ملخص:
لقد تغيرت ظاهرة الهجرة في الزمن الحاضر وتأثرت كغيرها من الممارسات الاجتماعية بالسياقات الكونية الجديدة، وبروز المجتمعات الآلية الشبكية بعد أن تمكنت الجماعات الإنسانية المتباعدة جغرافيا من التقارب اجتماعيا ووجدانيا، بفعل الإتاحة الاتصالية النشيطة والاندماج التكنولوجي السريع.
وفي إطار هذه السمات التفاعلية المستحدثة للواقع الاجتماعي للشباب نشأت قراءات جديدة لمسألة الهجرة، ومعان أخرى لرغبة الشباب في الفرار من مجتمعاته المحلية بحثا عن الخلاص الموعود والحظوظ الوافرة في مدن الأحلام البعيدة، خاصة بعد أن عجزت المؤسسات الوطنية والأنظمة السياسية القائمة عن توفير البدائل الناجعة لمعالجة وضعيات الاغتراب النفسي للشباب، وتمكينه من فرص الاندماج الفاعل في المجتمع. مقابل نجاح الوسيط الإلكتروني في تقريب فكرة الهجرة والتسويق لنجاحات مغامرات المهاجرين، وسرد ملاحمهم وقصص بطولاتهم في تجاوز كل أشكال الحدود، والترويج لنماذج جمالية ولغوية وجنسية مفقودة في بلدان الهامش. حيث أدى الانتشار الواسع لأغاني وموسيقى الهجرة أو” الحرقة” إلى نوع من تزييف الوعي وبيع الوهم، وهو ما أضعف انتماء الشباب إلى مجتمعاته المحلية، وعزز هروبه النفسي وانفصاله التدريجي عن مسقط الرأس، فتحول الكثير منهم إلى مهاجرين افتراضيين يجوبون عالم الطواف الواسع، ينتظرون اللحظة المناسبة لمغادرة حقيقية لأوطانهم التي اخترقتها جحافل الافتراضي، وبدأت حدودها الجغرافية في التلاشي والانكسار بعد أن سمح كل مكان فيها بالاختراق والنفاذ.
الكلمات المفتاحية: الهجرة النفسية – الشباب – الإتاحة الاتصالية – الاغتراب الاجتماعي
Abstract:
The phenomenon of migration has changed in the present and, like other social practices, has been affected by new global contexts, and the emergence of network communities as geographically distant humanitarian groups have been able to converge socially and emotionally, owing to active connectivity and rapid technological integration.
Within these interactive characteristics of the social reality of young people, new readings of migration and other meanings of the desire of young people to flee their communities in search of promised salvation and ample opportunity in distant cities of dreams have emerged. Dreams emerged especially after national institutions and existing political systems have failed to provide viable alternatives to addressing the psychosocial alienation of young people, and to enable them to integrate effectively into society. For the e-middleman they bring the idea of immigration and marketing closer to migrants’ adventurous adventures, list their turtles and tournament stories beyond borders, and promote missing esthetic, linguistic, and sexual models in margin countries.
The widespread spread of songs and music of immigration or “burning” led to a kind of falsification of awareness and the sale of illusion, which weakened the youth’s belonging to its local communities, strengthened their psychological flight and their gradual separation from the birthplace, many of them becoming virtual immigrants who wander in the vast world of circumcation. They wait for the right moment to leave their virtual hordes, and their geographic boundaries have begun to fade away and break after each place has been allowed to penetrate.
1- مقدمة:
تطورت ظاهرة الهجرة من تحركات جماعية قديمة إلى هجرات حديثة بدافع الارتزاق أو لأسباب أخرى سياسية أو تجارية أو سياحية، والهجرة سواء كانت قديمة أو حديثة، داخلية كانت أو خارجية قد تكون عبارة عن تنقلات تلقائية عفوية أو منظمة بقطع النظر عن توصيفها القانوني شرعية أو غير شرعية.
وعلى غرار بقية الممارسات الاجتماعية لإنسان هذا العصر، تأثرت الهجرة بالسياقات الكونية، وبروز العالم الافتراضي كشريك أساسي ساهم في خلق مجتمع شبكي بتحولات ثقافية وفكرية أكثر تسارعا وامتدادا وتداخلا، بفعل تأثير الإتاحة الاتصالية ودورها في فتح أبواب الأمل في مستقبل أفضل، والانفتاح على عالم الأضواء الساطعة. وذلك بعد أن فشلت كل المؤسسات التقليدية في تقديم البدائل الناجعة للتغيير، وعجز المؤسسات الرسمية في مجتمعاتنا المحلية عن معالجة الأسباب التقليدية والمستحدثة لرغبة الشباب في الفرار من مجتمعات الفساد والانسداد واليأس، إلى مجتمعات الحلم وإنتاج القيم والمعايير المناسبة لتجسيم العدالة وتكافؤ الفرص في العلاقات والتعاقدات المجتمعية.
وفي تونس مثلا، برزت مظاهر من اللامبالاة والهجرة النفسية كشكل من أشكال الانفصال المعنوي عن البيئة الاجتماعية الأصلية التي تمهد إلى الهجرة الحقيقية لاحقا، وذلك بعد أن تحول الوضع الاقتصادي في تونس إلى وضع شبيه بالاغتراب الاقتصادي الذي تحدث عنه “كارل ماركس”، عندما تسود الرأسمالية المتوحشة وتستولي طبقة خاصة على جميع وسائل الإنتاج، فضلا عن سطوة الفضاء الإلكتروني الآسر وغياب البديل الاجتماعي الحقيقي والمحفز والعادل إلى خلق شعور داخلي بالغربة لدى الشباب، تمثل في نشاط حالة من عدم التكيف الاجتماعي، وانعدام الأمن النفسي وانهيار الشعور بقيمة الذات وقدرتها على الاندماج الفاعل في المجتمع.
فإلى أي مدى تؤثر الإتاحة الاتصالية للشباب في انهيار قيم وأخلاقيات العمل، وتطور مظاهر الاغتراب الاجتماعي؟ وكيف يمكن أن يؤسس ذلك لواقع جديد من الهجرة الشبابية النفسية وغياب العوامل التقليدية لتعلق الأفراد بالأوطان؟
2- الإتاحة الاتصالية وعلاقتها بفكرة الهجرة:
إن الإتاحة الاتصالية أو التطور الاتصالي المعولم، بالإضافة إلى ما تبعه من كسر للحدود أمام حركة الرساميل والبضائع والأشخاص والخدمات والهويات، وتقليص فرص سيطرة مختلف دول العالم على مجتمعاتها، قد أدت في مجتمعنا التونسي إلى محفزات نفسية جديدة في علاقة الأجيال الجديدة بفكرة الهجرة.
2 -1- الشباب والأنترنات: حجم التفاعل وتقييم الاستخدام:
إن الحضور الكبير الذي تسجله شبكة الأنترنات (بخدماتها وموادها) في اهتمامات الشباب، هو من التنوع والكثافة بحيث تحولت إلى فاعل ثقافي وتعليمي يوازي بقية مؤسسات التنشئة الاجتماعية الأخرى مجتمعة، فهي تختصر للشباب العالم الكبير المنفتح بثقافاته وصوره ورموزه، ليصبحوا في مواجهة أنماط سلوكية وثقافية مغايرة، تدفع بخيالهم وتفكيرهم نحو مثيرات انفعالية تحرك لديهم رغبات ومشاعر مختلفة، مما يكشف بوضوح غياب إستراتيجية واضحة للاستخدام، أمام تعدد مجالات التوظيف السلبي التي باتت عبئا اجتماعيا وتربويا كبيرا، في علاقتها بهذه الفئات الشبابية التي تحتاج أكثر من غيرها إلى التأطير والمرافقة والإحاطة.
إن أفق التكنولوجيا الاتصالية المستخدمة في الفضاءات الاتصالية الجديدة لا يجب أن يرتكز فقط على توفير الوسائل المادية والتجهيزات اللازمة للنشاط والكسب المادي، وإنما يجب التيقظ إلى وضعيات التثقيف والوساطة التي يعيشها الشباب، والتي ترتبط أولا وبالذات بتأهيل المنظومات ومراجعة استراتيجيات الاستغلال باعتبار أن العالم اليوم قد انتقل من تكنولوجيا الصناعة إلى تكنولوجيا المعلوماتية والصناعة الرقمية.
لذلك تطلب الأمر معالجة عاجلة لقضايا استخدامات شبكة الأنترنات، لا من حيث هي أداة للاتصال والوساطة الثقافية ووسيلة للعلم والاقتصاد والتجارة فقط، وإنما من حيث النظم الإدارية والاجتماعية الشاملة التي تشكل البيئة التنظيمية التي تمثل أساس اشتغال هذا الوسيط، وجملة التفاعلات البشرية المحيطة به، وما يترتب عنها من نتائج بالغة الأثر من الناحية الثقافية والاجتماعية. حيث سيتغير هيكل توزيع القوى العاملة، وتشهد عمالة الزراعة والصناعة تقلصا وتراجعا، مقابل تضخم عمالة قطاعي الخدمات والمعلومات، فالأنترنات جامعة شعبية غير مرئية. (بطوش، 2007)
2-2- أثر الوسائط المتعددة في تغيير الرموز الثقافية وتشكلات العنف الجديد:
تعتبر الممارسة الثقافية الافتراضية الجديدة في ارتباطها بشبكة الأنترنات، تعبيرا عن لحظة حضارية تغلب عليها التقنية، وتسيطر عليها تكنولوجيا الاتصال وما توفره أبعادها الافتراضية من انتقال حر للصور والأصوات والحركات والمؤثرات الضوئية والألوان، ضمن علاقة اتصالية تظل دائما في حاجة إلى مراجعة ملامح الخطاب الثقافي والأشكال الرمزية التي تتبناها وتمررها على اعتبارها بناء افتراضيا تتعدد فيه إمكانيات الفعل وتساهم في تطوير البني الأخلاقية وتغيير السلوكات الفردية والجماعية.
معنى ذلك أن انتماءنا إلى نظام معنوي رمزي مشترك يجمع تمثلاتنا وتصوراتنا سيكون محل تساؤل دائم، بالنظر إلى التغير المستمر في مفهوم التواصل الحيني عبر الوسيط الإلكتروني، الذي تجاوز مفهوم التواصل وجها لوجه بعد أن استحدثت اللغة لنفسها عدة أدوار جديدة خارج انفعالات الحوار المباشر وتفاعلات الاتصال الوجاهي التقليدي، حيث استوعب التنظير اللغوي الحديث القواسم المشتركة بين جميع اللغات الإنسانية، وكذلك مواضع اختلافها وتباينها والنظر إليها كغريزة إنسانية، يشترك فيها البشر كافة. (علي،2001، 232)
من هنا تستمد الممارسة الثقافية واقعيتها الجديدة في علاقتها بالوسيط الإلكتروني، هذه الممارسة التي عبرت عن إفلاتها من الآليات التقليدية للضبط الاجتماعي، وذلك في اتجاه إحداث تغيير مستمر في الرموز الثقافية للجماعات المحلية، وخلق أشكال ثقافية واجتماعية جديدة، تقوم في مجملها على الهيمنة والإقصاء والتهميش والعنف.
ولما كانت الرموز الثقافية مشروعا مجتمعيا محليا متجددا باستمرار، تتجاوز من خلاله التمثلات الاجتماعية جاهزية المعطيات وثبات المرجعيات، فإن الممارسة الاتصالية باستخدام الوسائط المتعددة من خلال شبكة الأنترنات، تحيل محلية الرموز الثقافية والقيم الاجتماعية الأصيلة إلى إمكانيات جديدة للبناء والتعايش قد تتعرض فيها هذه الرموز والقيم إلى عمليات متتالية من التعديل والاحتواء والطمس والتشويه، في ظل آليات جديدة منتجة لبناء الهوية والغيرية والعنف واللاعنف، وهكذا فإن الوسيلة الإعلامية الاتصالية تتورط من خلال قدرتها على التأثير، في تقريب فكرة الهجرة والتسويق لنجاحات مغامرات المهاجرين الحالمين بمستقبل أفضل.
لقد أدخلت التطورات التكنولوجية الجديدة لوسائط الاتصال نماذج مغايرة من التفاعلات والمواجهات الثقافية الإنسانية لم تعرفها المجتمعات من قبل، وذلك بسبب إسقاطها المستمر لحدود الزمان والمكان وحدود الدولة السياسية، وكل ما كان يدخل سابقا في إطار السيادة الوطنية والأمن القومي للشعوب بمعناه السياسي والعسكري والثقافي الرمزي. (حيدر،1999)
وبناء على ما تقدم يتضح أهمية شبكة الأنترنات في علاقتها بالممارسة الاتصالية والثقافية، من خلال قدرتها على إعادة تشكيل البنيات الثقافية والفكرية للمستهلك المتلقي، وذلك عبر توظيف عناصر الإثارة والإبهار والإغراء التي يحرص مسوقوها على أن تكون حاضرة في أغلب المواد الترفيهية والثقافية الممررة.
إن من أهم الرموز الثقافية والترفيهية لهذه العصرنة الاتصالية الكوكبية لكل ما هو تراث وأفكار ولغة وأذواق وأنماط حياة، سيكون من دون شك، سبيلا لتمزيق الروابط القيمية والثقافية التي كانت سائدة من خلال العمل على تغيير النظرة إلى الأصول الحضارية التي تغذي عقول الناشئة، وحثها، عبر الممارسة الاتصالية الجديدة، على التمرد على المرجعيات الاجتماعية الأصيلة، حيث تجتهد عينات كثيرة من الشباب التونسي من أجل استعارة نماذج جمالية ولغوية وجنسية، وعادات استهلاكية متنوعة، يرونها مثالية ومغرية وجديرة بالاقتداء والهجرة إليها.
وفي هذا الصدد كتب “محمود أمين العالم” مدافعا عن الخصوصية الثقافية المحلية المهددة بزحف رموز الثقافات الوافدة: ” أخذت العولمة السائدة تفضي بالضرورة إلى سيادة لغة من لغات هذه الدول المهيمنة في العلاقات التجارية والاقتصادية، وما يستتبع ذلك من سيادة ثقافتها وقيمها الخاصة. إن معنى ذلك هو تهميش اللغات والثقافات القومية، واحتوائها، واستتباعها كمدخل لاستتباعها اقتصاديا وثقافيا”(أمين العالم، 1999،09).
إن هذا الاقتحام الفجئي الافتراضي في الممارسات الاتصالية، وتوظيفه في تغيير الرموز الثقافية لمجتمعاتنا، قد بات يهدد بتعريض القاعدة الديمغرافية النشيطة للسكان إلى انعكاسات فجوة ثقافية مسلطة ومحكومة بها حسب المركز المنتج والمحيط المستهلك، ولعل من تبعات ذلك وصول القيم الأخلاقية إلى مصالحة معينة مع العنف، خصوصا بعد أن فقد الرقيب الاجتماعي أدوراه ووجاهته، نتيجة تفكك النظرة المطلقة إلى العنف، وضياع مفهومه وقدرته على تشخيص الممارسات والأفعال التي تقود إليه.
2 -3- الثقافة الافتراضية: جدل التغيير الاجتماعي وعنف الإيديولوجيا الاتصالية:
شكل التطور المعلوماتي السمة الجديدة لفترة ما بعد الحداثة، التي شهدت ولادة الثقافة الافتراضية بما هي تشكلات ذهنية وسلوكات تفاعلية يومية، صاحبت جملة التطورات التي نشأت في ميدان الحوسبة، وسرعة الأداء والدقة في المعلومات وأنشطة الآلات المفكرة.
وأمام تنوع الممارسات الافتراضية، وتعدد اتجاهاتها وأشكالها – إلى درجة استحال معها التمييز بين الافتراضي والواقعي، وبين الممارسات والتمثلات – ظهرت تيارات فكرية عديدة في مجال البحث الاتصالي، ترى أن الثقافة الاتصالية الجديدة هي السبيل الأمثل للتحديث والتغيير الاجتماعي في المجتمعات النامية، فيما يرى أصحاب التيار النقدي الذي انبثق من التراث النقدي للفكر الاجتماعي الأوروبي، أن سيطرة الثقافة الاتصالية الغربية بمؤسساتها ورموزها الفكرية والاجتماعية على وسائل الإعلام في المجتمعات الانتقالية، يعدّ مظهرا من مظاهر الهيمنة الكونية للغرب، وشكلا من أشكال الاستعمار الثقافي الجديد. ويحرص هؤلاء على التأكيد، على أنه لا وجود لممارسة اتصالية محايدة في ظل السياقات التفاعلية الجديدة، التي أفرزها الواقع الافتراضي، اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا وسياسيا، وهيمنة ثقافة الطبقات المسيطرة وفكرها على مختلف الممارسات الإعلامية، التي أصبحت تؤثر بصورة حاسمة في تشكيل اتجاهات الجمهور والرأي العام وقيمه.
إن التقنية الاتصالية، وفق ما تقدمه سوسيولوجيا الاتصال، لا يمكن استبعادها من دائرة التأثير الثقافي والاجتماعي، على أصناف وفئات المستخدمين، وذلك على اعتبارها مكمنا لحمولة ثقافية رمزية بالغة التأثير، يمكن نعتها “بالإيديولوجيا العنيفة للاتصال”. فالتكنولوجيا الاتصالية، تبدو بهذا المعنى حاملة لمنظومة الثقافة، فهي حالة اجتماعية ذهنية، وثقافية حضارية مشحونة بنسق متغير من الرموز والقيم والتصورات والتمثلات.
إن الحياد والموضوعية، هي أوصاف غير موجودة إلا في كتابات المتخصصين ومناهج الباحثين، أما في الممارسة الاتصالية، فإن الرؤية الفكرية تسبق السلوك الاتصالي، لذلك أصبح مفهوم الاتصال الحديث، مرتبطا ارتباطا وثيقا بالإيديولوجيا الاتصالية، التي تعرف بأنها “نظام من الأفكار، يعبر عنه من خلال العملية الاتصالية، التي تشمل القائم بالاتصال، وطريقة استخدامه للنص أو اللغة أو الصورة (السّاكنة أو المتحرّكة)، التي تنقلها الوسيلة الإعلامية المطبوعة أو المسموعة أو المرئية”. (البشر، 2008،31) إنها منظومات فكرية تتجاوز التعريفات الموجودة في القواميس الفلسفية، لأنها تحاول تقديم عالم مزيف ومغشوش، وفرض وجهة نظر الطبقة المهيمنة على الطبقة الأضعف، حيث يرى “بول ريكور Paul Ricoeur”، أنها ظاهرة اجتماعية جديدة، ارتبطت بسلطة المجتمع الما- بعد صناعي، ودوره في الإدماج الاجتماعي والثقافي للأفراد بشكل يؤثر على طبيعة فهمهم وإدراكهم للعالم من حولهم.(فيليكس تورا،2010)
لقد أصبحت الإيديولوجيا بهذا المعنى، قوة خفية لا مرئية، تحافظ على الروابط الاجتماعية للأفراد، من خلال ما تقدمه لهم من قيم وتصورات مشتركة. فكل ممارسات التبادل اللغوي في نظر “بيار بورديو” ” Pierre Bourdieu” تدور في مناخ يحكمه منطق العلاقات الاجتماعية المتوترة، في ظل هيمنة ما يدعى باللغة ذات الشرعية أو المصداقية، التي تمارس هيمنتها الرمزية، من خلال ما تنطوي عليه من مظاهر العنف الرمزي ضد كل من لا يخضع لتلك الهيمنة.
ويمكن تعريف الايديولوجيا انطلاقا من أبعادها الرئيسية التالية:
– المضامين الثقافية والفكرية للأيديولوجيا.
– دور الإيديولوجيا في تمرير مجموعة معينة من القيم التي يمكن أن تكون تبريرا لرؤية معينة للعالم.
– الإيديولوجيا قادرة على توجيه اتجاهات وسلوكات المؤمنين بها، من خلال تزويدهم بأهداف أو غايات معينة، وبهذا تصبح الإيديولوجيا إحدى مكوّنات الثقافة الاجتماعية، التي يتمكن من خلالها الإنسان من رؤية العالم، في إطار أشكال جديدة من الوعي الاجتماعي. (مخلوف، 2004)
والذي يهمنا في هذا الإطار، ليس الاستعراض الأكاديمي للإيديولوجيا، بقدر ما تهمنا محاولة تتبع حضور هاته الإيديولوجيا في الممارسات الاتصالية الراهنة، ومدى علاقتها بالمعاني والدلالات، التي تؤشر لازدياد مظاهر العنف والهيمنة بالنسبة لهذه الممارسات، انطلاقا من الفضاءات الشبكية المفتوحة.
لقد أصبح الفعل الاتصالي القائم على التقنية الميزة الأساسية “لمجتمعات ما بعد الحداثة، حيث لم تعد قيمة التواصل ومقياس جودته، قائمة على الحميمية والتفاعل، بل غدا الاتصال من أجل الاتصال وكأنه شرط من شروط التغيير الاجتماعي والثقافي، والانخراط في المجتمعات الرقمية. فالأدوات الاتصالية والمعلوماتية قد تحولت، إلى بنيات تحتية لدعم إيديولوجيا الاتصال وعولمة الثقافة. هذه الإيديولوجيا التي لا تطال المحتويات إلا بدرجات أقل، على اعتبار أن “المحدد الأدواتي” هو الطاغي في هذا المضمار، حيث تتحول بموجبه المجتمعات والجماعات البشرية إلى كتلة موحدة منصهرة، أو يراد لها أن تنصهر، في فكر واحد وثقافة واحدة، ونموذج للتمثل واحد. (اليحياوي، 2004)
وترتيبا على ما سبق بالتالي فإن تموقع إيديولوجيا الاتصال بين الجماعة الثقافية وواقعها، لا يعطي السلطة المتحكمة، إمكانية صياغة الأحداث صياغة واحدة فحسب، بل ويمنحها أيضا سبل تحويل الصورة ذاتها إلى حقيقة لا تقبل الطعن أو المزايدة أو التشكيك.
ويؤكد ذلك أنه في ظل طغيان الثقافة الاستهلاكية، وهيمنة منطق العرض والطلب، فإن الاتصال لم يعد محكوما إلا باعتبارات حرية التعبير التجارية. حيث غدت الآلة على غرار المضامين المبثوثة عبرها حاجات اقتصادية خالصة لا رغبات نفسية تنشد التواصل والتفاعل الاجتماعي والثقافي. فشبكات التواصل الاجتماعي كثيرا ما تتحول وفق هذا الطرح إلى تجسيد رقمي للذوات والهويات من أجل نشر التحريف والتزييف وبيع الوهم والاتجار بالبشر.
2 -4- التداخل بين الثقافة والاتصال في المجتمع الاتصالي الراهن:
إن تراجع الحضور الاجتماعي والثقافي للإيديولوجيا كمنظومة فكرية سادت المجتمعات الإنسانية منذ التشكلات الأولى للثقافة والحضارة، فتح المجال لسيادة إيديولوجيا الوسيط الاتصالي والإعلامي، وما يتبعه من ممارسات ثقافية شديدة الارتباط بالاتصال ووسائله. فالاتصال من وجهة نظر “بردويستال” “Birdwhistell” هو فعل ثقافي بصدد الحركة، حيث أصبحت الثقافة الاتصالية المعاصرة –من خلال ما تفرضه من رموز وقيم وتمثلات وإيديولوجيات وردود فعل فكرية فردية وجماعية – منتجة للمعاني الجديدة للثقافة، تستمدها من الاتصال وتكنولوجياته الحديثة.
ذلك أن دراسة مسألة الاتصال وفق نموذج المرسل والمتقبل “Le modèle” émetteur/récepteur”، يمكن اعتبارها نمطا من أنماط العزل الاتصالي لطرفي الخطاب، وهي حقيقة لا يمكن الاستمرار في قبولها في ظل مجتمع يكثف الاعتماد على التقنيات الحديثة للاتصال، والتجهيزات المعلوماتية متعدّدة الوسائط. (Birdwhistell, 1967,165)
لقد ارتكزت ثقافة ما بعد الحداثة على الحضور الفاعل والمتميز لوسائل الإعلام والاتصال، وقدرة المجتمعات الجديدة على الإبداع التكنولوجي بما في ذلك التقسيم الدقيق للوقت، وتجاوز المقاييس الزمنية المعروفة. حيث اهتمت أبحاث “إدغار موران” “Edgar Morin” بتأثيرات الصورة على الإنسان، من حيث هي بنية بصرية دالة، وتشكيل رامز حي، تتنوع في داخله الأساليب والعلاقات والأمكنة والأزمنة.
إن وسائل الإعلام والاتصال تبث وتنشر في كل لحظة أشياء كثيرة لها علاقة بالثقافات المختلفة، وخاصة تلك التي تعتمد على الخيال والنقل غير المباشر للأفكار والأحاسيس، مما قد يؤثر في المتلقي، ويدفعه إلى التواصل وبناء المواقف الثقافية. وهو ما يمنح للاتصال معاني أوسع، وسبلا أوفر لممارسات ثقافية جديدة، ترادف ما تحمله الثقافة في معناها الأنتروبولوجي من مضامين ودلالات، وخير مثال لهذا التأثير الانتشار الواسع لأغاني وموسيقى الهجرة أو “الحرقة” وما تصوره من قصص وملاحم بطولية ترغب في التجربة وتصور ملحمة الهروب من غربة الأوطان إلى المستقبل المشرق ومصادر اللذة الموعودة.
3- الأخلاقيات الجديدة للعمل وعلاقتها بالاغتراب الاجتماعي للشباب:
إن استخدام الشباب التونسي المكثف لوسائط الإعلام والاتصال، بصرف النظر عن نوعية الاستخدام ومخرجاته الاجتماعية والثقافية، قد كشف لهؤلاء انهيار القيمة الثقافية والاقتصادية والأخلاقية للعمل كوسيلة للرقي الاجتماعي والتحرر النفسي، وبناء الحلم الفردي والجماعي، وهو ما يعني فشل العمل في أن يكون قوة تعزيز للابتكار والتأهيل والتميز وتحقيق المشروع الاجتماعي، وهو أمر أضعف انتماء الشباب إلى المجتمع وولد لديه حالة من الاغتراب تجاه كل القيم والمعايير الاجتماعية، بعد أن ضاعت أحلامهم وتاهت طموحاتهم وتحطمت آمالهم فكان العالم الافتراضي بتقنياته وأزمنته الخائليّة مجالا جديدا للتفاعل والهروب النفسي.
إن التكنولوجيا الاتصالية قد مكنت الشباب من تجاوز القهر الاجتماعي إلى استبطان تفاعلي للفضاء السيبرني بمختلف تطبيقاته الإلكترونية المستقلة نسبيا عن المعايير والقيم الاجتماعية السائدة.
3 -1- المؤسسة في ظل المستحدث التكنولوجي: قيم الانتماء بين الثابت والمتحول:
تساهم المتغيرات والأحداث العالمية والمحلية الجديدة المحيطة بالمؤسسة كالثورة المعلوماتية والتقنية وحرية تنقل رؤوس الأموال والأيدي العاملة المختصة، في دفع المؤسسات إلى التأقلم والتكيف مع هذه المتغيرات حتى تتمكن من النجاح والاستمرار.
إن سهولة الوصول إلى شتى أنواع المعلومات وتبادلها مع الآخرين، قد سهل على المؤسسة بمختلف فاعليها الاجتماعيين تحقيق قدر كبير مما يعرف اليوم بالديمقراطية المعلوماتية، ورغم وجود عديد المؤشرات التي تدل على أن الطريق مازالت طويلة أمام تحقيق استفادة متكافئة لجميع المؤسسات المنخرطة في هذه التكنولوجيا، بفعل التفاوت الكبير بين الدول المتقدمة(أمريكا وأوروبا مثلا) وبقية دول العالم، (الجليدي، 2005،165)، فإن ذلك لا ينفي حصول ما يعرف بـ”التقارب التكنولوجي” الذي يعتبر نتيجة حتمية للتطورات اليومية الحاصلة في تكنولوجيا الوسائط المعلوماتية وما واكبها من منتجات وخدمات وإجراءات تنظيمية للعمل وأطر مرجعية للاتجاهات السلوكية لأصحاب العمل والعمال.
وفي إطار هذا المبحث نتساءل عن الأهمية الثقافية والاقتصادية للفئات العمالية في العملية الإنتاجية والأدوار المنتظرة من المؤسسة في دعم وبناء الانتماء الوظيفي لمختلف المشاركين، ذلك أنه مهما تطورت إمكانيات الآلة في العملية الإنتاجية فإنها لا يمكن أن تحل محل العنصر البشري الذي يعود له الفضل في تصنيعها وابتكارها.
إن المؤسسة العمومية اليوم يمكن أن تكون فضاء منفتحا على الشراكة الاجتماعية والثقافية بين مختلف أصناف العاملين، مما يؤسس لممارسات اجتماعية جديدة، تتميز بكثافة استخدام تكنولوجيات الذكاء الآلي وتوظيف الكفاءات البشرية في تنظيم عمليات الإنتاج بمختلف أشكاله المادية واللامادية، حيث تساهم تكنولوجيات المعلومات والاتصال وتطبيقات الحاسوب في عولمة أساليب العمل والإنتاج، في إطار التفاعلات الرمزية العابرة للجغرافيا الاجتماعية والثقافية للمجتمعات المحلية، التي ينتجها الفضاء الشبكي، هذا الفضاء الذي يمنح المؤسسة آليات دمجها في فضاء القرية الكونية الذي استحدثه “مارشال ماكلوهان” لتحليل الاستخدامات الإنسانية الواسعة للتقنيات الاتصالية، كامتداد استعمالي للأعضاء الخارجية للفرد في صراعه مع الطبيعة ومع البشر. (ماكلوهان، 1972)
وفي هذا الاتجاه يمكن اعتبار هذه التقنيات وسائل لتطوير آليات التفاعل البشري، وهو ما يقتضي من المؤسسة مراجعة مقاييس التقييم والمعايير الثقافية للعمل، والكشف عن مدى تدخل هذه المستحدثات التكنولوجية في تغيير القيم المؤسسية التقليدية وتأثيرها في بناء الانتماء الوظيفي للفئات العاملة، باعتبار أن المنتجات الثقافية وأصناف المعلومات تنتشر في الفضاء الاتصالي الواسع في شكل أنماط سلوكية جاهزة وسلع ثقافية متنوعة، تكيف أذواق الأفراد في مجتمع بدأت تنكسر حدوده الجغرافية التقليدية بعد أن اخترقتها جحافل الافتراضي، وجعلت فضاءاته غير واقعية و كل مكان فيها قابل للاختراق والنفاذ. وهو ما يعبر عنه في الوقت الراهن بالمؤسسة الشبكية التي تتميز بهيكلة خاصة وهندسة متغيرة قادرة على التكيف المستمر مع متغيرات المحيط الاقتصادي والاجتماعي الحاضن، من خلال الاعتماد على شراكة مختصة و قيادة جماعية بهدف تحقيق إستراتيجيات التمركز حول الكفاءات البشرية التي لا تتحقق إلا بالقطع مع جملة الأفكار والممارسات التقليدية في إدارة الموارد والتصرف في الإمكانيات، وذلك من خلال الاشتغال على جملة من الأسس الإستراتيجية في تفاعل مستمر مع مجلوبات الثورة التكنولوجية والاتصالية التي تعمل بصورة متواصلة على تغيير خارطة الانتماءات والولاءات والمرجعيات الفكرية والثقافية للفئات العمالية المنتجة. فالمؤسسة سواء كانت عمومية أو خاصة في مجتمعاتنا المحلية مدعوة إلى ترسيخ صورة اعتبارية نموذجية تكون بمثابة المرجعية الفكرية التي يعود المنتسبون إليها باستمرار لمقاومة العجز والتهميش، وهي صورة لا تكون إلا عبر تحسين كفاءة إنتاج الخدمات والمنافع والمنتجات والتوسع في استخدام الوسائل التكنولوجية المناسبة وإعادة النظر في الأنظمة القائمة بما يتلاءم مع المستجدات العلمية والتقنية، بالإضافة إلى صيانة التجهيزات القائمة والمحافظة على كفاءاتها التشغيلية والاستخدامية وتحسين استغلال الموارد البشرية المتاحة عبر توعية الأفراد بأهمية العمل كقيمة أخلاقية واجتماعية، وتعميق وعيهم العلمي والتقني وإيجاد الحوافز المناسبة التي تشجعهم على ذلك، مع حثهم على الابتكار والبحث والتطوير والتأهيل والتدريب المهني.
إن القبول والتفاعل النشيط الذي تجده المؤسسة في محيطها المتحرك تكنولوجيا واتصاليا لابد أن يتخذ شكل المكافأة والتعزيز، لأنه في المقابل ستعرب المؤسسة عن امتنانها وتقديرها لمعاييره وقيمه وضوابطه بصورة تبادلية تفاعلية لا يكون التبادل فيها مستكينا ثابتا، باعتباره تبادلا دوريا مستمرا يتجه إلى الاختيار والتطوع الذي لا يتأسس على الخضوع والمكافأة، الأمر الذي يتطابق مع قراءتنا للنظرية التبادلية التي قدمها الباحث الأمريكي “ريتشارد أمرسون” هذا البحث الذي يرى أن التفاعل القائم بين الفرد والمؤسسة يتطلب تعزيزا سلوكيا من المحيط الاجتماعي الحاضن وهو ما يحتاجه العامل أو الموظف لتحقيق رضائه الاجتماعي وارتياحه السلوكي. (خليل، 1997)
إن الشعور بالانتماء إلى مؤسسة ما أو تجمع مهني معين، إنما يتشكل بالأساس على مرجعية الإحساس بالقرب من الآخرين الذين لديهم نفس التكوين ونفس الأخلاق والهوية المهنية، وهو ما يجعل المؤسسة المعاصرة قادرة على أن تكون مركزا لإنتاج قيم اجتماعية مخصوصة، ومجالا مهنيا لتأطير وضبط الروابط الثقافية وإدارة الاختلاف بين مختلف الفاعلين، ذلك أن التوظيف طويل المدى والثقة المتبادلة والعلاقات الشخصية الوثيقة، والعمل بروح الفريق وتقدير العاملين لبعضهم بعضا وللأعمال التي يتم إنجازها، والمشاركة الميدانية للإدارة هي من الأبعاد الرئيسية لأي تنظيم إنتاجي يحاول زرع ثقافة إنتاجية تكون أهدافها النهائية العلاقات الإنسانية.(غربي، 2002)
لقد سبق أن أشرنا إلى أن المؤسسة المحلية تعيش حالة حراك دائم لأن كل تطور يحصل داخلها يفترض بالضرورة ثقافة مرافقة حتى تستوعب واقعها الجديد، وتعبر عنه من خلال قيم يتم نشرها واقتسامها بين مختلف الفئات المنتسبة لها، نظرا لأن تغيير وسائل العمل يبدو عملية يسيرة في حين أن بناء ثقافة جديدة مسايرة لمقتضيات هذا التغيير هو الأمر العسير، وذلك باعتبار أن تجدد السياقات الإنتاجية سيلاقي رفضا وصدا من قبل الفاعلين في هذه المؤسسة أو تلك بسبب أن لكل فرد أو عامل جملة من الوضعيات والإستراتيجيات والامتيازات والقدرات والكفاءات والانتظارات التي يخشى ذهابها وإلغاءها، لذلك لابد أن يتم الاتفاق حول كل تغيير في المشاركة أو التقييم بين مختلف المنتسبين بصورة تفاوضية أساسها الانتماء والتساوي في القدرة على التغيير.(المبروكي، 2001).
إن المؤسسة ليست مكانا للعمل والإنتاج فقط، وليست كذلك وحدة إنتاجية واقتصادية فحسب، بل تتجاوز هذا كله لتصبح لها وظيفة ثقافية تؤهلها لأن تكون منتجة للقيم الثقافية، إذ تشكل نموذجا مصغرا للمجتمع بأسره تعكس من خلاله صراعاته الدائمة والظرفية حول موضوع قيم العمل والعلاقات الإنسانية وتعايش الثقافات.
إن التغييرات الهيكلية والبنيوية والتنظيمية للمؤسسة قد تنتج صراعات خفية أو معلنة في بعض الأحيان بين نمطين ثقافيين أو بين مرجعيتين فكريتين مما يحتضنه واقعها اليومي المشحون بالتناقضات، والمؤشر لميلاد المعنى في أشكال جديدة معلنة عن دور المؤسسة وفعلها في صهر هذه المفارقات كمحضنة مشكلة للهوية في سياق للتواصل البين- فردي، لتنتج ما يتوقع أن يكون ثقافة خاصة بها عاكسة لمضامينها ومؤشراتها، فتزرع سلوكيات ومواقف وقيما يمكن أن تكون في صراع وتناقض بين وسائلها المستحدثة وعمقها الثقافي التقليدي. حيث يرى هذا التوجه أن الثقافة المؤسسية هي الكفيلة وحدها بخلق اللحمة وبناء الانتماء الوظيفي وتوثيق الرباط المهني الذي تمّ ترجمته إلى أفعال وسلوكيات، كما تنظر هذه المقاربة إلى الثقافات الفرعية وصراع الأدوار والوضعيات داخل المؤسسة كأحد إستراتيجيات الفاعلين، الذي يمكن أن ينتج عنه إضعاف التماسك والانسجام الداخلي فيها، وبالتالي إمكانية خلق مناخ لا تتوفر فيه أرضية الإنتاج والإنجاز. ومن هنا كان التحدي الأول بالنسبة إلى المؤسسة هو التصرف في الموارد البشرية وكيفية تنظيم مشاركتها وتوظيفها واستثمار كفاءاتها مع عقلنة العلاقات وتقييم أداء كل الأطراف، واختبار مدى جديتها في تحمل مسؤوليتها إزاء المستحدثات المهنية الجديدة.
إن غياب التفاعل الذي يقوم على التعزيز والمكافأة بين الشباب ومؤسساتهم الاجتماعية يمكن أن يؤسس لنشأة الاغتراب والشعور بالانفصال عن القيم الاجتماعية السائدة، وفقدان الهوية الشخصية بفعل تعدد الهويات الوافدة.
3 -2- الاغتراب الاجتماعي للشباب وعلاقته بفكرة الهجرة:
يرى ” ريمون بودون” أن الاغتراب أو الاستلاب يعني الضعف الفكري العام نتيجة انحلال الرابطة بين الفرد والآخرين، وظهور العديد من السلوكيات غير المقبولة مثل العزلة وعدم المشاركة في المسؤولية الجماعية والتمركز حول الذات والانغلاق في دائرة الأهداف الشخصية، ورفض القوانين والمعايير الاجتماعية المشتركة بين الناس. (رقام، 2002).
إن فكرة الانفصال والبعد عن المجتمع تظهر لدى كثير من الفئات الشبابية بسبب التناقض بين الرغبات والطموحات الناشئة عن الانفتاح على العوالم الافتراضية الخائلية والبنية الاجتماعية المخيبة للآمال والمانعة لتحقيق هذه الطموحات والتطلعات.
إن انخراط الشباب في تكنولوجيا الاتصال والمعلومات على اختلاف خياراتها الاستخدامية من أخبار ومواد ترفيهية، وألعاب إلكترونية وأفلام سينمائية قد أفرز نوعا مستحدثا من العزلة الاجتماعية وانخفاض معدل التواصل بالمحيطين به فعليا، وانعزاله عن القريبين الحقيقيين وابتعاده عنهم رغم تشعب علاقاته في الواقع الالكتروني. من هنا تبدو فكرة الهجرة إحساسا بضرورة الثورة والتغيير والتمرد على النفس والمجتمع، وبالتالي التفكير في الانسحاب من الواقع المادي المحيط خصوصا بعد أن فشلت نظم الإعلام الوطنية والمحلية في تقديم خدمات معلوماتية تستجيب للحاجيات اليومية لهذه الفئات، وتتماشى مع الطموحات والرهانات المشار إليها سابقا.
إن هذا التراخي لدور المؤسسات المحلية في تأطير القيم والمعايير الاجتماعية قد أفقدها آليات المتابعة والتوجيه لمختلف الفاعلين الاجتماعيين لاسيما الفئات الشبابية التي أضحت هوياتها تبنى ضمن سياقات عالمية مفتوحة بفعل اتساع الشبكات الاجتماعية والاقتصادية والإعلامية الرقمية، التي اتسع تأثيرها على حساب المؤسسات التقليدية في التنشئة والتأطير الشبابي، وهو ما جعل هذه الفئات في وضعية مساءلة مستمرة، بين ثقافتهم الأصلية والنماذج الثقافية الوافدة التي قد تعزلهم وتهيمن عليهم، وتفتح لهم مجال الهروب إلى مجتمعات أخرى نظرا لتعدد وتطور صور الإحباط لديهم.
4- الهجرة النفسية الخائلية وعلاقتها بالهجرة الحقيقية:
ساعدت الحالة التفاعلية الشبابية الجديدة مع الوسيط الرقمي على حصول هجرة نفسية غير مسبوقة، ورغبة جامحة في التحول إلى عوالم أخرى، بعد أن نجحت العولمة الاتصالية في جعل معظم شباب العالم ينصهرون ويتقاربون ويتحدون في أنماط عيش مشتركة ومتشابهة، رغم الاختلافات العرقية والجغرافية والثقافية القائمة.
ومثلما تردد مبكرا من أن عصر التلفزيون يمكن أن يكون مصدر خطر على البصر وعلى الأخلاق العامة وعادات وتقاليد الناس، فإنه يتأكد اليوم اعتداء العولمة الاتصالية على الهويات الوطنية والقطرية والقومية للجماعات البشرية، التي تحولت إلى مفاهيم وتعريفات قديمة غير مقبولة لدى فئات شبابية كثيرة.
لذلك فإن الشباب، الذي لم يظفر بالحد الأدنى من طموحاته، حلم الهجرة وترك الأوطان، والشباب المقهور، الذي لم تتوفر له فرصة العمل والحياة الكريمة في وطنه، ينظر بازدراء وتعال إلى مفاهيم الانتماء والوطنية، وقيم التضحية والعطاء ومقتضيات حب الوطن والتضحية من أجله.
إن التكنولوجيا العابرة المحملة بالأحلام تتمرد على الأجهزة والمؤسسات الرقابية التقليدية لمجتمعاتنا، وتعبر كل الحدود، وتعبث بجيوش العيون والجواسيس لتصل إلى عقول المقهورين والمحرومين القابعين خلف أسوار النسيان من أجل تمكينهم من مغامرة الهجرة، ومقامرة الانفصال عن الجذور والرحيل النفسي بعيدا عن سجون الإذلال وقسوة الأغلال.
إن هذا الواقع التكنولوجي الجديد والأشكال المستحدثة من التقارب البشري والتفاعل الآلي قد حول الكثير من الفئات الشبابية الطامحة إلى مهاجرين افتراضيين، يطوفون حول عالم الطواف الواسع مع بقاء أجسادهم في الأوطان الأصلية. وهو ما يمكن أن يحولهم إلى قنابل موقوتة قد تنفجر في أية لحظة غضبا وقهرا ويأسا، فتشيع الإحباط والغربة الاجتماعية والانبتات عن الأصل والأهل، والهروب المعنوي إلى مجتمعات الخلاص المجهولة، فتتحول المجتمعات الأصلية إلى ملجإ قسري للمقعدين والمحبطين والعجزة المنتظرين. لذلك نعتبر أن الهجرة السرية هي آلية من آليات الهجرة النفسية يمكن أن تتخذ أشكالا أخرى أشد عنفا وقتامة في الانفصال الثقافي والصراع المستمر مع المجتمع.
4 -1- الفضاء الشبكي ورمزية التواصل الاجتماعي والتقارب النفسي الجديد:
إن التقنيات الاتصالية وسائل جديدة لتطوير آليات التفاعل البشري، باعتبار أن المنتجات الثقافية وأصناف المعلومات تنتشر في الفضاء الاتصالي الواسع في شكل أنماط سلوكية جاهزة وسلع ثقافية متنوعة، تكيف أذواق الأفراد في هذا المجتمعات المترامية الأطراف، التي بدأت حدودها الجغرافية التقليدية في التلاشي والانكسار بعد أن اخترقتها جحافل الافتراضي، وميعت واقعها الاجتماعي، وجعلت فضاءاتها خيالية وغير آمنة، يسمح كل مكان فيها بالاختراق والنفاذ.
إن هذا الفضاء الاتصالي الجديد بشبكاته التقنية المختلفة لا يمثل مجرد تقنيات ناقلة للمعلومات، بل يحيلنا إلى صورة الشبكات الرمزية التي تعمل على إنتاج وتمرير أنسجة دلالية من الأفكار والعادات والسلوكيات والانفعالات النفسية، التي أصبح من الممكن ممارستها إلكترونيا بعد تحويلها إلى طقوس علائقية مشتركة، تفقد الكثير من أدوارها التفاعلية والتثاقفية الحقيقية.
إن الفضاء الشبكي لعصر المعلومات والوسائط الاتصالية قد ساهم في بناء التواصل الاجتماعي وفق تراتبيات جديدة، وأولويات مستحدثة ومفروضة على جميع الدول والمجتمعات بشكل أو بآخر، وذلك من خلال تغيير التمثلات والقيم الاجتماعية وإنتاج احتياجات ثقافية جديدة. (التليلي، 2004).
إن ثورة الشبكات الاتصالية الحالية وما رافقها من انفجار اتصالي واسع النطاق، هي بصدد تحويل أنساق الاقتصاد والسياسة والثقافة إلى متغيرات مستقلة تعمل على تحطيم أدوار ووضعيات اجتماعية قائمة، وتنشئ أخرى غير مألوفة، معيدة بذلك تجديد آليات التفاعل والتواصل البشري، ومستفيدة من درجة التطور التنظيمي لهذه البيئات التكنولوجية الجديدة. ونشير في هذا السياق إلى أن العديد من الفرضيات الأنتروبولوجية والاجتماعية الحديثة، قد ذهبت إلى إقامة مقابلات بين التقنية والكائن الحي في إطار الفضاء الشبكي، باعتبار أن التقنية تولد وتنمو وتتطور وتتجه شيئا فشيئا إلى التحرّر من صانعيها، لتحدد أشكالا مستحدثة من العلاقات الإنسانية وتعيد تقسيم الأدوار والوظائف التراتبية الاجتماعية بما يسمح بدينامية رمزية جديدة أمام الحراك الاجتماعي للأفراد، وتكييف المنظومة القيمية والمعيارية السلوكية. ووفقا لهذا التصور يمكن أن نلاحظ أن ثورة الشبكات الاجتماعية في مستوياتها التكنولوجية والرمزية، تعمل على إحداث تغيرات اجتماعية وحضارية تفوق ما سبقها باعتبارها ظاهرة جديدة تقتحم جميع الأنشطة والعلاقات، وتخترق مختلف المجالات والبنيات الفكرية والذهنية. (التليلي، 2004).
إن أطراف التفاعل الاتصالي انطلاقا من هذه الشبكات الممتدة، لم تعد ثابتة ومعروفة ومحددة في المكان والزمان، ولم تعد تملك هويات مستقلة وخصائص ثقافية أو قومية أو عرقية ثابتة.
5- خاتمة:
وخلاصة القول إن الشباب، كفاعل اجتماعي نشيط، قد انتقل من اجتماعية طبيعية تقليدية إلى اجتماعية إلكترونية مصنعة، حولته بمقتضى دوره كمستخدم للأنترنات إلى مبحوث افتراضي رقمي إلكتروني. لذلك أصبح العامل المعلوماتي بما هو ممارسة تكنولوجية اجتماعية ثقافية، محركا جديدا لجدلية التطور المجتمعي الشامل، وذلك من خلال آلية الأنترنات وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
إنّ مجتمع الأنترنات بما هو مجتمع للرقم والإلكترون والمعرفة والثقافة الافتراضية الآلية، قد أتاح لنا رؤية الأشياء من حولنا بشكل نسبي دائري، تشعّبي وتفاعلي يمتد على جميع الاتجاهات. حيث تؤدي كل الطرق إلى نقطة مستقلة يحددها المستخدم بمفرده، إنه بناء جديد للخيال والعلاقات والمعارف الإنسانية بصورة آلية متفاعلة.
وبناء على ذلك فإن علم الاجتماع المختص بالتكنولوجيا المعلوماتية والاتصالية يركز على العمليات الاجتماعية التي تتم من خلال هذه الوسائط، من حيث نشوؤها وحركيتها وتطبيقاتها من أجل التوصل لطرق فعالة لاستكشاف الخيارات التكنولوجية الجديدة.
المراجع:
المراجع العربية:
- أمين العالم، محمود، (1999)، العولمة وخيارات المستقبل، قضايا فكرية للنشر والتوزيع، القاهرة.
- بطوش، كمال، (2007)، “الثقافة المعلوماتية”، بحث منشور عن كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، الجزائر، تم استرجاعه في 2007 – 09 -16 على الرابط: http://www.Cybrarians.info/journal/no5/netclubs.htm
- بن مسعود البشر، محمد، (2008)، إيديولوجيا الإعلام، دار غيناء للنشر، الرياض.
- التليلي، جلال، (2004)، العولمة ووسائل الاتصال، المجلة التونسية للعلوم الاجتماعية. (28)، 23.
- الجليدي، مصدق، (2005)، الديمقراطية المعرفية، العوائق والفرص المتاحة، مجلة الحياة الثقافية، تونس، (169)، 89.
- حيدر، إبراهيم، (1999)، العولمة وجدل الهوية الثقافية، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، مجلة عالم الفكر، (28)، 101.
- خليل، معن، (1997)، نظريات معاصرة في علم الاجتماع، دار الشروق، الأردن.
- رقام، ليندة، (2002)، مشاركة العمال في تسيير المؤسسة الوطنية: واقع وتحديات، مجلة العلوم الإنسانية، جامعة محمد خيضر، بسكرة، (2).
- علي، نبيل، (2001)، الثقافة العربية وعصر المعلومات، رؤية لمستقبل الخطاب العربي، الكويت.
- غربي، علي، نزال، يمينة، (2002)، التكنولوجيا المستوردة وتنمية الثقافة العمالية بالمؤسسة الصناعية، مخبر علم اجتماع الاتصال للبحث والترجمة، قسنطينة.
- المبروكي، حبيب، (2001)، ثقافة المؤسسة وسياقات العولمة، التنشيط والمجتمع مقاربات علمية، سلسلة علوم ثقافية، هيبسكس للنشر، تونس.
- مخلوف، حميدة، (2004)، سلطة الصورة، الطبعة الأولى، دار سحر للنشر، تونس.
- مارشيلو، فيليكس تورا، الميلوي، هشام، (2010)، مصادر وآثار مفهوم الإيديولوجيا عند بول ريكور، بحث منشور في منتدى كلمة للدراسات والأبحاث، تم استرجاعه في 2010 -11 -08 على الرابط: http://www.kalema.net/v1/?rpt=605&art
- اليحياوي، يحي، (2004)، أوراق في التكنولوجيا والإعلام والديمقراطية، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت.
المراجع الأجنبية:
- Birdwhistell, Ray, (1967), la communication non verbale, Encyclopédie des sciences de Lhomme, Kister, Vol5, Paris.
- Lesage, Xavier, Pasquet, Nicolas,)2002(, Pour une lecture complexe et dynamique de la culture d’entreprise: L’agencement individu-Entreprise-Société, Séminaire, Culture d’entreprise et management, Tunis.
- Mac Luhan, Marshall, (1972), la Galaxie Gutenberg face à l’ère de l’électronique, Paris.
4 تعليقات
مقال جيد شكرا…
أبحث عن مراجع حول الاغتراب والاغتراب الثقافي والاجتماعي هل ممكن مساعدة
بريدي الإلكتروني amirabouhadjar.gg30@gmail.com
تحياتي أستاذة أميرة – يمكنك البحث في موقعنا على النت باستخدام أداة البحث في الموقع – الكلمات المفتاحية – الاستلاب والاغتراب – وستجيد ما ينفقعك
الموقع :
watfaali@hotmail.com
ارجو الاطلاع على موقعنا الشخصي
watfa.net
الاغتراب الاجتماعي هو حالة في العلاقات الاجتماعية تنعكس حسب درجة التفاعل أو التكامل الاجتماعي، والقيم، والأخلاق ودرجة المسافة أو العزلة الاجتماعية بين الأفراد، أو بين الفرد ومجموعة من الناس في مجتمع أو بيئة العمل. فهو مصطلح في علم الإجتماع وضع من قبل العديد من المنظرين الكلاسيكيين والمعاصرين، فهو مصطلح له العديد من الاستخدامات والضوابط المحددة،وقد استخدم مصطلح “الاغتراب” على مر العصور بمعاني متنوعة ومتناقضة في بعض الأحيان