ملخّص:
تجدر الإشارة إلى أنّه بموجب حضور الفعل الديمقراطي، يستعيد الإنسان ما أهدر الاستبداد من ذاكرته وكرامته وحريته وإنسانيته، غير أنّ الفرح والرقص على نغمات هذا الإنجاز لا ينبغي أن ينسينا أنّ لكل ثورة ولكل منجز ديمقراطي أعداء يتربصون، والخوف كل الخوف من أن يكون بمستطاع النظام إعادة إنتاج نفسه، من نظام استبدادي إلى نظام استبدادي ناعم. ونروم أن نتوقف في هذا المقام بالذات عند “جاك رنسيار” الذي ينقد “هذا الشكل من الديمقراطية التمثيلية، التي ليست في النهاية سوى حكم الأقلية، التي وقع انتخابها من أغلبيةٍ منحت الصندوق أصواتها، ثمّ انسحبت إلى الحياة العامّة، منتظرةً إنجاز الوعود والمواعيد”، ذلك أنه من الموقن به أنّ مواجهة التوتاليتاريّة، لا يكون إلا بإبداع للديمقراطيّة مستمرّ، وهو ما يضمنه تعالق وتعانق الاحتجاجات والثورات ودوامها. وحريّ بنا أن نعود إلى سؤال “لابويَسي”: “كيف يمكن لكلّ هذه الجماعات من الناس ومن المدن أن تحتمل طاغيا متوحدا، ليس له من قوة إلا القوة التي تعطى له”؟ فنراه يحقق انزلاقا خارج التاريخ، وتبدو هنا الحاجة ملحّة لتفهّم الانتقال من الرّغبة إلى حبّ العبوديّة من جهة ما هو غير عقليّ، والمتبادر إلى الذهن أنّ كلّ علاقة بالسلطة هي علاقة استحواذيّة قمعيّة. لقد استقام لدينا لحظتئذ سؤال ينطرح حول سياسة غير قسريّة إلى أخرى قسريّة، من أجل ذلك نحن نميط اللثام عن صرامة تختزنها تلك الاستفهامات، كونه يمكننا أن نبصر جليّا أنّ نزعة التمركز الأروبيّ تتزعزع. لقد قطعت هذه التساؤلات مع ما كانـه التاريخ إلى حدّ الآن في تمثّله، فاهتدى العارفون إلى أنّها مجرّد حالة خاصّة بالمجتمعات “الغربيّة”، إنّه ما يرسم ملامح “مجتمعات لا توجد فيها مؤسسة سياسيّة، إلاّ أنّ السياسة حاضرة ومسألة السلطة مطروحة”. يستبين بالتالي أنّ ما يستلزم الوقوف عنده هو أنّ أطروحة “رنسيار” لا تتمثّل في الدفاع عن يوتوبيا حكومية جديدة، ولا في اقتراح خطة عمل مغايرة لنضالات شعبية، ولا حتى في تنشيط آلة ما بعد ماركسية ضد شرعية الديمقراطية، إنه يرفض أيضا، كلّ خطاب تكنوقراطي حول تكنوقراطيين محترفين في صنع المستقبل، ولا حتى في الانقلاب على ما يحدث، وبالنسبة إلى المستقبل “ليس ثمة مستقبل في انتظارنا”، ثمة فحسب الكثير من العمل والنضال “بالنسبة إلى كل من أراد ألا يموت غبيّا”.
الكلمات المفاتيح: الديمقراطية، التوتاليتارية، العنف، الاستبداد، الشرعية.
Abstract:
We would like to point out that, by virtue of the presence of democratic action, a person regains what despotism has wasted of his memory, dignity, freedom and humanity. But the joy and the dance to the tones of this achievement should not forget us that every revolution and every democratic achievement have enemies lying in wait, and the fear is all fear that the system will be able to reproduce itself, from an authoritarian regime to a soft authoritarian regime. We want here to stop here in this particular place with “Jacques Rensiard” who criticizes “this form of representative democracy, which in the end is nothing but minority rule, which was elected by a majority that gave the Fund its votes, and then withdrew to public life, awaiting the fulfillment of promises and dates”.
This is because it is certain that the confrontation of totalitarianism can only be achieved through the continuous creativity of democracy. This is guaranteed by the continuation and embrace of protests and revolutions and their continuity. It is appropriate for us to return to the “Laboy” question: “How can all these groups of people and cities endure a monolithic tyrant, who has no power but the power that is given to him?” We see him achieve a slide outside of history, and there appears to be an urgent need to understand the transition from desire to love of slavery in terms of what is not rational, and what comes to mind is that every relationship with power is an oppressive relationship.
At that time, a question arises about a non-coercive policy to a coercive one. That is why we are revealing the strictness that these inquiries store, since we can see clearly that the European concentration tendency is shaking. These questions have broken with what history has been so far represented in it. Knowledgeable people have found that it is merely a case specific to “Western” societies. It is thus evident that it is, and what needs to be considered, is that the “Resiar” thesis is not represented in defending a new governmental utopia, nor in proposing a plan of action contrary to popular struggles, nor even in revitalizing a post-Marxist machine against the legitimacy of democracy. Technocrats about technocrats who are professional in making the future.
Not even in a coup against what is happening, and with regard to the future, “there is no future waiting for us”, there is just a lot of work and struggle “for everyone who wants not to die stupid.”
Key words: democracy, totalitarianism, violence, tyranny, legality.
1- مدخل:
إن إعادة تشكيل شخصيات الأفراد وتحديد أنماط وعيهم وسلوكهم، إنما ينهض على تقنيات دعائية سياسية حماّلة لرؤية ومعبرة عن مصالح، ولها من القدرة ما به تؤثر لاختيار ممثلين سياسيين، لا يمكن أن نريدهم أو نحتاج إليهم لو كنا مالكين تماما لقدراتنا الذهنية، إنّه السطو على الضمير والتلاعب بالوعي عبر آليات تكييف تتحكم وتوجه وتضلل فيضمر شيئا فشيئا الحس التاريخي ويغيب البعد النقدي. والواضح أننا لم نغادر في ذهن “الاستبداد السياسي” حيز “القطيع”: فهل كان ذلك كذلك لأننا ننتمي إلى بشرية ضاربة بجذورها في تقاليد نصيّة قديمة؟ أم لأن حركة التنوير والثورة “الفرنسية” ليس لها امتدادات فينا، ولم تينع عندنا ومفاهيمها لا تزال غريبة عن مجالنا التداولي وحقلنا الثقافي؟ وكيف تعمل السلطة للسيطرة؟ إن هذا التساؤل لم يعد اعتباطيا ولا هو من فضول الفضوليين، بل إنما شرط المسكوت عنه، ذلك أن “المؤسسات” تستهلك الملايين من البشر ليس فقط بتأثير الآلية الاقتصادية ولكن أيضا باختراع ومساعدة: جهل مؤسس، وهذيان مقدس ينبني على الأيديولوجيا والدين. فبأي معنى تبدو هنا الحاجة ملحّة لتفهّم الانتقال من الرّغبة إلى حبّ العبوديّة[1].
2- في الديمقراطية والعماء الأيديولوجي:
من العلامات الشاهدة على أنّ الذين ينعتون الشعب بشتى النعوت (جاهل، متخلف…) إنما هم لا يفقهون للديمقراطية معنى، إنّهم لم يدركوا أنّ تظنّنهم على الحكم الذي يصدره “الشعب” مآلاته خطيرة. إنهم لم ينفذوا إلى عمق “اللعبة”، فقد استقر الفكر – ولكل نبأ مستقر – على أن الأمر ما يلبث أنيتغيّر ويصير مغايرا لما نتصوره أنّه هو[2]. فالخسارة نسبية ظرفية، ولا يمكن أن تكون أبلغ من ذلك إلا لحظة النّظر إليها من بوابة العماء الإيديولوجي والتحزب ضيّق الأفق. وما ينبغي إجلاؤه هو أنّ الانتخابات الشّفّافة والتي يُشهد لها بالنزاهة والتعددية، مؤهلة لأن تحقق نقلة نوعية، ها هنا يتبلور الانخراط الفعلي في تدبير فضاء حاضن لـ “الآخر”، وتعدد الرؤى والمصالح والأفكار.
وقد بان مما فات أن التّحلل والتفصي من الروابط الحضارية والثقافية لا يفيد في شيء، ومن ثمة لابد من الاشتغال على إرساء نموذج لا يقطع مع الحداثة السياسية، وإنما يتدبر أمر التفرقة بين منطق التطابق والمماثلة ومنطق الاختلاف والمباينة. وإن الأمر لا يمكن أن يكون إلا كذلك لأسباب تاريخية، فضلا عن الانتباه إلى الأبعاد المصلحيّة والبراغماتية في كل فعل سياسي، والذي لا ينكره إلا جاحد أو حالم. وهكذا، فإن غرضنا هو أن نعمل في أفق هذا الرهان، وأن نعبر دون تلكؤ عن انحيازنا اللامشروط لاختيار الديمقراطية، وبفضل هذه النظرة نقوى على الظفر بما امتنع علينا طويلا. من أجل ذلك، يبدو أننا اهتدينا إلى ما مفاده أن “الأحداث” لا تصنف في عداد المفاجآت إلا إذا جاءت من غير مصدرها، وهو ليس واقع الحال في الإنجازات التاريخية العظيمة لـ”الشعوب”. وقصد الإفصاح عن مبتغانا نروم أن نوضح بدون لبس أنّ “الحدث” إنما يكون درسا وفاتحة حياة، ثم إنّنا نود أن نشير إلى أنّه بموجب حضور الفعل الديمقراطي، يستعيد الإنسان ما أهدر الاستبداد[3] من ذاكرته وكرامته وحريته وإنسانيته. ولكن الفرح والرقص على نغمات هذا الإنجاز لا ينبغي أن ينسينا أن لكل ثورة ولكل منجز ديمقراطي أعداء يتربصون، والخوف كلّ الخوف من أن يكون بمستطاع النظام إعادة إنتاج نفسه، من نظام استبدادي إلى نظام استبدادي ناعم، ونروم أن نتوقف في هذا المقام بالذات عند “جاك رنسيار” الذي ينقد “هذا الشكل من الديمقراطية التمثيلية، التي ليست في النهاية غير حكم الأقلية، التي وقع انتخابها من أغلبيةٍ منحت الصندوق أصواتها، ثمّ انسحبت إلى الحياة العامّة، منتظرةً إنجاز الوعود والمواعيد”[4]. ذلك أنه من الموقن به أنّ مواجهة التوتاليتاريّة[5]، لا يكون إلا بإبداع للديمقراطيّة مستمرّ، وهو ما يضمنه تعالق وتعانق الاحتجاجات والثورات ودوامها. وخليق بنا أن نعود إلى سؤال “لابويَسي”: “كيف يمكن لكلهذه الجماعات من الناس ومن المدن أن تحتمل طاغيا متوحدا، ليس له من قوة إلا القوة التي تعطى له”؟[6] فنراه يحقق انزلاقا خارج التاريخ، وتبدو هنا الحاجة ملحّة لتفهّم الانتقال من الرّغبة إلى حبّ العبوديّة من جهة ما هو غير عقليّ، والمتبادر إلى الذهن أنّ كلّ علاقة بالسلطة هي علاقة استحواذيّة قمعيّة. لقد استقام لدينا لحظتئذ سؤال ينطرح حول سياسة غير قسريّة إلى أخرى قسريّة، من أجل ذلك نميط اللثام عن صرامة تختزنها تلك الاستفهامات، إذ يمكننا أن نبصر جليّا أنّ نزعة التمركز الأروبيّ تتزعزع. لقد قطعت هذه التساؤلات مع ما كانـه التاريخ إلى حدّ الآن في تمثّله، فاهتدى العارفون إلى أنّها مجرّد حالة خاصّة بالمجتمعات “الغربيّة”، إنّه ما يرسم ملامح “مجتمعات لا توجد فيها مؤسسة سياسيّة، إلاّ أنّ السياسة حاضرة ومسألة السلطة مطروحة”[7].
يستبين بالتالي أنّ الجهاز المفهوميّ الذي انبجست من رحمه هذه المفردات وقدّت منه هذه التراكيب، ليؤكّد أنّ ما يظهره “المتوحّشون”، هو ذلك المجهود الدّائم من أجل منع الزعماء من أن يكونوا زعماء. وإنّه لمن الضروريّ أن ننبّه إلى هذا الكشف العظيم والذي ينتهي إلى إمكان إقصاء كلّ سلطة قمعيّة، لا تتعاطى إيجابا مع النوازل والمستجدّات والمقتضيات و”الما يحدث”.
وإن ما يستلزم الوقوف عنده هو أن أطروحة الفيلسوف الفرنسي “جاك رنسيار”[8] لا تتمثّل في الدفاع عن يوتوبيا حكومية جديدة، ولا في اقتراح خطة عمل مغايرة لنضالات شعبية، ولا حتى في تنشيط آلة ما بعد ماركسية ضد شرعية الديمقراطية، إنه يرفض أيضا، كلّ خطاب تكنوقراطي حول تكنوقراطيين محترفين في صنع المستقبل، ولا حتى في الانقلاب على ما يحدث، وبالنسبة إلى المستقبل “ليس ثمة مستقبل في انتظارنا”[9]، ثمة فحسب الكثير من العمل والنضال “بالنسبة إلى كل من أراد ألا يموت غبيّا”.[10] وهكذا، فإنه من العبث، إن لم يكن من الخطر، توقع حصول إجماع يضع حدا للصراعات والنزاعات، ذلك أنّ الديمقراطية ليست نظاما سياسيا بلا صراعات ولكنها نظام الصراعات فيه مفتوحة وقابلة للتفاوض بحسب قواعد تحكيم معروفة. ففي مجتمع يزداد تعقيدا لا ينقص عدد النزاعات فيه ولا تقل خطورتها بقدر ما تتضاعف وتتعمق، وللسبب عينه فإن تعددية أراء أولئك الذين يصلون بحرية إلى منابر التعبير العام ليست حادثا عرضيا، إنها التعبير عن الطابع غير القابل للبت بطريقة علمية أو دغمائية. ليس هناك من مكان يمكننا فيه إدراك القاطع والمطلق واليقيني والنهائي وتعيينه: وبالتالي انقفال النسق وانغلاق التشكل، لنعتبر أن المناقشة قد أقفلت، لأنه لم يعد لها من داع. إنّ المناقشة السياسية هي دوما من دون خاتمة مع أنها ليست من دون قرار، غير أنّ أيّ قرار يتخذ يمكن أن يعاد النظر فيه أو أن يفسخ بحسب إجراءات مقبولة، إدعاءات كثيرة ومطالب عديدة تتواجه عندئذ وهي تظهر درجة أولى من عدم التعيين داخل الفضاء العام للمناقشة، هذه المطالب تتعلق في نهاية المطاف بالأولوية التي يجب الأخذ بها في ظرف تاريخي معين وفي النهاية الأولوية للخيارات الأفضل. ولعلّ ممّا يجدر التذكير به هو أنّ أخطر المزالق المنهجيّة إنّما تعترضنا في محاولتنا تحديد مفهوم التنمية، فيكون إيقاع اسم واحد عليها جميعا ضربا من الإجمال الذي لا بدّ له من تفصيل أو ضربا من المجاز الذي لا بدّ له من تأويل، ذلك أنّ التنمية اختزلت في أحد أبعادها ومكوّناتها ومنها بعض المماثلات الساذجة بين التنمية وبعض مؤشّراتها أو الخلط بين النموّ كعمليّة تلقائيّة تعرفها كلّ المجتمعات والتنمية بما هي عمليّة قصديّة إراديّة هادفة. وما ينبغي ا التّوقّف عنده هو أن الحداثة والعقلانية (=الروح النقدي) والتنمية ليست مجرد إجراءات وتدابير فنية إنّما هي إنصات وانتباه ينبغي أن يكون حادا للعوامل السياسية والمناخات والحواضن الاجتماعية والروابط الثقافية، فالتنمية استنهاض متكامل لكل المقومات المادية والروحية وتوظيفها لمجابهة التحديات التي تفرضها اللحظة الحضارية الراهنة.
إنّ هذا الطرح الذي أصبح يتناسب، في اعتقادي، مع مفهوم التنمية الشاملة إنما يتغيّا مجاوزة المنظور الاختزالي للتنمية، وهكذا فإن إنماء البشر بما هم طاقات قادرة على الابتكار والخلق والإبداع، لا يمكن أن يكون عبر اجتثاثهم وخلعهم وسلخهم من جذورهم، بل من الممكن استنهاضهم عبر هذه القيم الذاتية واستدماجهم عبر مشروع واسع الأفق. إلا أنّ ما يمكن العناية به منذ البدء هو أنّ مفهوم الديمقراطية يتحدّد في فكرنا العربي، كغيره من المفاهيم النهضوية، بواسطة منظومتين مرجعيتين مختلفتين: المرجعية التراثية والمرجعية النهضوية، أما الأولى فتقرأ الديمقراطية في الشورى، وأما الثانية، فتستقي عناصر التحديد فيها مما انتهى إليه التطور بالنضال من أجل الديمقراطية في أوروبّا. هاهنا يتوضّح كيف أن “السلفيّ” لا يشعر بأي تردّد في المطابقة بين مفهوم الديمقراطية ومفهوم الشورى، ومنذ ذلك الوقت والديمقراطية تعني، لدى المفكر الذي يفكر داخل المرجعية التراثية، الشورى، معتبرا إيّاها المفهوم الأكثر تعبيرا عن المعنى المقصود. لقد عمد السلفيّون إلى الموازنة بين الديمقراطية والشورى، لا لأنهم كانوا يطابقون بينهما أو يجهلون الفروق التي تباعد بينهما، بل لقد فعلوا ذلك في إطار ممارسة إيديولوجية، الشيء الذي يعني أن مشاكلنا تطرح داخل أفق تراث ديني[11]: إنها من آليات تأكيد الذات والدفاع عن النفس. والمفكر داخل المرجعية التراثية يضع الشورى كموازن للديمقراطية[12]، ولا نجد لديه سوى جمع بين الاستبداد والعدل، فالشورى في مضمونها التراثي لا تقوم بديلا عن الاستبداد المطلق وحسب، وإنّما أيضا عن نوع من الاستبداد الخاصّ الذي يمارسه الحاكم الظالم، والشورى بهذا المعنى لا تلزم الحاكم، إنها مفهوم يندرج في دائرة “مكارم الأخلاق” و”محاسن العادات”، وليس في دائرة الفروض والواجبات.[13] وهكذا يكون رفض الخلاص من موروث القهر بالقهر ومن ميراث الاضطهاد بالاضطهاد، وبوساطة أخلاقية، وبالتالي من الضروري أن ننحو منحى يعري الاستبداد ويكشف مرتكزاته الايديولوجية – الاجتماعية واللاهوتية والفلسفية – ذلك أنّ الوعي بضرورة الديمقراطية يمرّ حتما بالوعي بأصول الاستبداد ومرتكزاته[14]. وإذا ما انطلقنا في تدبّر الإشكال، يتوضح أنّ “الجميع يعرف حالة الديمقراطية في ظل الدين، أو في ظل ما اتفق على تسميته بالأنظمة التيوقراطية، فهذه الأنظمة مثل كل الأنظمة الشمولية لا تعترف بالديمقراطية ولا باستقلال المجال السياسي عن المجال الديني”[15]، وعليه فمن ذا الذي ينكر وجاهة الأسئلة الحارقة والملحّة التي أقضّت ذهون المفكرين وروّاد الإصلاح؟ من ذا الذي يمكن أن يتجاهل خطورة هذه الأسئلة: لماذا يتقدم العالم من حولنا بينما نعيش تراجعا؟ لماذا نتعثر في برامج التنمية؟ لكن خيطا دقيقا، رقيقا ومرهفا، ينزاح بنا إلى سؤال آخر: هل يمكن أن نفكّر في النهوض بعقل ما قبل النهضة؟ هل يمكن طرح تلك الأسئلة التي تحسن صياغة نفسها، وبناء رؤى وتصورات تنموية خارج إطار فكري حاضن، وخارج مناخ ديمقراطي يستعيد فيه الفرد مواطنتيه وتستعيد فيه المجموعة دورها في تحديد اختياراتها؟
إنّ من أوكد ما يطمح إليه مثل هذا التساؤل هو إزالة الخوف من الديمقراطية وعلى الديمقراطية، سيما أنها ما تزال مشروعا جنينيا في “ديارنا”، ذلك أنّ الشعب قادر على حكم نفسه بنفسه وعلى تدبير شأنه العمومي. هذا ما نروم قوله من وراء “انحيازنا اللامشروط للاختيار” ولا ينبغي أن يكون القصد من وراء انحياز كهذا الانتصار لهذا “الحزب”، أو أن يكون مناط الاهتمام “المهزوم” و”المنتصر” بمنطق الربح والخسارة. وإن ما يجب أن نعلن احتفالنا به إنّما هو انتصار الاختيار في ممارسة أولى لما نعتبره “فعلا سياسيا ديمقراطيا”، مع إدراك عميق لألاعيب السياسة ومكائد الساسة وما يدبّر بليل[16].
وإنّه لنصّ قويّ الدلالة ومتعدد الشفرات، حتى وإن اندسّت بين ثناياه أمور لافتة، فهو تدوين وتدشين للحظة تاريخيّة هامّة تعلن احترام حقّ الاختلاف والعيش المشترك. ذلك الاستنهاض المتكامل لكل المقومات المادية والروحية وتوظيفها لمجابهة التحديات التي تفرضها اللحظة الحضارية الراهنة. ذلك أنّ هذه المرحلة موسومة بسمة النهضة: أي أنّ الوعي مازال وعيا نهضويا والوعي النهضوي هو بشكل ما وعي حالم، ومن هنا فمهمة المتفلسفة هي أن يجعلوا من المحلوم به مطابقا قدر الإمكان، أي أن يطرح الحلم في حدود الإمكان التاريخي[17]. ولا يفوتنّك أن أمر التّظنن على الذات إنّما أفضى إلى انكشاف زيف تمركزها حول ذاتها وتعاليها واستقلاليتها على ما عداها. ذلك أن الآخر يشرطها ويؤثر فيها وليس يسيرا أن نبقى من نكون. والتفكير في هكذا مشكل من شأنه أن يحرّر نظرتنا للآخر من كلّ نزعة إقصائية نافية له ومتمركزة حول هوية أنانوية: فأن أكون هو أن أكون في علاقة بالآخر. فالهوية مشروع، وفي الوقت نفسه مشروع انفصال عن الآخر واتّصال دائم معه[18]. وفي أعطاف هذا التصور يتأكّد الانفتاح على الكوني، وتتفاعل الذوات، وتتواصل كما سبق أن أومأنا. وهذا التصور، نحن اليوم، إلى إدراك صوابه أحوج منا إلى المنازعة فيه. إذ يتناسى “البعض” أنه لا ديمقراطية في ظل التجانس، ولا حرية أو اختلاف في إطار الهيمنة، والاعتراضات على منطق الليبرالية الجديدة أكثر من أن تحصى ولمواجهتها لا مفر من التسلح بروح اليسارية، التي هي ضد المؤسسة[19]. فدور اليسار هو فكفكة الدكتاتوريات ومصارعة إمبراطورية العولمة الرأسمالية وإسقاطها، فاليسار هو أساسا مسألة إدراك وقضية منظار. بهذا المعنى لا يمكن أن تكون من اليسار حتّى تعتبر أنّ قضايا المنجرحين والمنقهرين والمناضلين الثوريين الصامدين أقرب إليك من حبل الوريد. فاليسار ليس جهة نركن إليها، إنّه منظور وحركة وصيرورة[20]. وهنا تصبح اليساريّة شبحا مخيفا يفضح خوفهم في زمن عولمة الكون وما يتخفّى وراء العقلانيّة والنزوعات الاستعماريّة والتوسعيّة والعدوانيّة على ثقافات متعددة.
وقصد الإمعان في البيان، نشير إلى أنّ نموّ التدهور المتمثّل في البطالة والتلوث والأوبئة، والقهر – منه قهر الفكر النقدي – الذي تضاعف وطال الجزء الأكبر من الإنسانية، لا ينبغي له أن يعمينا على وجود قوى ثوريّة تقاوم أجهزة الدكتاتوريّات البوليسيّة العسكريّة والليبراليّة وتقاوم الاستبداد. فعيب الاستبداد لا يكمن في الإكراه والعنف، بقدر ما يكمن في انعدام السياسة بما هي العناية بالمجموعة الإنسانية وتصريف شؤون الناس وفن التربية والحكم الحقيقي، ذلك أن تقلص السياسة يعرض الإنسان إلى رعب انعدام إنسانيته. وبالتالي فالإنسان المهمل سياسيا يستمرئ المشاريع الوهمية والوعود الكاذبة والتفصّي من كل مسؤولية أخلاقية[21]. إنه ما يؤشر إلى غياب المصداقية وهو ما يستلزم ردّ الاعتبار “للسياسي”[22]. هكذا، قد يكون “المثقّف” ثوريّا في أهدافه ولكنه – وتلك علامات مأساته – تقليدي في تفكيره ومنطقه. ذلك أنّ الفكر العربي لم يستوعب مكاسب العقل الحديث من عقلانية وموضوعية وفعالية وإنسية وديمقراطية، من جهة ما هي نظام مدني تقتضي أن لا أحد يملك الحقيقة السياسية، بل أن تلك الحقيقة تتكون رويدا رويدا، أماراتها الحوار والنقاش الذي لا ينتهي. لحظة تتحوّل الديمقراطية إلى مطلب اجتماعي، تحمله الحركات الاجتماعية وتضمن له التراكم والاستمرار. وهو ما من شأنه أن يفسح المجال وسيعا لسؤال مفصلي: هل يمكن تصور “مثقف” أو “تنظيم سياسي” ثوري دون ثقافة حديثة. في هذا المستوى بالذات يمكن الإشارة إلى أن “العروشية” و”المناطقية” و”الجهوية” هي المتحكمة في الفعل السياسي[23]. وقد بلغ منسوب الكراهية مداه، ذلك أن تدمير الميراث الأسود وهواجس الاستبداد وخلخلة القناعات “التقليدية” وصناعة المجتمعات المدنية، يستوجب دهورا، وتلك الامتدادات تجد لها صدى في منوال التنمية اللامتكافئ والتفقير الممنهج والانحطاط الأخلاقي والوصولية والانتهازية. وهو ما من شأنه أن يشكل حواضن العصابات ويحرك الشبكات ويربطها بالدوائر الاستعمارية. كما أنه لا يخفى أنّ الاعتقالات والزنازين المنفردة تجعل الإنسان يفارق آدميته ليتحول إلى وحش كاسر يسهل على العقل البراغماتي التلاعب به وتوظيفه وفقا لتحالفات متداخلة ومشبوهة. وهكذا فمجاوزة فعل الإرهاب والألم والخيانة، إنما يقتضي – حسب تقديري – مشروعا ديمقراطيّا وحكومة قوية قادرة على اتخاذ قرارات مصيرية.
3- في الاعتداء على القانون واستحالة الديمقراطية:
يتوضح أن الديمقراطية، تربية وسلوك يومي، إنها ممارسة في جميع المستويات وليست انتقائية ولا استثنائية، ومن هنا، فإن مسارها لا يتحقق إلا تدريجيا مع تقدم الوعي الجماعي وارتقائه لدى كافة الشركاء. فالشكل المرعب للدولة/اللوفياطان، الذي يقترحه “هوبز” مثلا والذي تمليه فرضية عدوانية الكائن البشري، يستبدل واقع الصراع بالتفكير في كيفية تحقيق العدالة والفضيلة. ولكن هذا الاستبدال مشوب بالمرارة، لأن الدولة قادرة على توظيف وسائل السلم لغاية قمع الأفراد. ها هنا يبدو أن ثمة غشاوة حقوقية قاهرة لا تزال تحكم طريقة النظر[24]، وبالتالي تدفع إلى معاودة التساؤل بشأن مشروعية الدول: هل تستمد مشروعيتها من قوتها أم من القانون[25] ؟ وكيف للقانون أن يحررنا من مأزق العنف، وأن يؤسّس لممارسة سياسية ديمقراطية؟
ولنحاول الآن تلمس الصعوبة التي يثيرها “ريكور” تلمسا أحكم، ذلك أنّ رسمه طريقا للتساؤل حول تقليص مدلولات الشخص، رام من خلاله تفحص سبب اختزال الشخص Personneفي معنى المواطنCitoyen المنتمي إلى ديمقراطيّة دستوريّة، في تواصل مع الانتصارات التي حققتها فكرة التسامح[26]، وهو النموذج ذاته الذي تحاول الديمقراطيات الدستوريّة الحديثة نحته، وهو أيضا بالضبط ما سعت نظريّة العدالة إلى صياغته دون أن تدرك بما فيه الكفاية محدوديّة عملها هذا، فيعطي بذلك جوابا جزئيا على الاعتراض الداخلي الذي قدمه “راولز” لنفسه على قاعدة شرط استقرار العقد. وعلى نحو سلبي يذهب “ريكور” إلى القول بكل ثقة: “فيما يخص الممارسة السياسيّة لا يستطيع أي تصور أخلاقي شامل أن يمدنا بمفهوم معترف به على نحو عمومي في إطار الدولة الديمقراطية الحديثة كتصور للعدالة”[27]. وليس يعني “ريكور” من “معترف به” غير ما هو قابل منه للتطبيق تاريخيا. ولا يحسبنّ أحدٌ أنّ الجواب عن “الافتراض” كان على نحو سالب فقط وإنما كان موجبا، إذ يتعين أن تكون الفوارق الاجتماعية والاقتصادية في صالح الأعضاء الأقلّ حظا داخل المجتمع وفيما هو موجه منه إلى المطالب المتعلقة بالمساواة، والتي تصرح بها متحدات فكريّة لا يمتنع أن تكون متناقضة وتضمن حماية مؤسّساتية للحقوق والحريات وكل أسباب تحقيق هذه المطالب. ويتبين ممّا أتينا على ذكره أن الديمقراطية الليبرالية، إنما تناسب تحديد مواطنين لا مناص لهم من أن يختلفوا حول ما هو أساسيّ في الحياة وأن يفكروا في ضوء الاختلاف ويعملوا على حصره، ويذهب “ريكور” إلى أنه من المعقول أن نعمل على إقامة صلة بين قاعدة العدالة والخلفية المتمثلة في العقائد التي تقع ممارستها في مجتمعاتنا الحديثة.
ولئن استفرغ الجهد الآن في إجلاء الطابع الإلزامي في علاقتنا بمجتمع لا يكون الدخول إليه والخروج منه فعلا إراديا، والطابع الإلزامي أيضا للسلطة السياسية في مستوى تطبيق القوانين على الأقلّ. ولئن انضوت هاتان الصفتان حقا ضمن حدود المجال الخاص بالسياسي، فهما لا تفيداننا بشيء حول شروط العدالة التي من شأنها أن تجعل من الدولة، دولة القانون، ومن النظام السياسي نظاما دستوريا. إلاّ أنّ ما يمنح البنية العامّة للسلطة السياسية مشروعيّتها، إنّما هو موالاة المواطنين لها بصفتهم أشخاصا أحرارا ومتساويين فيما بينهم، من هنا، فإنّ الطابع المتعقّل في هذه المساندة، إنّما يتجلّى في أنّه لا توجد أيّ مجموعة ذات عقيدة دينيّة أو فلسفيّة أو أخلاقية تعتبر أنه من المعقول اللّجوء إلى سلطة الدّولة للحصول على ولاء الآخرين لعقيدتها[28].
هنا بالتحديد يمكن أن نعثر على مقصود “ريكور”، إذ بالإمكان أن نبحث عن المسافة السياسية للحرية، وكيف تكون مسافة عاقلة. وبعد فراغه من هذا السؤال المفصلي، يوضح “ريكور” أنه من المفيد أن نعين تلك المسافة على أنها المسافة بين الفرد والمواطن، وهكذا ستكون الوظيفة العاقلة للدولة إنما هي مصالحة عقليّتين: العقلي التقنو- اقتصادي والمعقول المتراكم نتيجة تاريخ العادات. وتكون الدولة عندئذ تركيبا بين العقل والتاريخ، بين الفاعل والعادل، وتكون فضيلتها التعقل. على أنّه يجدر بنا التنبيه إلى أنه لم يفت “ماكس فيبر”(Max Weber) أن يلفت الأنظار إلى الوجه الآخر للمشكل: الدولة بوصفها قوة، وفي نظره لا يمكن تعريف الدولة إذا لم ندمج في وظيفتها احتكار العنف المشروع، ولا يتردد “ريكور” في اعتبار المفارقة السياسية إنما تكمن تحديدا في هذه المواجهة بين الشكل والقوة داخل تعريف الدولة. هنا يتبين الدور الخطير لمفهوم العنف، إنه المقام الذي يتمّ عنده التوالف بين طرفي المعادلة إذ لا يمكن إنكار العنف الذي يختبئ في التمثيل اللامتكافىء للقوى الاجتماعية داخل جهاز الدولة، إلا أن “قدرة كل واحد على الفعل تجد في وجود الآخر حدا لها، وتلك حقيقة أساسية شرط أن لا نؤول هذا التحديد في صيغة عائق بل أن نرى فيه اضطلاعا بالشرط الأساسي للكثرة التي لا تعوق إلا المثل الأعلى للسلطان المطلق الذي يجسده تخصيصا الاستبداد بكل أشكاله والذي يشكل وهما سياسيا خطيرا ينفي الكثرة ويعتبر شبكة تفاعل العلاقات أمرا عرضيا”[29]. ولعله يمكن الإشارة مع “ريكور” إلى أربع خصائص للفعل: الاستطاعة وما يرتبط بها من إمكان واقتدار وقدرة أيضا على القيام بالفعل، ذلك أن كينونتي من فعلي والتدخل من جهة ما هو رسم الفعل وتنزيله في مسار العالم تنزيلا يتطابق فيه الحاضر والآن والإيفاء بالعدل وهو ما يقتضي مواصلة الفعل والدأب عليه والاستمرار فيه[30]. لقد استبان أنّ “ريكور” إنما ينبّه إلى أنّ السلطة السياسيّة ليس لها من مصدر ولا معنى إلاّ من خلال فكرة الإلزام الناتج عن الانتماء وهو التزام بطاعة قواعد مشتركة تحدد تحديدا صارما. والأمر الحاسم في ظهورها هو أنها شرط تطور قدرات الأفراد وإمكانيّاتهم التي بها يكون الإنسان إنسانا، وكما أنّ السبيل الوحيد للتمتع بخيرات الانتماء إنّما هو أن يمنح الناس مقابلا[31]. والملاحظ أنّ هذا التحديد الذي يؤثث طبيعة الانتماء السياسي يوضح أمرين نروم الكشف عنهما، مع الإشارة إلى أنّ الفرد لا يكون حرّا إلاّ داخل الفضاء السياسي، وهي أطروحة قد عبر عنها “روسو”(Rousseau) و”هيغل”(Hegel) خاصّة، من خلال التمييز بين الحرّية الطبيعيّة المجردة والحرّية المدنيّة العينيّة.
وإنّ ما ينبغي أن يشغلنا ههنا هو العزم الذي يطالب الفرد أن يظهره، اعتناء بشكل الوجود السياسي الذي ينتمي إليه بنحو من الأنحاء بما هو كلّ، ويبلغ الاستدلال مرماه حين يسمح بتطوير إمكانيّاته، فإذا الاعتراف للفاعلl’acteur بقدرته على الفعلl’action ما يجعله جديرا بالاحترام. ولو تمعّنا قليلا لاستنتجنا أنّنا نرتدّ صوب اكتشاف للحقّ لا يكون إلاّ في ثنايا كتاب “اللوفياثان”(Léviathan) لـ “هوبز”(Hobbes) بوصفه أوّل نص يختزن المعنى الحديث للحق، وهو الأفق الذي تتكون داخله مسألة الدولة والعلاقة بين الحقJUS والقانونLEX، بل هو هذا الضرب من التدبير لترتيب ماهيّة الدولة. ولنحاول الآن تقصّي الصعوبة التي يثيرها “هوبز” وذلك برسم طريق نروم من ورائه تبيان الفرق بين الحق والقانون، إذ القانون من جهة ما هو قاعدة ملزمة من السلوك أو مانعة له هو ما يعيّن طبيعة العلاقة بين الحق والعنف، فـ”الحق يختلف عن القانون، حيث أنّ الحق يعتمد على حرّية المرء في أن يقدم على فعل أو أن يحجم عنه، في حين أنّ القانون يرتبط بأحدهما دون الآخر أعني أنه يحدد ويلزم”[32].
إنّ ما نريد إظهاره بصورة بارزة يتعلق أساسًا بتأكيد مفاده أنّ القانون والحقّ، إنما يختلفان بالضبط كالإلزام والحرّية[33]. لذا فإنّ ما يسترعي الانتباه هو أن يكون العنف ضربا من ضروب الاعتداء على القانون، وإمعانا في التحديد والضّبط، نبيّن أنه ا اعتراض على الإلزام وإقبال على الحرّية من دون التزام بما يفرضه القانون، وهو ضرب خطير من اللقاء مع الحق مستحيل. وإذا أمعنّا النظر فسنلاحظ أنّ العنف بما هو رفض للإلزامl’obligation يتجلّى فعل إبقاء لا قانونيّ على الحرّيةLiberté . وإنّ كلّ ذلك لممّا يبيّن أنّه بقدر ما يُعتدى على القانون يُتمسك بالحقّ. ههنا بالذات تتجلّى أطروحة “ريكور” الثانية والتي تهمنا بكل ما تنطوي عليه من صعوبة وتعقّد وطرافة، والتي سيعمل على بيانها وإثباتها منطلقا من تأكيد ضرورة الاتفاق حول هذا الذي افتقد. ومحاولة منه للنفاذ إلى عمق المسألة يستعين بكتاب “تاريخ النفوذ” لـ “جرار لوكلارك”(G. Leclerc)[34]. ومرّة أخرى لم يعد النفوذ ما كان عليه، فقديما كان مبدأ شرعنة للخطاب، واليوم أصبح يدلّ على نمط من أنماط وجود السّلط الشرعيّة. ويحتفظ “ريكور” هنا بفرضيّة عمل توجد بمقتضاها بؤرتان لفعل الشرعنة: تتجسد الأولى فيما يسميه “لوكلارك”(G. Leclerc) نفوذا بيانيّا تلفظيا، وتكمن الثانية فيما يطلق عليه نفوذا مؤسّساتيا. فمن جهة يتراءى الخطاب مصدرا لاستطاعة رمزيّة، ومن جهة أخرى تنتصب المؤسسة مصدرا للمشروعيّة بالنسبة إلى أولئك الذين يمارسون في إطارها النفوذ. ويتساءل “ريكور” عن قيمة أطروحة “لوكلارك”(G. Leclerc) هذه التي تجعلنا نغير مجال قولنا بالمرور من نفوذ متأتّ من الكتاب المقدس إلى معنى للنفوذ لم يعد من قبيل المفهوم الفلسفي، وإنما غدا مفهوما سوسيولوجيا.
ولكن لو لطفنا النظر وأنعمناه لألفينا أنّه يمكن للأنظمة السياسيّة أن تختلف وفق ما يكون الحكم (= في يد شخص واحد، أو عدة أشخاص، أو الجمهور) غير أنّ مصدر القدرة على السياسة يظلّ لغز “الحياة السياسيّة”. وكما تلاحظ “حنا أرندت” فقد “اصطدمت المحاولات الجبارة للفلسفة الإغريقيّة للعثور على مفهوم للنفوذ باستطاعته منع تدهور المدينة (Polis) وحماية حياة الفيلسوف بالأمر التالي: إنه لم يكن هناك في مجال الحياة السياسيّة إدراك للنفوذ قائم على تجربة سياسيّة آنية”[35]. إنه ما من شأنه أن يحملنا على فحص مقتضى هذا الإدراك وهذه التجربة السياسيّة الآنيّة والتي لم يعشها إلا الرومان وحدهم في شكل الصيغة المقدسة للتأسيس: تأسيس المدينة (Polis) وتأسيس “روما”، فـ “روما” وحدها تحظى بضرب من الانتباه المجلّ، وتتميّز وتنفرد بالقداسة. ويوضح “ريكور” مدى تناسب عمق اللّغز مع كثافة تجربة طاقة التأسيس، والتي لا تستند بصورة ما إلاّ إلى نفسها وإلى عراقتها الخاصّة. ولكنّ السؤال تحديدا يكمن في معرفة، إن كان كلّ نفوذ لا يصدر عن أسطورة[36] توطّئ لما يتبعها مؤسّسةً إعادةً للبناء على قاعدة حدث مؤسس في عمل لا يجيد تدبيره غير شخصيّات مؤسسة، وتتشكلن لحظتئذ مفارقة النفوذ من حيث هي حاضن لصفات الأسبقيّة. إلاّ أننا إذا كنّا لا نستطيع أن نولّد ظاهرة السلطة فإننا نستطيع أن نفهم القواعد الأعمق التي تقوم عليها: فمن وظيفة إضفاء المشروعيّة، إلى وظيفة الإخفاء، إلى وظيفة الإدماج يتجلّى دور الإيديولوجي في نشر الاقتناع بأنّ الأحداث المؤسسة هي عناصر مكوّنة للذاكرة الاجتماعيّة ومن خلالها للهويّة نفسها، وإذا كلّ واحد منّا يتماهى مع التاريخ الذي يمكنه أن يحكيه عن نفسه، فالأمر هو كذلك بالنسبة إلى أيّ مجتمع مع فارق أنّ علينا أن نتماهى مع أحداث لم تعد ذكرى مباشرة لأيّ شخص، ولم تكن ذكرى سوى لدائرة محدودة من الآباء المؤسسين. وما استقرّ عليه الأمر، أنّها إرادة عدم الاعتراف إلا بمصدر للسلطة واحد: إنها سلطة الشعبle peuple ووفق تعبير “حنا أرندت”، سلطة الشعب دون نفوذ القدامى، إنه النظير السياسي للاستقلاليّة على الصعيد الخلقيّ، إنّها الحرّيةla liberté التي تعطي لنفسها قانونها الخاصّ. في هذا المستوى بالذات يبرز النموذج التعاقديّ الذي تتمثل وظيفته فعلا في امتصاص النفوذ داخل السلطة. ويشير “ريكور” إلى أنه بالإمكان الحديث على أنّ الشعب يأذن لنفسه بنفسه.
4- الخاتمة:
تأسيسا على ما سبق، تبرز حجج على درجة من القوة والوجاهة، خليقة بالإبانة عن التقدير الذاتي عند الضحايا، هذا التقدير الذي رفع إلى درجة احترام الذات. وإن ما يحرّك هذه المرجعيات، كما استبان غير مرّة، إنّما هو افتراض مفادُه أن ما ندعوه إذلالا، ليس إلا تدميرا لاحترام الذات، وإرساء للاستبداد والطغيان، وهو ما استلزم في كل حين تأمل غياب الديمقراطية، المنزوف بأناة، والتشريع لعنف، يتبين أنّه في كل أشكاله المختلفة يوازي التخفيض في السلطة التي يتمتع بها الغير أو تدميرها. مثل هذا المناخ، في تقديري، يهيئ لعودة الفكر السياسيّ، ويسمح بالاختلاف والتعدد الذي يفسح بدوره المجال لمباشرة الأسئلة حول التنمية والحداثة والعقلانيّة والحرّية.
[1]– إتيان دو لابويسي، العبودية المختارة، ترجمة صالح الأشمر، دار الساقي، بيروت، ط1، 2016، ص23.
Etienne de la Boetie, discours de la servitude volontaire, Payot, 1978
[2]– تعيدنا أزمة اليوم الديمقراطية إلى فترة سابقة مبكرة للحداثة الأروبية، خاصة القرن الثامن عشر، لأن مفهوم الديمقراطية وممارستها حينذاك أيضا وضعا في أزمة بقفزة المقياس، ووجب إعادة إبداع المفهوم. انظر، مايكل هاردت وأنطونيو نيغري، الجمهور، الحرب والديمقراطية في عصر الإمبراطورية، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، ط1، بيروت 2015، ص 391.
Hardt and A. Negri, Multitude, War and Democracy in the Age of Empire, 2004.
-[3] وقد تكلم بعض الحكماء لاسيما المتأخرون منهم في وصف الاستبداد ودوائه بجمل بليغة بديعة تصور في الأذهان شقاء الإنسان كأنها تقول له هذا عدوك فانظر ماذا تصنع، ومن هذه الجمل قولهم: المستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم (…) المستبد عدو الحق (…) المستبد يتجاوز الحد ما لم ير حاجزا من حديد (…) المستبد إنسان مستعد بالطبع للشر (…) ومن أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم.
(را، عبد الرحمان الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، منشورات الجمل، كولونيا – بعداد، 2006، ص 17- 18)
[4]– أم الزين بن شيخة المسكيني، الأدب والديمقراطية في تأويل جاك رنسيار”، مجلة ألباب، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، العدد 5، ربيع 2015.
“… رونسيار الذي يجعل من الأدب تدرب على الديمقراطية من خلال المساواة بين الجمل”
انظر، أم الزين بن شيخة المسكيني، الفن والمقدس، نحو انتماء جمالي إلى العالم، مؤمنون بلا حدود، بيروت، ط1، 2020، ص 125.
Jacques Rancière, La Haine de la démocratie, La Fabrique, 2005.
Jacques Rancière, Politique de la littérature, Galilée, 2007.
[5]– حنة أرندت، أسس التوتاليتارية، ترجمة انطوان أبو زيد، دار الساقي، بيروت، ط2، 2016.
Arendt. Hannah, les origines totalitarisme, Paris, Calmann-Lévy 1973,3 vols (collection « points »)
تفيد الأنظمة التوتاليتارية من معسكرات الاعتقال والإبادة باعتبارها مختبرات يُثبت فيها معتقد التوتاليتارية – في أن كل شيء هو ممكن. والحق أن كلّ الاختبارات الأخرى تتبدّى حيالّ هذا الأخير، ثانوية – ومن ضمنها تلك التي تمس المجال الطبي والتي تمثل فظائعها بالتفصيل في الدقائق الممنوحة لأطباء الرايخ الثالث وهم يرافعون عن نظرياتهم – مع الأخذ بالاعتبار أن هذه المختبرات استخدمت لشتى أنواع الاختبارات. إن السيطرة الكلية، التي تجهَدُ في تنظيم تعددية الكائنات البشرية وتمايزهم اللانهائيين، وكأنما البشرية كلها إن هي إلا كائن فرد، لن تكون ممكنة إلا في حال تقلص جميع الناس إلى هوية ثابتة من ردود الفعل: هكذا يتسنى لكل مجموع من مجاميع ردود الفعل هذه أن يستبدل بأي مجموع آخر.
(را، حنة أرندت، أسس التوتاليتارية، ص 206، – مرجع مذكور-)
[6]-Pierre légende, jouir du pouvoir, éd Minuit 1976 Etienne de la boetie discours de la servitude volontaire Payot 1978, Claude le Fort, L’invention démocratique Fayard 1981.
[7]-Pierre Clastres La société contre l’état, Minuit1974
[8]– أم الزين بن شيخة المسكيني، “الأدب والديمقراطية، تأويل جاك رنسيار”، (مرجع مذكور).
[9] -Jacques Roncière, Et tant pis pour les gens fatigués, Entretiens, Paris, éditions Amsterdam, 2009, p.553.
[10]-ibid, p.41.
(= أوردته كذلك أم الزين بن شيخة المسكيني، في المقال المذكور سابقا)
[11]– إن إشكالية العلاقة بين السياسة والدين ليست جديدة في الفكر السياسي، فهي تواكبه منذ نشوء الفلسفة في مهدها اليوناني والتي تمحورت حول محورين: الدين والأيديولوجيا، فالدين بصفته القاعدة الأعمق للتفكير ولتحديد السلوك، شكل منذ نشوء التقاليد اليهودية – المسيحية محددا شرعيا ورئيسيا للسلطة والعلاقات الناجمة عنها، أما الأيديولوجيا فقد عوضت المرجعية الدينية في المجتمعات الغربية منذ عصر التنوير، إذ أزاحت سلطة الكنيسة وكرست مفاهيم العلمانية ومعيار التمثيل والانتخاب لتحل محل قداسة الحاكم وسلطته الإلهية.
(را، مارسيل غوشيه، الدين في الديمقراطية، ترجمة شفيق محسن، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2007، ص 7 – من مقدمة المترجم -). Gauchet. Marcel, La Religion dans la démocratie, Parcours de la laïcité, Ed, Gallimard, 1998
[12]– وراء الدولة الوطنية في المشروع السياسي التاريخي الأروبي مشروعا في النظر السياسي الحداثي ومشروعا في النهوض الاجتماعي والاقتصادي وبالتالي فإن نشأة وتطور هذه الدولة كان مشروطا بتاريخ من التفاعل المستوعب لتجربة تعكس فيها آلة الدولة محصلة سيرورة تاريخية.
را، كمال عبد اللطيف، في الاستبداد، بحث في التراث الإسلامي، منتدى المعارف، بيروت، ط1، 2011، ص 318.
[13]– محمد عابد الجابري، وجهة نظر، نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1992، ص 126.
[14]– محمد عابد الجابري، نقد العقل العربي، الجزء الثالث، العقل السياسي العربي، محدداته وتجلياته، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1990- طبعة خاصة بالمعرب- ص 396.
[15]– مارسيل غوشيه، الدين في الديمقراطية، – مرجع مذكور – ص 08..
[16]– إن الانهزام في الانتخابات لا يعني في المحصّل انهزام الديمقراطية وإلاّ بطلت اللعبة وقوّض أساسها، كما أنّ الانتصار الانتخابي لا ينبغي أن يفهم على أنّه انتصار سياسيّ في المطلق، بل قل إنّها بداية مرحلة جديدة يكون فيها الفرد فعّالا لما يريد وتكون فيها “الأحزاب” فاعلة متى أتقنت قوانين اللعبة السياسيّة والديمقراطيّة.
[17]– محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، دراسة تحليلية نقدية، دار الطليعة، بيروت، ط3، 1988، ص5.
[18]– عبد السلام بنعبد العالي، ثقافة الأذن وثقافة العين، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، 1994، ص21-22.
[19]– Gilles Deleuze : Qu’est-ce qu’être de gauche ? Claire Parnet، nouvel observateur- L’Abécédaire de Gilles Deleuze, 1988.
[20]– عبد السلام بنعبدالعالي، ثقافة الأذن وثقافة العين (مرجع سبق ذكره)، ص 15.
[21]– فتحي بن سلامة، تخييل الأصول، الإسلام وكتابة الحداثة، تعريب شكري المبخوت، دار الجنوب للنشر، تونس، 1995، ص 62.
Fethi Ben slama, Une fictions troublante, de l’origine en partage, Ed, de L’Aube coll. Monde en cours, 1994.
[22]– انظر التمييز الذي أقامه رولان بارت بين السياسي بصيغة المذكر والسياسة بصيغة المؤنث، السياسي مستوى أساسي من مستويات كل تشكيلة اجتماعية وهو قوام التاريخ والفكر وكل ما يعمل وما يقال: إنه البعد الأساسي للواقع، أما السياسة فهي اللحظة التي يتحول فيها السياسي إلى خطاب مكرور ولغة رتيبة وهو يرى أن المثقف العصري إن كان لا يتنكر للسياسي كبعد أساسي من أبعاد الواقع فإن علاقته بالسياسة غالبا ما تنتهي نهاية غير سعيدة. (را، عبد السلام بنعبدالعالي، ثقافة الأذن وثقافة العين، – مرجع مذكور- ص 112.)
[23]– لقد استطاع المشروع التحديثي البورقيبي مثلا، خلخلة البنى التقليدية. ولكن هل استطاع أن يستبدلها نهائيا؟ بل هل كان مطلوبه فعليا أن يستبدلها؟ انظر، المنصف وناس، الشخصية التونسية، محاولة في فهم الشخصية العربية، الدار المتوسطية للنشر، ط3، تونس/ 2014، ص65.
ألا وقد حصحص الحق، فإننا لنجزم أنّ مطلوبه منها، إنما كان إمداد المشروع بسبل الاستمرار والقوة والهيمنة، فلم يكن قادرا على هدم الولاءات العشائرية والقبلية والتقليدية. ولم يطمح إلى اجتثاث اثأر الانتماء إلى صف “شدّاد” و”الباشية” وصف “يوسف” و”الحسينية”. انظر، علي المحجوبي،انتصاب الحماية الفرنسية بتونس، دار سراس للنشر، الطبعة الأولى، تونس 1986 ص 15).
إذ رغم التباينات فإن تلك القوى كانت تتقاسم فيما بينها مواقع النفوذ لإعادة إنتاج السلطة. وليس بخفيّ على الناظر الحصيف أنها تناسلت وخلقت أنصارا ومستفيدين، همهم “رسكلة” السائد وإعادة التموقع داخل السلطة.
ولئن تعالت أصوات مواجهة بالانكفاء والمقاومة فإنها لم تنجح في إرساء اختيار مجتمعي ديمقراطي، غير أنها ما تزال تملك من الطاقة والقدرة على الحلم بإعادة توزيع الثروة والسلطة.
[24]– فتحي المسكيني، الهوية والزمان، تأويلات فينومينولوجية لمسألة “النحن”، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولي، 2001، ص 73.
[25]– لما وضع أفلاطون، علم الحاكم فوق القوانين، هل كان يدافع، في محاورة “السياسي”، عن “لا شرعية مثالية” تتقابل مع شرعية لا تكون سوى ما لا نجد أفضل منه؟ إن إخضاع القانون إلى عقل السياسي الصالح، هو أمر يجعله يكون دون شك وسيلة من وسائل الحكم من بين وسائل أخرى، وليس الرابطة المكونة للمدينة، ومع هذا فلقد كان الغريب واع بأنه من المحال أن تطبق حكمة الحاكم في كل لحظة، على كل حالة خاصة. يكون العقل فوق القوانين، ولكن يكون عليه لكي يحكم أن يطالب باحترام القوانين عندما تكون هذه الأخيرة لسان حال العلم التوجيهي، وليس قرارات حاصلة عن تصويت مجلس من الجهلة (…) ذلك أن ما هو متعارض مع العقل، ليس هو القانون ذاته، وإنما ثباته.
انظر، مونيك ديكسو، أفلاطون، الرّغبة في الفهم، ترجمة حبيب الجربى، المركز الوطني للترجمة، تونس، 2010، ص 310.
Monique Dixsaut, Platon. Le désir de comprendre, Librairie Philosophique J. VRIN, Paris, 2003, h ;//www.vrin.fr
[26]– فالليبرالية والتسامح مبدآن مقترنان أحدهما بالآخر من وجهتي التاريخ والمفهوم، إذ شكل تطور التسامح أحد الجذور التاريخية لليبرالية، فالتسامح الديني في الغرب قد ولد في خضم حروب دينية لم تعرف هوادة وقد أصبح ميلاده ممكنا عندما اعترف كل من الكاثوليك والبروتستانت بأنه لا يمكن لنظام دستوري مستقر أن ينهض على قاعدة عقيدة دينية مشتركة، ووفق “رولز” لم يقم الليبراليون إلا بتوسيع مدى مبدأ التسامح ليشمل تلك القضايا المتعلقة بمعاني الحياة الإنسانية وبقيمها وبغاياتها.
انظر، كيملشكا (ويل)، مدخل إلى الفلسفة السياسية المعاصرة، ترجمة، منير الكشو، المركز الوطني للترجمة، تونس، 2011، ص 294.
[27]– J.Rawls, Théorie de la justice, Théorie de la justice, traduit par C Audart, Paris ; Ed du Seuil, 1987. p. 208
ذلك أن “رولز” يطرح نظرية العدالة بما هي إنصاف ويؤسسها على أن:
– كل الناس أحرار ولهم الحق في الحريات الأساسية بالتساوي
– من الطبيعي أن يترتب على هذه الحريات فوارق اجتماعية واقتصادية هائلة بين الناس لكن شرط أن يحسن
تنظيمها: فتكون في مصلحة الأكثر حرماناles plus défavorisés أي ضحايا النظام الليبرالي. وتكون نابعة من مبدأ تكافؤ الفرص Egalités des chances في الوظائف وفي الوضعيات.
[28]– بول ريكور، العادل ج 1, تعريب محمد البحري، الطيب رجب، منيرة بن مصطفى ومنير كشو، بيت الحكمة، قرطاج 2003، ص145.
المرجع نفسه.
Ricœur (Paul), Le juste, Paris, Éditions Esprit, 1995). Regroupe l’ensemble des conférences données par Ricœur à l’Institut des hautes études sur la justice
[29]– Alexandre Huber, L’action dans L’œuvre de Hannah Arendt, Ed Découvrir, Paris, 1993, p80
[30]– Ricœur (Paul), Du texte à l’action. Essai d’herméneutique II. Paris, Seuil, coll. «Esprit», 1986. p298-301
بول ريكور، من النص إلى الفعل، أبحاث التأويل، ترجمة، محمد برادة – حسان بورقية، دار الأمان، ط1 الرباط، 2004
[31]– Ricœur (Paul), Lectures I. Autour du politique, Paris, Seuil, «La Couleur des idées», 1991, p164.
[32]-Thomas Hobbes, Léviathan, traduit Tricaud, Paris sierg 1971, p189
[33]– تشير دولة الحق إلى العبارة الفرنسيّة Etat De droit بيد أننا نجد من يعربها بـ: دولة القانون، إنّ الأمر لا يتعلّق ههنا باختلاف في الترجمة بل في قرار هيرمينوطيقي خطير إنه تعويض “الحق” بـ “القانون” معناه إخراج معنى الدولة تلك من أفق الحق الطبيعي الذي ينظم علاقة السلطة بالمواطن إلى أفق الشرعيّة المحضة الذي يجرّد دولة الحق من روحها الحقوقيّة ولا يبقي فيها إلاّ على طابعها الشرعيّ أي من حيث هي تملك صلاحيّة مبدئيّة لممارسة ضرب بعينه من السلطة، انظر فتحي المسكيني الهوية والزمان (مرجع مذكور) ص88
[34]– Gérard Leclerc, Histoire de L’autorité, L’assignation des énoncés culturels et la généalogie de la croyance, Paris, PUF, Coll. “Sociologie d’aujourd’hui” 1986.
[35]– بول ريكور العادل، (مرجع سابق) ص 420
[36]– الأسطورة ضرب من ضروب السرد التأسيسي حيث تروي جماعة ما بنفسها لنفسها وللآخرين، إنها استباق يوتوبي للمستقبل، حيث تعبر جماعة ما عن طموحاتها غير المتحققة في عالم أفضل، وتكرار الرموز التأسيسية من شأنه أن يحافظ على الإحساس بالهوية، إلا أنه قد يحول إلى أكاذيب تمويهية لتبرير شرعية السلطة، ذلك أن الايديولوجيا تكتمل بوصفها توكيدا رمزيا للماضي واليوتوبيا بوصفها انفتاحا رمزيا على المستقبل، لذلك يفهم “ريكور” السرد على أنه المسعى الإنساني لإضفاء معنى على التاريخ برواية القصص وبهكذا يطلق السرد ممكنات جديدة كانت خفية في فهم التاريخ. لقد توضح لـ “ريكور” أن الذات لا تدرك نفسها مباشرة بل عن طريق العلامات المودعة في ذاكرتها ومخيلتها من قبل الثقافات الكبرى، والهيرمينوطيقا إنما هي طريقة لفك الرموز من جهة أن هذه الرموز هي تعبيرات ذات معنى مزدوج: وهكذا فالرمز يحمل على التفكر. وهكذا يكون تأويل حكاية السقوط بما هي حكاية حكمة ألبست حدث الانتقال – اللامفكر فيه – من الطيبة الأصلية للموجود المخلوق إلى الخبث الحادث والمكتسب لإنسان التاريخ – لبوس حكاية الأصول.
المراجع:
- أرندت (حنة): “أسس التوتاليتارية”، ترجمة انطوان أبو زيد، دار الساقي بيروت، ط2، 2016
- بنعبد العالي (عبد السلام): ” ثقافة الأذن وثقافة العين”، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، 1994.
- بن سلامة (فتحي): ” تخييل الأصول، الإسلام وكتابة الحداثة”، تعريب شكري المبخوت، دار الجنوب للنشر، تونس، 1995.
- بن شيخة المسكيني (أم الزين): “الأدب والديمقراطية في تأويل جاك رنسيار”، مجلة “ألباب”، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، العدد 5، ربيع 2015.
- ______________: “الفن والمقدس، نحو انتماء جمالي إلى العالم، مؤمنون بلا حدود، بيروت، ط1، 2020.
- الجابري (محمد عابد): “الخطاب العربي المعاصر”، دراسة تحليلية نقدية، دار الطليعة، بيروت، ط3، 1988.
- ______________: ” وجهة نظر، نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر”، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1992.
- ______________: “نقد العقل العربي”، الجزء الثالث،” العقل السياسي العربي، محدداته وتجلياته”، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1990- طبعة خاصة بالمغرب
- دو لابويسي (إتيان): ” العبودية المختارة”، ترجمة صالح الأشمر، دار الساقي، بيروت، ط1، 2016.
- ديكسو (مونيك)، أفلاطون، الرّغبة في الفهم، ترجمة حبيب الجربى، المركز الوطني للترجمة، تونس، 2010.
- رنسيار (جاك): “سياسة الأدب”، ترجمة رشوان ظاظا، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2010.
- ______________: “كراهية الديمقراطية”، ترجمة أحمد حسّان، بيروت – القاهرة – تونس، دار التنوير، 2012.
- ريكور (بول): “العادل ج 2, تعريب عبد العزيز العيادي ومنير كشو، بيت الحكمة، قرطاج 2003.
- ______________: “العادل ج 1, تعريب محمد البحري، الطيب رجب، منيرة بن مصطفى ومنير كشو، بيت الحكمة، قرطاج 2003.
- ______________: “من النص إلى الفعل”، أبحاث التأويل، ترجمة، محمد برادة – حسان بورقية، دار الأمان، ط1 الرباط، 2004.
- عبد اللطيف (كمال): ” في الاستبداد، بحث في التراث الإسلامي”، منتدى المعارف، بيروت، ط1، 2011.
- غوشيه (مارسيل): “الدين في الديمقراطية”، ترجمة شفيق محسن، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2007.
- الكواكبي (عبد الرحمان): ” طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، منشورات الجمل، كولونيا – بعداد، 2006.
- كيملشكا (ويل):” مدخل إلى الفلسفة السياسية المعاصرة”، ترجمة، منير الكشو، المركز الوطني للترجمة، تونس، 2011.
- المحجوبي (علي): ” انتصاب الحماية الفرنسية بتونس”، دار سراس للنشر، الطبعة الأولى، تونس 1986.
- المسكيني (فتحي): “الهوية والزمان، تأويلات فينومينولوجية لمسألة “النحن”، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولي، 2001.
- هاردت (مايكل) ونيغري (أنطونيو): “الجمهور، الحرب والديمقراطية في عصر الإمبراطورية”، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، ط1، بيروت 2015.
- وناس (المنصف): ” الشخصية التونسية، محاولة في فهم الشخصية العربية”، الدار المتوسطية للنشر، ط3، تونس،
- -Ben slama (Fethi), Une fiction troublante, de l’origine en partage, Ed, de L’Aube coll. Monde en cours, 1994
- -Deleuze (Gilles) : Qu’est-ce qu’être de gauche ?
- -Dixsaut (Monique), Platon. Le désir de comprendre, Librairie Philosophique J. VRIN, Paris, 2003, h ;//www.vrin.fr
- -Gauchet (Marcel) : « La Religion dans la démocratie, Parcours de la laïcité », Ed, Gallimard, 1998.
- -Hardt (Michael), and Negri (Antonio): Multitude, War and Democracy in the Age of Empire, 2004.
- -Huber (Alexandre) : « L’action dans L’œuvre de Hannah Arendt », Ed Découvrir, Paris, 1993
- -Parnet (Claire) : « nouvel observateur- L’Abécédaire de Gilles Deleuze », 1988.
- -Rawls (John), « Théorie de la justice, Théorie de la justice », traduit par C Audart, Paris ; Ed du Seuil, 1987
- Ricœur (Paul) : « Le juste», Paris, Éditions Esprit, 1995). Regroupe l’ensemble des conférences données par Ricœur à l’Institut des hautes études sur la justice.
- ______________: «Lectures I. Autour du politique», Paris, Seuil, «La Couleur des idées», 1991.
- _____________: «Du texte à l’action. Essai d’herméneutique » II. Paris, Seuil, coll. «Esprit», 1986.
- -Roncière (Jacques : « Le partage du sensible, Esthétique et politique», Paris, la Fabrique-éditions, 2000.
- _____________: «La Haine de la démocratie», La Fabrique, 2005.
2 تعليقات
اعجبني الموضوع وايده بكل ما قيل عن الديمقراطيه يجب على الناس ان يتصفوا بها فلا حياه بدون الديمقراطيه ويجب ان يبتعدوا تمامااا عن الديكتاتوريه والاستبداد ويجب ان ياخذوا باراء الغير وان لا يكون الراي واحد مثال ان الرئيس يكون فقط من يعطي الاوامر وان بقيه الشعب يكون سمعا وطاعه ولو كانت الاوامر لا تعجبهم لذلك انا كثيرررا اتفق مع الديمقراطيه فكم من ديكتاتوري يفشل بالنهايه وكم من ديمقراطي ينجح ويتفوق بالنهايه وقد سمعت مقوله من جان جاك روسو فنان ومولف الاعمال الفلسفيه قال (رصيد الديمقراطيه الحقيقي ليس في صناديق الانتخابات فحسب بل في وعي الناس) واتفق كثيراا معه فان الديمقراطيه هي السلاح الوحيد لتعبير الشعب عن رايه
الديمقراطية حرفياً “حكم الشعب” هي شكل من أشكال الحكم يشارك فيها جميع المواطنين المؤهلين على قدم المساواة – إما مباشرة أو من خلال ممثلين عنهم منتخبين – في اقتراح، وتطوير، واستحداث القوانين. وهي تشمل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تمكن المواطنين من الممارسة الحرة والمتساوية لتقرير المصير السياسي. و من أهم أسس الديمقراطية الالتزام بالمسؤولية واحترام النظام وترجيح كفة المعرفة على القوة والعنف ويطلق مصطلح الديمقراطية أحيانا على المعنى الضيق لوصف نظام الحكم في دولة ديمقراطيةٍ، أو بمعنى أوسع لوصف ثقافة مجتمع. والديمقراطيّة بهذا المعنَى الأوسع هي نظام اجتماعي مميز يؤمن به ويسير عليه المجتمع ويشير إلى ثقافةٍ سياسيّة وأخلاقية معيّنة تتجلى فيها مفاهيم تتعلق بضرورة تداول السلطة سلمياً وبصورة دورية. يعود منشأ ومهد الديمقراطية إلى اليونان القديم حيث كانت الديمقراطية الأثينية أول ديمقراطية نشأت في التاريخ البشري كما ذكر آنفا الديمقراطية تعني في الأصل حكم الشعب لنفسه، لكن كثيراً ما يطلق اللفظ علَى الديمقراطية الليبرالية لأنها النظام السائد للديمقراطية في دول الغرب، وكذلك في العالم في القرن الحادي والعشرين، وبهذا يكون استخدام لفظ “الديمقراطية” لوصف الديمقراطية الليبرالية خلطاً شائعاً في استخدام المصطلح سواء في الغرب أو الشرق، فالديمقراطية هي شكل من أشكال الحكم السياسي قائمٌ بالإجمال علَى التداول السلمي للسلطة وحكم الأكثريّة بينما الليبرالية تؤكد على حماية حقوق الأفراد والأقليات وهذا نوع من تقييد الأغلبية في التعامل مع الأقليات والأفراد بخلاف الأنظمة الديمقراطية التي لا تشتمل على دستور يلزم مثل هذه الحماية والتي تدعى بالديمقراطيات اللاليبرالية، فهنالك تقارب بينهما في أمور وتباعد في اُخرى يظهر في العلاقة بين الديمقراطية والليبرالية كما قد تختلف العلاقة بين الديمقراطية والعلمانية باختلاف رأي الأغلبية.