، المثقف ، نشر بتاريخ: 03 نيسان/أبريل 2023 ، http://bitly.ws/CPs2ا
[2] – عرف الباحث عن نفسه بأنه “الناقد والروائي: علي فضيل العربي – من الجزائر . والتعريف من الباحث وليس من هيئة تحرير المجلة .
[3] انظر : علي فضيل العربي ، “خطر الفلسفة الفرويدية على الإنسانيّة ” المثقف ، نشر بتاريخ: 10 نيسان/أبريل 2023 . http://bitly.ws/CR83
1 تعليق
أشكرك أستاذ علي على هذه المقالة الرائعة، اقتبس قولك ” الإنسانية ليست في خطر من فرويد وأمثاله، بل الخطر يأتي من أهل الجهل والتكفير زنادقة الفكر أعداء النور والعقل والتنوير ” هذه العبارة رسخت في ذهني طوال قراءتي للمقال الأكثر من رائع وأتفق معك، فالعلمُ هو المصباح الذي يُنيرُ دُورب الحياة ويُخرج الانسان من حصون الجهل والظلام ، ولقد شرف الله العلم وأهلهُ ، وجعل العلماء ورثة الأنبياء ومنارةً يُهتدى بهم ، وأكرمهم بالسمو والتَمكين ، إذ قال تعالى : ” قُل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ” ، وأشكر الأستاذ الناقد علي فضيل العربي، ولكن انا شخصيا لا اتفق مع كلامه ولا أرى بأنه صحيح، وعلى الأرجح يعود السبب لاستخدام الاستاذ علي فضيل العربي الالفاظ الغير راقيه والتهميش والتقليل من فرويد، فالنهاية أرى بأن لا بأس بأن نأخذ المفيد والصحيح من علوم الغرب وترك ما يعارض ديننا الاسلامي، والابتعاد عن النقد الذي يقلل من شأن العلماء والمفكرين.