ملخّص:
يسعى هذا المقال إلى رصد أدبيّة النّصّ الصّوفيّ من خلال طبيعة العلاقة التّناصّيّة الّتي أقامها مع النّصّ الغزليّ انطلاقا من النّظر في المعارضة الشّعريّة باعتبارها ممارسة سيميائيّة لا تقف عند احتواء نصّ لاحق لنصّ سابق، بل تهدف إلى خلق مستأنف من خلال استعارة النّموذج الفنّيّ العذريّ والتّعامل معه تعاملا تحويليّا بوسائط رمزيّة مع مكوّنات العالم، لتظلّ ممارسة النّصّ إنتاجيّة تتوالد فيها النّصوص بعضها من بعض على اعتبار أنّ المعارضة الشّعريّة -وهي بسياسة الكلام الشعريّ- تنفتح فيها نظريّة التّناصّﹼ على نظريّة التّلقّي.
الكلمات المفاتيح: التّناصّ – التّلقّي – المعارضة الشّعريّة – إنتاجيّة.
Abstract:
This paper aims at monitoring the literary aspect of ‘’Sufi’’ (ascetic) text type in its intertextual interaction with ‘’Ghazal’’ (amatory) text type.
This vision represents an approach based on an insight in poetic opposition as a semiotic practice which does not just stand on containing a preceding text by a proceeding one.
Rather, it aims at the creation a new start via borrowing the virginal aesthetic genre and through using it mutantly by means of symbolic features in its interaction with the world around it, so as to keep text treatment both productive and reproductive since poetic opposition is an awareness of poetic speech codes where intertextuality opens up on reception theory.
Key-words: intertextuality – Reception – Poetic opposition – Productive (adj) / Productivity (n).
1- مقدّمة:
يسعى موضوع هذا المقال إلى المساهمة فـي الحوار الّذي يعرفه المشهد النّقديّ الحديث حـــــول طريقة بناء النّصوص الإبداعيّة وتلقّيها فـــــــي الآن نفسه. إذ لم يعد النّصّ الأدبيّ مجرّد إبداع ذاتيّ أو بنية فنّيّة مستقلّة كما هـو الشّأن في مسلّمات نظريّـــة الأدب الشّكلانيّة والبنيويّة الّتي انكفأت علـى العالم الدّاخلي للنّصّ، بل أضحى تناول النّصّ الأدبيّ من زاوية تفاعله مع النّصـوص الأخرى مبحثا هامّا في النّظريّة النّقديّة الحديثة لانتقالها بالدّرس الأدبيّ إلى طور جديد من النّشاط المعرفــيّ يهتمّ بالنّظر فـــي أشكال التّفاعل القائم بين النّصوص والأجناس وطرق تواشجها وتشكّلها. ويبدو أنّ هذا الأمر الاعتباريّ المتعلّق بالنّصّ الأدبيّ قد أدّى إلى ميلاد مصطلح جديد في الدّرس النّقديّ هو التّناصّ[1] وهو مصطلح أتاح فرصة الانتقال من الشّفرة اللّسانيّة الانكفائيّة إلــــى الشّفرة السّيميوطيقيّة الانفتاحيّة، وذلك برفض الانغلاق علــى اعتبار أنّ النّصّ الأدبيّ يشتغل منفتحا علـى نصوص سابقة.
من هذا المنطلق، حاولنا أن ندرس المعارضة الشّعريّة[2] بوصفها فعلا تناصّيّا ذو طابع فنّيّ في نصّ شعريّ إبداعـــيّ مخصوص هو النّصّ الصّوفيّ الّذي استفاد كثيرا من التّجربة الشّعرية العذريّة بمكوّناتها الأسلوبيّة و التّصويريّة المعبّرة عـــن مقاصده الصّوفيّة و الأخلاقيّة و الفلسفيّة، لذلك تطـــرح هــذه القراءة سؤالها الجوهريّ: ما هــــــــي أهمّ الخصائص الفنّيّة الّتي تلقّى المعارِضُ الصّوفيّ من خلالها الشّعر الغزليّ لتحقيق شعريّة صوفيّة وتجربة جماليّة تخالف شعريّة التّجربة الغزليّة ومقاصدها؟
ثمّ كيف استطـــــاع النّصّ الصّوفيّ الفارضيّ المعارِضِ أن يرتقي بتجربته في الحبّ عن مدارك الحسّ إلى مدارج العرفان والإشراق الصّوفيّين؟
2- المرأة بين خطاب النّصّ الغزليّ المعارَضِ وخطاب النّصّ الصّوفيّ المعارِض:
لا شكّ أنّ استحضار السّياق الرّوحيّ الصّوفيّ الّذي تدور فــي فلكه النّصوص المعارِضة من شأنه أن يمكّننا مـن استكشاف الوسائل التّناصيّة الّتـــي تلقّى المعارِض الصّوفي بواسطتها مكــوّنات النّصوص الغزليّة المعارَضَة. ولعلّ ما يسم نصوص ابن الفارض وغيرها من النّصوص المعارِضَة فـــي التّجربة الصّوفيّة هــــو اتّخاذها من المعاني المتعلّقة بالمرأة موضوعا للحوار بينهما.
والجدير بالملاحظة أنّ تجربة ابن الفارض الشّعريّة الصّوفيّة قد جاءت زاخرة بمعانــي الحبّ الإلهيّ، لذلك كانت المرأة فـي النّصّ الصّوفي الفارضيّ التّعبير الأمثل عن الحقيقة المطلقة، بدليل أنّ التّجربة الشّعريّة الصّوفيّة لابن الفارض قد أفادت كثيرا من الغزل العذريّ سواء في مستوى آليّات خطابه أو فــــي مستوى وصف المحبوبة بصفاتها الحسّيّة البشريّة، ولا عجب في ذلك فقد “كان الشّعر الصّوفيّ معجبا بالشّعراء العذريّين يردّد لهم أشعارهم و كأنّها صادرة عنه[3]“، وقد حدت هذه الإفادة بكثير مــن الدّارسين إلى الرّبط المتين بين الشّعر الصّوفيّ وشعر الغزل العذريّ و كأنّ الأخير أصل للأوّل باعتبار تشابه عبارات الشّعر الصّوفــــــيّ بعبارات شعر الغزليّين وصورهم، “مقرّبين بين التّجربتين بوصفهما تجارب حبّ إنسانيّ تتّحد فــــــي آليّاتها وتفترق في غاياتها[4]“، لكنّ الملاحظ أنّ هـــــذا النّصّ الّــــذي ينتظمه النّصّ الصّوفيّ لابن الفارض لا يرحل إليه بريئا بكرا بل يأتيه بما اكتسبه بفضل تأثير الجنس من وجوه إعادة تركيب فنّيّ و تحويل يسمح باستيعابه، “ذلك أنّ النّصّ الأدبيّ لا ينشأ في فراغ، بل إنّه دائما بمثابة استمرار لما قبله و استجابة لإملاءات شكليّة ومضمـــونيّة ومساهمة فـــي حـــوار لا ينقطع بين النّصوص الأدبيّة المختلفة في إطار النّظام الأدبيّ[5]“.
وإذا سلّمنا بأنّ المعارضة الشّعريّة فعل تناصيّ ذو طابع فنّيّ كلّيّ يعمل علـــــى استدعاء مناصات مأخوذة من النّصّ المعارَضِ بطريقة فنّيّة تستند إلى مفهوم التّحويل، أدركنا أنّ اعتماد الشّعر الصّوفيّ شكل النّسيج الشّعريّ العذريّ لا يعني نسخ التّجربة منهما للأخرى، فالشّاعر الصّوفيّ محبّ لحبيب غائب وغيابه هو حضـــوره القويّ فــي النّصّ وروح منتجة في حين أنّ الشّاعر العذريّ محبّ لحبيب حاضر في الواقع وحضوره منقـــــــوص دون اتّصال، حضــوره هو غيابه، وبين حدّيْ هــذه الجدليّة: الحضور/ الغياب للمحبوب “الله” فـي تجربة النّصّ الصّوفيّ المعارِض و”المرأة” فــي تجربة النّصّ الغزليّ المعارَضِ، تكمن أهمّ نقاط التّمفصل في النّموذجين اللّذين يعبّران بصورة مختلفة عـــن أحبّاء صادقين. وإذا كانت هذه المسافة الفنّيّة المتعلّقة بجدليّة الحضـــور والغياب للمحبوب فــــي كلّ من النّصّ الصّـــوفيّ المعارِض والنّـــــصّ العذريّ المعارَض تترجم بلاغة الاختلاف الكيفيّ بين التّجربتين فإنّ تعقّب حضور ضمير المؤنّث فـــي كلّ مـــن تجربتيْ الشّعر الصّوفّـــــي والعذريّ يقدّم لنا رؤية شعريّة جديدة متميّزة ومختلفة تأبى التّشابه والاشتراك.
وإذا كان التّأنيث فـــي الشّعر العـذريّ يساوي ذات المرأة فإنّه فـــي الشّعر الصّوفيّ يساوي الذّات الإلهيّة. وإذا كانت غاية العذريّ تنحصر فـــــي الرّغبة الحسّيّة الّتي تكتمل بالاتّصال بـ “المرأة” فإنّ غاية الشّاعر الصّــوفيّ تتّخذ من التّأنيث معادلا رمزيّا للذّات الإلهيّة سعيا إلى الفنـاء فيها والبقاء بها. ولا غـَرْوَ فــي ذلك فإنّ المرأة فـي الشّعر الصّــوفيّ هي التّعبير الأمثل عن الحقيقة المطلقة، ومــن هنا تبدو الصّفة المائزة لتجربة “الحبّ الإلهيّ” عند ابن الفارض حيث المحبوبة “الحقيقة” فــي باطن النّصّ ومكنونه هـــي “المرأة” مجازا والمشار إليها فـــــي النّصّ بضمير “هي” الغائبة أو”أنت” المخاطبة صــــورة لضمير أنثويّ يستتر وراءه المعنـــــــى، فإذا ضمير المؤنّث (المخاطب/ الغائب) بنية رمزيّة غايتها الاتّحاد والفناء بالمحبوبة و البقاء بها، يقول ابن الفارض:
وَلَمَّــــا تَوَافَيْنَا عِشَــــــــاءً وضَمَّنَا سَوَاءُ سَبِيلِــــي دَارَهَا وخِيَامِي
ومِلْنَا كَــذَا شَيْئًا عَـنْ الْحَيِّ حَيْثُ لا َ رَقِيبٌ ولا وَاشٍ بِزَوْرِ كَــــــلاَمِ
فَرَشْتُ لَهَا خَدِّي وِطَاءً عَلَـى الثَّرَى فَقَالَتْ: لَكَ البُشْرَى بِلَثْمِ لِثَــــامِي
فَمَـا سَمَحَتْ نَفْسِــــــــي بِذَلِكَ غَيْرةً عَلَـى صَوْنِهَا مِنِّي لِعِزّ مَــــرَامِي[6].
ومـــن هنا يتبيّن لنا أنّ المعارِض الصّوفيَّ يعمل في حواراته النّصّيّة على نقل الوحدات المعنويّة لنصوصه المعارَضة إلـــــى غير الجهة الّتي كانت عليها من قبل حيث أعاد توظيفها بشكل فنّيّ يخدم مقاصده المختلفة ويجعله فاعلا في الأذواق الفنّيّة عبر إعادة تشكيل الدّلالة وتنظيمها تنظيما جماليّا جديدا. وبناء على هذا، يمكن المقارنة بين النّصّ الصّوفيّ المعارض والنّصّ العذريّ المعارَض انطلاقا ممّا سمّاه ياوس المسافة الجماليّة[7]، أي من خلال الوقوف على درجة اختلاف النّصّ المعــــــارِض عن أفق توقّعات النّصوص المعارَضَة “حيث يسمو النّصّ إبداعا حسب حجم هذا الاختلاف ويتراجع حسب اقترابه من التّوقّع[8]“.
وبذلك فقد استطاع ابن الفارض أن يصوّر من خلال معارضته جانبا من هذا التّصوّر الرّمزيّ للمرأة معبّرا عن بعض مواقفه الأخلاقيّة والفلسفيّة الوجوديّة ومحقّقا لمسافة جماليّة عـــــن الأفق العامّ للنّصّ الغزليّ العذريّ المعارَض، ناهيك أنّ النّــصّ العذريّ المعارَض هـــــو “جزء من كون فنــــّيّ واجتماعيّ عذريّ[9]” يتعامل مع المرأة باعتبارها جمالا حسّيّا ومثالا نموذجيّا[10]. فــــي حين أنّ النّصّ الصّـوفيّ المعارِض كون فنّيّ رمزيّ يرتبط “بزمرة اجتماعيّة ترى في المرأة رمزا للحبّ الإلهــــيّ ومظهرا من مظاهر جماله وشكلا من أشكال السّرّ الأنثويّ السّاري في العالم[11]“، وهذا ما يؤكّد أنّ المعارضة الشّعريّة تقـــــــوم على صراع بين أفقين جماليّيّن؛ أحدهما حسّيّ قديم يرتبط بتقاليد التّجربة العذريّة، وثانيهما رمـــزيّ حديث يستمدّ عمقه من الواقع الفلسفيّ والنّفسيّ الّذي صدر عنه المعارِض في تصوّره للكون والمرأة وما شاكل ذلك. وهو ما رسم للكتابة الشّعريّة الصّوفيّة مـــع ابن الفارض أفقا فنّيّا جماليّا جديدا فـي تلقّي مكوّنات الذّاكرة الفنّيّة المتعلّقة بصورة المرأة، أساسه الاختلاف لا المشابهة، حيث يعيد الشّاعر الصّــــوفيّ “صياغة سالفه، ويعيد إبداعه، ويقدّم لنا رؤية شعريّة جديدة تتمخّض عـن شخصيّة نصوصيّة فريدة ومتميّزة ومختلفة وكلّ ما فيها من تشابه فهو شبه يفضي إلى اختلاف[12]“.
3- التّكثيف الرمزيّ و استعارة بنية القصيدة الغزليّة:
لم يقف ابن الفارض في تعامله مع النّصّ العذريّ المعارَض عند التّصرّف في المعاني الشّعريّة المشكلة لصورة المرأة على نحو يستجيب لمقصديّته الأساسيّة فــــي إطار الحوار الفنّيّ بين معانــي الغزل الحسّيّ والصّوفيّ. لم يقف عند هذا الحدّ فحسب، بل نراه يستدعي في معارضته بنية القصيدة الغزليّة المعارَضة الّتي تنطلق بوقوف الشّاعر على الأطلال ووصف الرّحلة وحثّ الرّاحلة علـــــى السّير قدما باتّجاه المحبوبة حيث الشّوق إلى الوصال والحنين إلـــى زمان المودّة والصّفاء.
كان هـــذا الشّكل الشّعريّ مدارا اتّخذ منه ابن الفارض إطارا ليحقّق من خلاله رؤيته في الانفصال عن الآنِيّ المعيش والاتّصال الّذي يتمّ خارج حدود المكان وقيود الزّمان، كما حمّله فلسفة المغترب الوجوديّة الصّوفيّة رغبة في الانخراط بعلاقة مــع الحقيقة الّتي تمثّلها المحبوبة الغائبة المفارقة المتعالية. ولا يخفى أنّ بنية النّصّ المحتذى عندما تدخل نسق النّصّ المركزيّ، تصبح عنصرا من عناصره وبذلك فإنّ بنية القصيدة الغزليّة المعارَضة، حين وظّفت في النّــصّ الصّــوفيّ المعارِض تخلّت عن دلالاتها المحايثة لها وتلبّست بوظيفة نصّيّة جماليّة، تعلّقت بالكيفيّة الفنّيّة الّتـــي وظّف بها ابن الفارض مكوّنات القصيدة الغزليّة، إذ وفّر لها إطارا جماليّا قوامه الأسلوب الاستعاريّ المجازيّ الّذي عزّز التّكثيف الرّمزيّ بدليل أنّ ابن الفارض قد حوّل الصّورة الحسّيّة التّقليديّة لتلك الغربة الزّمانيّة والمكانيّة عـن المحبوبة في بنية القصيدة الغزليّة من بعدها الغزليّ الضّيّق إلى رحاب التّجربة الصّوفيّة الأوسع. فإذا الانفصال عن المحبوبة يتحوّل إلى انفصال الذّات عن عالمها الأوّل واتّصال بعالمها المتعيّن وإذا الرّغبة في العودة للالتحام بالعالم الأوّل توازي رغبة الأنا الشّاعرة في الاتّصال بالمحبوبة (الأحبّة)، يقول ابن الفارض:
سُقْيًــــا لأَيَّامٍ مَضَتْ مَعَ جِيـــــــرَةٍ كَـانَتْ لَيـــــــَالِينَا بِهِمْ أَفْــــرَاحاَ
حَيْثُ الْحِمَى وَطَنِي وَسُكَّانُ الْغَضَا سَكَنِي وَورْدِي الْمَاءَ فِيهِ مُبَاحَا
وَأُهَيْلَــهُ أَرْبــــــــــَى وَظِلُّ نَخِيلِهِ طَرَبِـــي وَرَمْلَةَ وَادِيَيْهِ مــَرَاحَا[13].
وبالنّظر إلـى المكان في تجربة ابن الفارض نلاحظ تحوُّله من الأطلال والرّسوم كما هــــو الشّأن في القصيدة الغزليّة أو القصيدة الجاهليّة إلـــــى علامات ومعارج للتّرقّي والوصول إلى الأحبّة “الحقيقة” فلا نشهد وصفا حسّيّا للمكان بقدر ما نلفــي تحديدات مجازيّة تعبّر عـــن تجربة روحيّة علويّة “من خلال رحلة مكانيّة أرضيّة تسعى في كلّ مـــــرّة إلى تأكيد التّقارب المعرفـيّ بين مجازيّة الرّحلة الصّحراويّة وحقيقة الرّحلة الرّوحيّة الّتي يتحوّل معها المكان إلى مقام وإلى حال يصله المريد السّالك في طريق الله[14]“. وعليه فإنّ البحث عن الاختلاف في المستويات الفنّيّة المشتركة والمتشابهة بين النّصّ الغزلـــيّ المعـــــارَض والنّصّ الصّوفيّ المعارِض، ثمّ التّمييز بين شكل القصيدة القديمة من حيث التّوظيف في كلّ من النّصّين يبرز أنّ المعارضة الشّعريّة فــي تجربة ابن الفـارض تظهر بوضــوح في الشّكل علـــى اعتبار أنّ “الشّكل هو المتحكّم فـي المتناصّ والموجّه إليه[15]“، ومــــرّة أخرى استطاع ابن الفارض أن يَسْمُو بتجربته الفنّيّة عن مدارك الشّعر الحسّيّ إلـى مدارج الرّمز الصّوفيّ ليجسّد المكان إرادة الحلول ورغبة في الحياة الأزليّة والارتباط بالأصل الإلهيّ تحقيقا للاتّصال وتجاوزا للانفصام والاغتراب المتّصل بالتّجربة الصّوفيّة عموما، يقول ابن الفارض:
مَا أَمَرَّ الفِراقَ يَا جِيرَةَ الْحَـــــــيْ يَ وأَحْلَــــى التَّلاَقِــي بَعْدَ انْفِرَادِ
كَيــــْفَ يَلْتَذُّ بِالحَيَـــــاةِ مُعَنَّـــــــى بَيْنَ أَحْشَائِه كَـــــــــــوَرْى الزِّنَادِ
عُمْرُهُ وَاصْطِبَارُهُ فِـــــي انْتِقَاصٍ وَجـَـــــــوَاهُ وَوَجْدُهُ فِي ازْدِيَادِ
فِي قُرَى مِصْرَ جِسْمُهُ وَالأُصَيْحَا بُ شَامًــــــــــــا وَالقَلْبُ فِي أَجْيَادِ[16].
وبذلك تحوّلت مكوّنات النّصّ الشّعريّ العذريّ المحتذى إلى شكل آخر أكثر شعريّة يخدم مقاصد الصّوفيّ الفنّيّة ويجيب عن أسئلته المتنوّعة على نحو يؤكّد لنا أنّ المعارضة الشّعريّة ليست مجرّد مسلك تناصّيّ يكتفي بالمشابهة مع مكوّنات النّصّ العذريّ واجتراراها، بل “هــــي قراءة تحويليّة تسعى لاستكشاف مناطق اللاّتحديد فيه ورتق فجواته وبياضاته على نحو يساهم في تحقيق الاختلاف وإعادة بناء الذّاكرة الفنّيّة من جديد[17]“. ويبدو مـن خلال المقارنة أنّ الشّكل التّكوينيّ للقصيدة العربيّة الّذي يستخدمه ابن الفارض فــي معارضته الشّعريّة شكل يخفي فـــي جوهره “أعماقا معمــورة بالشّقاء والرّغبة في الخـــلاص منه، فالصّوت الشّعريّ الظّاهــــريّ الّذي لا يكاد يفرّق بين قصيدة لابن الفارض وأخرى لأحد الشّعراء الغزليّين، يكمن وراءه عمق تجربة الأنا الشّعريّة الصّـوفيّة الّتي تختزل تجربتها في الشّكل المعتاد للقصيدة العربيّة الّذي تمّ استخدامه عبر استعارته مجازيّا[18]“.
4- خاتمة:
سعينا في هذا المقال إلى استجلاء بعض خصوصيّات النّصّ الصّوفيّ ورصد أدبيّته من خلال طبيعة العلاقة التّناصيّة الّتـــي أقامها مع النّصّ الغزليّ على اعتبار أنّ هذه العلاقة التّناصّية تشكّل مدخلا مناسبا في تلقّي مكوّنات الذّاكرة الفنّيّة وإعادة بنائها. وقد أقمنا البحث على منطلق مبدئيّ قوامه النّظر في المعارضة الشّعريّة بوصفها تحويلا للنّصّ العذريّ لتحيا في مقام جديد ورؤية مغايرة تستجيب لفلسفة الصّــــوفيّ رغبة في الاتّصال بمقام الذّات الإلهيّة ومعانقة أسرارها الربّانية، بل نكاد نزعم أنّ المعارضة الشّعريّة ممارسة سيميائيّة تهدف إلـــى خلق مستأنف عبر استعارة النّموذج الفنّيّ العذريّ ومعارضته بوسائط رمزيّة مع مكوّنات العالم.
وقد وقفنا في تجربة ابن الفارض الشّعريّة على ملامح تناصِّ هذه التّجربة الصّوفيّة مع بنية النّصّ الغزليّ العذريّ حيث لم يكن ابن الفــــارض معنيّا بثورة أو تمرّد على عمود الشّعر، بل كان مشغولا بما يحمله ذلك الوعـاء الفنّيّ مــــن إمكانات التّعبير ذلك أنّ المعارض الصّوفيّ بقدر ما استجاب للنّموذج المتناصّ معه والكامن في الذّاكرة الإبداعيّة فتح لنفسه إمكانات فنّيّة رمزيّة مختلفة تبرز وعيه بسياسة الكلام الشّعريّ وتلبّي مقاصده الفنّيّة في الإجابة عن أسئلته المتنوّعة على نحو مكّنه من تحقيق تجربة شعريّة جماليّة مدارها الحبّ الإلهيّ الصّــوفيّ الّذي ينزع فيه الصّوفيّ باتّجاه محبوبة مجازيّة هي “الحقيقة” /الله، وعن طريق الخطاب الشّعريّ الحواريّ القائم بين النّصّين الغزلــــيّ والصّوفيّ تبيّن لنا أنّ وجوه التّناصّ فـي تجربة ابن الفارض لم تقف عند احتواء نصّ لاحق لنصّ ســــابق بل إنّ هذه التّجربة تعاملت مع النّصّ الغزليّ تعامــــلا تحويليّا (transformation) حيث كان النّصّ الصّوفيّ ولادة جديدة قياسا بالنّصّ العذريّ أي إنتاجا (production) لا إعادة إنتاج (reproduction) لتظلّ ممارسة النّصّ إنتاجيّة (productivité) تتوالد فيها النّصوص بعضها من بعض. وليس هناك مــن إمكان لتصوّر نصّ بكر إذ النّصّ نسيج طارف من شواهد تالدة، وحسبنا أنّنا بلغنا مــــن خلال هذه المحاولة بعضا من المقصود وحقّقنا شيئا من الأهداف المرسومة فيما يتعلّق بالمعارضة الشّعريّة في النّصّ الصّوفيّ باعتبارها قراءة شعريّة للشّعر تنفتح فيها نظريّة التّناصّ علـى نظريّة التّلقّي، ومع ذلك تظلّ النّتائج المتوصّل إليها في حاجة إلى جهـود مكمّلة تعضدها عبر الاستفادة من نظريّة التّناصّ وآليّات اشتغالها.
قائمة المصادر والمراجع:
المصادر:
- ابن الفارض ، الدّيوان، دار النّجم للطّباعة والنّشر، بيروت، 1994.
المراجع:
- بقشي (عبد القادر): “التّناصّ في الخطاب النّقديّ والبلاغيّ: دراسة نظريّة وتطبيقيّة”، مطبعة أفريقيا الشّرق، المغرب، الدّار البيضاء، ط2007.
- الحدّاد (عبّاس يوسف): “الأنا في الشّعر الصّوفيّ: ابن الفارض أنموذجا”، دار الحوار للنّشر والتّوزيع، سوريّة، اللّاذقيّة، ط1، 2005.
- سوميخ (ساسون): “العلاقات التّناصّيّة في النّظام الأدبيّ الواحد”، مجلّة الكرمل، العدد7، 1987.
- عبد الحقّ (منصف): “الكتابة والتّجربة الصّوفيّة، نموذج محي الدّين بن عربي”، منشورات عكاظ ط1، 1988.
- العوّادي (عدنان حسين): “الشّعر الصّوفيّ”، منشورات وزارة الثّقافة والإعلام، ط1، العراق، 1986.
- الغذامي (عبد الله): القصيدة والنّصّ المضادّ”، المركز الثّقافيّ العربيّ، الدّار البيضاء، ط1، 1994.
- الغذامي (عبد الله): “المشاكلة والاختلاف: قراءة في النّظريّة النّقديّة العربيّة وبحث في التّشبيه المختلف”، المركز الثّقافيّ العربيّ، الدّار البيضاء، ط1، 1994.
- لبيب (الطاهر): “سوسيولوجيّة الغزل العربيّ: الشّعر العذريّ نموذجا”، ترجمة مصطفى مسناوي، دار قرطبة للطّباعة والنّشر، الدّار البيضاء، 1987.
- مفتاح (محمد): “تحليل الخطاب الشّعريّ (إستراتيجيّة التّناصّ)”، دار التّنوير للطّباعة والنّشر، المركز الثّقافيّ العربيّ، الدّار البيضاء، المغرب، ط1، 1985.
[1]– التّناصّ (intertextualité) مـــــن المفاهيم الأساسية في الدّرس النّقديّ بعد البنيويّة، أدرجه بعض الدّارسين ضمن الشّعريّة التّكوينيّة، كما تناوله البعض الآخر في إطار جماليّة التّلقّي فضلا عــــن اعتباره من مكوّنات لسانيّات الخطاب الّتي تتحكّم في نصّيّة النّصّ، وإذا كان الباحث اللّغويّ فرديناند دي سوسير قد تنبّه إلى الخاصّية التّفاعليّة للّغة حين أثبت أنّ الكلمة لا تكون وحدها فإنّ الباحث السّيميولوجيّ ميخائيل باختين هو أوّل من أكّد على الطّابع الحواريّ للنّصّ الأدبيّ. وقد انتهت جوليا كرستيفا إلى مفهوم التّناصّ من خلال أبحاثها الّتي كتبتها بين سنتي 1966 و1967 في كتبها “sémiotique” ونصّ الرّواية “le texte du roman” وفي مقدّمة كتاب “دستوفسكي” لباختين. ويندرج هذا المفهوم عند جوليا كرستيفا ضمن الإنتاجيّة النّصّيّة الّتي تعني توالد النّصوص وخلقها وفق عمل قائم على بناء سابق أو مسبق.
[2]– المعارضة لغة: تعني المقابلة بين الكتب والمباراة في القول وتحقيق المناقضة، فقد جاء فـــي لسان العرب: عارض الشّيء بالشّيء، قابله، وعارضْتُه كتابي بكتابه أي قابلته. وفلان يعارضني أي يباريني.
وقد جمع الفيروزآبادي في “القاموس المحيط” (باب الضّاد، فصل العين)، بين ما هو حسّيّ ومعنويّ فقال: وعارضه: جانبه، وعدل عنه وسار حياله، وعارض الكتاب: قابله، وأخذ في عروض من الطّريق والجنازة أتاها معترضا فــي بعض الطّريق ولم يتبعها من منزله. فالأصل في المعارضة إذن، هـو المقابلة والمحاذاة والمباراة والمجاراة والمناقضة وهي معان لغـويّة ظلّت محايثة لدلالتها النّقديّة القديمة المرتبطة بالموازنة بــين الشّعراء وإعجاز القرآن والملاحظ أنّ المعارضة قــد ارتبطت في النّقد العربيّ القديم بالموازنة والمفاضلة بين الشّعراء كما هو الشّأن عند الأصمعيّ (ت 216هـ) وأبي عبيدة (ت207 هـ) فالمعارضة الشّعريّة كانت وسيلة للموازنة بين الشّعراء وإثبات التّفوّق الفنّيّ استنادا إلى مقاييس نقديّة تتعلّق بالوزن والقافية والمعنى، رغم أنّ عبد القاهر الجرجانيّ في كتابه “دلائل الإعجاز” قد أدخل مفهوم المعارضة في نسق نقديّ و إعجازيّ مشوب بالجدال بين أنصار اللّفظ والمعنى.
والجدير بالملاحظة أنّ الخطاب النّقديّ الحديث قد تناول مفهوم المعارضة الشّعريّة مــــــن زاويتين؛ زاوية فنّيّة تتعلّق بالاشتراك بين القصيدتين المتعارضتين بحرا ورويّا وقافية وموضوعا، وبذلك تكون القصيدة المعـارضة قد قيلت إعجابا بالقصيدة المعارضة في قيمتها الأسلوبيّة وجودتها الفنّيّة. أمّا الزّاوية الثّانية، فتتعلّق بالبحث عن إطار أنسب يتجاوز مفهوم الموازنة الّذي صاحب نشأتها ويراعي خصوصيّتها التّناصّيّة. لذلك استبدل محمّد بنيس هذا المفهوم بمفهوم آخر أكثر إجرائيّة وهو النّصّ الغائب، في حين اعتبر محمّد مفتاح المعارضة نوعا من الحوار بين نصّ وآخر، منتهيا بذلك إلى أنّ عمليّة الحوار مع النّصّ المركزيّ عمليّة تحويل يحكمها مبدأ المماثلة في الشّكل والمضمون أو في أحدهما.
[3]– عدنان حسين العوّادي، الشّعر الصّوفيّ منشورات، وزارة الثّقافة والإعلام، ط1، العراق ،1986، ص103.
[4]– انظر مثلا، نيكلسون، التّصوّف في الإسلام، ص100، التّصوّف الإسلاميّ وتاريخه، ص90، ومحمّد غنيمي هلال، الحياة العاطفيّة بين العذريّة والصّوفيّة، ص38، ومحمّد مصطفـــى حلمي، الحبّ الإلهيّ في التّصوّف الإسلاميّ، ص80.
[5]– ساسون سوميخ، العلاقات التّناصّيّة في النّظام الأدبيّ الواحد، مجلّة الكرمل، العدد7، 1987،ص110.
[6]– ديوان ابن الفارض، دار النّجم للطّباعة والنّشر، بيروت،1994، ص206.
[7]– ترجم رشيد بنحدّو هذا المصطلح بـ”الانزياح الجمالــيّ”، وذلك في مقاله “القوام الابستمولوجيّ لنظريّة التّلقّي” ص396 وترجمه شكري مبخوت بـ”العدول الجماليّ”، في كتابه “جماليّة الألفة” ص99.
[8]– عبد الله الغذامي، القصيدة والنّصّ المضادّ، المركز الثّقافيّ العربيّ، الدّار البيضاء، ط1، 1994، ص162.
[9]– الطّاهر لبيب، سوسيولوجيّة الغزل العربيّ، الشّعر العـــذريّ نموذجا، ترجمة مصطفـــى مسناوي، دار قرطبة للطّباعة والنّشر، الدّار البيضاء، 1987، ص67-126.
[10]– الطّاهر لبيب، سوسيولوجيّة الغزل العربيّ، مرجع سابق، ص82.
[11]– منصف عبد الحــــقّ، الكتابة والتّجربة الصّوفيّة (نموذج محي الدّين بن عـربي)، منشورات عكاظ، ط1، 1988، ص441.
[12]– عبد الله الغذامـي، المشاكلة والاختلاف: قراءة في النّظريّة النّقديّة العربيّة وبحث في التّشبيه المختلف، المركز الثّقافيّ العربيّ، الدّار البيضاء، ط1، 1994، ص130.
[13]– الدّيوان، ص178.
[14]– عبّاس يوسف الحــدّاد، الأنا في الشّعر الصّوفيّ: ابن الفارض أنموذجا، دار الحوار للنّشر والتّوزيع، سوريّة، اللّاذقيّة، ط1، 2005، ص135.
[15]– محمّد مفتاح، تحليل الخطاب الشّعريّ (إستراتيجيّة التّناصّ)، دار التّنوير للطّبـــاعة والنّشر، المركز الثّقافيّ العربيّ، الدّار البيضاء، المغرب، ط1، 1985، ص130.
[16]– الدّيوان، ص183.
[17]– عبد القادر بقشي، التّناصّ في الخطاب النّقديّ والبلاغيّ: دراسة نظريّة وتطبيقيّة، مطبعة أفريقيا الشّرق، المغرب، الدّار البيضاء، ط2007، ص134.
[18]– عبّاس يوسف الحدّاد، الأنا في الشّعر الصّوفيّ: ابن الفارض أنموذجا، ص97.