ملخّص:
اعتنى وائل حلاّق بمراجعة نتائج أبحاث المستشرقين في تاريخ التشريع الإسلامي، ومسائله الكبرى. ولاحظ أنّها تلتقي في تبخيس الموروث الفقهي الإسلامي، بسبب عدم أصالته، واعتماده على الاستدانة من المدوّنات القانونيّة الأجنبيّة. وقد تركّز عمل حلاّق على نقض الدعاوى الاستشراقيّة، كما تبلورت في أعمال جوزيف شاخت، وفضح عيوبها الابستمولوجيّة المتعدّدة، وكشف خضوعها إلى براديغم المشروع الكولونيالي الغربي. وجاء في خلاصة جهده النقدي أنّ عقدة التفوّق الملازمة لخطاب الاستشراق كانت وراء عجزه عن تقدير ما في الفقه الإسلامي من نقاط قوّة، تتجلّى في استناده على المكوّن الأخلاقي.
الكلمات المفتاحيّة: الاستشراق، حلاّق، الكولونياليّة، الفقه، البراديغم.
Abstract:
Wael Hallaq took a lot of interest in reviewing the researches of the orientalists in the history of Islamic jurisprudence and its domains, and he noticed that they all agreed on misprizing the Islamic Fikh due to its unoriginality and indebtedness to foreign laws.
Therefore, Hallaq’s work focused on refuting the orientalist allegations as described in the works of Schacht, exposing its many epistemological flaws and its compliance with the western colonial paradigm, then concluded that the superiority complex associated with the orientalist discourse impeded the recognition of the upsides of the Islamic Fiqh, which essentially lie in relying on the ethical factor.
1- مقدّمة:
شكّل الخطاب الاستشراقي سلطة معرفيّة مؤثّرة في قضايا الإسلاميّات خلال القرنين الماضيين. وقد نشأت هذه السلطة من نجاعة المناهج الجديدة التي اعتمدها الاستشراق في مراجعة مواد التراث الإسلامي بمختلف عناصرها، أمام سذاجة العقل النقلي المهيمن على القراءات المحافظة عند جانب من الإسلاميين المعاصرين. ولكنّ هذا الصيت الواسع لمتانة البحث الاستشراقي، لم تمنع من بروز تحفّظات متفاوتة على بعض نتائجه. ويعود الفضل إلى إدوارد سعيد في التنبيه لمخاطر التسليم بسرديّات خطاب الاستشراق، فقد كشف أنّ صورة الشرق في هذا الخطاب لا تطابق الواقع، بل هي مجرّد تمثّل غربي للشرق. وهو تمثّل محكوم بقصديّة ذات أوجه متعدّدة.
وقد تردّد نقد الاستشراق في عدد من المباحث المختصّة، كعلم التاريخ عند هشام جعيّط، والنقد الأدبي عند إدوارد سعيد، والفكر السياسي عند عبد الوهّاب المسيري، والفكر الديني عند محمد الطالبي. ومن ضمن هؤلاء، اختار وائل حلاّق مراجعة مسلّمات الاستشراق في باب الدراسات الفقهيّة. وتكمن أهمّية هذا المبحث في أنّه يضمّ تراثا لا يكاد يحصى من مؤلّفات الإسلاميين على امتداد التاريخ، وحول هذا التراث وضع المستشرقون عددا مهمّا من المؤلّفات النقديّة التي صارت بدورها محلّ نظر وتقييم.
وفي نقد نقد الاستشراق، كان الرهان المركزي عند وائل حلاّق يتركّز على مجادلة الباحثين الغربيين في الإسلاميّات، باعتماد الأدوات الابستمولوجيّة ذاتها. واختار التوقّف عند أعمال الأعلام الكبار على غرار جوزيف شاخت Joseph Schacht))، باعتباره المرجع الأوّل في إنشاء السرديّة الاستشراقيّة حول قيمة تراث الفقه الإسلامي. واعتنى كذلك بالردّ على آراء تلاميذه من أمثال باتريشيا كرون (Patricia Crone) وديفيد باورز (David Powers) وغيرهما ممّن ساروا على خطى شاخت وغيره من الباحثين المشكّكين في أصالة الفقه الإسلامي، وفي نجاعته كمنظومة قانونيّة، قياسا بمدوّنات القانون الروماني واليوناني
وضمن مقارباته النقديّة، حرص حلاق على الجمع بين أمرين: أوّلا، نقض دعاوى المستشرقين، وثانيا، تبرير نشوء هذا الفكر بالكشف عن بنيته المؤسّسة. واعتمد في ذلك على التوثيق الدقيق لأفكاره، ومجادلة خصومه في عموم المسائل ودقائقها. وتركّزت أهمّ محاور نقده على ردّ فكرة “المديونيّة” التي كان يردّدها الاستشراق، إثباتا للتفوّق الغربي، وعلى كشف الانتقائيّة الفجّة في التعامل مع أطوار التاريخ الفقهي، بحيث أغفلت المرحلة الوسيطة، على الرغم من وفرة ما ظهر فيها من مصنّفات كثيرة في الفتوى وعلم الأصول. واللاّفت أنّ نقد حلاّق لقصديّة الخطاب الاستشراقي القائمة على عقدة التمركز على الذات، لم يخف قصديّته الذاتيّة أيضا، فقد اصطبغت مقاربته النقديّة بمبادئ تيّار ما بعد الكولونياليّة، المعارض للحداثة ومنتجاتها. وهكذا تتواجه، في حقل الدراسات الفقهيّة، قصديتان: قصديّة استشراقيّة تتذرّع بالعلميّة، وتخفي عنصريّتها وطابعها الاستعلائي، وقصديّة مضادّة تتسلّح بالنقد الابستيمولوجي، ولا تنكر طابعها النضالي ضد الهيمنة الكولونياليّة.
2- فضائح القصديّة الاستشراقيّة في الخطاب التشريعي:
2 -1- الدراسات الفقهيّة، بما هي حقل معرفي:
لمواجهة سرديّات الاستشراق، اختار وائل حلاّق أن يراجع أهمّ أبحاث الغربيين في تاريخ الفقه الإسلامي التي بدأت بالانتشار والتأثير منذ منتصف القرن التاسع عشر. ومن مبرّرات هذا الاختيار تخصّص هذا الباحث في تاريخ التشريع الإسلامي، فقد صدرت له مجموعة هامّة من الكتب والمقالات في هذا الباب على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة[1]. ولكنّ حلاّق يجعل لاختياره هذا علّة أخرى، لها تعلّق أشدّ بموضوع بحثه، وتتمثّل فيما رآه من تركيز خاصّ للأبحاث الاستشراقيّة على مجال التاريخ الفقهي. ويعود هذا الاهتمام الخاصّ إلى الطابع المزدوج: النظري والعملي لمسائل الفقه، خلافا لمباحث العقيدة والفلسفة والتصوّف[2]. ولا يعطي حلاّق مؤشّرا إحصائيا تقريبيا لتأكيد هذه الفكرة التي أنكرها دافيد باورز في مقالة نقديّة، راجع فيها أهمّ عناصر أطروحة حلاّق[3]. ولكنّ هذه الأطروحة لم تكن بلا أدنى سند، فقد أمسك على أحد المستشرقين اعترافه بالأهمّية الخاصّة للمواضيع الفقهيّة/ القانونيّة بالنسبة إلى المسلمين منذ عهودهم المبكّرة. وهذا الاعتراف مقرّر لدى جوزيف شاخت، حيث افتتح أحد أهمّ دراساته التاريخيّة بتأكيد أنّ الفقه يلخّص الفكر الإسلامي، ويشكّل المظهر الأبرز للحياة الإسلاميّة[4]. وإلى نفس هذا التقدير ذهبت باتريشيا كرون، حيث أعادت استخدام عبارة شاخت التي تصف الشريعة الإسلاميّة بكونها “لبّ الإسلام وجوهره”[5]. ومن عوامل تأييد هذا الحكم، ما عاينه الروّاد المستشرقون -أثناء ترحالهم المتواصل- من تأثير قوي لأحكام الشريعة في سلوك المسلمين.
وتقديرا لهذه الأهمّية، تعامل الاستشراق مع الدراسات الفقهيّة بوصفها “حقلا معرفيّا” قائما بذاته[6]. ورأى أنّه ينبغي أن ينسب الفضل في “اكتشاف” هذا الحقل المعرفي، إلى الروّاد الغربيين الذين تناولوا هذا المبحث بأدواتهم المنهجيّة “الموضوعيّة” و “العلميّة” الحديثة[7]. ولم تعط أدنى قيمة لأبحاث المسلمين الكثيرة في هذا المجال، بدعوى افتقادها هذه الصفات الضروريّة في المعرفة الصحيحة. وهكذا استولى الاستشراق على مجال الدراسات الفقهيّة، ليكتسب -لاحقا- سلطة إصدار “الحقائق” التاريخيّة المرتبطة بهذا المبحث.
وإذ لا يخفى -عند حلاّق- ارتباط الاستشراق بالمشروع الكولونيالي الغربي- فإنّه لا يتردّد في التصريح بأنّ الدراسات الفقهيّة تقع في قلب هذا المشروع[8]. وحقيقة هذا الاهتمام الزائد يبرّرها اصطدام سياسة الهيمنة الكولونياليّة بسلطة أحكام الشريعة التي كانت تضبط سائر مظاهر الاجتماع الإسلامي. ولأجل الحدّ من تأثير أحكام الشريعة، تقاطعت نتائج أبحاث المستشرقين في الإلحاح على القول بانقطاع الصلة بين أحكام الشريعة، ونبض الحياة الحديثة للمسلمين. وقد تمّحضت عدّة دراسات لتأكيد حقيقة هذا الانقطاع، وإغراء المسلمين بالعدول عن اعتماد تلك القوانين القديمة. وتظهر نيّة الهيمنة في انتقاء الأحكام الأكثر ارتباطا بأهداف المشروع الكولونيالي، على غرار موضوع الوقف[9]. وقد وثّق باورز نفسه، على نحو جيّد، عناية ثلاثة من الباحثين الفرنسيين بهذا الموضوع. واتّجهت دراساتهم، نحو إظهار تناقض نظام الأحباس الساري في الجزائر مع قواعد الميراث الإسلامي. وتزامن ظهور هذه الأبحاث مع حملة السلطات الاستعماريّة بالجزائر للاستيلاء على الأراضي وإلغاء المحاكم الشرعيّة[10].
وقد اقتضى تكريس الدراسات الفقهيّة “حقلا معرفيا” أن تتجاوز البحوث الاستشراقيّة مثل هذه التحيّزات المكشوفة، والبحث عن أفق أشمل وأعمق لتسطير معالم رؤية نسقيّة متكاملة الأركان لتاريخ الفقه الإسلامي. وبصرف النظر عن طبيعة المقاربات المعتمدة، والنتائج المقرّرة، فقد تشكّل من أعمال المستشرقين -منذ منتصف القرن التاسع عشر- ما سمّاه حلاّق “العقيدة الاستشراقيّة”[11]. واعتبارا لخطورة أركان هذه العقيدة، فقد وجّه حلاّق جهوده من أجل عرض مبادئها، والطعن عليها بما ينقضها ويكشف تهافتها. وبالإمكان تكثيف عناصر مقاربته النقديّة في ناحيتين اثنتين: أوّلا، المبادئ العامّة “للعقيدة الاستشراقيّة”، وثانيا، مرتكزات رؤية جوزيف شاخت لتاريخ الفقه الإسلامي.
2-2- المبادئ العامّة “للعقيدة الاستشراقيّة”:
تعدّدت إشارات حلاّق إلى مختلف جوانب الرؤية الاستشراقيّة لتاريخ الفقه الإسلامي، بل إنّ معالم النظريّة التي صاغها بخصوص هذا المبحث، إنّما ارتكزت بالأساس على آرائه في نقد الاستشراق الفقهي. ولعلّ من أهمّ مميّزات مقاربته النقديّة أنّه نظر إلى الاستشراق بوصفه نسقا/ (براديغم) تامّا، يضمّ تصوّرا شاملا لأهمّ منعرجات تاريخ الفقه الإسلامي، ومميّزاتها الكبرى. وشكّل هذا التصوّر النسقي مرجعيّة مشتركة لأجيال المستشرقين، عدا قلّة منهم، وهذا ما سمح لحلاق بالحديث عمّا سمّاه “العقيدة الاستشراقيّة”.
وكان من أبرز ما أثار اهتمام حلاّق في هذا البراديغم الاستشراقي، اتّسامه بالطابع الانتقائي المكشوف في التعامل مع تاريخ الفقه الإسلامي. وعلامة ذلك أنّ المستشرقين صرفوا كلّ اهتمامهم إلى دراسة فترتين اثنتين من هذا التاريخ: المرحلة التأسيسيّة قديما، والمرحلة الإصلاحيّة حديثا. ووفق هذا التقدير امتدّت الفترة الأولى على مدى القرون الثلاثة الأولى لظهور الإسلام، في حين بدأت المرحلة الإصلاحيّة مع منتصف القرن التاسع عشر للميلاد. أمّا الفترة الممتدّة بين هذين التاريخين، والتي تقدّر بحوالي ثمانية قرون، فلا تكاد تذكر في أبحاث الاستشراق، وظلّت بذلك “أرضا مجهولة”[12]. ولا يتأخّر حلاّق في كشف السرّ وراء هذه الانتقائيّة، فالذي يجمع بين الفترتين التأسيسيّة والإصلاحيّة أنّهما شكّلتا لحظة تقاطع مع الثقافة الغربيّة، أي الثقافة الرومانيّة قديما، وثقافة الأنوار الأوروبيّة حديثا[13]. وخلال هذا اللقاء، كان الفقه الإسلامي يجد في القوانين الغربيّة خير ملهم، يستمدّ منه قواعده وأحكامه. وهكذا تبلورت فكرة “مديونيّة” الفقه الإسلامي للمنظومات القانونيّة الأجنبيّة، والغربيّة على وجه التحديد.
وقد لاحظ حلاّق أنّ الاستشراق اعتمد في تأسيسه للدراسات الفقهيّة كـ “حقل معرفي” على مصطلحات محدّدة تكرّس تبعيّة هذا الميدان، على غرار: “يستدين”، “يقترض”، “يقتبس”[14]. وبمقتضى هذه المقاربة تكون “الشريعة عبارة عن القانون الروماني في ثوب عربي”، بحسب عبارة شلدون آموس (Sheldon Amos). وقد تورّط في هذا الادّعاء الاستعلائي طائفة هامّة من أبرز المستشرقين من أمثال فون كريمر (Alfred Von Kremer) وكارل هنريش بيكر Carl Heinnish) (Beaker واجناس جولد تسيهر (Ignaz Goldziher) وويلي هفينج (Willi Heffening) وجوزيف شاخت وغيرهم[15]. ولكنّ فكرة المديونيّة لم تكن تستند على أساس متين، بدليل إغفال روّاد الاستشراق الأوائل من أمثال نللينو (Carlo Nallino) وادوارد ساخو (Edward Sachau) لمثل هذا الادّعاء، وهما أرسخ قدما في معرفة ثقافات الأمم القديمة، وخاصّة القانون السرياني. ووجد حلاّق في أعمال باتريشيا كرون النموذج الأوفى للتعبير عن هذا التيّار المتمسّك بفكرة الاستدانة. وجاء في تعليله لاختيار كرون نموذجا يستعرض من خلاله سرديّة الاستشراق بخصوص تبعيّة الفقه الإسلامي، أنّها قدّمت أوفى تلخيص لبحوث المستشرقين. وكانت شديدة الحماس لتأكيد فكرة “الاستدانة” حتى أنّها ألقت باللوم على سابقيها، كشاخت ونالينو وساخو لأنّهم لم يستثمروا كلّ معارفهم لإظهار هذه التبعيّة على نحو أوضح[16]. وكان لها من الجرأة أنّها صرّحت في العلن، بما كان يتداوله غيرها على موائد الغداء في الندوات العلميّة. ومن أجل تسويغ فكرة الاستدانة، اتّبعت كرون قول شاخت في أنّ نشأة الفقه الإسلامي تمّت خارج الجزيرة العربيّة، غير أنّها خالفته بالقول إنّ سوريا كانت الموطن الأوّل لظهور الفقه، وليس الهلال الخصيب كما ذهب إلى ذلك شاخت. وقد تمحّض كتابها الموسوم ب “خليفة الله، السلطة الإسلاميّة في العصور الأولى” لإقامة الدليل على أنّ خلفاء بني أميّة كانوا وراء تأسيس هذا القانون الإسلامي، بفضل ما استفادوه من القانون الإقليمي في سوريا، المتأثّر بدوره بالقانون الروماني. وذهبت في مؤلّف آخر إلى القول بأنّ المسلمين استعاروا نظام الولاء، وبشكل أدقّ نظام المكاتبة -التي تنظّم علاقة المعتق بالمعتق في أحكام الرقّ- من المنظومة الإقليميّة للبارمونيّة (Paramone) السائدة على تخوم الحدود الرومانيّة[17]. وأكّدت كرون أنّ تأثير هذه المنظومة كان أشدّ وأعمق في الأحكام الإسلاميّة من التقاليد الجاهليّة المتوارثة في هذه الناحية. والسرّ في جاذبيّة القانون الإقليمي ذي المؤثّرات الرومانيّة، أنّه كان قانونا متطوّرا في بيئة حضاريّة راقية، ولذا لم يتردّد المسلمون القادمون من جزيرة العرب في اقتباس هذه الأحكام[18].
وخلال عرض هذه الآراء، كان حلاّق يردّ على كلّ مسألة بما ينقضها، ويظهر تهافتها. وفي نقد نتائج أبحاث كرون، لاحظ ضعف الأدلّة المعتمدة في القول باستعارة نظام الولاء، مؤكّدا أنّ الفارق بين منظومة الأحكام الرومانيّة والقوانين الإسلاميّة يستبعد أدنى فرصة لوجود الاقتباس[19]. ولولا نبرة الاستعلاء الواسمة للخطاب الاستشراقي، لما اتّهم المسلمون بالعجز عن وضع قانون أخلاقي كقانون الولاء. وإلى ذلك فإنّ المسلمين المنتشين بانتصاراتهم لا يمكنهم التنازل لاستعارة قوانين الأقوام الذين هزموهم[20]. أمّا بخصوص الزعم بانقطاع الصلة بين سوريا وجيرانها العرب من جهة الجنوب، فلا يقوم عليه دليل صلب. ومثل هذا القول منشؤه -عند حلاّق- الجهل بخصائص العلاقات الدوليّة في تلك المنطقة قديما. وفي هذه الناحية، يتّسع ردّ حلاق ليشمل دعوى شاخت كذلك، في قوله باستدانة المسلمين قانونهم من العراق، بعد أن تسرّب إلى هناك عبر الثقافة اليونانيّة. ومؤدّى هذا الردّ، أنّ الجزيرة العربيّة لم تكن معزولة عن محيطها الاقليمي من جهتي العراق وسوريا على حدّ السواء. وقد استند حلاّق -في تبرير هذا المعنى- على نتائج الأبحاث الأخيرة حول تاريخ هذه المنطقة، وخاصّة ما تعلّق بتاريخ الهجرات والتجارة والإيلاف، التي تثبت قوّة الصلات بين الجزيرة العربيّة وما حولها من أقاليم مجاورة، تمتدّ حتّى شمال افريقيا. وترتبط هذه المنطقة الواسعة بثقافة الشرق الأدنى، وكانت تحتكم إلى قانون هجين يضمّ آثارا لعناصر متعدّدة ساميّة وبابليّة ورومانيّة[21]. وهكذا اتّسمت معظم نتائج أبحاث كرون بعدم الدقّة، الناتجة عن الجهل وقلّة الاطلاع على المعطيات الخاصّة بتاريخ هذه المنطقة[22]. وقد سبق لهشام جعيّط أن أزرى بالقيمة العلميّة لأعمال كرون التي “لاتمثّل سوى عدم الشعور بالمسؤوليّة العلميّة… بل هو علم خيالي”، وكان يعلّق بذلك على كتابها “هاغاريسم” Hagarism[23]. أمّا محمّد إقبال فقد قلب اتّجاه “المديونيّة”، ولاحظ أنّ أوروبا مدينة لحضارة المسلمين ولعلومهم، غير أنّها لم تعترف بدينها إلاّ في مرحلة متأخّرة نسبيا[24]. وقد ردّ حلاّق هذه الأخطاء العلميّة الى عقدة الاستعلاء والعداء للأجانب، فقد كانت كرون تودّ -بحسب حلاّق- لو بقي العرب في جزيرتهم، ولم يتوسّعوا خارجها على ذلك النحو الذي تسبّب في كثير من المشاكل للإنسانيّة[25]. وإذا كان الردّ على مثل هذه الأحكام العنصريّة التي تبخس المسلمين وموروثهم الفقهي ميسورا، باعتبار عدوانيّتها الظاهرة، فإنّ الأمر يكون أكثر تعقيدا عند مراجعة “نسق” شامل، ينسب نفسه إلى “المنهجيّة العلميّة”، على غرار ما جاء في أعمال شاخت.
2 -3- تدمير قلعة شاخت:
مثّلت أبحاث شاخت حول الفقه الإسلامي مرجعيّة مركزيّة في الحقل الاستشراقي، وتعود هذه المكانة بحسب حلاّق إلى جملة من العوامل، أهمّها أنّه ألّف كتبه باللّغة الإنجليزية ولكن بحسب التقاليد العلميّة الألمانيّة. ومنها أيضا أنّ آراءه بخصوص الفقه الإسلامي، جاءت موافقة لمسلّمات الاستشراق عامّة. والمسلّمة المركزيّة لدى المستشرقين المهتمّين بالتفكير التشريعي الإسلامي تدور حول نشأة الفقه وأصوله، وتؤكّد -مثلما تقدّم مع كرون- فضل “الاستدانة” عليه.
ويرجع الفضل الأوّل إلى شاخت في صياغة ملامح “المعتقد الاستشراقي” كاملا، وأوّل مبادئه القول بتأخّر ظهور الفقه إلى ما بعد وفاة النّبي بقرن من الزمان. وخلال هذه الفترة كان يجري العمل بالأعراف الشعبيّة المتداولة، إلى جانب “قانون الخلفاء” من بني أميّة. وقد أنكر هذا المستشرق كلّيا -ودون دليل- الوجود التاريخي لفقهاء المدينة، ورغم انتباهه إلى أهمّية ما أسماه “السنّة العربيّة”، فإنّه قد أغفل دورها في إنتاج قوانين محلّية في الحجاز وما حولها. وذهب إلى أنّ ولادة الفقه كانت في البصرة والكوفة،ب الاستعانة بمدوّنة الأحاديث النبويّة التي تأخّر ظهورها إلى نهاية القرن الأوّل[26]. وأخذ شاخت برأي جولد تسيهر في القول بأنّ كلّ الأحاديث موضوعة، حتى يثبت العكس[27]. ورغم سلطة آراء شاخت، فإنّ مذهبه في التأريخ لظهور الفقه كان محلّ طعن من داخل الدائرة الاستشراقيّة ذاتها[28]. وأمّا حلاّق فقد ردّ أطروحة شاخت بنسبتها إلى اللاّمنطق، إذ كيف يصحّ القول بالانتقال من قانون الخلفاء في القرن الأوّل إلى قانون الفقهاء في ما بعد، من دون حصول تمهيدات هيّأت لهذه النقلة، وجعلتها ممكنة. ولذا ففقهاء القرن الثاني ليسوا سوى ورثة أسلاف لهم من الفترة السابقة. وما كان لشاخت -بالتأكيد- أن يقبل القول بالظهور المبكّر للفقه، لأنّه سيثبت بذلك أصالته، وينسف أطروحة “الاستدانة “المحبّبة لدى العقل الاستشراقي.
ولتأكيد حالة الفراغ التشريعي في المرحلة الإسلاميّة المبكّرة، اخترع شاخت فكرة “المدارس الفقهيّة الجغرافيّة”، أي أنّ التشريع كان يكتسي طابعا محلّيا، ومن دون أن ينتسب إلى مرجعيّة دينيّة موحّدة. ومن أجل تسويغ القول بالتطوّر التدريجي لهذا التفكير القانوني الناشئ، اعتبر أنّ المدارس الجغرافيّة القائمة خلال القرن الثالث، تحوّلت في القرن التالي إلى مدارس “مذهبيّة”، قائمة على الولاء لإمام ذي تأثير واسع[29]. هذا التبويب لمنعرجات التاريخ الفقهي في القرون الأولى وصفه حلاّق ب “الحمق”، المبني على خيالات. والأصحّ عنده أنّ ما اعتبره شاخت “مدارس فقهيّة”، هي أقرب ما يكون إلى “المدارس الشخصيّة”، والتي تطوّرت لاحقا إلى معتقد منهجي وتأويلي وابستيمي عامّ، تضاءل فيه دور الإمام المؤسّس[30].
ومن ركائز النسق التأريخي لشاخت، نسبة التأسيس الفعلي للفقه الإسلامي إلى الشافعي. وهذا الرأي موافق لسرديّة المؤرّخين المسلمين بهذا الخصوص. وفي رأيه أنّ ظهور كتب الصحاح ليس سوى انعكاس لنجاح الشافعي في الرفع من حجّية الحديث النبوي ومنزلته في وضع القواعد التشريعيّة. وقد ردّ حلاّق هذه الدعوى، مبيّنا أنّه لم يعرف عن الشافعي اهتماما بالحديث زائدا عمّا عرف لدى غيره. ودفع كذلك ما قيل عن بلوغ الدراسات الفقهيّة عصرها الذهبي مع هذا الفقيه، وأنّه انحدر بعده مباشرة ليدخل في طور الجمود الطويل. والحقيقة عند حلاّق أنّ إسهام الشافعي أدنى بكثير من إسهامات أعلام كبار كالجويني والغزالي والرازي والنووي. ولم يبدأ الإنتاج الفقهي في التراجع إلاّ بعد وفاة الشافعي بأكثر من قرنين من الزمان. أمّا دعوى غلق باب الاجتهاد التي روّج لها الاستشراق لتبخيس الفترة الوسيطة من تاريخ الفقه الإسلامي، بسبب انقطاع الصلة بينها وبين القوانين الأوروبيّة، فلا تصمد أمام الأدلّة التي تؤكّد استمرار صدور الفتاوى والأحكام عن المجتهدين طيلة الفترة اللاحقة[31].
وعلى هذا النحو تتبّع حلاّق بالنقد الصارم سائر آراء شاخت الواردة في كتابيه الأكثر شهرة في دوائر الاستشراق، وحتى خارجها[32]. وانتهى إلى نقض سائر مكوّنات هذا النسق الاستشراقي المهيمن، بعد أن كشف خلفيّاته الاستعلائيّة. وقد وصف باورز -بحقّ- بأنّ مجمل أعمال حلاّق كانت تحاول نسف القلعة الفكريّة لشاخت التي يدور حولها البحث الاستشراقي منذ ما يزيد عن قرن ونصف من الزمن الحديث[33]. ومن المؤكّد أنّ نسقا بهذه القدرة الواسعة يحوج إلى محاولة تفهّم عوامل قوّته التي يمكن التماسها في خلفيّته الثقافيّة، وفي رهاناته الكبرى، وفي آليّات اشتغاله. وهذا ما تصدّى له حلاّق، بكثير من التوسّع في عدد من مؤلّفاته.
3- أصول القصديّة الاستشراقيّة وخلفيّاتها:
3 -1- جينالوجيا الاستشراق:
كان السؤال الأساسي الذي أثاره حلاّق، بعد عرضه للمبادئ الكبرى المؤسّسة لـ “لمعتقد الاستشراقي”، يتّصل بطبيعة البنية الفكريّة التي أنتجت الاستشراق الفقهي، أي النظر في الأصول الأورو-أمريكيّة العميقة المولّدة لهذا “البراديغم” الفكري. وبمواجهة البحث في هذه السؤال المركزي، كان حلاّق يستدرك ما أغفله إدوارد سعيد في تفكيكه الرائد لبنية الاستشراق[34]. ولتحصيل جواب عن هذا السؤال المتروك، اعتمد حلاّق على بعض مبادئ علم اجتماع المعرفة، وبعض الحقائق الفلسفيّة، لإلقاء الضوء على ملابسات ولادة الاستشراق. وقد انطلق من ملاحظات ماكس شيلر (Max Scheler) القائلة باختصاص كلّ مجموعة بشريّة ببنى معرفيّة محدّدة، وقيمة تلك البنى في تشكيل قبليّة معيّنة لأفرادها، منها تتولّد الأعراف والاتّجاهات. ولأجل ذلك حظيت التنشئة الاجتماعيّة بعناية بالغة عند علماء الاجتماع. وتأكيدا لقوّة أثر التنشئة، اعتبر شيلر أنّه لا يوجد “أنا” من دون وجود “نحن”، وتكون “نحن” دائما مزوّدة بمضامينها قبل “أنا”. وتأييدا لهذا الاتّجاه، قرّرت أبحاث علم اجتماع المعرفة أنّ تداول منظومة أفكار محدّدة ضمن مجموعة بشريّة ما، يمنع من ظهور أفكار لا يتقاسمها أعضاء تلك المجموعة، ما يعني صعوبة نشوء وجهات نظر جديدة، ومنبتّة عن سياقها[35]. ولدى المتأخّرين من علماء الاجتماع، يلعب عامل اللغة دورا مركزيا في إنتاج أنماط معرفيّة مشتركة، وهي تؤطّر المبادئ والقيم التي ينبغي أن يتقاسمها الأفراد داخل المجتمع الواحد.
وضمن كلّ مجتمع، يجري توزيع المعرفة المشتركة عبر المؤسّسات القانونيّة والتعليميّة والصحّية وغيرها. وهذا التوزيع لا يحصل على نحو عادل، بدليل منع فئات معيّنة من تحصيل معارف بذاتها، من أجل احتكار القوّة والهيمنة. وقد سبق إلى التنبيه على هذا الحيف مفكّرون، على غرار ماركس ونيتشه وفوكو وغيرهم. والإضافة الهامّة التي جاء بها شيلر تتمثّل في كشف الميول الشديدة نحو الهيمنة في نسق المعرفة الغربيّة الحديثة[36]. وهكذا تحدّدت وجهة هذه المعرفة بغايتها النفعيّة، وهو ما كان يقتضي الضبط والهيمنة، كما سيبيّنه فوكو لاحقا.
واستخدمت كتابة التاريخ -مثل فروع المعرفة الأخرى- في تكريس الهيمنة، مع بداية عصر التنوير، واكتسب المؤرّخ الصفة الحصريّة للكتابة عن الآخر، عبر التمثّلات وإعادة التشكيل. وأدّت هذه العمليّة إلى التمييز بين تاريخين: تاريخ “الكماليّة اللامتناهيّة للجنس البشري”، وهو التاريخ الأوروبّي، والتواريخ الهامشيّة التي لا دور لها سوى التمهيد للتاريخ الكلّي، وهي تواريخ الشعوب غير الأوروبيّة.
وقد ارتبطت رؤية العالم الغربيّة، المتمركزة على ذاتها، إلى جانب مقولة التقدّم التي جسّدها التاريخ الأوروبّي، بمبدإ جديد يتمثّل في الفصل بين الحقيقة والقيمة. ومقتضى ذلك أنّ فكرة الهيمنة لم تعد مقصورة على الطبيعة، بل تجاوزتها إلى الإنسان. وكانت آراء الفلاسفة الميكانيكيين قد مهّدت لهذه الأفكار منذ مطلع عصر الأنوار، بدعوتها إلى اعتبار الطبيعة “بليدة” و “متوحّشة”، وهو ما يعني التعامل معها بدون ضوابط أخلاقيّة[37]. وبلغ هذا الاتّجاه حدوده القصوى مع نيتشه في اعتباره أنّ نموذج “ما يجب أن يكون” فارغ بلا مضمون، في مقابل امتلاء نموذج “ما هو كائن”[38]. ولاحظ حلاّق أنّه -ضمن هذا النموذج الأخير- جرى استثمار المعرفة لتكريس القوّة وبسط الهيمنة على أوسع نطاق[39]. ومن الواضح -عند هذا الباحث- أنّ المشروع الكولونيالي الأوروبّي الحديث كان مدفوعا بهذه المبادئ التي تكرّس الهيمنة والسيطرة، من دون رادع أخلاقي. وكان هذا السياق، المدجّج بابستميّته العنيفة، المحضن الذي نشأ فيه الاستشراق، وتشكّل نسقه المغلق[40].
3 -2- براديغم الاستشراق:
أكّد حلاق أنّه لا معرفة علميّة من دون براديغم، ويرتبط كلّ براديغم بثقافة محدّدة. والاستشراق، بما هو حقل معرفي، كان يتوفّر على خصائص البراديغم. ولا يمكن لأحد أن ينكر أنّ الاستشراق له موضوعه (الإسلاميّات)، ومختصّوه (أكاديميّون وخبراء)، وله جهاز مشرف (جامعات/ مراكز أبحاث)، وسلطة تمويل (الحكومات)، ويجري العمل وفق أهداف محدّدة (مصالح الحكومات)[41]. ومن البديهي أن يتطبّع براديغم الاستشراق بخصائص بنية التفكير الأوروبي الأمريكي ذي “الميل” الصريح نحو الهيمنة والسيطرة، باستخدام سلاح المعرفة. وهكذا نهضت ابستمولوجيا الاستشراق بدور الوكيل التنفيذي لمشروع الهيمنة الغربيّة. وعدّد حلاّق أسماء بعض من تورّطوا في هذا الدور، على غرار: السير وليم جونز (Sir William Jones)، وسنوك هورخورنيه(Snouk Hurgronje)، ومارسال موراند وجوزيف شاخت[42]. واعتبر أنّ المستشرق المنخرط في “بزنس” البحث العلمي، قد لا يكون واعيا بأنّه يشتغل ضمن براديغم معرفي يعكس مرجعيّته الثقافيّة، ويؤدّي دورا محسوبا ضمن مشروع الهيمنة الكولونياليّة[43]. والتورّط في مثل هذا “البزنس”، ينكشف بمراجعة جانب من السيرة المهنيّة لرائد الاستشراق الفقهي -شاخت-الذي كان تواطؤه واعيا، إذ لم تكن تخفى ارتباطاته الواضحة بالسياسة الكولونياليّة الانجليزيّة (اشتغل في وكالة التجسّس البريطانيّة إبّان الحرب العالميّة الثانية، وقدّم محاضرات لشركة أرامكو في كلّية هارفارد للحقوق بأمريكا، وعمل لفائدة بريطانيا في الأقاليم النيجيريّة المحتلّة، وقدّم محاضرات عن الفقه الإسلامي في كلّية الحقوق بالجزائر زمن الاحتلال الفرنسي)[44]. وكان عبد الله العروي قد سبق حلاّق وادوارد سعيد إلى كشف ارتباطات بعض الأبحاث الاستشراقيّة بالمخطّطات الامبرياليّة لقوى الهيمنة الغربيّة[45].
وقد أخذ باورز على حلاّق وضعه جميع المستشرقين في دائرة الاتّهام، ولم ينصف المنصفين منهم. وردّا على هذا المأخذ، أكّد حلاّق أنّه ضمن ضوابط هذا البراديغم الاستشراقي، لا يعتدّ بالفروق الممكنة بين مستشرق وآخر، رغم ما قد يكون لدى بعضهم من نوايا حسنة. وهذا الموقف عائد إلى اعتقاده بخضوع كلّ الإنتاج الاستشراقي إلى البراديغم العامّ للابستيميّة الغربيّة المهيمنة، والتي تشكّل شبكة ابستمولوجيّة مغلقة، لا يمكن الخروج عليها. ولكنّ هذه الصورة القاتمة التي رسمها حلاّق عن الاستشراق لم تمنعه من الإقرار بوجود بعض المزايا في أبحاث بعض المستشرقين المتأخّرين، من أمثال جوهانسن (Baber Johansen) وجربر (Haim Gerber)، إلى جانب كلّ من موتسكي وباورز[46].
والتهوين من دور الأفراد -سواء كان إيجابيا أو سلبيا- غايته حصر الاهتمام في البراديغم المؤثّر، وهو الاستشراق ذاته. وفي تفكيك طبيعة اشتغال هذا الجهاز الجبّار (أكاديميون، ومؤسّسات، وحكومات ذات مصالح حيويّة)، كان إدوارد سعيد قد عرض توصيفا دقيقا لأوهام القوّة التي تستبدّ بالعقل الاستشراقي، وذلك في قوله: «كان المستشرق الحديث يرى نفسه بطلا ينقذ الشرق من العتمة والاغتراب والغرابة، ويرى أنّه هو الذي نجح في إدراك ذلك، فبحوثه أعادت ما فقد من لغات الشرق، ومن أخلاقه وطرائق تفكيره»[47]. وقد استعاد حلاّق ذات التوصيف، مؤكّدا أنّ الاستشراق، إذ كتب عن “الشرق،” فإنّه – في الحقيقة- قد كتب “الشرق”، من موقع بعيد ماديّا ومعنويّا عن الشرق الحقيقي[48]. ومن البديهي ألاّ ينتج عن هذا التشكيل الخارجي سوى صور مشوّهة للشرق، تكرّس الهيمنة عليه وتمحو مقوّماته الذاتيّة الحقيقيّة، تحت عناوين التحديث والتقدّم والعلم.
ومن تلك الصور المزيّفة -في مشهد إعادة التشكيل-ادّعاء “مديونيّة الفكر التشريعي الإسلامي” للمنظومات القانونيّة، ذلك أنّ عقدة الاستعلاء الاستشراقي، لا تبقي مجالا للإقرار بأنّ ثقافة غير أوروبيّة يمكن أن تنتج منظومة قانونيّة متطوّرة وشاملة، كمنظومة الفقه الإسلامي[49]. والأهمّية الخاصّة التي اكتسبها فرع الاستشراق الفقهي، تعود إلى قيمته الوظيفيّة في تحقيق أهداف مشروع الهيمنة، فهو الوسيلة المثلى لوضع النظم الملائمة للسيطرة على الأسواق في المستعمرات الإسلاميّة، والاستيلاء على الأراضي والعقارات (حالة الجزائر نموذجا). ولكنّ الأخطر من ذلك أنّ القانون يساعد أيضا في ضبط الذات، ويعيد صياغة كيانها على هيئة جديدة، تصبح معها خاضعة وسهلة الانقياد[50].
والاستشراق -بوصفه من ثمار ثقافة التنوير الغربي- يؤسّس نتائجه على مقتضى انفصال الحقيقة عن القيمة، ولا يلقي أدنى اهتمام للجوانب الأخلاقيّة. ومثل هذا التقدير مصادم للجوهر التكويني للفقه الإسلامي، وللتراث الروحي الذي يستمدّ منه مبادئه وموجّهاته. فقواعده لم تكن “تفرض نفسها على الأخلاق الاجتماعيّة، وإنّما كانت تدلّ عليها وتروّج لها وتدعو إليها”[51]. ولأجل هذه الخاصيّة الأخلاقيّة، تدخّل المشروع الكولونيالي في المرحلة الحديثة لتدمير نموذج الشريعة، لأنّ بقاءها يتعارض كلّيا مع شهوة الهيمنة الراسخة فيه.
ولم يكن الاستشراق -عند حلاّق- حقلا معرفيا محايدا، مجرّدا من القصديّة، وما كان له أن يكون كذلك، مهما خلصت نوايا أجيال الباحثين فيه، ذلك أنّ تشكّله ضمن محضن ابستيمي ميّال إلى الهيمنة، بعيدا عن المقتضيات القيميّة، فرض -بشكل مسبق- النتائج المطلوبة. ولا شكّ أنّ أدنى ما يقتضيه الإنصاف العلمي هو كشف تهافت هذا البراديغم الهيمني، وفضح مضمراته الخطيرة. ولم تكن مجمل أعمال وائل حلاّق سوى حلقة في سلسلة أبحاث ذات طابع ابستمولوجي نضالي، ضمن ما يعرف بتيّار ما بعد الكولونياليّة، وهو تيّار لا يخفي قصديّته المقاومة لمنوال الهيمنة الغربيّة.
4- القصدية المضادّة: كفاح ابستمولوجي:
4 -1- رهاب إبستمولوجيا الأجانب:
لا ينكر حلاّق معارضته الشديدة لسرديّة الاستشراق، وقد عبّر عن ذلك بصيغ متعدّدة في سلسلة كتاباته منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي. واكتسى نقده في بعض الأحيان طابع الحدّة الذي لا تستسيغه أعراف البحث العلمي، ولم يخف بعض الباحثين الغربيين ضيقهم بهذا الأسلوب العنيف، القائم على “ازدراء” المستشرقين و”السخرية” منهم و “الغلوّ في مهاجمتهم”[52]. ومن المؤكّد أنّ الاستشراق لم يتعوّد على تلقّي طعون، تنطلق من ذات الأرضيّة الابستمولوجيّة التي يزعم ملكيّتها الحصريّة، ولم يتعوّد أعلامه على أن يوسم كتاب أحدهم مثلا -من جانب باحث شرقي- بأنّه «مشوّش وضعيف منهجيا، وبالتأكيد خطوة في الاتّجاه الخطأ»[53]. ولكنّ التشنّج الذي قد يخالط أحيانا كلام حلاّق، لم يكن سوى ردّ فعل على عدوانيّة أكاديميّة تجاه كلّ معارض لأطروحاتها عن العالم الإسلامي، والشرق عموما. ومعلوم أنّ بعض الاتّجاهات الفلسفيّة الغربيّة قد أقرّت بمدى تورّط الأكاديما عامّة في تكريس خطّ الهيمنة داخل أوروبّا ذاتها[54]، فكيف لا يكون تآمرها أعظم خطرا خارج المجال الأوروبّي؟
تقدّمت الإشارة إلى أنّ من مسلّمات حلاّق أنّ الاستشراق براديغم مغلق، قائم على ادّعاء حصريّة المعرفة “الموضوعيّة” الشاملة بخصوص الدراسات الإسلاميّة. ومن خصائص هذا البراديغم أنّه محصّن على نحو جيّد، فالمنتسبون إليه يتناصرون بشكل يؤمّن عدم المساس ب “حقائقه العلميّة”. وكان من أدوات حماية “قلعة الاستشراق” التصدّي لكلّ الأبحاث التي تشكّك في صحّة مسلّمات هذا الحقل المعرفي. وتنهض ردود باورز على نقد حلاّق لشاخت دليلا على قوّة هذه المناصرة[55].والحجّة المعلنة في محاربة معارف “الأجانب” ومحاصرتها، أنّ “الشرقي” لا يمكن أن يكون سوى موضوع للدراسة، إذ لا يسع المرء أن يكون الدارس وموضوع الدراسة في الآن ذاته[56]. وإذا استبعدنا الدوافع العنصريّة التي تستهين بالآخر، وترى أنّ «التابع ليس له أن يتكلّم»[57]، فإنّ في حجج الاستشراق ما يحيل على مظنّة عدم الحياد، والتأثّر برواسب الانتماء في دراسات الشرقيين. ولم يخف باورز ما رآه تحيّزا في آراء حلاّق حول القرآن، لأنّه لم يكن يرى شبهة حول تدوين القرآن، ويعتبر أنّ معانيه شفّافة، ولا توجب نقدا أو تشكيكا[58].
وقد عرض حلاّق، بالفعل نماذج متعدّدة من أشكال التمييز السلبي الذي يواجه به خصوم الاستشراق. ومن ذلك حديثه عن كتاب محمّد مصطفى أعظمي الذي قابله الغرب بالتجاهل التامّ، بالرغم من الآراء الجادّة التي تضمّنها. ويعود هذا الموقف السلبي إلى تعرّض هذا الباحث بالنقد لأطروحات شاخت، وهو ما لا تقبله سنن التناصر الاستشراقي، خاصّة إذا تعلّق الطعن بالمرجع الأوّل في الاستشراق الفقهي[59]. واستشعر حلاّق نفسه حالة العداء التي تحاصره سواء في الملتقيات العلميّة، أو عند عرض آراء جديدة، مخالفة لثوابت “المعتقد الاستشراقي”. وأقرّ باورز نفسه بالضغوط التي كان عبّر عنها حلاّق في بعض كتاباته، ولم يحاول التشكيك في دوافعها[60]. وبالفعل فقد عدّد حلاّق أسماء طائفة من الباحثين الغربيين الذين كانوا لا يخفون مواقفهم السلبيّة من آرائه، ومن ضمن هؤلاء باوزر نفسه. وكان من علامات شدّة التوجّس من العنف الأكاديمي توقّع المكائد، مغلّفة في قوالب المديح والتمجيد، وهذا ما عبّر عنه حلاّق، حين رأى في ثناء باورز عليه نوعا من لفت الانتباه إليه، والتحريض الخفّي عليه[61].
والرقابة الشديدة التي تحرس قلعة الاستشراق لم تكن تعدم الوسائل المناسبة لإدانة المناوئين لها، وتسفيه آرائهم مهما بلغت من الوجاهة والدقّة. ومن ذلك أنّ المسيحي العربي -من أمثال وائل حلاّق وإدوارد سعيد- الناقد للاستشراق، والذي لا يمكن اتّهامه بالتعصّب للإسلام، يكون الطعن فيه بحجّة الولاء لانتمائه العربي[62]. ولأجل هذا لا يتردّد حلاّق – عند تشخيصه النقدي لإرادة الهيمنة الأكاديميّة الغربيّة- في تأكيد أنّ “الرهاب المرضي من ابستمولوجيا الأجانب في الاستشراق يبقى فعّالا حتى اليوم”[63]. وهذا ما يوجب التصدّي له بابستمولوجيا مضادة، تنقض دعاوى الهيمنة، والتأسيس لبراديغم بديل.
4 -2- براديغم ما بعد الكولونياليّة:
لم ينكر حلاّق وصف باورز له بأنّه مناهض للاستشراق، ولكنه اعتبر خطابه النقدي، لا يقف عند حدود نقض أطروحات الاستشراق الفقهي، بل هو متجاوز له بما يقدّمه من آراء تصحيحيّة بديلة[64]. وتستند هذه المواقف على خلفيّة معارضة لأفق الأنوار الغربيّة، وللمشروع الكولونيالي الذي انبثق عنها لاحقا لتكريس عقيدتها في السيطرة على الطبيعة والإنسان. وفيما يبدو أنّه ردّ على مقالة برنارد لويس حول “جذور الغضب الإسلامي”[65]، ردّ حلاق بقوله: «يخبرنا القرن فيما بين 1870 و1970 عن قصّة تغريب كبير، حيث تعرّض المسلمون لعمليّة من الإفقار أوّلا في قيمهم الدينيّة ـ وثانيا في ثقافتهم الأصليّة القديمة التقليديّة»[66]. ومن أبرز مظاهر هذا العدوان استبعاد منظومة القوانين الإسلاميّة التي ظلّت حافظة للسلم الأهلي على امتداد قرون.
وإذ سخر الاستشراق ممّا أسماه “أخلاقويّة” الشريعة الإسلاميّة بوصفها بنية مثاليّة، غير مؤهّلة للتنظيم والضبط الاجتماعي، ودون كفاءة القوانين الوضعيّة الحديثة[67]، فإنّ الدراسات الحديثة التي اعتمدها حلاّق، تؤكّد -على العكس- الكفاءة العالية لقواعد الشريعة. وأدنى مزايا قواعدها أنّها تؤمّن “الانصياع الطوعي للأحكام”، وتعدّ «أقلّ إكراها من أيّة كنيسة، أو أيّ قانون امبريالي أنتجته أوروبا منذ انهيار الامبراطورية الرومانيّة»[68]. وفي كتاب “الدولة المستحيلة” وجّه حلاّق نقدا شديدا لنموذج الدولة الحديثة، لعجزها عن تحقيق السعادة للإنسان، مقابل “إنسانيّة” نماذج الحكم فيما قبل الحداثة، وفي مقدّمتها نموذج حكم الشريعة الذي شهدته التجربة الإسلاميّة[69]. واللاّفت في هذا الموقف أنّه يعيد الاعتبار للنماذج التقليدّية على حساب النموذج المهيمن اليوم، أي نموذج الحداثة الذي ازداد ضراوة -في الآونة الأخيرة- مع العولمة. ويستند هذا الرأي إلى رؤية تيّار ما بعد الكولونياليّة، المناهض بقوّة لمنتجات عصر الأنوار، ذات الطابع الاستعلائي العنيف. ومن عناصر الاعتراض على مسلّمات الحداثة، التعريض بمبدإ التقدّم الذي يزعم التمرّد على الماضي. والعيب في هذا المبدأ أنّه يقتصر على معالجة العلل الكامنة في جسد الحضارة الحديثة، غير أنّه لا يلتفت مطلقا إلى محاولة البحث عن أسباب ظهور الداء أصلا. ومردّ هذه الغفلة إلى أنّ عقيدة التقدّم، كسائر متعلّقات الحداثة لا تملك مرجعا إلاّ ذاتها، ولا عناية لها مطلقا بنموذج الأخلاق[70]. ولا شكّ أنّ تهاوي نموذج الحداثة يؤدّي وجوبا إلى الحكم بتهافت براديغم الاستشراق.
ولعلّ أبرز خصائص الخطاب النضالي لحلاّق، أنّه لم يكن يكتفي بنقد الاستشراق بوصفه الذراع الايديولوجي للكولونياليّة، بل كان يولي أكبر اهتمامه بالتحدّي الابستمولوحي، الذي طالما تباهى به الاستشراق. والغالب على الظنّ، أنّ المواجهة على أرضيّة ابستمولوجيّة، قد شكّلت إحراجا حقيقيا لسدنة المعبد الاستشراقي. وهذه المواجهة بين خطاب الاستشراق والخطاب المعارض له، إذا ما تراجعت فيهما شحنة القصديّة المكشوفة، يمكن أن تفضي إلى نتائج علميّة أبعد عن التشنّج وأقرب إلى الموضوعيّة.
5- الخاتمة:
استند نقد نقد الاستشراق عند حلاّق على معرفة واسعة بحقل دراسته، بما في ذلك الإحاطة بتاريخ الفقه الإسلامي من مرحلة التأسيس إلى عهد الإصلاحات الحديثة، والاطّلاع الكبير على كتابات المستشرقين في مسائل الدّراسات الفقهيّة، إلى جانب معرفته بأبرز الاتّجاهات الفكريّة والابستمولوجيّة التي تشكّل ضمنها الخطاب الاستشراقي.
وقد شكّلت أعمال حلاّق خطوة هامّة ضمن هذا التيّار النقدي. وكانت الخطّة النقديّة لهذا الباحث مؤلّفة من جملة خطوات متكاملة، تبدأ بردّ دعاوى الاستشراق بخصوص دونيّة الفقه الإسلامي وتبعيّته لأنساق قانونيّة أجنبيّة، ماضيا وحاضرا، وتفكيك أوهام “المعتقد الاستشراقي” الذي أكسبه شاخت شرعيّة واسعة، رغم تهافتها وضعف أسسها العلميّة. وكانت الخطوة الثانية في هذه الخطّة تقضي بردّ براديغم الاستشراق إلى البنية الذهنيّة والحضاريّة التي أنتجته، وكشف خلال عمليّة تفكيك تلك البنية، الخصائص الواسمة للحداثة الغربيّة، وخاصّة ميلها الجارف نحو السيطرة، عبر استخدام العنف ببعديه الاقتصادي/ العسكري، والمعرفي. وفي ثنايا هذا التشخيص، كان الكاتب لا يتردّد في التعبير عن آرائه البديلة لهذا البؤس المزدوج: تهافت الاستشراق، وافتقاد نموذج الحداثة للوازع الأخلاقي، الضامن وحده لتقريب سعادة الإنسان. وهذه المقاربة، إذ تزعم تجاوز الاستشراق، فإنّها تدعو -تحت تأثير فكر ما بعد الحداثة- إلى إعادة الاعتبار للنماذج القانونيّة لما قبل الحقبة الكولونياليّة، تلك النماذج المتصالحة مع محيطها، والقائمة على خدمته، بما تستمدّه من التراث الروحي المشترك. وبناء على هذا التشخيص، ألحّ حلاّق على الدعوة إلى إعادة اكتشاف قواعد الشريعة، والتنويه بكفاءتها العالية في الاستجابة لمشاغل المسلمين المعاصرين، إذا أعيد النظر إليها، على مقتضى مراعاة حاجات الناس.
[1]– نحيل تباعا، في ثنايا هذا البحث، إلى أهمّ أبحاث وائل حلاّق في مسائل تاريخ الفقه الإسلامي.
[2]– «Islamic law has long been recognised by orientalism as a central and strategic field of enquiry», W. B. Hallaq, The quest for origins or doctrine? Islamic legal studies as colonialist discourse, UCLA Journal of Islamic and Near Eastern law, 2 (2002-2003)
وسنحيل في باقي الصفحات على ترجمة هذا المقال الذي لم نعثر على نصّه كاملا بلغته الأصليّة. وبخصوص الترجمة انظر: البحث عن أصول الفقه الإسلامي أم هي عقيدة الاستشراق؟ دراسات الفقه/ القانون الإسلامي بوصفها خطابا كولونياليا، ترجمة أبو بكر أحمد باقادر، ضمن كتاب دراسات في الفقه الإسلامي: وائل حلاّق ومجادلوه، مركز نماء للبحث والدراسات، ط 1، بيروت 2016. وننوّه إلى أنّ هذه الترجمة يعتريها شيء من الضعف في مواضع متعدّدة.
[3]– D. S. Powers, W. B. Hallaq on the origins of Islamic Law: A Review Essay; Islamic law and society, vol. 17, No (1), pp. 126- 157, Leiden: E.J. Brill, 2010.
وبحكم تعذّر حصولنا على هذا المقال في لغته الأصليّة فقد اعتمدنا على ترجمة له ضمن المرجع السابق: انظر: ديفيد اس. باورز، وائل حلاّق وآراؤه حول أصول الفقه الإسلامي: مقالة نقديّة، ترجمة: أبو بكر أحمد باقادر، ص 169 وما بعدها. وبخصوص رأي باورز المشار إليه أعلاه انظر: المرجع السابق، ص 183.
[4]– «La loi islamique est le résumé de la pensée islamique, la manifestation la plus typique du genre de la vie islamique, le cœur et le noyau de l’islam lui- même», Joseph Schacht, Introduction au droit musulman, G-P. Maisonneuve et Larose, 1983, p 11.
[5]– باتريشيا كرون ومارتن هيندز، خليفة الله: السلطة الدينيّة في العصور الإسلاميّة الأولى، ترجمة أحمد طلعت، مراجعة إيمان عبد الغني نجم، جسور للترجمة والنشر، ط 1، بيروت 2017، ص 8.
[6]– راجع: وائل حلاّق، البحث عن الأصول، مرجع سابق، ص 109.
[7]– المرجع السابق، ص 146.
[8]– المرجع السابق، ص 107.
[9]– Keith Christoffersen, Waqf: a critical analysis in light of Anglo-American laws and endowments (1997).
[10]– الباحثون هم ارنست زيس (Ernest Zeys) وارنست مرسيه (Ernest Mercier) ومارسال موراند (Marcel Morand). وكان الأوّل قد عيّن رئيسا لكرسي الفقه الإسلامي في مدرسة الحقوق بالجزائر، ولم يكن يعرف كلمة عربيّة واحدة. انظر: باورز، وائل حلاّق وآراؤه، مرجع سابق، ص 181.
[11]– وائل حلاّق، البحث عن أصول الفقه الإسلامي، مرجع سابق، ص 110.
[12]– المرجع السابق، ص 112.
[13] -« My argument therefore remains that Orientalism’s topical selection has privileged the formative and modern periods, characterizing the middle period as generally or merely continuum, whereas productive “change”, “dynamism”, and “adaptation” (three modernist favorites) characterized the formative and modern periods- those two temporal locations where Europe, with its Greco-Roman- Judaic heritage, could instruct Islam and lend it a hand, i.e., civilize it», W. B. Hallaq, On Orientalism, Self-Consciousness and history, Islamic law and society, vol 18, No. 3/ 4 (2011), p 418.
[14] – وائل حلاّق، البحث عن الأصول، مرجع سابق، ص 115.
[15] – المرجع السابق، ص ص 119، 120.
[16]– المرجع السابق، ص 122.
[17]– انظر: وائل حلاّق، الاستشهاد بالأدلّة وإساءة الاستشهاد بها: مسألة التأثير الاقليمي والروماني على التشريع الإسلامي في مرحلة النشأة، ترجمة أبو بكر أحمد باقادر، ضمن: دراسات في الفقه الإسلامي: وائل حلاّق ومجادلوه، مرجع سابق، ص ص 60، 61. والعنوان الأصلي لمقال حلاّق: The use and abuse of evidence: The question of provincial and roman influences on early Islamic law
أمّا كتاب كرون المشار إليه فعنوانه: Roman, provincial and Islamic law: the origins of Islamic patronate
[18]– المرجع السابق، ص 61 وما بعدها.
[19]– المرجع السابق، ص 96.
[20]– وائل حلاّق، البحث عن أصول الفقه الإسلامي، مرجع سابق، ص 131
[21]– وائل حلاّق، الاستشهاد بالأدلّة وإساءة الاستشهاد بها، مصدر سابق، ص 69. وانظر كذلك: وائل حلاّق، البحث عن أصول الفقه الإسلامي، مرجع سابق، ص 131.
[22]– المرجع السابق، ص 96.
[23]– هشام جعيّط، في السيرة النبويّة: تاريخيّة الدعوة المحمّديّة، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت -لبنان، ط 1، كانون الثاني(يناير) 2007، ص 14.
[24]– محمّد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، ترجمة محمّد يوسف دعس، دار الكتاب المصري، القاهرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 2011، ص ص 213، 214.
[25]– وائل حلاّق، البحث عن أصول الفقه الإسلامي، مرجع سابق، ص 126.
[26]– هذا الرأي خالفة موتسكي بحديثه عن فقهاء المدينة ومكّة. راجع مثلا حديثة عن خصائص الفتوى عند ابن عبّاس:
Harald Motzki, The origins of islamic jurisprudence, Meccan fiqh before the classical schools, translated by Marion. H. Katz, Brill, Leiden -Boston-Kölen, 2002, p 288.
[27]– بخصوص جميع هذه المعطيات انظر: المرجع السابق، ص 136 وما بعدها.
[28]– التاريخ الذي اختاره جوينبل G H A Juynboll لتعيين ظهور الفقه يسبق تاريخ شاخت بربع قرن، وذهب موتسكي Harald Motzkiإلى تاريخ أقدم من ذلك. واعتبر الأخير -خلافا لشاخت وجولد تسيهر- أنّ الأدلّة على فكرة تزوير الأحاديث ليست كافية. انظر: المصدر السابق، ص 149.
[29] – «Dans la première période abbasside également, les anciennes écoles juridiques, qui devait leur existence séparée à la géographie, se transformèrent en école d’un type nouveau, fondée sur leur allégeance à un maitre particulier», J. Schacht, Introduction au droit musulman, p 55.
[30]– وائل حلاّق، البحث عن أصول الفقه الإسلامي، مرجع سابق، ص 159.
[31] -W. B. hallaq, Was the gate of ijtihad closed?, International journal of Middle- East studies, vol. 16, n.1, march 1984.
[32]– نعني بذلك: Introduction to islamic law. / Origins of Muhammadan jurisprudence.
[33]– باورز، وائل حلاّق وآراؤه، مرجع سابق، ص 174.
[34] -«Said treats Orientalism as itself being a performative phenomenon…representing and, more importantly (re)constituting the “Orient”. However, he does not speak of how Orientalism is itself constituted by the discursive formations of Euro-America», W. B. Hallaq, On Orientalism, p 391.
[35]– المرجع السابق، ص ص 392، 393.
[36]– «An essential characteristic of the modern West, Scheler avers, is “its obsession with gaining knowledge of control», W. B. Hallaq, On Orientalism, p 394.
[37]– عند حلاق انفصال الحقيقة عن القيمة يؤدّي حتما إلى غياب الأخلاق. انظر: W. B. hallaq, On Orientalism, p 400
[38]– وائل حلاّق، الدولة المستحيلة، الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي، ترجمة عمرو عثمان، مراجعة ثائر ديب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط 1، بيروت، تشرين الأوّل/ أكتوبر 2014، ص 161.
[39]– «If, in the modern thought- structure, knowledge is power, and power is perforce extensionist, then knowledge is implicated in universalist extensionist, that is to say, in violence», W. B. Hallaq, On Orientalism, p 398.
[40] -W. hallaq, On Orientalism, Pa 400.
[41]– W. B. Hallaq, On Orientalism, pp 401, 402.
[42] -W. B. Hallaq, On Orientalism, p 404.
[43]– باورز، وائل حلاّق وآرؤه، مرجع سابق، ص 186.
[44]– المصدر السابق، ص 194 (الهامش).
[45]– عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، دار التنوير والمركز الثقافي العربي، بيروت -لبنان/ الدار البيضاء- المغرب، 1985، ص 118.
[46]– خالف جعيّط هذا الرأي، وأبدى لوما أشدّ على الاستشراق المتأخّر في قوله: «إنّ ما نعيبه على الاستشراق الجديد انفلاته من عقاله وابتعاده عن الصرامة المنهجيّة التاريخيّة بتعلّة الصرامة ذاتها أو حبّا للجديد»، هشام جعيّط، تاريخيّة الدعوة المحمّديّة، مرجع سابق، ص 14.
[47]– ادوارد سعيد، الاستشراق: المفاهيم الغربيّة للشرق، ترجمة محمّد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، 2006، القاهرة، ط 1، ص 209.
[48]– انظر قول حلاّق عن تعامل الاستشراق مع الشرق، وما فيه من تشويه وتحريف مقصود:
«It wrote about” Orient” – indeed itwrote the “Orient“- from within Europe, namely from a geographically, politically, linguistically, culturally, historically, conceptually, epistemically, ontologically, teleologically theologically, metaphysically, and morally distant place, removed from whatever “real Orient” there was», W. B. Hallaq, On Orientalism, p 406.
[49]– وائل حلاّق، البحث عن أصول الفقه الإسلامي، مرجع سابق، ص 126.
[50]– للتنبيه على مدى قدرة البراديغم المعرفي السائد على تشكيل الذوات، أشار حلاق إلى ما لاحظه شلدون بلوك Sheldon Pollok بخصوص تأثير أبحاث لغويين ألمان على تشكّل الهويّة الآريّة، والتي وضعت في ضوئها السياسات النازيّة المدمّرة. انظر: المرجع السابق، ص ص 405، 406.
[51]– وائل حلاّق، ما هي الشريعة، ترجمة طاهرة عامر -طارق عثمان، مركز نماء للبحوث والدراسات، ط 1، بيروت 2016، ص 33.
[52]– باوزر، وائل حلاّق وآراؤه، مرجع سابق، ص 190.
[53]– جاء هذا الكلام في وصف حلاّق لكتاب كرون “القانون الروماني والإقليمي والإسلامي”. انظر: وائل حلاّق، الاستشهاد بالأدلة، مرجع سابق، ص 103
[54]– انظر ما نقله حلاّق عن الدور الخطير للأكاديما في تكريس هيمنة الدولة الحديثة، عبر استثمار ما يشاع عنها من تحرّر، واقتدار في مجال البحث العلمي. انظر: وائل حلاّق، الدولة المستحيلة، مرجع سابق، ص 195.
[55]– برّر باورز النتائج التي انتهى إليها شاخت باعتماده المناهج الغربيّة، ولذا لم يكن لحلاّق أن يتّهمه بسوء الفهم، وكأنّ اعتماد هذه المناهج أو غيرها يسوّغ قلب الحقائق العلميّة. انظر: باورز، وائل حلاّق وآراؤه، مرجع سابق، ص 185.
[56]– المرجع السابق، ص 193.
[57]– تحيل هذه العبارة على أحد أهم النصوص المرجعيّة لاتجاه ما بعد الكولونياليّة، وقد نقلته الكاتبة الهندية جياتري سبيفاك عن غرامشي. انظر:
Gayatri Chakravorty Spivak, Can the subaltern speak, in Colonial discourse and Post-colonial theory, edited by Patrik Williams, and Laura Chrisman, Columbia university press, New York, p 78.
[58]– باورز، وائل حلاّق وآراؤه، مصدر سابق، ص 205.
[59]– وائل حلاّق، البحث عن أصول الفقه الإسلامي، مرجع سابق، ص 147.
[60]– باورز، وائل حلاّق وآراؤه، مرجع سابق، ص 298.
[61]– انظر تفسير حلاّق لامتداح باورز له: W. B. Hallaq, On Orientalism, p 289.
[62]– وائل حلاّق، البحث عن أصول الفقه الإسلامي، مرجع سابق، ص 148.
[63]– المرجع السابق، ص 147.
[64] – «But for me to be a merely sloganeering anti-orientalist entails the total denial of my work over three decades, work that has thoroughly and, in my cases, systematically critiqued, and provided an alternative to, Orientalist findings», W. Hallaq, On Orientalism, p 429.
[65]– Bernard Lewis, The roots of Muslim Range, The Atlantic; sep 1990.
[66]– وائل حلاّق، “غضبة مسلم” والقانون الإسلامي، ترجمة أبوبكر أحمد باقادر، ضمن كتاب دراسات في الفقه الإسلامي، مرجع سابق، ص 43.
[67]– أكّد حلاّق أنّ «منطق الرأسماليّة الحديثة وثقافتها ينزعان إلى التبخيس التدريجي لمركزيّة الأخلاقي في العالم ما قبل الحديث»، وائل حلاّق، ما الشريعة، مرجع سابق، ص.21
[68]– وائل حلاّق، ما هي الشريعة، مرجع سابق، ص 17.
[69]– التعارض بين النموذجين هو تعارض بين “ما يجب أن يكون”، القائم على الأخلاق، و”ما هو كائن” القائم على القوّة السيطرة، وائل حلاّق، الدولة المستحيلة، مرجع سابق، ص 152 وما بعدها.
[70]– وائل حلاق، الدولة المستحيلة، مرجع سابق، ص 51.
المراجع:
المراجع العربية:
- إقبال، محمّد، تجديد التفكير الديني في الإسلام، ترجمة محمّد يوسف دعس، دار الكتاب المصري، القاهرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 2011.
- باورز، ديفيد اس، وائل حلاّق وآرؤه حول أصول الفقه الإسلامي: مقالة نقديّة، ترجمة: أبو بكر أحمد باقادر، ضمن وائل حلاّق ومجادلوه، مركز نماء للبحث والدراسات، ط 1، بيروت 2016.
- جعيّط، هشام، في السيرة النبويّة: تاريخيّة الدعوة المحمّديّة، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت -لبنان، ط 1، كانون الثاني(يناير) 2007.
- سعيد، إدوارد، الاستشراق: المفاهيم الغربيّة للشرق، ترجمة محمّد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، 2006، القاهرة، ط 1.
- العروي، عبد الله، العرب والفكر التاريخي، دار التنوير والمركز الثقافي العربي، بيروت -لبنان/ الدار البيضاء- المغرب، 1985.
- كرون، باتريشيا وهيندز، مارتن، خليفة الله: السلطة الدينيّة في العصور الإسلاميّة الأولى، ترجمة أحمد طلعت، مراجعة إيمان عبد الغني نجم، جسور للترجمة والنشر، ط 1، بيروت 2017.
- وائل، حلاّق، الدولة المستحيلة، الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي، ترجمة عمرو عثمان، مراجعة ثائر ديب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط 1، بيروت، تشرين الأوّل/ أكتوبر 2014.
- نفسه، البحث عن أصول الفقه الإسلامي أم هي عقيدة الاستشراق؟ دراسات الفقه/ القانون الإسلامي بوصفها خطابا كولونياليا، ترجمة أبو بكر أحمد باقادر، ضمن وائل حلاّق ومجادلوه، مركز نماء للبحث والدراسات، ط 1، بيروت 2016.
- نفسه، جذور الغضب الإسلامي، ترجمة أبو بكر أحمد باقادر، ضمن وائل حلاّق ومجادلوه، مركز نماء للبحث والدراسات، ط 1، بيروت 2016.
المراجع الأجنبية:
- Hallaq, W.B, The quest for origins or doctrine? Islamic legal studies as colonialist discourse, UCLA Journal of Islamic and Near Eastern law, 2 (2002-2003).
- _______ Was the gate of ijtihad closed?, International journal of Middle- East studies, vol. 16, n.1, march 1984.
- _______ On Orientalism, Self-Consciousness and History, Islamic law and society, vol. 18, No. 3/ 4 (2011), Brill.
- Motzki, Harald, The origins of islamic jurisprudence, Meccan fiqh before the classical schools, translated by Marion. H. Katz, Brill, Leiden -Boston-Kölen, 2002.
- Powers, David S, Wael B. Hallaq on the origins of Islamic Law: A Review Essay; Islamic law and society, vol. 17, No (1), pp. 126- 157, Leiden: E.J. Brill, 2010.
- Schacht Joseph, Introduction au droit musulman, G-P. Maisonneuve et Larose, 1983.
- Spivak, Gayatri Chakravorty, Can the subaltern speak, in Colonial discourse and Post-colonial theory, edited by Patrick Williams, and Laura Chrisman, Columbia university press, New York.