التّنوير؟ الآن؟ أعرف أنّ كثيرين قد يستغربون أن يكتب أحد اليوم عن التّنوير بعد أن صار التّنوير سرديّة سيّئة السّمعة في أطروحات ما بعد الحداثة. نعم، أعرف كلّ حجج ما بعد الحداثة ضدّ التّنوير ومقولاته الكبرى التي لا تستحقّ سوى التّشكيك والنّقض، بل دَرَسْتُها طالبًا، وأُدرِّسُها الآن أستاذًا، كما كتبتُ عنها أكثر من مرّة. لكنّي في كلّ مرة كنت أزداد اقتناعًا بأنّه من الخطأ الكبير التّعامل مع الأفكار ككائنات حيّة تولد وتنضج ثمّ تضمحلّ وتموت وتُدفَن إلى الأبد؛ لأنّه لو كان للأفكار دورة حياة كالكائنات الحيّة تمامًا لكان علينا، اليوم، أن ننبذ كلّ أفكار سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وبقية فلاسفة اليونان، وابن خلدون، وابن مسكويه، وابن رشد، وبقية فلاسفة الإسلام ومفكّريه، وبوذا، وكونفوشيوس، ولاو تسو، وأشوكا، وبقية فلاسفة الهند والصّين، وباروخ سبينوزا، وجون لوك، وديفيد هيوم، وفولتير، وروسو، ومونتسكيو، وكانط، وماركس، وبقية مفكّري التّنوير الأوروبيّ، والطهطاوي، وخير الدّين التّونسيّ، والشّيخ محمّد عبده، وعبد الرّحمن الكواكبي، وفرح أنطون، وبقيّة مفكّري التّنوير العربيّ. وننبذ معهم، كذلك، كلّ فلاسفة العالم ومفكّريه في الشّرق والغرب على مدى التّاريخ البعيد والقريب. والحاصل أنّ للأفكار دورة حياة عنيدة أكثر ممّا نظن.
لكنّ التّنوير ليس مجرد فكرة وحسب، بل هو مشروع إنسانيّ كبير، لكنّه غير مكتمل ويسير دائمًا نحو اكتماله غير المنجَز. وسيبقى كذلك حتّى تتحقق كامل مُثُل التّنوير ومبادئه: الاحتكام إلى العقل، تسخير العلم من أجل ازدهار البشريّة، احترام حقوق الإنسان ومعاملة البشر كغايات بحدّ ذاتها لا وسائل، تبنّي أخلاقيّات الكونيّة الإنسانيّة، الثّقة بقابليّة الإنسان للتّقدّم، والنّزعة التّفاؤليّة تجاه المستقبل. وما دامت هذه المبادئ غير مكتملة وغير متحقّقة، سيبقى التّنوير مشروعًا يستحقّ الدّفاع عنه؛ لأن الدّفاع عنه، عندئذٍ وفي جوهره، هو دفاع عن حقّنا الأصيل كأفراد في أخذ مصيرنا بيدنا، وفي امتلاك قرارنا وحرّيّتنا وجرأتنا على الفهم واستخدام عقولنا بلا وصاية، وفي الوفاء لهويّتنا الإنسانيّة الكونيّة. ومن أجل هذا، يذهب مفكّر كبير مثل تزفتان تودوروف إلى القول بأنّ «فهمًا أعمق لهذه النّقلة الجذريّة [أي التّنوير] من شأنه دون شكّ أن يساعدنا على العيش على نحو أفضل اليوم»[1]، فيما يذهب ستيفن بنكر إلى أبعد من هذا حين كتب بأن «مُثُل التّنوير خالدة، لكنّها اليوم أكثر ارتباطًا بالواقع من أيّ وقت مضى»[2]، كما أنّها مُثُل نبيلة وملهمة وتحتاج، اليوم وأيضًا أكثر من أيّ وقت مضى، «إلى دفاع مخلص»[3] يعيد لها اعتبارها الذي تستحقّه بجدارة.
ومن منظور هؤلاء، لا بدّ من التّمييز بين مُثُل التّنوير ومبادئه، وبين مآلات العصر الحديث وانحرافاته. فقد جرت العادة على الخلط بين هذه وتلك بحيث يتم عادةً ربط كامل انحرافات العصر الحديث بقيم التّنوير، فانحرافات العلم دليل على خطأ التّنوير، وانزلاق الدّولة إلى الشّموليّة جرى بسبب التّنوير، والرأسمالية المتوحّشة هي بنت التّنوير، والهولوكوست ومعاداة السّامية والعنصريّة والاستعمار وحتّى الإرهاب نتائج لازمة لعقل التّنوير إذا دُفع إلى حدوده القصوى، وتصاعد النّزعة الماديّة والأنانيّة والعدميّة يتحمّل التّنوير وزرها الأكبر. وهذه قراءة ظالمة للتّنوير، وهي تحمّله أكبر من حجمه؛ لأنّنا نعرف أنّ الأسباب التي أفضت بالعصر الحديث إلى مآلاته المؤسفة والمزعجة عديدة ومتشعّبة، ومن السّخف اختزالها في سبب واحد اسمه التّنوير. ثم بأيّ معنى يجري ربط هذه المآلات بالتّنوير في حين يتم التّغافل عن إسهامات التّنوير في كل التّحسين الذي جرى في حياة البشريّة خلال قرنين؟ كان تودوروف يرى، على سبيل المثال، أن حركات مناهضة الاستعمار هي أكثر استلهامًا لمبادئ التّنوير من الاستعمار ذاته، و«خاصّة عندما تتبنّى (أي تلك الحركات) مقولات الكونيّة الإنسانيّة والمساواة بين الشعوب وحريّة الأفراد»[4].
ستيفن بنكر، من جهته، كان يرى أن إنجازات التّنوير هي «أعظم قصّة حدثت» في مسيرة التّاريخ البشريّ، وأن التّنكّر لها، ومعاملتها بلا مبالاة وأحيانًا باحتقار، هو تنكّر لكلّ التّحسين الذي جرى في أحوال البشريّة، ولكل هِبَات و«نِعَم التّنوير: المواليد الجدد الذين سيعيشون أكثر من ثمانيّة عقود، والأسواق التي تفيض بالطّعام، والمياه النّظيفة التي تجري بإشارة من أصابعنا، والنّفايات التي تختفي بإشارة أخرى، والأدوية التي تقضي على الإصابات أو الالتهابات المؤلمة، والأبناء الذين لم يعد يُدفع بهم إلى الحروب، والبنات اللائي صار بإمكانهنّ السير في الشوارع بأمان، ومنتقدي أصحاب السّلطة الذين لا يتعرّضون للسّجن أو التّصفية، ومعارف العالم وثقافاته الموجودة في جيب القميص»[5]. هذه، بحسب بنكر، عيّنة بسيطة من إنجازات التّنوير ونعمه، الأمر الذي يعني أن التّنكّر للتّنوير تنكّر لهذه الإنجازات وغيرها. قد يعترض البعض على كل هذا، وإلّا فأين هي هذه النِّعَم الآن بعد أن جرى تسليع كلّ إنجازات التّنوير من أدوية مكافحة الإيدز إلى البرامج الصّحيّة والغذائيّة لإطالة أعمار البشر؟ ثمّ أين هذه النِّعم عن تلك المجتمعات البائسة والفقيرة والمحرومة أو تلك التي ما زالت تعيش تحت رحمة هذه الدّولة التّسلطيّة أو تلك الجماعات المتوحّشة؟ ولكن ألا يناقض هذا الاعتراض نفسه؟ إذا كانت هذه المجتمعات منكوبةً بالفقر والجهل والمرض والتّسلط المتوحّش والهويّات القاتلة والقتل المجانيّ…إلخ فبماذا تحلم؟ ألا تأمل في التّنوير حين تحلم بسيادة مُثُل الحريّة والمساواة والنّزعة الإنسانيّة والعلم وحقوق الإنسان؟
ومع هذا، فإنه لا مناصّ من أخذ نقد التّنوير بجديّة. نعم، قد يكون البديل عن التّنوير كارثيًّا وحتّى «رجعيًّا»، لكن لا بدّ من الاعتراف بأن التّنوير انطوى على الكثير من الأوهام، كما أنّ رفع مُثُل التّنوير إلى مرتبة التّقديس عادة ما ينتهي إلى أدلجة التّنوير برمّته. الأمر الذي سيؤدّي، عاجلًا أم آجلًا، إلى وضع هذه المُثُل فوق مرتبة الإنسان نفسه، وهو الكائن الذي لم يأتِ مشروع التّنوير إلا من أجل ازدهاره وتحريره. سبق للتّنوير أن تعرّض لانتقادات كثيرة منذ أيّام جان جاك روسو، ثم فردريك نيتشه وآخرين، إلا أن نقد مدرسة فرانكفورت يمثّل ذروة الانتقادات التي عرفها التّنوير خلال القرن العشرين. ومدرسة فرانكفورت (تُعرف أحيانًا باسم النّظريّة النّقديّة) هو اسم لإسهامات مجموعة مفكّرين ألمان اجتمع شملهم في «معهد البحوث الاجتماعيّ» بجامعة فرانكفورت منذ العام 1923، كان أبرز هؤلاء هم: ماكس هوركهايمر، وثيودور أدورنو، وهربرت ماركيوز، وحتّى والتر بنيامين الذي لم يكن عضوًا رسميًّا في المعهد. كان روسو ونيتشه قد سبقا هؤلاء بتقويض المرتكزات الأساسيّة للتّنوير الأوروبيّ، روسو عندما انتقد فكرة التّقدّم، وتأليه العقل، وصعود الذّات الحديثة، وطالب، بدلا من ذلك، بالعودة إلى الطّبيعة وتمجيد «المتوحّش النّبيل». فيما تولّى نيتشه تقويض الحداثة الغربيّة من أساسها، فما يسمّيه الآخرون حضارة وتقدّمًا، يسمّيه نيتشه انحطاطًا وتقهقرًا. أمّا العقل، إله التّنوير الحداثيّ الأكبر، فليس أكثر من نتوء عارض في مسيرة ذلك «الحيوان المتوحّش» الكامن في أعماق الإنسان، والذي كان موضع تمجيد نيتشه وحلمه الأسمى والذي جسّده في صورة «الإنسان الفائق أو السّوبر مان».
ومع هذا يبقى كتاب «جدليّة التّنوير» (1947)، الكتاب المشترك لثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر، أعمق نقد يُوجَّه إلى التّنوير من الدّاخل حتى الآن. كوّنت مدرسة فرانكفورت مزيجها الخاصّ من الهيجلية والماركسيّة والفرويديّة، فآمنت بقيم التّنوير الطّليعي والعقل التّحرريّ، إلا أنها فوجئت بأن النّظام الاجتماعيّ الاقتصاديّ الذي كانت تنتظر اضمحلاله (الرّأسماليّة الصّناعيّة) قد استوعب كلّ الفاعلين الاجتماعيّين الطّليعيّين، واستوعب، في داخله، التّنوير نفسه، وصادر كل فرص التّحوّل الجذريّ في المجتمع. كان هؤلاء يتحدّثون، في البداية، عن الطبقة العاملة الصّناعيّة (البروليتاريا)، ثم وسّع ماركيوز الدّائرة ليدخل في نطاقها كل المهمّشين الذين يقفون خارج اللّعبة. والخلاصة أنّ مدرسة فرانكفورت تنبّهت إلى أنّ الشّركات الرّأسماليّة الصّناعيّة دخلت على خطّ إنتاج الثّقافة والتّنوير، فسحبت البساط من تحت أقدام المثقّفين «الطّليعيّين»، وراحت تغرق الأسواق بكلّ إنتاجات الثّقافة التّجاريّة الضّخمة المتاحة للاستهلاك السّريع: الكتب الأعلى مبيعًا، الرّوايات العاطفيّة «التّافهة»، ومعارض اللّوحات الفنّيّة، وأفلام هوليوود النّمطيّة، وكاسيتات الموسيقى التّجاريّة، وعروض المسارح الجماهيريّة «الهابطة». كانت الثّقافة هي الحصن الأخير لمُثُل التّنوير والتّحرر، فإذا بالصّناعة الثّقافيّة تستحوذ على هذا الحصن، وتحوّله إلى أداة أساسيّة من أدوات إعادة إنتاج كيانها الخاصّ عبر خلق إحساس عامّ بين الجمهور بالرّضا الزّائف عن الواقع القائم. الأمر الذي يعني أنّ المعركة حسمت لصالح الشركات الرّأسماليّة الصّناعيّة التي كانت تتلاعب بالجمهور (الطّبقة العاملة والنّساء والمهمّشين على نحو خاصّ)، فإذا «كان العامل وربّ عمله يشاهدان نفس البرنامج التّلفزيونيّ، وإذا كانت السّكرتيرة ترتدي ثيابًا لا تقلّ أناقة عن ابنة مستخدِمها، وإذا كان الزّنجيّ يملك سيّارة من طراز كاديلاك، وإذا كانوا جميعًا يقرأون الصّحيفة نفسها»[6]، فإنّ هذا يدلّ على التّماثل أو على الأقل يوهم بالتّماثل وبزوال التّفاوتات بين الطّبقات.
قدّم هربرت ماركيوز صياغة مكتملة لتفسير مآلات قيم التّنوير والتّحرّر في المجتمعات الصّناعيّة الحديثة. كان ماركيوز يسعى إلى تفسير حالة بدت له غريبة وشاذّة، بل محرجة بالنّسبة للنّظريّة النّقديّة آنذاك، وهي الحالة التي تتمثّل في أنّ التّحوّل الجذريّ بات ضرورة ملحّة، لكنّه مستحيل في الوقت ذاته. وهذا تناقض بحاجة إلى تفسير فكيف أصبح التّغيير (ثورة البروليتاريا) مستحيلًا في المجتمع الحديث بالرّغم من ضرورته؟ وهو ذات الإشكال الذي طرحه هوركهايمر وأدورنو عندما افتتحا كتابهما، «جدلية التّنوير»، بالتّساؤل عن السّبب الذي دفع «الإنسانيّة إلى الغرق في ضرب جديد من البربريّة بدل أن تدخل في حالة إنسانيّة حقيقيّة؟»[7]. الجواب، عند ماركيوز، هو أنّ المجتمع الصّناعيّ المتقدّم تمكّن من تطوير قدرته على الضّبط والسّيطرة من جهة، وضاعف من قدرته على خلق شعور عامّ بالرّضا الزّائف لدى فئات عريضة داخل المجتمع. وهو رضا يتحصّل بسبب قدرة هذا المجتمع الصّناعيّ على إنتاج خيرات التّمتّع الفرديّ وتوزيعها على نطاق واسع، الأمر الذي نجح (أو أوهم النّاس بأنه نجح) في تحقيق الإشباع الكامل لحاجات النّاس الأوّلية. وبهذه الطّريقة الماكرة، تمكّن هذا المجتمع من قمع الحاجة إلى التّغيير والنّابعة من مشاعر الاستياء وعدم الرضا، وهو القمع الذي كان يتناسب «تناسبًا مطّردًا مع قدرته على إنتاج الخيرات وتوزيعها على صعيد أوسع وباطّراد»[8].
إن التّأمّل في نقد مدرسة فرانكفورت يكشف أنّه لم يكن سوى محاولة (ربما كانت متشائمة ويائسة) لاستنقاذ التّنوير ممّا أسماه هوركهايمر وأدورنو «التّدمير الذّاتيّ للتّنوير»[9]. لقد اقتنع هذان المفكّران الألمانيّان، وهما يشاهدان ألمانيا تنحدر إلى النّازيّة، ومعاداة السّاميّة تصير سياسة دولة (لا ينبغي أن ننسى أنّهما كانا من أصل يهوديّ، وأنّهما كتبا كتابهما أوّل مرّة في العام 1944)، اقتنعا بأن التّنوير كان يحمل بذرة تدميره الذّاتي بداخله؛ لأنّ تنصيب الإنسان ككائن أسمى من كلّ الكائنات، وتسخير العقل والعلم من أجله للسّيطرة على الكون والطّبيعة، كلّ هذا سيؤدّي، حتمًا، إلى كوارث بيئيّة واختلالات حيويّة غير قابلة للإصلاح. ثمّ إنّ تقديس العقل والإعلاء من شأنه على حساب العواطف والمشاعر الرّوحيّة والعلاقات الإنسانيّة سيقود حتمًا إلى انحطاط هذا العقل إلى مستوى الآلة التي لا تفكّر في شيء سوى حسابات المنافع والأرباح حتّى لو كانت على حساب الإنسان وازدهاره وتحرّره. أطلق هوركهايمر وأدورنو على هذا النّوع من العقل مصطلح «العقل الأداتي»، وهو عقل يرتكز على حسابات النّتائج والأرباح وتكنولوجيا الإنتاج والتّوزيع، ولا يعنيه سوى انتخاب أكفأ الوسائل والأدوات لتحقيق الغايات المختارة مهما كانت هذه الغايات حتى لو كانت ضدّ التّنوير الحقيقيّ، وضدّ رفاهيّة الإنسان وازدهاره. لقد جاء كتاب «جدليّة التّنوير» في سياق سعي هوركهايمر وأدورنو من أجل تصحيح انحرافات التّنوير، وتمهيدًا «إلى مفهوم إيجابيّ للتّنوير يحرّره من ذلك التّنوير الواقع في قبضة الهيمنة العمياء»[10]، ويعيده مجددًا إلى مفهومه الأساسيّ كتقدّم فكريّ «يهدف إلى تحرير الوجود الإنسانيّ من الخوف»، والسّعي من أجل ازدهار الإنسان ورخائه وتحريره من كلّ أشكال الهيمنة والاستغلال والتّقييد.
إنّ هذا ليس نقدًا جذريًّا للتّنوير بحدّ ذاته، بقدر ما هو محاولة لتصحيح انحرافات التّنوير حتّى لو كانت هذه الانحرافات متمكّنة من التّنوير ذاته. يؤمن هوركهايمر وأدورنو بأنّ «التّنوير ضروريّ ومستحيل في آن واحد، ضروريّ لأنّه لولاه لاستمرّت البشريّة في سعيها إلى تدمير الذّات والتّقييد، ومستحيل لأنّه لا يمكن تحقيقه إلّا عبر النّشاط البشريّ العقلانيّ، بينما العقلانيّة نفسها هي أصل المشكلة»[11]. وعلى خلاف هذه النّزعة التّشاؤميّة التي انتهى إليها هوركهايمر وأدورنو، كان يورغن هابرماس، تلميذ أدورنو، أكثر إيجابيّة عندما آمن بأنّ انحرافات التّنوير يمكن تصحيحها بمزيد من التّنوير، وأن مشروع التّنوير وقيم الحريّة والاستقلال الفرديّ والمساواة والكونيّة الإنسانيّة، مشروع غير منجز حتّى الآن، وأنّه لا يزال بالإمكان استنقاذه في المستقبل عبر السّعي البشريّ المخلص، والصّمود في وجه شبكات الضّبط والهيمنة الآخذة في التّوسّع.
يتبنّى أغلب هؤلاء، أدورنو وهابرماس وحتّى تودوروف وبنكر، معنى التّنوير الذي صاغه إمانويل كانط في مقالته القصيرة والشّهيرة والتي جاءت كجواب على سؤال «ما التّنوير؟» (1784). وبحسب كانط، فإنّ التّنوير «هو خروج الإنسان من القصور الذي هو مسؤول عنه»[12]، والمقصود بالقصور هنا هو عجز الإنسان عن استعمال عقله دون وصاية أو توجيه أو إرشاد من أحد أو من جهة ما. إنّ التّنوير، على هذا التّعريف، يعني الاستقلال الفكريّ والشّجاعة والجرأة على الفهم واستعمال الإنسان لعقله دون وصاية، وهي حالة تقع على الضّدّ من الانسياق الأعمى وراء أفكار الآخرين وآرائهم مثلما ينساق القطيع. وبحسب كانط فإنّ شعار التّنوير هو التّالي: «تجرّأ على أن تعرف، وكن جريئًا في استعمال عقلك أنت» لا عقل الآخرين.
مراجع المقالة :
[1]– تزفتان تودوروف، روح الأنوار، ترجمة: حافظ قويعة، (تونس: دار محمّد علي للنشر، ط:1، 2007)، ص8.
[2]– Steven Pinker, Enlightenment Now: The Case for Reason, Science, Humanism, and Progress, (New York: Penguin Books, 2018) p. xv.
[3]– المرجع نفسه، ص4.
[4]– روح الأنوار، ص38.
[5]– Enlightenment Now, p. 4.
[6]– هربرت ماركيوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة: جورج طرابيشي، (بيروت: منشورات دار الآداب، ط:3، 1988)، ص44.
[7]– Max Horkheimer and Theodor Adorno, Dialectic of Enlightenment: Philosophical Fragments, edited by Gunzelin Schmid Noerr, translated by Edmund Jephcott, (California: Stanford University Press, 2002)، xiv.
[8]– الإنسان ذو البعد الواحد، ص30.
[9]– Dialectic of Enlightenment, p. xvi.
[10]– المرجع نفسه، صviii.
[11]– جيمس جوردن فينليسون، يورغن هابرماس: مقدّمة مختصرة جدًا، ترجمة: أحمد الروبي، (القاهرة: مؤسسة هنداوي للثقافة والتّعليم، ط:1، 2015)، ص25.
[12]– Immanuel Kant, An Answer to the Question: What Is Enlightenment? Translated by James Schmidt, in: James Schmidt (ed), What Is Enlightenment? Eighteenth-century Answers and Twentieth-century Questions, (University of California Press, 1996), p. 58.
2 تعليقات
التنوير ليس كائنا حيا
فعلا لا يجب اعتبار التنوير كائنا حيا يولد وينضج ثم يضمحل. الخلل وحدوث الانزلاقات الحضارية في زمن الحداثة وما بعدها (مرحلة إشباع مادي لمستوى تفكيري ليبرالي) ليس مرتبطا بكنه مدلول التنوير، بل المنطق المسيطر الذي تحكم في ترجمة بعض أسسه في الواقع.
التنوير، كما جاء في مقالكم الشيق والمفيد، هو جهد علمي وتفكيري وتأملي يهدف باستمرار لتحسين وتجويد مقومات العيش على الأرض باحترام المحددات التي أثرتموها: الاحتكام إلى العقل، تسخير العلم من أجل ازدهار البشرية …….
التنوير زمانيا له أفق راق وبعيد سيلازم حياة البشرية أرضا، رافعا شعار تطوير مقومات كرامة الإنسان في الحياة. أما جغرافيا، فالجهد يجب أن يكون مضعفا ما بين الشمال والجنوب، لتقليص الهوة بين الشعوب وارتقاء مقومات الإنسان العالمي.
التنوير كذلك يجب أن يرفع شعار المنافسة السلمية والآمنة مع الطبيعة وأسرارها وليس الطمع في السيطرة عليها تعسفا وعنفا.
كما أن كل انحراف تنويري يتحول رغما عن مسببيه إلى إشكالية تفكير جديدة ينبثق عنها مقومات تنوير جديدة. وقد نسمي ذلك “التنمية التنويرية المستدامة”.
شكرا جزيلا للأستاذ الدكتور نادر كاظم على هذا المقال الرائع المستفز للتفكير الاعتيادي ليبحر به في فضاء التأملات المعرفية في متطلبات الحاضر والمستقبل.
حدد إيمانويل كانت مفهوم التنوير بأنه : خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه من خلال عدم استخدامه لعقله إلا بتوجيه من إنسان آخر . ويحصر كنت أسباب حالة القصور تلك في السببين الأساسيين التاليين : الكسـل والجبــن ! فتكاسل الناس عن الاعتماد على أنفسهم في التفكير أدى من جهة إلى تخلفهم ، ومن جهة أخرى هيأ الفرصة للآخرين لاستغلالهم ، وذلك بسبب عامل الخوف فيهم على الرغم من تأييد إيمانويل كانت لمبادئ الثورة الفرنسية – لا يؤيد طريق الثورة بوصفه الطريق السليم للإصلاح . وذلك أنه كان يرى بأن تغيير اتجاه العقول من الاعتماد على الغير إلى الاستقلال الذاتي أمر لا ينفع فيه تحول مفاجئ ، كالذي يحدث في الثورات ، وإنما تعين عليه التربية العقلية والنقدية . ومن هنا ، يضع كنت شرط ” الحرية ” بوصفه مطلبا ضروريا لنشأة التنوير واستمراره .