” لماذا تحولنا إلى نموذج سيزيف المعذَّب الذي لا يصل أبدًا إلى القمة، بل عليه أن يعاود دائمًا حمل صخرته من أسفل الجبل؟”
فتحي عبد العليم
سأنطلق من سؤال اقتبسته من مداخلة لأحد الكتّاب العرب، ورد في أعمال إحدى الندوات الفكرية العربية؛ لأنه يمثل السؤال المحوري لكل مثقف ومفكر عربي حقيقي: لمَ نظلُ نعاودُ حملَ صخرتنا من أسفلِ الجبلِ إلى القمةِ دونما انقطاع؟
واسمح لي أيها القارىء الكريم أن أُرجىء الإجابة عن السؤال إلى حين؛ لأنظر في حالتنا نحن العرب، وواقعنا الثقافي، نظرة بانورامية. فلدينا والحمد لله ثروات مادية لا حصر لها؛ ولدينا الثروة البشرية التي لا تقلّ ذكاء ومهارة عن نظيرتها في دول العالم المتقدم. ولدينا الموقع الاستراتيجي المهم، واالمنجز الحضاري الرائد بين حضارات العالم. ولدينا الفعاليّة الثقافية والعلمية؛ ممثلة في ما نُقيمه من مؤتمرات وندوات وملتقيات، وما نُصدره من كتب وصحف ومجلات، فضلًا عن انفتاحنا على الآخر المتقدم. فلم لا نرى أنفسنا وقد نزعنا عباءة التخلف التي نَتلفعُ بها؟ واطّرحْنا صخرة سيزيف من على ظهورنا؟
من الحق هنا أن أقول: إن وجود العوامل الإيجابية لا يكفي وحده، إذ لا بد للإنسان؛ صاحب المصلحة والعلاقة العضوية بهذه العوامل، أن يُحسنَ توظيف هذه العوامل لصالح حياته ومستقبله ورقيّه. فما نفع الأرض الخِصبة إنْ كنا فاقدين الوسائل التقنية المتطورة التي تؤهل تلك الأرض للعطاء؟ وما نفع مواد الصناعة إنْ عَدِمنا القدرة على وضع برامج وتصورات علمية لتحقيق نهضة صناعية حقيقية؟ وما نفع الميزانيات الانفجارية إنْ كنا لا نملك استراتيجية إنمائية، واستثمارًا دقيقًا عادلًا، يضمن وضعها في مواردها المُستَحقة، ووفق موازنات علمية؟ بل ما نفع المؤتمرات العلمية والكتب والدوريات، إنْ كانت تدور ضمن دائرة إعادة إنتاج ما نَتَلقفُه من الآخر بآلية مكرورة، من دون أن ننجح في الخروج عما ألِفَتْه العقول ولاكَتْه الألسن؟ ما نفع حواراتنا مع الآخر، إنْ كانت تدور ضمن بروتوكولات شكلية، لا يؤمن بها الطرفان؟ ولا تتساوى فيها الأوزان؟ وتنعدم فيها النِدّيّة؟ ما نفع الأكاديميات والمؤسسات العلمية إنْ لم تكن فضاء حقيقيًا لفعالية العقل الذي يمارس فيه نشاطه الحر؟ ويعبّر فيه عما يعتقده من آراء ومعتقدات؟
إن هيمنة هذه الظروف والوقائع أو بعضها، في مجتمعاتنا العربية، هو ما يحول دون امتلاكنا زمام المبادرة، للخروج من إسار الدوران في فلك الدائرة المغلقة، واطّراح الصخرة من على ظهورنا.
ومن هنا جاء نداء مؤسس مجلة “نقد وتنوير” الذي أطلقه، ليتنادى معه زملاؤه، شركاء الوعي، من نخبةِ مفكري ومثقفي وكتّاب هذه الأمة، بعد أن استشعروا ما ينقصهم من وسائل وأدوات، ووجدوا لهذا النداء صدى عميقًا في نفوسهم، يُمْكِنهم معه أن يسلكوا الطريق الطويل، بما يتوافر لهم من الإمكانات.
ولعل في اختيار اسم “نقد وتنوير” عنوانًا لهذه المجلة- المشروع لم يأت اعتباطًا، إذ هو يشير إلى أمرين جوهريين، يمثلان الغاية والوسيلة، في صياغة جدلية لا تخفى على أذهان القراء، فضلًا عن المشاركين في هذه الدورية النقدية المميزة. فهدف هذا المشروع الثقافي الأكاديمي هو هدف المجتمع العربي، المتمثل في إشاعة ثقافة التنوير التي يمكن أن تخرج بنا من حالة الجهل والتبعية والأوهام والخرافات والتعصب والغُلوِّ والتحزّب والطائفية والإثنية والانغلاق والظلامية، للدفاع عن حرية الإنسان، وكرامته، وحقّه في العيش، وفي التعبير عن معتقداته. وهي قيم ومبادىء، لا سبيل إلى تحقيقها إلا عن طريق المثقفين الأحرار المستقلين، وبآليات المُساءلة والفكر النقدي الذي يستهدف دونما هوادة، مختلفَ مظاهر التخلف والهيمنة والاستبداد والجهالة.
إن ضَعفَ فعاليّة المثقف هو الذي مكّن قيم الجهل والظلامية من أن تعشّش في عقول كثير من أفراد المجتمع وأن تضللهم، مُنتجة مثل هذه الكوارث والضلالات الإجرامية اللاإنسانية، ما يتطلب من المثقف والمفكر العربي اليوم أن يتجاوز دوره الثقافي والأكاديمي التقليدي(المَهاري) في إعادة إنتاج منجزه البحثي، بعيدًا عن حاجات المجتمع ونبض الإنسان. من هنا كان حرص مجلة “نقد وتنوير”، وتشديدها على ضرورة أن تتجاوزَ بحوثُها ودراساتُها الغايات الأكاديمية(المهارية) البحتة، إلى القيمة النقدية، ومساءلة مختلف مظاهر حياتنا الفكرية والثقافية والاجتماعية والتربوية، لتكونَ وسيطًا بين المثقف النقدي والمتلقي الذي نرى فيه هدفَ التنوير ومادتَه في آنٍ معا.
ولا ريب في أن النقد هنا، إنما يعني المباشرة في إنجاز وعي علمي مسؤول، بذاتنا وبالآخر في آنٍ معًا؛ ضمن مسعى، يهدف إلى بلوغ الحقيقة المجردة، باستقلالية وحياد عن الهوى والغايات، دونما مهادنة أو انحياز، وذلك من خلال قراءة تفكّك وتحلل، لتعيد (بَنْيَنَة) حاضرنا وثقافتنا المعاصرة، في تراثنا الحي القابل للانتظام في نسق بنيوي متواشج، بعيد عن التلفيق.
إن المشروع النقدي العلمي الذي يهتك أستار الظلمة والجهل والضلالة المعشّشة، هو ما مِن شأنه أنْ يشكّل تيارًا شعبيًا متناميًا، للضغط على مؤسساتنا التقليدية، وجعلها تغيّر من أساليبها وتضطرها إلى فك قبضتها عن مقدرات الإنسان العربي، وصولًا إلى تحقيق حريته، وإنجاز مهمات النهضة العلمية، ونبذ التبعية، للحاق بقطار التقدم. حينذاك فقط نكون قادرين على الإجابة عن السؤال المركزي المطروح في مستهل مقالنا، عن أسباب استمرارنا في حمل صخرة العذاب، صعودًا ونزولًا.
وها هي مجلتنا في عددها الرابع وهي تعزز مكانتها بين المجلات المتخصصة في مجال الدراسات الثقافية والفكرية، وتستقطب مؤسسات عربية ذات معايير دولية، لإبرام اتفاقات شراكة ترتقي بالعمل الثقافي والأكاديمي إلى مصاف الجودة، وتعود بالنفع على مجتمعنا، وإنساننا، وبما يفتح لها آفاقًا أرحب نحو القارىء والباحث العربي.
إن هذه المستجدات المشجّعة تدعونا إلى أن نحافظ على القيمة النقدية؛ هدفِ المجلة المركزي، وأن نزيد من حرصنا على حضورها في خطابنا العلمي، بألا نترك قبضتنا ترتخي هنا أو هناك؛ لأنَّ في ارتخائها فقدانًا لما يميز المجلة من سواها. ولا بدّ هنا من كلمة شكرٍ لجميع الكتاب والباحثين الذين آمنوا بأهداف المجلة، ودَفعَهم حب الوطن إلى الالتفاف حول هذا المشروع الفكري، وإخراجه إلى حيز الواقع.