ملخص:
لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إنّ الحضارة الإنسانية في الوقت الحالي بلغت شأنًا كبيرًا في التقدّم العلمي والتكنولوجي، ومع ذلك يشعر الإنسان في ظل تلك الحضارة بالشقاء والاغتراب عن ذاته، وهو ما يعرف بظاهرة التّشيُّؤ، حيث أصبحت قيمة الإنسان تقاس بما ينتجه من سلع وخدمات، وهو أمر تنبأ به ابن خلدون قديما، في حديثه عن الحضارة وأزمة الإنسان، عندما حلّل أزمات الإنسان والحضارة في عصره، ورأى أنّ انهيار حضارات الأمم مرتبط ببعد الإنسان عن المبادئ و القيم، لهذا وجب أن تبنى (الحضارات) على القيم والأخلاق… ويؤكّد في جانب آخر على مبدأ التفاعل بين الحضارات، بمعنى أن كل حضارة تأخذ من التي قبلها عبر جدليّة حضارية و تفاعل بنّاء لا يقوم على الصدام و الصراع كما تقول النظرية المعاصرة عند صمؤيل هانتجتون. ويرى ابن خلدون أنّ تلك الحضارة متى ما وصلت إلى ذروة النعيم والترف، فإنّ هذا يهدد بسقوطها وانحلالها وقد شبهها بالكائن الحي في أطوار حياته، يبدأ صغيرا ثم ينمو حتّى يصير صبيا ففتى يافعا، ثم يبلغ مرحلة الشيخوخة فالهرم، وهنا تنحل الحضارة وتسقط. هذا وتمثّل العصبية، حسب ابن خلدون، الركيزة الأساسية لأي نشاط سياسي واجتماعي في بناء الحضارة، مثلما يعدّ الإنسان الثروة الحقيقيّة لكلّ حضارة.
Abstract:
Although Modern human civilization had achieved a lot of progress humans feel reification. Ibn Kaldon analyzes crises of humanity and civilization. He asserts that civilization must rely on values and morals and its fallen deviation from divine method also declined civilization that is connected with prosperous civilizations which interact each other. He pointed that civilization looks like human beings in different stages starting from childhood and finishing with old age. Also, civilization must take all principles of morals.
1- مقدمة:
لا شك في أن الحضارة المعاصرة قد حققت قدراً لا بأس به من النجاح والتقدم، لقد استطاعت، حسب تقديري، أن تلبّي وتحقق كل ما يحلم به الإنسان من مطالب وحاجات، ليصبح عبر التقدم التكنولوجي سيّدًا للعالم. ومع ذلك فقد أُطلِقَت صيحات فزع تنذر بأن الحضارة تمر بأزمة أو مأزق كما يرى “هابر ماس” في حين أعلن “أشفيشر” “Schbutzen” بأننا اليوم نعيش في ظل انهيار الحضارة، ويذهب “أشبنجلر” “Schpengler” إلى أن الحضارة تدخل اليوم مرحلة التداعي، وقد حكم عليها بالموت والدمار. أمّا “نيتشه” “Nietzha” فيصرّح بأن الحضارة المعاصرة تسير إلى الهاوية، إنّها، على حد تعبير “أشفيشر”، أشبه بالسفينة التي يمخرها تيار من الأمواج العاتية تحت شلال هائل، ولابد من مجهودات جبارة لإنقاذها من المجرى الجانبي الخطير الذي سمحنا لها بالانطلاق فيه، وإعادتها إلى المجرى الرئيسي إن كان ثمة أمل في ذلك.
إن تأمّلاً بسيطًا في الحضارة المعاصرة يفضي بنا إلى استنتاج بديهي مفاده أنّ هذه الحضارة قد أصيبت بأزمة مرجعيّة عميقة، فبدلاً من أن ترتبط بالجانب الروحي والأخلاقي، وبمنظومة القيم، فإنّها ألهت الإنسان والواقع، فلا مرجعية خارج هذين الطرفين حتى أنّ القيم تستمد وجودها منهما. من هنا، أصبحت المنفعة المادية هي الغاية القصوى، كما أصبح الإنتاج والاستهلاك غاية تطلب لذاتها، وأصبحت الحضارة لا تُعنى إلا بالشق المادي ليصبح الإنسان في ظلها شيئًا تافهًاً، تحكمه النوازع والإنسانية.
وهذا ما تنبأ به عالم الاجتماع “ابن خلدون” منذ زمن بعيد، عندما شخص وحلل أزمات الحضارة والإنسان وذهب إلى أن حضارات الأمم تبنى بالأخلاق والقيم، وأن انهيارها مرتبط بالانحلال والانحراف عن منهج الله. ويختزل مفهوم الحضارة عنده عمق الأزمة بأبعادها التاريخية والمجتمعية التي عايشها.
2- مفهوم الحضارة عند ابن خلدون:
يجب أن نشير بداية إلى أن مشروع المجتمع الحضاري يحتل الصدارة في فكر “ابن خلدون” ذلك أنّ الحضارة الإنسانية المعاصرة مازالت تعتريها الأزمات، وكان “ابن خلدون”، في مشروعه الحضاري، حريصًا على ترسيخ قيم العقلانية والسياسة الرشيدة، مثلما ركّز اهتمامه على الإنسان وتطوير مكانته لأنّه (الإنسان) الثروة الأكبر في الحضارة، ومحور أزماتها ومنطلق حلولها.
وقد عرف “ابن خلدون” الحضارة ” بأنها التفنن في النزف واستجارة أحواله، والكلف بالضائع التي تأنق وسائر فنونه، كالصنائع المهيأة للمطابخ أو الملابس أو المباني، أو الفرش، والحضارة تتفاوت بتفاوت العمران، فمتى كان العمران أكثر كانت الحضارة أكمل، وهي كذلك غاية العمران، ونهاية لعمره وأنها مؤذنة بفساده، غير أن فساد العمران لا يعني فساد الحضارة معه وزوالها، بل هي طور من أطوارها فهي روح سارية، لها القدرة علي التشكيل والانتقال من السابق إلى اللاحق، وتنتقل الحضارة من الدول السالفة إلى الدول الخالقة، فانتقلت حضارة الفرس للعرب، ومن بني أمية إلى بني العباس. وعلي قدر عظم الدولة يكون شأنها في الحضارة”[1].
ويشير “ابن خلدون” إلى أن العصبية هي الركيزة الأساسية لأي نشاط سياسي أو اجتماعي، وبالتالي فهي المحرك الأول للحضارة والمجتمع، كما أنها المحور الأساسي في حياة الدول والمهالك.
وقد أفاض ابن خلدون في الحديث عن سقوط الحضارة عندما تزيد في النزف والرخاء، ويرى أنّ الأمة “إذا تغلبت وملكت ما بأيدي أهل الملك قبلها كثر رياشها ونعمتها فتكثر عوائدهم ويتجاوزون ضرورات العيش وخشونته إلي نوافله ورقيته وزينته ويذهبون إلي اتباع من قبلهم في عوائدهم وأحوالهم وتصير لذلك النوافل عوائد ضرورية في تحصيلها ويتفاخرون في أكل الطيب ولبس الأنيق ويرى أنه إذا حصل الملك أقصروا من المتاعب التي يتكلفونها في طلبه وآثروا الراحة والسكون والدعة ورجعوا إلي تحصيل ثمرات الملك من المباني والمساكن والملابس، فيبنون القصور ويجرون المياه ويغرسون الرياض، ويؤثرون الراحة يتأذن الله بأمره وهو أحكم الحاكمين”[2].
ويواصل “ابن خلدون” حديثة عن سقوط الحضارة والدولة بقوله: “لو استاثروا بالمجد رُبي الجيل الثاني منهم علي ذلك يحسبون ما ينالوا من العطاء أجرًا ا السلطان عن الحماية والمعونة لا يجري في عقولهم سواه وقل أن يستأجر أحد نفسه على الموت فيصير ذلك وهنًا ا في الدولة وخضرًا ا من الشوكة وتقبل به علي مناحي الضعف والهرم عقدًا من جهة، والجهة الثانية أن طبيعة الملك تقتضي الدعة، وقد اتخذوا الدعة والراحة مألفًا ا وخلقًا وصار لهم طبيعة وجبلة ويتقلب خلق التوحش وينسون عوائد البداوة التي كانت بها الملك من شدة اللباس وتعود الافتراس وركوب البيداء وهداية القفر فلا يفرق بينهم وبين السوقة من الحضر إلا في الثقافة والشارة فتضعف حمايتهم ويذهب بأسهم وتنكسر شوكتهم ويعود ذلك وبالا على الدولة بما تلبس من ثياب الهرم ثم لا يزالون يتلونون بعوائد الترف والحضارة والدعة ورقة المعيشة حتى يعودوا عيالاً على حامية آخري[3].
3- نظرية الكائن الحي:
شبه “ابن خلدون” الحضارة بالكائن الحي وطبق عليها قانون الطبيعة وناموسها، وأشار إلى أنّ الحضارة تمر بمراحل ثلاث كالإنسان الذي يولد صغيرًا ضعيفًا، ومع الأيام يشتد عوده وينمو جسمه ويكبر حتى يبلغ تمام النضج والاكتمال في سن الأربعين وهذه الأطوار تتمثل في طور البداوة طور التحضر، ثم طور التدهور.
1- طور البداوة: يمثل له “ابن خلدون” بمعيشة البدو في الصحاري والبربر في الجبال، والتتار في السهول، وهؤلاء لا يخضعون إلى قوانين مدنية ولا تحكمهم سوى حاجاتهم وعادتهم.
2- طور التحضر: هو طور تأسيس الدولة عقب الغزو والفتح ثم الاستقرار في المدن، وهذا الطور يقوم على الدين والعصبية.
3- طور التدهور: ويأتي في نهاية التحضر، بعد مرحلة الازدهار، ووصول الناس إلى مرحلة الانغماس في الترف والتحلل من الأخلاق، وتغيير العادات إلى المناكر. ويري “ابن خلدون” أن مراحل تحضر الدولة هي ذاتها عوامل تدهورها، ذلك أن الحضارة وإن كانت غاية العمران فهي في الوقت نفسه مؤذنة بنهاية عمره[4].
4- قيمة العدل ودورها في العمران والحضارة:
يؤكد “ابن خلدون” على أهمية العدل في قيام الحضارات، ويرى أن الظلم مؤذن بخراب العمران، يقول: “اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهى بهم من أيديهم. ثم يقول أعلم أن هذه الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم، وهو ما ينشأ عنه فساد العمران وخرابه، وذلك بانقطاع النوع البشري[5].
ويشير إلى أن التقدم على درب حضارة الإنسان إلى درجة بروز الدولة القوية المهيمنة وسيطرة الحضارة على البداوة وهو ما حصل في العصر الحديث، وطالما استمرت أزمة الإنسان فستبقي الحضارة مهددة بالتراجع والخراب. هنا نستنتج أن “ابن خلدون” قد أسهم في حضارة عصره، ولا نزال فعلاً نحتاجه في عصر يسعى فيه البعض إلى إدراك السبيل إلى حضارة الإنسان ذي البعد الواحد[6]. ويعتبر “أن الحضارة تنشأ نتيجة لشعور الإنسان بوجود التعاون في كسب العيش والدفاع عن النفس ثم تقسيم العمل ورفاهية العيش الذي يؤدي إلى القضاء على كيان الحضارة.
ويلفت ” ابن خلدون” نظرنا إلى وجود لحظة يبدأ فيها الإجماع البشري في التوجه إلى لحظات أزمة خانقة، لا تشكّل زيادة الإنتاج حلا لها، بقدر ما تساهم في تعفين الأجواء وتعميق الأزمة، إن هذه اللحظة هي لحظة الاكتمال الطاغي للعمران الناتج عن لحظة سيادة عالم الأشياء “أي المنتجات والماديات” وذلك عبر مثلث جهنمي متناقض يتمثل في طغيان توفر الأشياء من جهة وشدة البحث عنها من جهة أخرى، والضعف المتناهي للتحكم فيها والقدرة على وضعها موضعها من جهة ثانية، وبدلاً من أن يمتلك الإنسان الأشياء في هذه اللحظة، يصبح هو عمليّا ملكا لها، لأن امتلاكها صار محور حياته وحركته وصار هو “الوجهة والغاية” ولذلك تصبح المفارقة في مثل هذا العالم أن موت الإنسان من الجوع هو ما يحصل كثيرًا وبشكل يشين كل حضارة إنسانية معاصرة – لا يرتبط بفقدان عالم الأشياء وإنما يعود إلى تحقيق عالم الأشياء وتكدسها، وما ينتج عن ذلك التكدس من مناهج في الحياة والتفكير والتعامل بين الإنسان وأخيه الإنسان وفي هذه اللحظة تستحيل “الوجهة ” التي أنتجت الحضارة عبر تحرك العمران نحو تحقيق عالم الأشياء ثم تفقد العصبية القدرة على توحيد الأهواء باتجاه تلك الوجهة وتبدأ هي أيضاً في التلاشي”[7].
وتتركّز خلاصة التجربة الخلدونية في العمران البشري والحضارة في النّقاط الآتية:
(1) – إنّ “ابن خلدون” في محاولته فهم أزمة حضارته اضطر خلال عمليته التنظيرية إلى تأصيل مفاهيم جديدة تتجمع وتتكامل داخل النسق المعرفي الإسلامي.
(2) – المشاركة الخلدونية تستمد قيمتها البالغة اليوم من واقع قدرتها على المساهمة في تحليل الأزمة المعاصرة، والتي تتمثل في طغيان عالم الأشياء الذي انبثق من وصول الحضارة الغربية الغالبة اليوم إلى ما يمكن أن يكون لحظة اكتمالها، حيث ارتبط خلاص الإنسان بمفهوم الرّفاه المادي، وانطلاقا من هذه الرؤية تحدث “ابن خلدون” عن الواقع وتنبأ بحدوثه كلما توافرت شروطه – الأمر الذي يخوّله لأن يكون معاصرًا أكثر من بعض مفكري اليوم في الشرق والغرب على حدّ سواء، ممن لا يمتلكون النفاذ إلى أعماق الأزمة البشرية.
يتّضح مما سبق أنّ رؤية “ابن خلدون” الثاقبة في تحليل أزمة مجتمعه وحضارته التي كان يعيش فيها، واستشرافه لما وصلت إليه حضارتنا المعاصرة وقدرته على تحليل ذلك والتنبؤ بما سيحدث مستقبلاً من ترف (الرفه) يؤدي إلى انهيار الحضارات، حيث يصبح الإنسان في ظل هذه الحضارة شيئًا تقاس قيمته بما ينتجه من سلع ولذا نرى، من وجهة نظر شخصيّة أن ” ابن خلدون” كان سابق لعصره بما يملكه من قدرة على النفاذ إلى الأحداث وقراءة التاريخ، ورؤيته لمستقبل الحضارة الإنسانية.
5- أزمة الحضارة الغربية المعاصرة:
تعيش الحضارة الغربية المعاصرة أزمة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، أزمة كشفت عنها مجموعة من الفلاسفة المعاصرين الذين ذهبوا إلى أن الإنسان المعاصر يعيش في ظل هذه الحضارة بوصفه شيء من الأشياء، وأول هؤلاء الفلاسفة:
5 -1- هابرماس:
لقد قدم “هابرماس” تشخيصًا لهذه الأزمة وأوضح أن السيادة في الحضارة الغربية (الرأسمالية) تكون لعلاقات الإنتاج وقواه، فلم تعد للإنسان في هذه المجتمعات الرأسمالية أيّة قيمة، وما عاد يحس بوجوده الحقيقي، وشعر في ظل هذا التقدم التكنولوجي بنوع من الاغتراب. ولقد ركز “هابرماس” في تحليله للمجتمع الرأسمالي المتقدم على ظاهرة الهيمنة التكنولوجية (التقنية) والعقل الأدائي[8].
ويصف “هابرماس” عملية التحديث في الغرب على أنها أدت إلى زيادة العقلانية الأدائية، وإلى التوسع في نطاق الفعل الأداتي في المجال الاقتصادي والإدارة، والعلم والتكنولوجيا على حساب العقلانية التواصلية في المجال الاجتماعي. ويرى أن هذا التقدم أدى إلى سيطرة وهيمنة التكنولوجيا على جميع مجالات الحياة، وحول هذا التقدم الإنسان إلى أداة ووسيلة للإنتاج مثله مثل الآلة، فاغترب عن ذاته، وأصبحت قيمته تقاس بما ينتجه من سلع، وأصبح العلم ذاته هو قوة الإنتاج الجديد، وأصبحت الشرعية مستمدة[9].
5 -2- التشيؤ عند لوكاتشي – “Recitation”:
يقصد بالتشيؤ أن المجتمع يجب أن يشبع حاجاته عن طريق تبادل السلع، وهذا يتطلب أن يتم تنظيم المجتمع كله وفق نموذج علاقاته الاقتصادية وبالتالي تعم ظاهرة التشيؤ[10] .
يعني التشيؤ أيضا تحول الصفات الإنسانية إلى أشياء جامدة، واتخاذها لوجود مستقبل، واكتسابها لصفات غامضة غير إنسانية، فيصبح بهذا المعنى محيلا على اغتراب الإنسان في ظل العلاقات الرأسمالية، حيث لم تعد السلع تقاس بقيمتها الواقعية، وإنما تتحدد بقيمة مجردة يحددها السوق. ويري “لوكاتش” أن هذه الفكرة تشكل نقدًا أخلاقيًّا قويًّا للنظام الرأسمالي، الذي يحول البشر إلى أشياء تباع وتشترى. ويصبح العالم الاجتماعي عالما من الأشياء، شأنه في ذلك شأن العالم الطبيعي، بهذا أصبح المجتمع “يمثل طبيعة ثابتة” إلى جانب العالم الطبيعي الأصلي، وأصبح كما يبدو لو أنه مستقلّ عن الفعل الإنساني شأنه في ذلك شأن استقلال قوانين الطبيعة[11].
ويستنتج “لوكاتش” أن عملية العقلنة أو العقلانية هي المسؤولة عن ظاهرة التشيؤ فخصائص العقلنة هي القابلية لحساب كل تفاصيل الحياة الاجتماعية والقدرة على إحلال الميكنة محل العمل البشري العضوي، والقدرة على تقسيم العمل إلى وحدات صغيرة متخصصة يسهل ميكنتها، وتوسيع نطاق التخصص في العمل الإداري، فالعقلنة في مجال العمل كما يري “لوكاتش” هي توسيع للتشيؤ[12].
5 -3- ضمنية أو فتشية السلع عند ماركس “Fetchism”:
يري “ماركس” أن أسلوب الإنتاج الرأسمالي هو أسلوب ونظام منتج للسلع، فكل التنظيمات الاقتصادية، وكل تفاصيل عملية الإنتاج في النظام الرأسمالي تهدف إلى هذه الغاية، وهي إنتاج السلع، وعلى الرغم من أن السلع هي نتاج العمل البشري، إلا أنّها بمجرد دخولها في علاقات تبادل في السوق مع غيرها من السلع الأخرى حيث تكتسب قوانينها الخاصة التي تسمي بقوانين السّوق، مثل العرض والطلب، وبذلك تستقل عن أصلها البشري والاجتماعي، ويصبح لها كيانها الخاص بها[13].
ويجب أن نوضح أن فكرة فتشية السلع ذات أواصر وطيدة وعلاقة حميمة مع مفهوم “ماركس” عن الاغتراب “Alienation” الذي هو افتراض وجود مسميات معينة للحياة الإنسانية، ويحدث الاغتراب بشكل عام حينما تسيطر على الإنسان البيئة الاجتماعية التي خلقها بيده. ولقد رأي “ماركس” أن هذه الظاهرة تحدث بصفه خاصة في المجتمع عندما ينفصل البشر عما ينتجون ولا يسيطرون على ما ينتجون، كما ينفصل بعضهم عن بعض، ومن ثم يفقد العمل جماعيته[14].
5 -4- ماركيوز والإنسان ذو البعد الواحد: “One Dimensional Man”:
من نفس فكرة التشيؤ عند “لوكاتش” والاغتراب وضمنية السلع عند “ماركس” انطلق “ماركيوز” من فكرة الإنسان ذي البعد الواحد. والأطروحة الأساسية “لماركيوز” عن الإنسان ذي البعد الواحد تنبثق من التفاقم اللامحدود لسلطة الآلة في المجتمعات الصناعية الكبرى المتقدمة، يرى “ماركيوز” تحول الإنسان في ظل هذا التقدم التكنولوجي ذي البعد الواحد والبُعد التقني لسلطة الآلة، بحيث تفرز نمطاً من العلاقة بين الفرد والمؤسسات التي تحكم بتنظيمية الاجتماعي ووجوده اليومي، وتجعل وعيه يتموضع في نقطة محددة وموجّهة نحو الهدف الذي ترسمه الدولة.
وتحدث كذلك “ماركيوز” عن وسائل السيطرة والهيمنة الجديدة للدولة ومؤسساتها داخل المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، وهيمنة الآلة الصناعية الكبيرة والاتجاه الاستهلاكي الساحق الذي نجح في نزعه من الذوبان داخل تياره المتمكن، بحيث أصبح الإنسان في ظله يخضع لقوانين الإنتاج، وقيمة تحدد بقوانين السوق والسلع[15].
من الواضح إذن أن الإنسان هنا أصبح ذو بُعد واحد كما يسميه “ماركيوز”، بُعد يعتمد على التقدم التكنولوجي والعلمي، بُعد يقاس بما يتم إحرازه من إنتاج للسلع، وبهذا أصبح الإنسان مغترباً عن ذاته، بل منفصلاً عما ينتجه من سلع وإنتاج، وأصبحت العلاقات الاجتماعية ترتبط بقوانين الإنتاج، ومن هنا حدث تشويه لقيم الإنسان، وجوهره الحقيقي، بل أصبح هناك تفكك اجتماعي، وانعدمت القيم الحقيقية.
5-5- هوركهايمر ونهاية الفرد “The Enjolindiuidual”:
تحدث “هوركها يمر” عن اغتراب الفرد في ظل المجتمعات الصناعية المتقدمة (الرأسمالية) وأشار إلى أنه يعاني من أزمة عميقة وهي اضمحلال أهميته، فلقد كان النظام الرأسمالي في بداية ظهوره يعتمد على المجهود الشخصي والأفعال المستقبلة للأفراد، ولذلك كان هناك أساس اقتصادي قوي يتعلق بالأفراد، أما الآن ومع انتهاء الرأسمالية الليبرالية، وظهور رأسمالية الدولة فلقد اختفى الأساس الاقتصادي للفردية، إذ أصبحت الرأسمالية تعتمد لا على الأفراد بل على وحدات إنتاجية أكبر من الشركات والمؤسسات[16].
هنا نجد ضياع الفرد واغترابه بسبب سيطرة الآلة والمؤسسات الكبرى على مجالات الحياة، فالحضارة الصناعية المتقدمة تقضي على شعور الإنسان بذاته لأنها حضارة تعتمد على الآلة، ومن هنا يعيش الإنسان في ظل هذه الحضارة أزمة حقيقية فعلية لأن قيمته تستمد مما ينتجه.
نفس الفكرة نجدها عند “أدورنو” عن الثقافة الجماهيرية “Mass Culture” لقد اعتبر “أدورنو” أن الثقافة الجماهيرية هي جزء من النظام الايدويلوجي الذي يعمل على إخضاع وعي الجماهير للسلطة القائمة والتسليم بها، ورأي “ادورنو” أن السيطرة التكنولوجية تتوسط جوهر الثقافة الحديثة، التي تعتبر بدورها توسطا تكنولوجياً مستنزفاً من خلال وسط جماهيره، وقد لاحظ أيضاً أن تكنولوجيا الثقافة لا تحدث من خلال مجالات معينة، ولكنها تحدث داخل الحضارة ككل، وفي ضوء الوسط الجماهيري لا تتحدث الحضارة إلا عن صوت واحد متحكم هو صوت العقلانية التكنولوجيا[17].
نستخلص مما سبق أنه رغم تقدم الحضارة الغربية وازدهارها إلا أنها تمر بأزمة حقيقية وهي اضمحلال قيمة الإنسان واغترابه عن نفسه، حيث أصبحت قيمته تقاس بما ينتجه من سلع، ممّا عمّق اغترابه عن ذاته وهدّد كيانه رغم التقدم العلمي والتكنولوجي، وهذا تماما ما تنبأ به “ابن خلدون”، الذي كان مستشرقاً للمستقبل وسابقاً لعصره، بما أمتكلة من قدرة على التحليل والتشخيص لأزمة مجتمعه وعصره، وانعكاس ذلك على الحضارة المعاصرة، وتقديره لما يحيط بهذه الحضارة من أزمات وما يعتري الإنسان من ضياع ذاتي، وفقدان للكيان وشعور بالاغتراب.
[1]– مقدمة ابن خلدون: تحقيق.د. علي عبد الواحد، دار نهضة مصر للنشر، القاهرة، طـ6، 2012، ج1 ص 317.
[2]– المقدمة: ضبط المتن خليل شحادة، مراجعة سهيل زكار، دار الفكر، بيروت، 2001، ص210.
ينظر أيضا: د. الجيلاني بن التوهامي مفتاح: فلسفة الإنسان عند ابن خالدون، دار الكتب العملية، بيروت، طـ2، 2011، ص209.
[3]– المقدمة :- ص211 ، 2012.
[4]– نفسه :- ص 215.
أنظر أيضاً .د. شكري المامني: ابن خلدون وعلم الاجتماع الإنساني، دار أمل للنشر والتوزيع ، طـ31 ، 2010، ص35.
[5]– المقدمة :- ص 699-700.
ينظر أيضا: محمد يوسف الجوهري: ابن خلدون إنجاز فكري متجدد، د. ط، مكتبة الإسكندرية، 2008، ص21.
[6]– شكري المامني، ابن خلدون وعلم الاجتماع الإنساني، ص 45.
[7]– المقدمة :- ص166.
[8]– Habermas (J) Legitimaton Crisis, Translated by Thomas Maccornthy, Henmam Book, London 1976, P.5.
[9]– Habermas : Scions and technology as I dealagy, Beacon Press, 1974, P.194.
[10] – Luck as. (G) Histony and class Consciousness, Translated by Rodney Livingston, Masline Press, London 1971. P.110.
[11]– Luckas: Op, cit, P.112.
[12] – bid, P.115.
[13]– كارل ماركس: رأس المال، ترجمة. فالح عبد الجبار وآخرون، المجلد الأول، الجزء الثاني، دار التقدم، موسكو، بدون سنة للنشر، ص ـ108.
[14]– إيان كريب: النظريات الاجتماعية من بارسوند إلى هابرماس، ترجمة.د. محمد حسن غلوم، عالم المعرفة، الكويت، عدد 244، 1999، ص ـ298.
[15]– Marcuse (H) : One Dimensional Man Beacon. Press, 1966. P158.
أنظر أيضاً. ماركيوز: الإنسان ذو البُعد الواحد، ترجمة. جورج طرابيشي، دار الآداب، بيروت، 1971، ص ـ66.
[16]– Lohmann. (G): The Failures self-Realization, on International Harkiesmens Eclipse al ol Reason oybasg,1941. P.238.
[17]– Horkhiemen and Adorni : Mass Culture industny, New York, 1973. P.122.
المراجع:
- ابن خلدون “المقدمة”، تحقيق د. علي عبد الواحد، ط6، دار نهضة مصر للنشر، القاهرة، 2012.
- بن التوهامي مفتاح (الجيلاني): “فلسفة الإنسان عند ابن خالدون”، ط2، دار الكتب العملية، بيروت، 2011
- الجوهري (محمد يوسف): “ابن خلدون إنجاز فكري متجدد”، د.ط، مكتبة الإسكندرية، 2008
- شحادة (خليل):”المقدمة: ضبط المتن”، مراجعة سهيل ذكار، دار الفكر، بيروت، 2001
- كريب (أيان): “النظريات الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس”، ترجمة.د. محمد حسن غلوم، عالم المعرفة، الكويت، عدد 244، 1999.
- ماركس (كارل): “رأس المال”، ترجمة فالح عبد الجبار وآخرون، المجلد الأول، الجزء الثاني، دار التقدم، موسكو
- ماركيوز: الإنسان ذو البُعد الواحد، ترجمة. جورج طرابيشي، دار الآداب، بيروت، 1971.
- المامني (شكري): “ابن خلدون وعلم الاجتماع الإنساني”، ط31، دار أمل للنشر والتوزيع، 2010.
- Habermas (J): “Legitimating Crisis”, Translated by Thomas Maccornthy, Henan Book, London 1976.
- _________________”Scions and technology as Ideology”, Beacon Press, 1974.
- Horkhiemer and Adorno: Mass Culture industry, New York, 1973.
- (G): The Failures Self-Realization, on International Horkhiemer Eclipse al ol Reason oybasg,1941.
- Luck as. (G) History and class Consciousness, Translated by Rodney Livingston, Maslin Press, London 1971.
- Marcuse (H): One Dimensional Man Beacon. Press, 1966.
1 تعليق
الحضارات هي الناتج الإنساني لحقب تاريخية معينة، يصنعها بقدراته وإمكانياته المتوفرة والتي يستطيع حشدها في البناء والتنمية والثقافة والفنون والاقتصاد ومجمل التكوين المجتمعي، ولذلك يتفق العلماء على أن الحضارات انعكاس ميداني لجهد الإنسان، تزدهر وتنمو بقدر ما يبذل من جهد وفكر ويبدع بالعمل وينتج ويندمج أكثر في بحور العلوم.
وكلما زاد الإنسان من قدراته العلمية واخترع وطور آلته التكنولوجية، يكون تأثيره في الناتج الحضاري كبيراً وعظيماً، ومن دون ذلك لا يستطيع أن ينجز ما يستحق أن يفخر به ويتباهى،