كان الهدف من التعليم في المدارس والجامعات الذي دعى إليه طه حسين وتناوله في كتابه الخالد “مستقبل الثقافة في مصر” ليس اكتساب الطلاب والطالبات المعرفة وحسب، بل إنتاجها، فكان يرفض أن تكون المدرسة أو الجامعة على حد قوله “مصنعًا تشتغل فيه آلات (يقصد المعلمين والمعلمات) لتصنع آلات مثلها (يقصد الطلبة والطالبات)”، بل شدد على أن تكون “بيئة لا يتكوَّن فيها العالِم وحده، وإنما يتكون فيها الرجل المثقف المتحضر الذي لا يكفيه أن يكون مثقفًا بل يعنيه أن يكون مُصَدِّرًا للثقافة، ولا أن يكون متحضرًا بل يعنيه أن يكون منميًا للحضارة.” والمقصود بالرجل المثقف هو الإنسان الذي “ينتج أشياء” سواء كانت مادية أو فكرية.. إن للثقافة تعريفات عدة، من ضمنها التعريف الأنثروبولوﭼي الذي يقول بأن الثقافة هي أي شيء يصنعه الإنسان، حيث أن العالَم الذي نعيش فيه مُكوَّن من عالمَين؛ عالَم لم يصنعه الإنسان وهذا يسمَّى عالَم الطبيعة، مثل الجبال والأشجار والرمال والحجارة، وعالَم من صنيعة الإنسان، بدايةً من العصا المصنوعة من جزع الشجرة حتى أعظم اختراع تكنولوﭼي، مرورًا بالإنتاج الفكري والإنتاج الفني، فهذا كله يُسمَّى عالَم الثقافة. وبالتالي فكلمة “مثقف” تُطلَق على الإنسان الذي يقوم بإنتاج شيئًا، بسيطًا كان أو كبيرًا، ولا علاقة لتلك الصفة وفقًا لهذا التعريف بأن يكون الإنسان مُنتِجًا للآداب والفنون والتنظيرات في العلوم الاجتماعية ولا حتى أن يكون قارئًا أو حاملًا للمعلومات، فإن هذا الأخير يُسمَّى intelligentsia وليس cultured.
فيدعو طه حسين أن لا يكون الطلاب والطالبات في المدارس والجامعات “مستهلكين” للمعرفة بل “منتجين” لها، أي يصبحوا “مثقفين”. من هنا ينبغي أن لا تقوم الممارسة التعليمية فقط على التحصيل الدراسي وإكساب الطالبات والطلاب المعرفة وفقط، بل لا بد أن يقوموا بإنتاج منتَجهم الشخصي سواء كان ماديًا أو فكريًا. وهذا تحديدًا ما يفتقدونه في المسار التعليمي وهو ما يدفعهم إلى النفور من التعليم وفي كثير من الأحيان “التسرب” منه أو في أفضل الحالات الاستمرار به لكن بلا فائدة حقيقية مكتسبة.
إن الأعمال التي يقوم بها الطالب مثل كتابة الدرس والاستذكار وحل التمارين، كلها أعمال لا يصدر عنها “منتَج”، وإن كان في البعض منها شيء من الإنتاج فهو ليس منتَج خاص بالطالب يَظهَر فيه فردانيته وشخصيته، فكما يقول المربي والأديب السوفييتي ماكارنكو في كتابه “مشكلات التربية المدرسية السوفييتية”: “إن العمل بسبب قيمته الاجتماعية العظيمة يلعب دورًا عظيمًا في الحياة الفردية للطفل لأنه المظهر الأساسي الذي تبدو به شخصيته.” لذلك فإن عَملْ الطالب الذي لا يؤدي إلى إنتاجه الخاص يكون بالنسبة له شيئًا غريبًا عنه، فيصبح شعوره أثناء تأديته هو شعور بالاغتراب، وفي مسألة شعور الفرد بالاغتراب بسبب قيامه بعمل ليس نابعًا من داخله يقول عالم النفس وفيلسوف الإنسانيات الشهير إريك فروم في كتاب “المجتمع السوي”: “والصفة الاغترابية والمخيبة للظن بعمق في العمل تؤدي إلى ردَّي فعل: أحدهما هو نموذج الكسل التام، والآخر هو العداء المتأصل للعمل ولكل شيء وكل شخص يرتبط به، حتى ولو بشكل لا واعي في كلا الحالتين.” مِن هنا لا بد أن يقوم الطلاب والطالبات أثناء التعلم بإنتاج منتَجهم الشخصي، والسؤال هنا: كيف نجعل التلميذات والتلاميذ يؤدون عملًا منتِجًا؟ وما عسى أن يكون هذا الإنتاج الذي يستطيعون أن يصنعوه في مختلَف المواد الدراسية، سواء المواد الإنسانية أو اللغات أو المواد العلمية التطبيقية؟
بكل بساطة يمكنني أن أجيب فأقول: إنها “الكتابة”.
إن الإنتاج الفكري هو نوع الإنتاج الذي يمكن أن يتم مع أي مادة دراسية مهما كان طابعها سواء كانت علمية أو أدبية أو فنية أو تقنية أو حتى مهارية. إن كل ما يخطر على البال من تخصصات (الرياضيات، العلوم، اللغات، التاريخ، الجغرافيا، الموسيقى، النجارة، الطهي، التربية الرياضية … إلخ) يمكن للطالبات وللطلاب أن يقوموا بالكتابة فيها وعنها. وللكتابة أنواع وأشكال عدة، فيمكن أن يكتبوا رأيًا في الموضوع الذي يتم دراسته، أو يجرون حوارًا مع متخصص ثم يقومون بتفريغه وتحريره، أو أن يكتبون طريقة عمل شيء ما عملي، أو يقومون بتأليف عبارات وجُمل لتُستَخدَم كأمثلة عند شرح القواعد اللغوية بديلة عن الجُمل الموضوعة في الكتاب المدرسي إذ يقوموا هنا بتوظيف مفردات من إبداعهم الذاتي لكي تحقق نفس الغرض اللغوي والنحوي من هذا الدرس، أو تأليف أسئلة وتمارين على الدرس تكون من وحي واقعهم وبيئتهم … إلخ. كما هناك شيء آخر في غاية الأهمية يمكنهم الكتابة فيه، وهو الكتابة النقدية.. فيمكن للطالبات والطلبة أن يختاروا قضايا أو ظواهر مجتمعية تخص المادة العلمية ويقوموا بدراستها عن طريق البحث في العوامل التي لها تأثير عليها مثل العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتاريخية والثقافية والبيئية … إلخ، وهذا ما يُطلَق عليه “النقد”، وذلك لمعرفة الأسباب والعوامل الجوهرية التي أدت إلى وجود تلك الظاهرة أو القضية محل الدراسة ومن ثم بناء موقف عقلاني تجاهها، ثم يقومون بكتابة دراستهم النقدية هذه. وأستطيع أن أقول أن جميع المواد الدراسية سواء كانت لغات أو علوم تطبيقية أو علوم إنسانية وبالمثل التربية الفنية والتربية الرياضية، يمكن أن نجد لها قضايا أو ظواهر مجتمعية تخصها ليقوم الطالبات والطلاب بدراستها ثم كتابة تلك الدراسة. ولنحرص كل الحرص على أن تكون النصوص المتولَّدة نصوصهم الخاصة التي تعكس شخصيتهم وليست مكتوبة بواسطة برامج الذكاء الاصطناعي التي تقوم بإنشاء النصوص مثل تطبيق ChatGPT على سبيل المثال، وذلك حتى يشعرون بقيمة العمل الذي يقومون به ولا يصابون بالشعور بالاغتراب تجاهه فيعودون للحالة التي كانوا عليها من قبل وهي عدم الإحساس بمعنى تجاه الأعمال التي يؤدونها لأنها ليس أعمالهم بل أعمالًا غريبة عنهم.
ولأن الكتابة هي نوع الإنتاج الذي يمكن أن يتوافق مع أي مادة دراسية يدرسها الطالب والطالبة ومع أي درس من دروسها، لذلك فإن تعليمهما اللغة وقواعدها يجب أن يكون له أولوية قصوى في التعليم المدرسي. أولًا اللغة العربية الفصحى بطابع الأمر ثم اللغة الأجنبية التي يُجْرَى دراستها خاصة عندما يتم بها دراسة المواد العلمية التطبيقية كالعلوم والرياضيات. وهنا لا بد أن أؤكد على أن تعليم الأطفال اللغة في المدارس يجب أن لا يكون الهدف الأساسي من وراءه هو أن يتحدثونها في طلاقة، كلا، بل باعتبارها الأداة التي سوف يُنتِجون بواسطتها.. ولأنها أداة الإنتاج لذلك يجب أن نُعلِّمهم قواعدها ومفرداتها والمرادفات وجذور الكلمات ومصادرها وأساليب المحسنات والصياغات التعبيرية وكل ما يساعدهم على الإنشاء بما يتناسب مع المرحلة الدراسية التي هم فيها.
إن الإنتاج الفكري هو السبيل لتَقدُّم بلدنا وتحول شعبها من مستهلك للثقافة إلى منتِج للثقافة ومُصَدِّرًا لها، فضلًا عن أن ذلك النوع من الإنتاج لا يحتاج إلى رأس مال اقتصادي كبير كغيره من الإنتاج. وعندما تبدأ ممارسة الإنتاج الفكري مع الطالبات والطلاب في سن صغيرة سوف تلازمهم مدار حياتهم وهم في وظائفهم المختلفة، فأيًا كان مجال عملهم (تجارة، محاماة، طب، فنون، هندسة، تربية وتعليم، مهام إدارية، رياضة، … إلخ) يمكنهم الكتابة فيه وعنه. إن الإنتاج الفكري هو عنوان تقدم الشعوب وفيه تظهر شخصيتها وهو كما يقول طه حسين أساس الحضارة والقوة والثروة للأمة.
شادي جمال
معلم بكلية سان مارك – الإسكندية
1 تعليق
[…] […]