ملخّص:
شكّل البحث في الأدب النّسويّ موضوعا تزداد أهميّته في الدّراسات والبحوث المعاصرة بشكل ملحوظ، أهمّيّة تتضاعف كلّما انزاح نحو تتبّع التّمظهرات النّفسيّة والاجتماعيّة للكتابة الذّاتيّة النّسويّة، لهذا جاء تخيّرنا للبحث في السّيرة الذّاتيّة النّسويّة محكوما بما تتّسم به من جرأة على المكاشفة والمجاهرة ببواطن النّفس، من معاناة وقهر واستلاب، ونظرا إلى ما تتميّز به من إعلان على التّمرّد والعصيان. سيرة ذاتيّة نسويّة تقوم على صراع نفسيّ وعقليّ وجسديّ، نصّ ذاتيّ رسم الذّات النّسويّة بين التشظّي والكينونة. من هنا، نسلّط الضّوء على أهمّيّة هذا المبحث الذي جاء ليلقي بظلاله على “تمثيلات السّيرة الذّاتيّة النّسويّة بين إشكال الهُويّة وتشكّل الذّات”، ويعود اختيارنا لسيرة “فدوى طوقان” الموسومة بـ”رحلة جبليّة رحلة صعبة” إلى ذاك المزيج الذي توفّرت عليه هذه السّيرة بين الاضطهاد والتّحدّي، وبين الانسحاق والوجود، وأيضا الدّعوة المبثوثة في كامل النّصّ إلى تحررّ المرأة من كلّ ما يكبّلها من عادات وتقاليد..
الكلمات المفاتيح: السّيرة الذّاتية- الأدب النّسويّ- الهويّة- التّشظّي-التّمرّد
Abstract:
Research on feminist literature has been subject to an increasing focus in contemporary studies and researches. Such focus come to be a shift towards tracing the psychological and social manifestations of feminist writing. This is why our interest in research in feminist autobiography was valued by its will to openness and ability to confess and to reveal the inner self. From suffering, oppression and alienation. And due to its distinctive declaration of protest and revolt. A feminist biography that is comes out from psychological, mental and physical struggle. A subjective text that draws the feminist self between fragmentation and being. From here we highlight the importance of this research, which came to shed light on the representation of feminist writing in the autobiography between forms of identity and the formation of the self.
As for fadwa toukan’s biography, « A mountain journey, a difficult journey », it is due to the mixture that it contained between persecution and defiance, oppression and existence, as well as the call transmitted throughout the whole text to the liberation of women from all the customs and traditions that bind them.
Key Words: Autobiography- Feminist literature- Identity- fragmentation.
1- المقدّمة:
إنّ التّطرّق إلى ثنائيّة المرأة والكتابة أمر في غاية التّعقيد، إذ عُدّ من الموضوعات الشائكة التي غزت المجال النّقديّ، وفرضت وجودها، وألزمت النّقّاد بتدبّرها والخوض فيها، وبين الرّافض لهذا المبحث والمعترف به، اكتسب أهمّيّة كبرى وشكّل منعرجًا حاسمًا في تاريخ الأدب العربي الحديث، وأثار جدلاً في حقول النّقد العربي وفي مجالات الفنّ الأدبيّ كافّة، ولم يحسم الخلاف في شأنه إلى اليوم.
وبما أنّ النّصوص المعاصرة تسعى إلى ملامسة مختلف جوانب القضيّة الإنسانيّة، مثلما تسعى إلى الاهتمام بالذّات ومشاغلها، فإنّ السيرة الذّاتيّة هي من أكثر الأشكال التي تستهدف جوهر الذّات، لهذا، ارتأينا أن نبحث في الكتابة النسوية بين إشكال الهوية وتشكّل الذّات[1] من خلال السّيرة الذاتية. إنّ تخيّرنا للسيرة الذاتية يعود إلى ما تتميّز به من جرأة وقدرة على الكشف عن مكنونات الذّات. أمّا تخيّرنا للسيرة الذاتيّة النّسويّة ممثّلة في سيرة “فدوى طوقان” الموسومة بـ” رحلة جبليّة رحلة صعبة” على وجه الخصوص، فنهدف عبره إلى النّظر في الذات النّسوية وبَوْحِها بحكايات وجودها بين التّشظّي والكينونة في رحلة نضالها للتّحرّر من الاستعباد الاجتماعي والثّقافيّ والسّياسيّ…
2- السّيرة الذّاتيّة النّسويّة:
عرف مصطلح السّيرة الذّاتيّة عامّة تناقضات في تعريفه وصعوبة في ضبطه، وهو أمر تفطّنت إليه “ماري سوكرلوك”[2] (Mary sue Carlock) في تتبّعها لتعريف السّيرة الذّاتيّة في الغرب، حيث أشارت النّاقدة إلى التّناقضات التي حكمت تعريف هذا الجنس. ويذهب النّاقد الألماني “جورج مِش” (Goerge Misch) إلى أنّ “هذا الجنس الأدبيّ يستعصي على التّعريف أكثر من الكتابة الإبداعيّة”[3]، لأنّه “جنس أدبيّ زئبقيّ”[4]. وفي محاولة لتعريفها، يرى “مش” أنّ السّيرة الذّاتيّة لا يحدّها “شكل ثقافيّ وأدبيّ، بل إنّها حالة جديدة كلّما اختلفت الحقبة التّاريخيّة وتغيّرت نظرة الإنسان إلى ذاته ومحيطه وتجدّدت طريقة تعبيره عنهما”[5].
جاء في أبسط تعريفات السّيرة الذّاتيّة عامّة أنّها “سيرة شخص يرويها بنفسه”[6]، و”خطاب حقيقة عن الذّات”[7]. من هنا، تتحدّد السّيرة بأنّها خطاب لغويّ تكون الذّات فيه مطالبة برسم نفسها، والبوح بخباياها، والكشف عن مختلف علاقاتها الاجتماعيّة وغيرها. لقد ظلّ هذا الخطاب الذّاتيّ ردحا من الزّمن حكرا على الرّجال، غير أنّ المرأة تمكّنت من كسر هذه القاعدة، وغامرت لتكتب سيرتها الذّاتيّة بالرّغم ممّا وُجّه إليها من نقد على غرار ما أقرّ به “عبد الله محمّد الغذامي” حين ذهب إلى أنّ “الشّاهد التّاريخيّ يشير إلى أنّ الرّجل هو سيّد الكتابة (…) فقمّة الإبداع هي الفحولة”[8] لقد سعى التّاريخ الذّكوريّ إلى عرقلة المرأة، وزرع فكرة العجز والتّبعيّة فيها، فحتّى حين “تفرض كتابة المرأة ذاتها داخل النّسق الذكوريّ ولو باعتبارها هامشا ينعتها الرّجل بأنّها ليست امرأة، ولا تستجيب لخصائص الأنوثة الضّروريّة للمرأة، بل إنّها خنثى (…) وهي كائن لا ملامح له لأنّها فقط تشكّل صورة المرأة”.[9]
غير أنّ مثل هذه الانتقادات لم تثنها عن الكتابة في مجال الرّواية، وكذا في السّيرة الذّاتيّة. وبرزت نساء رائدات في السّير النّسويّة على غرار “لطيفة الزّيّات”، و”نوال السّعداوي”، و”فدوى طوقان”، وغيرهنّ ممّن كنّ نموذجا للسّيرة الذّاتيّة النسويّة التي شهدت نشاطا كبيرا حتى نهاية القرن العشرين، ومثّل هذا إعلانا على أنّ “إسهام المرأة في الكتابة الأدبيّة يعدّ موقفا حضاريّا لا بدّ من التّنبيه إلى أبعاده الاجتماعيّة والثقافيّة والسّياسيّة الايجابيّة، ذلك أنّ انتقال المرأة إلى مستوى انتزاع بعض شروط الكتابة من الرّجل عن ذاتها، وعن اختلافها بدون وصاية أو ارتهان…يدخل ضمن صراع قويّ”[10].
2 -1- السّيرة الذّاتيّة النّسويّة في الأدب العربيّ المعاصر ودوافع كتابتها:
إنّ الحديث عن السّيرة الذّاتية النّسويّة بوصفها خطابا مغايرا يعود في الأدب العربي المعاصر إلى أواخر القرن التّاسع عشر الذي شكّل مرحلة التّأسيس والنّسج على منوال الأنماط الغربيّة، ذلك أنّ الحركات النّسويّة في الأصل ظهرت في الغرب، ثمّ بسطت ظلالها على البلدان العربيّة، ليتشكّل الوعي لدى المرأة العربيّة بضرورة تغيير وضعها. على أنّ ما يمكن الجزم به هنا هو تأخّر ظهور السّيرة الذّاتيّة النّسويّة الذي ردّه النّقّاد أوّلا إلى عوائق اجتماعيّة تمثّلت في خوفها من الرّفض الذّكوري لإبداعها. وثانيا، تأخّر وعيها بذاتها في فرديّتها. وثالثا، خشيتها من البوح وخصوصًا وأنّ السّيرة الذاتيّة فعل اعتراف وانكشاف وبوح بموضوعات الحبّ والجسد والحريّة التي تعدّ محظورة في مجتمع عربيّ قنّن إبداع المرأة وسيّجه بمعايير محدّدة. وعلى الرّغم من هذه العوائق التي أدّت إلى تأخّر ظهور السّيرة الذّاتيّة النّسويّة، فلا أحد ينكر تمكّن بعض النّساء من أن يكنّ رائدات في كتابة السّيرة بكلّ ما تعنيه الرّيادة، وما تتطلّبه من إصرار وجهد، نساء أعلنّ التّمرّد والعصيان، وقرّرن المخاطرة، وبادرن بكتابة سيرهنّ.
إنّ السّؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: ما الذي دفع المرأة لأن تكتب سيرتها الذّاتيّة؟
قسّمت الناقدة “أمل التّميمي” السّيرة الذاتيّة النّسويّة إلى مرحلتين: تبدأ الأولى مع محاربة المستعمر منذ مطلع القرن العشرين حتى منتصفه، وبرزت نساء عربيّات كتبن عن معركتهنّ ضدّ الجهل والحجاب والاضطهاد الاجتماعي والسّياسي، وتبلورت، إلى جانب ذلك، فكرة الحريّة في كتاباتهنّ في المرحلة الثّانية من منتصف القرن حتى نهايته”[11].
إنّ النّاظر في التّسمية “السّيرة الذّاتيّة النّسويّة” يدرك أنّها تحيل على خطاب أدبيّ تكسوه حساسيّة المرأة، وتجربة إبداعيّة مثّلت محاولة للخروج من الظّلمة، حيث “جاءت لتكون هي المؤلف وهي الموضوع وهي الذّات وهي الآخر، وإذا ما كتبت المرأة عن المرأة، فإنّ صوت الجنس النّسويّ هو الذي يتكلّم من حيث أنّ الكتابة ليست ذاتا تميل إلى فرديّتها، ولكنّها ذات تميل إلى جنسها وإلى نوعها البشريّ، والذّات هنا هي ذات أنثويّة تحوّل نفسها إلى موضوع وتحوّل حلمها إلى نصّ مكتوب، وتجعل كابوسها لغة…”[12]. وفي نفس هذا السّياق تذهب “فرجينيا وولف” في إطار حديثها عن دوافع كتابة النّساء إلى أنّ “القيم المادّية والمعنويّة التي عانت منها المرأة الكاتبة في مراحل شتّى وهي عدم القدرة على تلقّي القدر المناسب من العلم وقلّة الفرص لكسب راتب كاف، مشقّة الأعمال المنزليّة ومتطلّبات الأمومة وغيرها من القيود كأن لا تكون لها حجرة خاصّة بها”[13] هو ما دفعها لأن تكتب ألمها ومعاناتها.
لقد سعت المرأة إلى هدم الإستراتيجيّة الذكوريّة، والتّمرّد على القمع الأسريّ والثّقافيّ، وتقويض سلطة التّقاليد والعادات، فكانت تجربة الكتابة، وكتابة السّيرة على وجه الخصوص، محاولة للنّظر إلى نفسها وإلى الآخر في تمظهراته كافّة، ومحاولة لإعادة مركزة ذاتها من جديد عبر ما تخوضه من صراعات، فتصبح الكتابة بهذا الشكل” تفجيرًا للمكبوت والمخفي، فالمرأة من خلال مختلف أشكال كتابتها الجسديّة والرمزية تستدعي المكبوت المتراكم عبر الزّمن لتعلنه في حوارها-صراعها-“[14].
إنّ النّاظر في من كتبوا سيرهم الذّاتية من رجال أو نساء يلحظ أمرا مشتركا، هو أنّ هذه السّير أُلِّفت في عمر متأخر في سنّ السّتّين وما بعدها، إنّ هذا الأمر مسوَّغ بأنّ الكتابة في هذا العمر تشكّل مرحلة عطاء يقدّم فيها الكاتب خبرات عمر مضى، وخلاصة تجارب مختلفة، مرحلة عمريّة يكون فيها صاحب السّيرة قادرا على تقديم أجوبة لجميع التّساؤلات، إنّها استرجاع لماض بحوادثه، ماض يكون أثره أعمق وقسوته أشدّ في سيرة المرأة على وجه الخصوص. لهذا، نجد أنّ سيرة “فدوى طوقان” التي يتركّز عليها بحثنا هذا من بين أكثر السّير التي خاضت فيها المرأة صراعات، ولاقت فيها قمعا واستلابا لذاتها، لكنّها كتبت تجاربها المريرة مع مجتمعها، ونقلت صداماتها في محاولة منها لتأكيد وجودها، فجاءت سيرتها كاشفة عن شتّى أشكال اضطهاد المرأة اجتماعيّا وثقافيّا، متضمّنة ثورة على سلطة الرّجال والأديان والتّقاليد البالية، والقيود التي طمست وجودها، وركنتها زاوية منسيّة، وأحكمت الطّوق لتكبح طموحاتها. لقد كتبت سيرتها لا لتعرض على قارئها جميع تفاصيل حياتها، ففدوى طوقان مثلا أشارت في مستهلّ سيرتها إلى أنّها لم تكشف كلّ أسرارها “لم أفتح خزانة حياتي كلّها، فليس من الضروري أن ننبش كلّ الخصوصيّات. هناك أشياء عزيزة ونفيسة، نؤثر أن نبقيها كامنة في زاوية من أرواحنا بعيدة عن العيون المتطفّلة”[15]. لقد أنشأت سيرتها لتلقّن قارئها معنى الكفاح والتّحدّي والتمرّد لتحقيق الذّات. من هنا، فإنّ “أهمّ باعث يمكن أن يميّز السّيرة الذّاتيّة النّسائيّة هو التمرّد على الأعراف وكسر القيود الاجتماعيّة والتّغلّب على كلّ صعاب الواقع والتّطلّع إلى التّحرّر”[16]، فطغت على خطاب السّيرة دعوات ضمنيّة إلى التّمرّد والصّمود والتّحدّي، فكان “العكوف على كتابة السّيرة الذّاتيّة النّسائية، هو جزء من هذا الكفاح المستمرّ على مستوى الإبداع، لإظهار تميّز المرأة، ولتأكيد هويّتها النّوعيّة بمقابل عسف وعنف ذكوريّ تفصح عنه الملفوظات السّير ذاتيّة، بمختلف تشكّلاتها”[17].
2 -2- قضايا السّيرة الذّاتية النّسويّة:
وجدت المرأة في الأدب النّسوي عامّة والسّيرة الذّاتية خاصّة مجالا خصبا لتخوض حربها ضدّ عالم ذكوري تقليديّ، وتبلور تصوّراتها وطموحاتها، متّخذة من السّيرة ميدانا لتعقد علاقات بين القارئ والذّات المقهورة كاتبة السّيرة وموضوعها في آن، ذلك أنّ موضوع السّيرة هو دور “الذّات الواعية في إبراز تجربة فردية بين أدوار عديدة مركزة على موضوع تعتبره هو القضية الأهم في قصّة حياتها”[18]، فتصبح هي الممثّل الشرعي لهموم كلّ النّساء ومطالبهنّ. إنّ المتأمّل لمختلف السير الذّاتيّة النّسوية يجدها تتمحور حول المرأة منذ نشأتها، وترصد ما تلاقيه من رفض وتهميش داخل أسرتها ومجتمعها، فتراها تخوض حروبا مشبوبة ضدّ كلّ هذه الأطراف التي تسعى إلى شدّها للأسفل، والتي تأبى لها أن تستقلّ بكيانها، أطرافًا تريدها دوما تابعة وراضخة لا يحقّ لها أن ترفض ما سطّروه لحياتها. وإن حصل أن تمرّدت، تجد الجميع ضدّها، وتكون محلّ إدانة دون سند ودون ذنب. وتقام لها محاكمات أسريّة ومجتمعيّة. ويصدر القرار بتأثيمها. ويحكم عليها بسجن آخر، يضيّق عليها سجنها السابق. وتعيش قهرا يزيد قهرها، ويعمّق معاناتها.
من هنا، تصبح المرأة وحرّيّتها وتحرّرها وحقوقها وكرامتها هي القضيّة الأهم للأدب النّسوي عامّة والسيرة الذاتيّة النّسويّة خاصّة، غير أنّ هذه القضيّة اتّخذت أشكالا عدّة، وتفرّعت إلى قضايا صغرى مثّل كلٌّ منها وجها من أوجه معاناة المرأة، على غرار القهر الاجتماعي، والثقافي، والسياسي، والدّيني، وغيره ممّا سنقف عليه بتدقيق أكثر في سيرة “فدوى طوقان” التي نحن بصددها. ولئن كانت هذه القضايا هي جوهر السيرة الذّاتية، فإنّنا نعثر على قضيّة أخرى خلف كلّ هذا، وهي التّأسيس لإبداع نسويّ ضمن معركة فكريّة ضدّ الهيمنة الذكوريّة، وإرساء أدب يحمل هموم المرأة، أدب يتململ فيه الصوت النّسوي معلنا وجوده وكفاءته، راميا إلى موقعة نفسه، واختراق فضاء احتكره الرجال، فجاءت السيرة الذّاتيّة النّسوية لـتحقّق نمطا سرديّا مختلفًا وترسي خصائص جماليّة فنّيّة تكسبها سمة التّميّز. ولأجل هذا، كرّست المرأة جهودها لتفرد أدبها بسمات تميّزه من أدب الرّجل، وتجعله يرقى إلى مرتبة الإبداع، وتبدَّت داخل سيرتها الذّاتيّة “ذات تريد تكريس نداء ذلك الصوت الخافت المختنق المتحشرج في الحلق النّسائي علّه يخرق قاعدة الذّكورية التي ولّى زمانها في عهد عصر الهيمنة للكفاءة والخلق المبدع في الوجود”[19] من هنا، تحدّد أمامنا السيرة الذاتيّة النّسوية بما هي قضيّة هويّة بالأساس، الهويّة الذّاتيّة والهويّة السّرديّة على حدّ سواء.
3- السيرة الذّاتيّة النّسوية بين إشكال الهويّة وتشكّل الذّات: رحلة جبلية رحلة صعبة:
إنّ الدّارس لسيرة “فدوى طوقان” الموسومة بـ”رحلة جبليّة رحلة صعبة” يلمح أنّ الكاتبة استطاعت أن توثّق لتجربتها التي لاقت فيها شتّى أنماط التّهميش والطّمس لهويّتها، تجربة ذاتيّة عادت فيها إلى ماضي ذاتها الجريحة لتسبر أغوارها، وتحرّر كلّ المشاعر التي ظلّت حبيسة بين جدران صدرها، تجترّ مرارتها بين الحين والآخر. غير أنّ ما ميّز هذا الخطاب السيرذاتي النّسوي هو روح التّحدّي والرّغبة في التّحرّر رغم كلّ القيود التي تركت في نفسها عظيم الأثر، فاستطاعت أن تكون، وأن توجد، وأن تصبح ما أرادت رغم ما لاقته من قهر وإحساس بلاشيئيّتها داخل فضائها الأسري خاصّة. من هنا، فإنّنا سننظر في تمثيلات السيرة الذّاتيّة النّسوية بين إشكال الهوية وتشكّل الذّات عبر سيرة “فدوى طوقان” التي هي صوت نسويّ يحمل آلام المرأة وآمالها أينما كانت.
3 -1- السيرة الذّاتيّة النّسوية وإشكال الهويّة: أزمة الذات:
عندما تتعلّق الكتابة بالمرأة وبسيرتها فمن البديهي أن يتبادر إلى الأذهان أن تنقل آلامها، وأن يطغى على خطابها الحسّ الأنثوي المرهف في تصوير أحاسيسها ومشاعرها، فلا أحد أقدر منها على نقل معاركها وحروبها الشعواء. ولأجل هذا، اتّخذت من الكتابة وسيلتها الدّفاعية، وحوّلتها إلى سهام توجّهها نحو كلّ من آذى كيانها، وأعتم الطريق أمامها، وتركها تتخبّط في اغتراب ذاتي تعيش معه أزمة هويّة. وفي هذا السّياق، سنتتبّع الذّات النسوية في خطاب “فدوى طوقان”، ونرصد ما باحت به إلى قارئها من معاناة وقهر أحدثا تصدّعًا في هويّتها[20]. وحريّ بنا في هذا المستوى أن نعرج على مصطلح الهوية، فالمجمع عليه من أغلب النّقّاد أنّ مفهوم الهويّة مفهوم واسع وفضفاض، وهو بمعناه الواسع هذا إنّما يحيل على الذاتية وهو أيضا “مجموعة الخصائص والمميّزات التي يتفرّد بها فرد أو شعب أو أمّة، فتجعل، كلّ من ينتمي إليها ذا ذاتيّة متميّزة عن غيره ويبقى هو ذاته ونفسه”[21]. إنّ المجال لا يسعنا لنعرض مختلف تعريفات الهويّة عامّة، لهذا فنحن ملزمون بتناولها موصولة ببحثنا، أي الهويّة في علاقتها بالمرأة وبالكتابة ممثّلة في السيرة الذّاتيّة. من هنا، تتحدّد الهُويّة النّسويّة بـأنّها “تعبير عن صورة مترسّخة في الأذهان وظاهرة متكرّرة في الأجيال، إنّها المتدنّيّة، المهمّشة، النّاقصة، الخاضعة لمبدأ قوامة الرجل، المحرومة من المشاركات العامّة في المجتمع باسم ناقصات العقل، ومثيرات الفتنة والشّهوة”[22]. إنّ علاقة هوية المرأة بالسرد هنا هي لحظة وعي يتعالق فيها السّرد بكينونة الإنسان. وهي أيضا، تمثيلات ذلك الوعي في الوجدان. وإنّ النّاظر في “رحلة جبلية رحلة صعبة” يلمح جليّا حالة الاغتراب التي عاشتها “فدوى طوقان”، اغتراب عكس أزمة ذات وجهين: الأوّل يتّصل بفقدان الذّات لهويّتها وانشطارها بين خيار الانعزال أو الانتماء، والثاني يتعلّق بالعلاقة المتأزّمة مع المجتمع. من هنا تتوضّح محدّدات الهويّة وهي أوّلا: الأنا ودورها في نحت كيانها، حيث يمكن للذّات أن تكون سببا في اغترابها، متى ما انقسمت على نفسها، ومتى ما وقفت في موقع وسط بين أن تحقّق حرّيّتها الدّاخليّة أو أن تخضع إلى ظروف خارجيّة قاهرة، لتصاب بإحباط ويأس، وتقنع بقلّة حيلتها وضعف إرادتها، وهي ثانيًا الذّات والآخر، سواء كان الآخر أسرة أو مجتمعا أو مستعمرا، هذا الآخر هو مرايا الذّات، إنّه يؤثّر فيها إمّا سلبا أو إيجابا ويكون له بطريقة أو بأخرى بصمة في الهوية، وإذا ما قلنا الآخر في الأدب النّسويّ فإنّنا نشير إلى “أنّ الكتابة الذّكوريّة يتجسّد فيها الأنا في الرّجل، والآخر في المرأة، والعكس في الكتابة النّسوية”[23].
عاشت المرأة في سيرة فدوى طوقان أزمات عدّة أثّرت في شخصها، وتركت في نفسها آلاما مريرة. وبإمكاننا القول في هذا المقام، إنّ المرأة في سيرتها لم تقتصر على شخص “فدوى طوقان”، بل عبرتها لتعرض قضيّة المرأة من خلال حديثها عن نفسها ومعاناتها وأزماتها، وترى “مي يوسف” أنّ تجربة فدوى طوقان الأدبيّة من خلال سيرتها قد تجاوزت فيها الشّخصيّ “لتتحدّث عن بنات جنسها، فشعرها ونثرها يعكسان عندها تمازجا قويًّا بين الشخصيّ والعامّ والفرديّ (…) إنّ سيرة فدوى طوقان تبدو كأنّها منذورة منذ البداية لحمل رسالة أدبيّة سياسيّة واجتماعيّة نسويّة تعبّر عن هموم جيلها خير تعبير”[24].
رصدت الكاتبة عبر علاقاتها بالآخر في سيرتها مختلف أشكال القهر والاضطهاد والظّلم، آخر ترك فيها أثرا سلبيّا حتّى وإن أصبح مجرّد ذكرى، توجّهت إليه في مستهل سيرتها بقولها “لقد لعبوا دورهم في حياتي ثمّ غابوا في طوايا الزّمن”[25]. اتّخذ هذا الآخر في السيرة صورًا شتّى، وتبدّى في جميع مؤسّسات المجتمع من أسرة ومدرسة ومحيط… غير أنّ المحرّك الأساسيّ لكلّ هذا كان الفضاء الأسري الذي مارس عليها تسلّطا جائرا وحرمها من أبسط حقوقها.
جميعنا نشأنا على سماع عبارة “الأسرة هي المدرسة الأولى”، غير أنّ هذه المدرسة قد تؤدّي في بعض الأحيان إلى تحطيم الذات، وضرب الثقة بالنّفس، ومن ثمّة تلاشي الشّخصيّة. وقد لامسنا في العديد من الكتابات النّسوية سواء كانت روايات أم أشعارا أم سيرًا ذاتيّة، أنواعا شتّى من معاناة النّساء داخل أسرهنّ، فمنذ الطّفولة تسلّط عليهنّ شتّى أنواع التّمييز، ومختلف أشكال القهر، بدءا بسلطة الأب فالإخوة، ثمّ تسلّط الزّوج وتظلّ المرأة حبيسة هذه الدّائرة الذّكوريّة التي تزرع فيها مرّة بعد أخرى الإحساس بالعجز والضعف والنّقص، فتنسى أنّ لها حقوقا، ولا ترى سوى الواجبات الأسريّة التي عليها تأديتها على أكمل وجه، فتتحوّل إلى آلة لا حقّ لها في الاحتجاج أو الرّفض أو الشكوى، بل لا حقّ لها أصلا.
تنفتح السّيرة على أولى مراحل حياة “فدوى”، جنين لم يتخطّ الأشهر الأولى، ولم يكتمل نموّه، بداية قوبلت بالرّفض ومحاولات الإجهاض. جنين لم ير النّور بعد، مازال يتخبّط في ظلمات رحم أمّه، أرادوه ألاّ يتجاوز حدود الظلام، محاولات نسف تقليديّة للتّخلّص منه، أشعرته أنّه غير مرحّب به “خرجت من ظلمات المجهول إلى عالم غير مستعدّ لتقبّلي، أمّي حاولت التّخلّص مني في الشهور الأولى من حملها بي. حاولت وكرّرت المحاولة ولكنّها فشلت.”[26] رفض ظلّ يتردّد على مسامعها إلى أن كبرت “عشر مرّات حملت أمّي، خمسة بنين أعطت إلى الحياة وخمس بنات، ولكنّها لم تحاول الإجهاض قطّ إلا حين جاء دوري. هذا ما كنت أسمعها ترويه منذ صغري”[27]. جاءت إلى الحياة بلاشيئيّتها التي أرادوها لها، كانت الحاضرة الغائبة بينهم، لا شيء ممّا يتعلّق بها راسخا في أذهان أفراد أسرتها، حتّى أمّها، الشّخص الذي يُفترض أن يكون الأقرب إلى صغاره، لم تحتفظ ذاكرتها بشيء يخصّ فدوى سوى محاولات التخلّص منها، لا تاريخ ميلادها ولا حتّى طرفة من طفولتها البعيدة ترويها كما تفعل مع بقيّة أبنائها وبناتها “تاريخ ميلادي ضاع في ضباب السّنين كما ضاع في ذاكرتيهما. أسأل أمّي- لكن يا أمّي على الأقلّ في أيّ فصل؟ في أيّ عام؟ وتجيب ضاحكة-كنت يومها أطهو “عكوب” هذه شهادة ميلادك الوحيدة التي أحملها..”[28] تاريخ ولادة اضطرّت إلى أخذه من تاريخ وفاة ابن عمّ أمّها! تفاصيل ترويها الكاتبة بطريقة تجعلك تستشعر كمّ الألم الراكن خلف الكلمات، خروج إلى العالم البغيض لخّصته في قولها “بين عالم يموت، وعالم على أبواب الولادة خرجت إلى هذه الدّنيا”[29]
لا أحد ينكر أنّ الطفولة داخل الفضاء الأسري هي “المرحلة الحاسمة التي ترسم الشّخصيّة، وتقرّر لما لها من أهمّيّة في حياة الفرد”[30]، غير أنّ طفولة فدوى طوقان وأسرتها بما هي مدرسة أولى كانا على طرفي نقيض، وهو ما كشفت عنه في قولها “لم تكن الظروف الحياتية التي عاشتها طفولتي مع الأسرة لتلبّي حاجاتي النّفسيّة (…) فإنّ طفولتي- لسوء الحظّ أو لحسن الحظّ – لم تكن بالطفولة السعيدة المدلّلة”[31]. من هنا، توالت أزمات فدوى، وأيقنت أنّها وسط مجتمع ذكوريّ بامتياز، وبدأت رويدا رويدا تكتشف الجوانب المظلمة لكونها وُلدت أنثى في مجتمع يهمّش المرأة ويمارس عليها سلطته القاهرة. فضاء أسريّ سلبها أبسط حقوقها بدءا في حقّها أن توجد، ثمّ حقّها في أن تحظى بحنان أمّها وحضانتها لها، فقد تمّ منح مهمّة رعايتها إلى الخادمة، ومنعوها بعد ذلك من اللّعب وسرقوا منها طفولتها منذ سنّ الثامنة بعبارة “لقد كبرت”[32]، قسوة وسوء معاملة وقهر اجتماعي تمثّل في مصادرة حقوق المرأة منذ صباها روتهما بحرقة وألم ظلّت تجتره في كبرها، وصرّحت به بين أسطر سيرتها بقولها “إنّ المشاعر المؤلمة التي نكابدها في طفولتنا نظلّ نحسّ بمذاقها الحادّ مهما بلغ بنا العمر”[33]، أسرة لا مبالية بها عدا أخيها ” إبراهيم” الذي كان نافذة أطلّت من خلالها على الجانب الآخر النّيّر من الحياة. لم تكن علاقتها بأمّها وطيدة بقدر ما كانت مشوّشة تأرجحت بين القمع وبين إظهار بعض العطف الشّحيح، لكنّها كانت شديدة التّعلّق بها “كثيرا ما يتسربل الحبّ البنوي بملابس الكره، فبالرغم من أنّني كنت شديدة الحساسيّة لمعاملة أمّي التي تبدو لي فظّة وقاسية غير أنّني كنت في نفس الوقت شديدة الالتصاق بها نفسيّا، وأخاف أن تموت وتتركنا وحدنا.”[34] وتمكّنت بعد زمن من إيجاد مسوّغ لسوء معاملتها لها “إنّه الحصار والقهر الاجتماعي المفروض على المرأة”[35] في بيتهم، أمّا علاقتها بأبيها فكانت باردة وخالية من العواطف، لا تواصل مباشر ولا حنان أبوي مطلقا ولو مصادفة أو حتّى لمرّة واحدة كان يبلغها طلباته وأوامره عبر أمّها، كانت في نظره دوما دون فائدة، وكان الشّخص الذي أقنعها بلا شيئيّتها لكونها امرأة تقول فدوى عن أبيها: “إنّه لا يؤمن أنني أصلح لشيء-قلت هذا بيني وبين نفسي-إنّه لا يحمل لي سوى شعور اللااكتراث كأنّني لا شيء، كأنّني عدم، كأنّني لا لزوم لوجودي إطلاقا”[36]
من خلال نساء البيت، اكتشفت فدوى ما تعانيه المرأة من ظلم وقهر، لخّصته في عبارة “الحريم” التي نبذتها ونبذت طبيعة الأدوار التّقليدية للمرأة. كانت ترقب أمّها وعمّاتها والنساء الخادمات في بيتهم. وكانت تقارن كلّ هذا بما يحظى به الرّجال من حرّيّة مطلقة. حزّ كلّ هذا في نفسها لكونها في نهاية المطاف امرأة من نساء هذا البيت، سلبت منها حرّيّتها في أن تتعلّم بسبب “حبّ طفوليّ بريء” لم يتجاوز بعض النّظرات. دفعت ثمنه انقطاعها عن المدرسة غصبا وسجنها، وحرمانها من المكان الذي أشعرها بوجودها. تقول “وفي المدرسة تمكّنت من العثور على بعض أجزاء من نفسي الضائعة. فقد أثبتّ هناك وجود الذي لم أستطع أن أثبته في البيت”[37]، لتجد نفسها في سجن تفصلها جدرانه عن العالم الخارجي، ذاك العالم الذي بينها وبينه “مسافة قرون طويلة من عالم “الحريم””[38] سجن وقهر وكبح وكبت أدّى بها إلى حالة اغتراب عمّقها وجودها داخل جناح “الحريم المغلق” الذي جعل أناها تتقلّص وتنكمش لتصبح “هذه الأنا حبيسة القمقم اللعين”[39]، قمقم وضعها فيه الأهل، وقالب فولاذي لم يسمح للمرأة بالخروج منه، ظلم دفع بها إلى محاولة للانتحار علّ الموت يحرّرها من لا شيئيّتها ومن ضعفها وذوبانها، من انعدام وجودها، ومن استلاب الهوية واضمحلال الأحلام والطّموحات.
لقد لَخّصت الصور المختلفة للمرأة في سيرة فدوى طوقان، بدءا بالأم والعمّات والجدّة، استرسال خيط القهر وتوارثه ضمن عاداتهم وتقاليدهم البالية. ورسمت لنا أشكالا مختلفة من الاضطهاد وتشظّي هويّتها، وكشفت عن طريقة أخرى لوأد النّساء مختلفة عن دسّهنّ تحت التراب. فالمرأة توأد بين جدران سجن الحريم، جدران حديديّة لا يمكن كسرها، لأنّ الرّجال: أبا وأخا وعمّا يتناوبون على حراستها. في هذا السّجن، سرقت من فدوى سنين طفولتها وصباها. تقول: “في هذا البيت، وبين جدرانه العالية التي تحجب كلّ العالم الخارجيّ عن جماعة “الحريم” المؤودة فيه: انسحقت طفولتي وصباي وجزء غير قليل من شبابي. أمّا الجوّ العائلي، فيسيطر عليه الرجل كما في كل بيت”[40]. يتوضّح جليّا في هذا الشّاهد أنّ فدوى تعي جيّدا أنّ وضع المرأة في عائلتها هو نفسه وضع جميع النّساء، حيث لا حقّ لهنّ لرفض ما سطّره الرّجل، حتّى أنّه مفروض على “المرأة أن تنسى وجود لفظة (لا) في اللغة إلا حين شهادة (لا إله إلا الله) في وضوئها وصلاتها. أمّا (نعم) فهي اللفظة الببغاويّة التي تلقّتها منذ الرضاع، لتصبح فيما بعد كلمة صمغيّة ملتصقة على شفتيها مدى حياتها كلّها. حقّ التّعبير عن النّفس محظور عليها، الضحك والغناء من المحرمات (…) الاستقلال الشخصي مفهوم غائب لا حضور له إطلاقا في حياتها”[41]، تسلّط قهريّ سلبها كلّ حقوقها وحوّلها إلى آلة، استعبدها الرّجل ومارس عليها شتّى أنواع العبوديّة والقسر[42]. في هذا البيت، بيت الحريم، وبيت النّساء، وبيت السّجن كما نعتته فدوى، انتهكت حرّيّة المرأة وإنسانيّتها، ووضعت في مكانة دونيّة، وقد أرجع “ماركس” إشكاليّة المكانة الدّونيّة للمرأة إلى ما أسماه بـ “الفوارق الجنسويّة الطّبقيّة” حيث “لم تظهر سلطة الرجل النّافذة على المرأة إلا بعد نشوء التنظيمات الطّبقيّة وأصبحت المرأة بعدها شكلا من أشكال الملكيّة الفرديّة للرّجال عبر مؤسّسة الزواج”[43]. لقد تحوّلت هذه المؤسسة الزوجية إلى علاقة سجنيّة بين سجّان وسجناء، لهذا كرهت فدوى هذا السّجن، وكرهت العيش فيه والانتماء إليه، تمنّت طويلا لو كانت ابنة لخالتها وزوجها، المهمّ أن تكون في غير هذه العائلة، تقول: “وظللت أكره انتمائي إلى العائلة التي جعلني سوء الحظّ واحدة من أفرادها. لقد كنت أفضل دائما الانتماء إلى عائلة أقلّ غنى وأكثر حرّيّة”[44]. إنّ هذا السّجن والحصار الجسديّ والروحي والنّفسي المطبق الذي كان مفروضا عليها غصبا، ومرفوضا من قبلها في البداية، تحوّل رويدًا رويدًا إلى إحساس بالعجز الذّاتي وما عادت تتوق إلى التّحرّر والانعتاق من سجنها، بل أصبحت عزلتها رغبة صادرة من أعماق روحها، تقول “تحققت من عجزي التام عن تحطيم عزلتي التي لم تعد الآن مفروضة عليّ من قبل الآخرين”[45].
أحيانا، يبحث المرء عن ذاته في أعين عائلته، وينتظر كلمة أو موقفا يعيد إليه ثقته بنفسه، لأنّ “الإنسان بطبيعته يرى نفسه بالعين التي يراه بها الآخرون. وفكرة الآخرين، هي التي تنغرس فيه لاسيّما حين يكون صغيرا أو مراهقا في دور التّكوين”[46]. غير أنّ فدوى، لم تجد شيئا من هذا في عائلتها، فحين بدأت تكتب الشعر كانت في نظرهم النّغمة النّشاز في البيت و “النّعجة التي خرجت عن القطيع”، وظلّوا يتعاملون معها ليخنقوا تطلّعاتها إلى تحقيق ذاتها، وكانوا يعملون بشتى الطّرق على تحطيم ثقتها بنفسها وعلى غرس فكرة العجز فيها، قوبلت كتابتها باللامبالاة مثلما قوبل أدب المرأة عموما بالرّفض. داخل هذا الوسط العائلي الأقرب إلى روح الإنسان، فقدت فدوى كلّ طاقتها، وفقدت شرارة الاندفاع التي تتملّك من هم في مثل سنّها، وقتلت فيها كلّ أحلامها، فارتدّت إلى ذاتها المهزومة والمكبوتة، عادت إلى داخلها المنطفئ وروحها التائهة، وتحوّل ذاك القمقم الحريمي الذي أذاقها شتّى أصناف القهر والكبت، إلى قمقم ذاتي[47] انكمشت داخله وتقلّصت بعد أن فقدت ثقتها وكلّ شغفها، لقد نجح هذا المجتمع الذّكوري في ضياع ذاتها وطمس هويّتها مثلما فعل مع أمّها وغيرها من نساء البيت، فكانت سيرتها مرآة تعرض وضع المرأة الفلسطينيّة على وجه الخصوص، ووضع والمرأة في شتّى أقطار العالم، وترسم اغتراب الكاتبة في رحلة بحثها عن هويّتها المفقودة جرّاء تسلّط الآخر وممارساته القهريّة عليها، لقد أفضى بها هذا الجور إلى التحوّل، في سيرتها، من حالة الاغتراب الاجتماعي والثقافي الذي أبت فيه الأسرة والمجتمع أن تعترف بوجودها وبشعرها، إلى حالة اغتراب ذاتي ونفسي عمّق الهوّة بينها وبين العالم الخارجي بأسره.
تأسيسا على ما سبق، نقول إنّ فدوى طوقان، قد ركّزت في سيرتها على الأبعاد الدّاخليّة لشخصيّتها، عبر رصدها لمختلف السّمات النّفسيّة، والفكريّة، والاجتماعية التي تسمح بالكشف عن الحالة التي تعانيها المرأة داخل هذا المجتمع الأبويّ الذي لم تقدر فيه على تشكيل هويّتها، لأنّه أحكم حولها طوق العادات والتقاليد التي كرّست مزيدا من عبوديّتها وضعفها. من هنا جاءت الكتابة النّسوية كتابة مؤدلجة، اتّخذت مواقف ضدّ كافّة أشكال التّمييز بين المرأة والرّجل، وجعلت من الأدب، ممثّلا في السيرة والشعر، منبرا لإعلاء صوتها والتنديد بكافّة أشكال العنف الممارس عليها[48]. وكانت كتابة السيرة الذاتية النّسوية انتصارا لهوية قبل أن تكون تقويضا لسلطة ذكوريّة.
3 -2- السّيرة الذّاتيّة النّسويّة وتشكّل الذّات:
يرى “حسين مناصرة” بأنّ “اغتراب المرأة يدفع بها إلى العصيان الاجتماعي والرغبة في الممنوع اجتماعيا، ومحاولة الانعزال مع رفض الانتماء إلى معظم ما ينتجه المجتمع الذكوري. وهنا تتكرس ثورة المرأة في مواجهة التقاليد الواقعيّة”[49] من هنا. فقد شكّلت شتى مظاهر حياة المرأة المعروضة علينا في هذه السيرة جسورا عبرت من خلالها الكاتبة إلى الضّفّة الأخرى من الحياة، ضفّة التّمرّد والعصيان، ضفّة الحرّيّة وافتكاك الوجود، وفرض الذّات وبناء الهويّة، ضفّة يملؤها النّور، ففدوى طوقان فكّ اندثار الضعف قيدها. حين أيقنت أنّ عدم حراكها في الاتجاه المعاكس لذلك الظلم سيبقيها أبد الدّهر رازحة تحت تسلّط المجتمع الذّكوري، مثلما يبقيها حبيسة قمقم العادات والتّقاليد الذي يكرّس مزيدا من هدر كرامة المرأة، مثلما أيقنت أنّ ما تلاقيه من قهر لم تفرضه عليها سيطرة الرجل والعادات والتقاليد فحسب، بل أيضا قاده إليها عدم سعيها إلى تجاوز عقبات المجتمع، لهذا خيّرت فدوى الكفاح والتّمرّد، لا على الأسرة في حدّ ذاتها، بل على نمط الحياة الذي قولب فيه الرجل حياة المرأة داخل الفضاء الأسري في دائرة ما تقدّمه من خدمات عائليّة، مما جعلها تعيش اغترابًا، من حيث أنّ الاغتراب هو أن يعيش المرء في عالم يأبى الاعتراف به، ويرفض انتماءه إليه. وقد لاحظنا في ما تقدّم ما عاشته فدوى من اغتراب خارجيّ (الأسرة-المجتمع) أدّى إلى فجوة عميقة بينها وبين المحيطين بها، واغتراب آخر داخليّ دفعها إلى التّقوقع والانعزال هربًا من صلابة جدار العواطف الحديدي. لهذا، سعت إلى التّخلّص من التيه ومن الاستلاب، وقرّرت أن تخطو نحو حرّيّتها، وبدأت تخوض صراعات عديدة. وعلى الرّغم من وعي فدوى بأنّ هذه الصّراعات التي تخوضها ضدّ سلطة المجتمع والأعراف غير متكافئة، مما يعني أنّها لن تقضي تماما على شتّى أشكال التّسلّط على المرأة، إلا أنّها غامرت لإيمانها بضرورة النّضال المستمرّ، هذا النّضال الذي بدأته نساء قبلها واستمرّت هي فيه عبر عرضها لتجربتها، مثلما ستواصله نساء من بعدها. لقد تبدّت في السيرة ذاتا يتجاذبها اليأس والأمل، لكن حتى وإن حصل واستسلمت إلى السقوط في اليأس، تستيقظ بداخلها روح التّحدّي لتلتقطها من ذاك الانحدار، وهو ما عبّرت عنه بقولها “حين كنت أقع تحت ممارسة ضغوطهم عليّ، كنت أشعر أحيانا أنّني تحطّمت فعلاً وأغرق في بحر من اليأس، ولكن هذا التّحطيم كان يصل بي إلى نقطة بالذّات عندها كان يحصل شيء آخر، فحين يصل المرء إلى قاع هوّة اليأس تدبّ فيه شرارة الحركة لتدفعه إلى العمل على الخروج من الهوّة”[50].
تحلّت فدوى بقوّة إرادة طوّعتها في سبيل تطوير ذاتها. وحوّلت، بفضل عزيمتها شتّى أشكال القهر إلى دوافع تمضي بها قُدُمًا ذلك أنّ “التّعبير الروائي الإبداعي عن القهر في ذاته يفجّر الإحساس بنقيضه أي الإحساس بضرورة الحرّيّة وإرادتها”[51]. لقد عرضت في سيرتها مختلف العوائق التي اعترضتها لكونها امرأة، عوائق عزّزت فيها روح المقاومة والتّحدّي، بدءا برفضها وهي جنين، مرورا بمأساة عزلها عن المدرسة، ثمّ محاولتها الانتحار، ثمّ ما لمسته من تمييز بين الرجل والمرأة… حاولت الانعتاق من كلّ هذا بداية باستغراقها في حالة من التّخيّل أو ما أسمته هي بأحلام اليقظة التي كانت تحلّق بها خارج أسوار السّجن، لدرجة تنسى معها نفسها واسمها، حالة قصوى من الثّمل الرّوحيّ تتحرّر فيها روحها وترقى في الفضاء منفصلة عن جسدها الحبيس، في طقس من طقوس التّصوّف تنفصل فيه عن الواقع في رحلة غياب كانت هي بداية توقها إلى التّحرّر، تقول في حديثها عن هذه الحالة “أخذت تتعاظم قدرتي على الانفصال عن عالم الواقع والاستغراق في أحلام اليقظة … فمن خلال تلك الأحلام، كنت أنطلق خارج قضبان السّجن وأسوح في الشوارع وحدي، أسافر إلى بلاد لا أعرفها، وألتقي بغرباء يحبّونني وأحبّهم (…) ثمّ أصبح أنا نفسي غريبة عن نفسي، وأظلّ أكرّر في تفكيري الصامت هذا السؤال: -من أنا؟ من أنا؟ وأردّد اسمي في تفكيري عدّة مرّات، ولكن اسمي كان يبدو لي غريبا عنّي ولا يدل على أيّ شيء. وهنا كانت تنقطع صلتي باسمي وبنفسي وبكل ما حولي وأغرق في حالة غريبة جدّا من اللاحضور واللاشيئيّة”[52]. شكّلت هذه الأحلام نوعا من الثورة الصامتة على الواقع المقيت، لتقوم لاحقا بترجمته في ما كتبته من أشعار. وبالرّغم من لا مبالاة أسرتها بها، إلا أنّها وجدت السّند في أخيها “إبراهيم” الذي كان بصيص الأمل، والمنقذ الوحيد الذي خفّف عنها وطأة الضغوطات، كان مختلفا عنهم، لا يشبههم، وكأنّه ليس منهم، فكان الباب الذي مكّنها من الولوج إلى الجانب الآخر من هذا العالم، عوّضها عن انقطاعها عن الدّراسة بإعطائها دروسًا، في الأدب العربي، وعرّفها بالعديد من الشّخصيّات الأدبيّة، لقد مثّل نقطة تحوّل عميقة في حياتها عوّضتها عن انسحاقاتها كافّة، تقول “نسيت شقائي كلّه، وانسحاقي كلّه، ورحت أعيش المستقبل في حاضري الذي جعله إبراهيم مرجا أخضر وحقلا من حقول القمح الواعدة. رحت أرى الحصاد الآتي في أحلام يقظتي، وأصبح بمستطاعي أن أسبق الزمن على جناح الحلم”[53]. كان النور في عائلة حرمت المرأة كلّ حقوقها، والحنان في بيت تكسوه برودة العواطف، شجّعها على كتابة الشّعر وعلى العزف والغناء الذين كانا محرّمين في بيتهم، لقد أعاد ترميمها نفسيّا، وهو ما أكّدته في قولها “لقد ظلّ إبراهيم معنيًّا بإعادة بنائي النّفسي، وابتعاث ما لديّ من ميل طبيعي إلى إبراز إمكانيّاتي وقدراتي الكامنة. لقد ظلّ طيلة حياته يتغلغل بنظره الثاقب في تلك المساحة الواسعة الممتدّة في قلبي، ويلمس عذابي وشقوتي بفراغ تلك المساحات (…) كان هو وحده الذي يراني ويحسّ بكينونتي ووجودي”[54]، عبر شخصيّة إبراهيم وزوج الخالة وعبر شخصيّة فاروق ابن عمّها وغيرهم من الشّخصيّات الرّجاليّة التي ساندتها ومنحتها عطفا، في مقابل شخصيّة أبيها وأخيها يوسف، ومعاملتهما القاسية معها، وبرود عواطفهما. لقد أكّدت فدوى أنّ الأمر، كلّ الأمر متعلّق باختلاف في طريقة التّفكير، بين من يرى المرأة كائنًا في مرتبة دونيّة، وبين من يراها إنسانا له كيانه ووجوده. فأن يجد الإنسان وبصفة أخصّ المرأة عطفا من أحد، سيدوس على كلّ آلامه ويتعلّق بذاك الخيط الشّفاف، وفدوى طوقان داوى حنان إبراهيم نفسها الجريحة وعوّضها عن كلّ ما فقدت، وبدأت رحلتها مع الشّعر، الذي كان متنفّسا آخر، ومسارا أثبتت عبره وجودها وكينونتها، لقد هيّأتها تلك الظّروف لتخوض صراعا ضدّ كلّ ما فُرض عليها، وتحرّرت أخيرا من طوق العائلة ومن القمقم الحريمي[55] وهو ما أعلنت عنه صراحة في سيرتها، لم يفتح لها إبراهيم أفق العلم وحسب، بل مكّنها أيضا من السّفر إلى الغرب والخروج من السجن. في بلد جديد، وأناس جدد وجدت ذاتها التائهة في الآخر لأوّل مرّة، بعد أخيها إبراهيم. كافحت فدوى وصبرت حتّى تمكّنت من تعويض ما فاتها، فبسفرها إلى لندن عادت إلى مقاعد الدّراسة بعد سنين من الانقطاع لتثبت أنّ لا شيء يستحيل تحقيقه بوجود الإرادة والعزيمة، ولتثبت أيضا أنّ الحياة كفاح أو لا تكون، وإنّنا لا نجد عبارات تصف رحلتها الصّعبة أكثر ممّا جاء على لسانها هي “ما كشفت عنه هو الجانب الكفاحي (…) كيف استطعت، في حدود ظروفي وقدراتي، أن أتخطّى ما كان يستحيل تخطيه لولا الإرادة والرّغبة الحقيقيّة في السعي وراء الأفضل والأحسن. ثمّ إصراري على أن أعطي حياتي معنى وقيمة أفضل مما كان مخطّطا لها (…) كنت توقا مستمرا إلى الانطلاق خارج مناخ الزمان والمكان، والزمان هو زمان القهر، والكبت والذوبان في اللاشيئيّة…والمكان هو سجن الدار (…) حملت الصخرة والتعب، وقمت بدورات الصعود والهبوط، الدورات التي لا نهاية لها، لا يكفي أن نحمل آمالا كبارا وأحلاما واسعة، حتى الإرادة وحدها لا تكفي…لقد أدركت أنّ العمل هو الوجه الآخر للحلم والإرادة…”[56]. إنّها رسالة بعثت بها إلى كلّ نساء العالم، رسالة نابعة عن تجربة واقعية، رحلة حياة، ورحلة وجود، ورحلة هوية، رحلة ولادة جديدة من رحم التّشظّي والطّمس، تمرّد وعصيان اتّخذا شكلا سلميّا. بدءًا باستعادة الثقة بالنّفس، ومحاربة العجز الذّاتي. لقد بدت فدوى واعية بأنها لن تتمكّن من مواجهة الآخر قبل أن تواجه ذاتها أوّلا، وتتغلّب على يأسها وانهزاماتها النّفسيّة، فاستغلّت وجود إبراهيم إلى جانبها لتعيد بناء ذاتها، ثمّ وجدت في الشّعر ملاذا شغلها لتعيد خلق نفسها، وبنائها من جديد، وتبحث عن إمكانياتها وتبوّب طموحاتها. وصرخ الصوت النّسوي بداخلها بأنّني “أريد أن أكتب…لأدافع عن كل شبر من أنوثتي…لأتحرّر من ألوان الدّوائر والمربّعات وأخرج من حزام التّلوّث”[57]. وعلى الرّغم منأنّها لم تكشف جميع جوانب سيرتها، إلا أنّها عرضت حياة ذاتٍ نسويّة عبّرت عن معاناة “عالم الحريم” في المجتمع العربي بصفة عامّة، وفي فلسطين بصفة خاصّة في معركة لإثبات الوجود. ولم يكن. ولم يكن التّسلّط الرّجالي هو القضيّة الوحيدة التي يطرحها الأدب النّسويّ، وإنّما أيضا القمع الثقافي، ومسألة الحجاب، وبناء الذّات، عبر الصراع مع الزّمن والمكان، صراع من أجل الحرّيّة، حتى لا تهدر سنين عمرها وتمضي هباءً وحتى لا تُقبر في منزل يأكل روحها وكيانها، وحتّى تستردّ حقوقها وحقوق جميع النّساء.
من هنا كانت الكتابة في سيرتها، وكتابة الشعر تحديدا، دروعا تحميها من تلاشي هويّتها واضمحلالها في مجتمعات ذكوريّة بامتياز. فلم تكن حربها ضدّ المجتمعات الأبويّة لأجل هزيمة الرّجل أو تحدّيه، بقدر ما كانت من أجل إثبات كفاءتها واستحقاقها الاحترام والتّقدير، ومن أجل افتكاك مكان لها خارج بوتقة الحصار والاستلاب التي أذابت الجانب الإنسانيّ والوجوديّ فيها. لهذا، أعلت صوتها بالكتابة، وحرّرته هو الآخر من جميع محاولات الإخراس التّعسفيّة، لأنّ الأمر ببساطة لا يعود إلى قوّة الرّجل فقط، بل وإلى ضعفها هي وعدم ثقتها بنفسها، وسكوتها حين يفترض الأمر أن تتكلّم، وتسليمها حين يتطلّب الموقف أن تحتجّ وترفض. من هذا المنطلق، تمكّنت فدوى طوقان من الإعلان عن وجودها، عبر تأمّل ذاتها، والتماس دواخلها، واكتشاف إمكانيّاتها. وأثبتت أنّ لها خصوصيّة تفردها تنأى عن التّمييز الفزيولوجي البسيط، وأثبتت أنّ لها كيانا مختلفا له الحق في أن يوجد.
من هنا، تراوحت سيرة فدوى بين إشكال الهويّة وتشكّل الذّات، بين الاضمحلال والكينونة، وبين اللاوجود والوجود، وبين العيش على حافّة الحياة وعيش الحياة بكلّ تفاصيلها، بين اللاشيئيّة وإثبات الكيان، ثنائيّات تجاذبت المرأة في السيرة ملخّصة رحلة حياة في دورات “صعود وهبوط”[58] معركة مع الذّات ومع الآخر من أجل استرداد الهوية.
4- الخاتمة:
تعدّ المرأة وكتابتها من بين أبرز القضايا التي شغلت المباحث النّقديّة الحديثة. فالأدب النّسوي صراع وثورة وتمرّد على جميع أشكال الإقصاء والتّهميش الممارس على المرأة، وقد شكّلت السيرة الذّاتيّة النّسوية لدى فدوى طوقان ثورة على كلّ ما سلب هويّتها، وعكست وعيا بقدرتها على الانفلات من مختلف القوالب التي استهدفت وجودها وطموحاتها، وعملت على نسفها، منطلقة من تغيير وعيها بذاتيّتها. فقد رأت أنّ تغيير موقعها لا يبدأ ممّا هو خارج عنها، بل من زعزعة الضّعف الكامن فيها، ملزمة هي قبل خلخلة السّائد في مجتمعها أن ترتدّ إلى دواخلها وتصلح ما انكسر فيها ثمّ تتوجّه نحو الخارج. وتبيّنّا من خلال سيرتها أيضا أنّ لا أحد أقدر من المرأة على تحرير ذاتها وفرض وجودها، وأنّ الكتابة وحدها لا تكفي، كما أنّ الرغبة في التّحرّر وحدها أيضا لا تكفي، فلا بدّ أن يرافق العمل هذه الإرادة، ويدفعها لتتحوّل من مجال الإمكان إلى التّحقّق الفعليّ. ولئن كانت مسؤوليّة طمس هويّتها تقع على عاتق الرّجل أبا وأخا وزوجا، وعلى عاتق العادات والتّقاليد البالية، فإنّها هي الأخرى تحمل جزءا منها، فالأدب النّسوي يطرح وضع المرأة في مجتمعها وينقل آلامها ومعاناتها أملا في تغيير نسق حياتها المسلوبة، غير أنّ السّيرة التي اشتغلنا عليها أمدّتنا بطريق الخلاص المؤدّي إلى التّحرّر، إنّه الكفاح الذّاتي ثمّ التّحدّي ثم الإصرار، إنّها باختصار خطاب المرأة عن المرأة وللمرأة.
وما يمكن أن نخلص إليه إضافة إلى ما ذكر، أنّ الكتابة النّسويّة في حدّ ذاتها عصيان، وإعلان عن العصيان، عصيان التّسلّط، وعصيان الضّعف والهزيمة، إنّها ترمي إلى العصف بكلّ ما يشدّ المرأة إلى الأسفل ويعيق تقدّمها، حتّى وإن كان هذا العائق ذاتيّ داخليّ، إنّ هذه الكتابة تنقل أصوات النّساء “المفجوعات” في هويّاتهنّ. وقد عكس نص السيرة “رحلة جبليّة رحلة صعبة” ملامح أخرى للأدب النّسوي ينطلق من الآخرين ودورهم في سلب الهويّة، ليعود إلى الذات النّسويّة ويقنعها بأنّها المسؤولة الأولى عن وضعها، وعن تغييره، وأنّه ليس مفروضا عليها أن تبلغ مرتبة الرّجل نفسها أو أن تكون صورة أخرى عنه، بقدر ما هي معنيّة بضرورة فرض وجودها وإثبات أنها كيان مختلف وألاّ تكون طرفا تابعا مسلوب الإرادة، وأنّه واجب على الآخرين تقديرها واحترام خصوصيّتها التي تفردها. على أنّ تجربة فدوى طوقان، كانت حلقة من حلقات النّضال النّسويّ من أجل حريّة المرأة وكرامتها، نضال متواصل في مختلف الكتابات النّسوية المعاصرة، متماشيا ومتطلّبات العصر ورهاناته، يعكس رؤية المرأة لعالمها الذي تبدّت فيه سلبيّة متشظّيّة الذّات. وبهذا نكون قد وقفنا في هذه الدّراسة على تمثيلات السّيرة الذّاتيّة النّسوية بين إشكال الهويّة وتشكّل الذّات، علّنا نكون قد حققنا حدّا أدنى من الإفادة في مجال الأدب النّسوي.
[1] الهويّة هي كلّ ما يحيل على سمات الإنسان وخصائصه التي يتميّز بها، إنّها ما يعكس ثقافة الفرد ولغته وعقيدته وحضارته وتاريخه… تتأثّر هذه الهوية حسب عالم النّفس الدنماركي “إيريك إريكسون” بعامليّ المجتمع والانتماء، إنّهما الأكثر تأثيرا في هوية الفرد إمّا ايجابًا: حيث يساهمان في تحقيقها وإثباتها وإنمائها، وإمّا سلبًا حين يؤدّيان إلى حالة من الاغتراب والتّشظّي، وقد تطرّق “إريكسون” إلى هذا الأمر في دراساته، حيث نوّه إلى أنّ الهوية هي من أكبر الصراعات التي يواجهها الفرد وهي تتغيّر بفعل التجارب الحياتية والأدوار الاجتماعيّة. وأشار أمين معلوف أيضا في كتابه “الهويّات القاتلة” إلى مصطلح “أزمة الهوية” الذي ظهر مع “إيريك إريكسون”، وركّز معلوف اهتمامه على العوامل السلبيّة التي تؤثّر في تشكيل الهويّة وتؤدّي إلى اغترابها.
للتّوسّع ينظر: أمين معلوف: “الهويّات القاتلة”، دار الفارابي، لبنان، 1998.
[2]-Mary Sue Carlock: «Humpty Dumpty and Autobiography», Genre 3, 1970 , p : 345-346.
[3]-Goerge Misch: «A History of Autobiography in Antiquity», trans, E.w.Dickes (London : Routledge and kegan Pau, 1950, 1, p: 6.
[4]-Ibid, p: 4-5.
[5]-Ibid, p: 4
[6]-Jean starobinski: «Le style de l’autobiographie», in : « poétique », n°3, 1970, p :80.
[7]-Philippe Lejeune: «Enseigner à écrire l’autobiographie », in : « L’autobiographie en classe », sous la direction de Marie-Héléne Roques, Acte de la journée d’étude : Lire et écrire des textes autobiographiques en classe et autres contributions. CRDP Midi-Pyrénées, Delagrave, 2001, p: 16.
[8]-عبد الله محمّد الغذامي: “المرأة واللغة” المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1996، ص27.
[9]-محمّد نور الدّين أفاية: “الهوية والاختلاف-المرأة-الهامش والكتابة” افريقيا الشرق، العرب، ص111.
[10]-سوسن ناجي رضوان: “الوعي بالكتابة في الخطاب النسائي العربي المعاصر، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2004، ص61.
[11]-أمل التميمي “السيرة الذاتية النسائية في الأدب العربي المعاصر”، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2005، ص ص 29-35.
[12]-عبد الله محمّد الغذامي: “المرأة واللغة”، ص210.
[13]-Verginia woolf «Woolf, Virginia (1935) [1929]. A Room of One’s Own. London: Hogarth Press, p :35.
[14]-محمّد نور الدّين أفاية: “الهوية والاختلاف-المرأة-الهامش والكتابة”، ص35.
[15]-فدوى طوقان “رحلة جبليّة رحلة صعبة”، دار الشروق للنّشر والتّوزيع، عمان، الأردن، الطبعة الثانية، 1975، ص10.
[16]-أمل التميمي “السيرة الذاتية النسائية في الأدب العربي المعاصر”، ص 117.
[17]-حاتم الصكر “السيرة الذاتية النسوية البوح والتّرميز القهري”، مجلّة فصول عدد 63، 2004، ص208.
[18]-أمل التميمي “السيرة الذاتية النسائية في الأدب العربي المعاصر”، ص 132.
[19]-جعفر يايوش “الأدب الجزائري الجديد التجربة والمآل”، مركز البحوث في الانثروبولوجية الاجتماعية والثقافية، الجزائر، 2007، ص253.
[20] -لا بدّ من تصحيح لفظ الهوية من حيث النّطق، فهناك من ينطقها “هَويَّة” بفتح الهاء، وهناك من ينطقها “هُوٍيّة” بضمّ الهاء، والطريقة الثّانية هي الأصح، وقد أشار صاحب “معجم تصحيح لغة الأعلام” إلى هذا الأمر في قوله:”لا يصحّ في لفظ الهويّة فتح الهاء وهو خطأ شائع على ألسنة الكثيرين (…) فأصل الهُويّة كلمة هُو (بضمّ الهاء) ولا أحد ينطق بها بفتحها، والأصل فيها السؤال: من هو فلان؟ والجواب هو كذا وكذا (…) أمّا الهًويّة (بفتح الهاء) فلا وجود لها في العربيّة، وبالتّالي لا دلالة لها”. لمزيد التّوسّع ينظر:
-عبد الهادي بوطالب “معجم تصحيح لغة الأعلام”، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، لبنان، د.ط، 2006، ص138.
[21]-ابراهيم محمود عبد الباقي “الخطاب العربي المعاصر، عوامل البناء الحضاري في الكتابات العربيّة 1990-1996″، المعهد العالي للفكر الإسلامي، الولايات، ط1، 2008، ص 103.
[22]-سامية العنزي “الهوية الأنثوية: وجهة نظر نسوية: موقع: لها أونلاين: www.lahaonline.com
[23]-محمّد داود، فوزية بن جليد، كريستين “الكتابة النسـويّة: التلقي، الخـطـاب والتمثلات دوتريد، منشورات، CRASC، الطـبعة الأولى، 2010، ص21.
[24]-مي يوسف “فدوى طوقان والمرأة” في: مجموعة باحثين: “شاعرا فلسطين: إبراهيم وفدوى طوقان”، المؤسسة العربيّة للدّراسات والنّشر، جامعة النجاح، نابلس، د.ط، د.ت، ص182.
[25]-فدوى طوقان “رحلة جبليّة رحلة صعبة”، ص 7.
[26]-فدوى طوقان “رحلة جبلية رحلة صعبة”، ص12.
[27]-المصدر نفسه، ص12.
[28]-المصدر نفسه، ص13.
[29]-المصدر نفسه، ص16.
[30]-المصدر نفسه، ص18.
[31]-المصدر نفسه، ص18.
[32]-المصدر نفسه، ص24.
[33]-المصدر نفسه، ص21.
[34]-المصدر نفسه، ص22.
[35]-المصدر نفسه، ص23.
[36]-فدوى طوقان “رحلة جبليّة رحلة صعبة”، ص71.
[37]-المصدر نفسه، ص52.
[38]-المصدر نفسه، ص134.
[39]-المصدر نفسه، ص135.
[40]-فدوى طوقان “رحلة جبليّة رحلة صعبة”، ص40.
[41]-المصدر نفسه، ص40.
[42]-المصدر نفسه، ص95.
[43] -أنتولي غندر “علم الاجتماع”، ترجمة فايز الصّبّاغ، المنظّمة العربيّة للترجمة، بيروت، 2005، ص38.
[44]-فدوى طوقان “رحلة جبليّة رحلة صعبة”، ص24.
[45]-المصدر نفسه، ص159.
[46]-المصدر نفسه، ص98.
[47]-المصدر نفسه ص135.
[48]-أحلام معمري “إشكاليّة الأدب النّسويّ بيـن المصطلح واللغة”، مجلّة مـقاليد، ع2، منشـورات جـامعـة ورقلة، 2011، ص152.
[49]-حسين مناصرة “النسوية في الثقافة والابداع”، عالم الكتب الحديثة، الأردن، 2008، ص218.
[50]–فدوى طوقان “رحلة جبليّة رحلة صعبة”، ص100.
[51]-علي الراعي “رواية في الوطن العربي، في الرواية والحرّيّة” مجلّة الهلال، دار الهلال، فبراير 1998، القاهرة، ص90.
[52]-فدوى طوقان “رحلة جبليّة رحلة صعبة”، ص59.
[53]-المصدر نفسه، ص75.
[54]-المصدر نفسه، 81.
[55]-المصدر نفسه، ص143.
[56]-فدوى طوقان “رحلة جبليّة رحلة صعبة”، ص11.
[57]-سوسن ناجي رضوان “الوعي بالكتابة في الخطاب النسائي العربي المعاصر”، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2004، ص66.
[58]-فدوى طوقان “رحلة جبليّة رحلة صعبة”، ص11.
المراجع:
المراجع العربية:
- أفاية (محمّد نور الدّين): “الهوية والاختلاف-المرأة-الهامش والكتابة” افريقيا الشرق، العرب.
- بوطالب (عبد الهادي): “معجم تصحيح لغة الأعلام”، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، لبنان، د.ط، 2006.
- التميمي (أمل): “السيرة الذاتية النسائية في الأدب العربي المعاصر”، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2005.
- داود (محمّد(، بن جليد (فوزية)، كريستين: “الكتابة النسـويّة: التلقي، الخـطـاب والتمثلات دوتريد، ط1، منشورات، CRASC، 2010.
- الراعي (علي): “رواية في الوطن العربي في الرواية والحرّيّة” مجلّة الهلال، دار الهلال، القاهرة، فبراير 1998.
- الصكر (حاتم): “السيرة الذاتية النسوية، البوح والتّرميز القهري”، مجلّة فصول، عدد 63، 2004.
- طوقان (فدوى): “رحلة جبليّة رحلة صعبة”، ط2، دار الشروق للنّشر والتّوزيع، عمان، الأردن، 1975.
- عبد الباقي (ابراهيم محمود): “الخطاب العربي المعاصر، عوامل البناء الحضاري في الكتابات العربيّة 1990-1996″، ط1، المعهد العالي للفكر الإسلامي، الولايات، 2008.
- غندر (أنتولي): “علم الاجتماع”، ترجمة، فايز الصّبّاغ، المنظّمة العربيّة للترجمة، بيروت، 2005.
- العنزي (سامية): “الهوية الأنثوية: وجهة نظر نسوية: موقع: لها أون لاين: lahaonline.com
- الغذامي (عبد الله محمّد): “المرأة واللغة”، ط1، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1996.
- معمري (أحلام): “إشكاليّة الأدب النّسويّ بيـن المصطلح واللغة”، مجلّة مـقاليد، ع2، منشـورات جـامعـة ورقلة، 2011.
- مناصرة (حسين) “النسوية في الثقافة والإبداع”، عالم الكتب الحديثة، الأردن، 2008..
- ناجي رضوان (سوسن): “الوعي بالكتابة في الخطاب النسائي العربي المعاصر، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2004.
- يايوش (جعفر): “الأدب الجزائري الجديد التجربة والمآل”، مركز البحوث في الانثروبولوجية الاجتماعية والثقافية، الجزائر، 2007.
- يوسف (مي): “فدوى طوقان والمرأة” في: مجموعة باحثين: “شاعرا فلسطين: إبراهيم وفدوى طوقان”، المؤسسة العربيّة للدّراسات والنّشر، جامعة النجاح، نابلس، (دت).
المراجع الأجنبية:
- Carlock) Mary Sue (: «Humpty Dumpty and Autobiography»، Genre 3, 1970
- Lejeune) Philippe (: «Enseigner à écrire l’autobiographie»، in: «L’autobiographie en classe»، sous la direction de Marie-Héléne Roques, Acte de la journée d’étude: Lire et écrire des textes autobiographiques en classe et autres contributions. CRDP Midi-Pyrénées, Delagrave, 2001.
- Misch) George (: «A History of Autobiography in Antiquity», trans, E. Dickes (London: Routledge and kegan Pau, 1950.
- Starobinski) Jean (: «Le style de l’autobiographie », in : « poétique », n°3, 1970.
- Woolf (Verginia): «Woolf, Virginia (1935) [1929]. A Room of One’s Own. London: Hogarth Press.