مثّل تعريف الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز الإنسان بأنّه “شرّير بالطّبع” انقلابا في المنظور الفلسفي إلى الإنسان، إذ بَيّن أنّ الطّبيعة البشريّة ملأى بالانفعالات والأهواء المتصارعة، وأنّ إبقاء هذه الأخيرة من دون حدود سيؤدّي –ولا شكّ- إلى حرب ضاريّة لا تُبقي المجال لانبعاث الحضارة واستمرارها. ومن أجل تجنّب تبعات الحرب، وبُغية التّحكّم في الطّبع البشري الشرّير، اقترح هوبز إنشاء دولة تحاكي في سلطانها غير المحدود “إلها فانيا” يفرض على المواطنين –بالقوّة- السّلوك وفقا للقانون المدني. بيد أنّ التّاريخ دائما ما أثبتَ محدوديّة الرّقابة الخارجيّة وتأثيرها على سلوك الإنسان الذي لا يتورّع عن انتهاك القانون كلّما أفلت من الرّقابة. هنا ظهرت الحاجة الماسّة إلى آليّة تسمح بخلق رقابة داخليّة تجعل الإنسان يتصرّف امتثالا لقواعد الواجب بشكل طوعيّ، فكان الحلّ هو “فلسفة التّربيّة”. فإذا كانت الطّبيعة البشريّة تنطوي على نوازع تهدّد العيش المشترك، فإنّها قابلة للضّبط بفضل التّرويض الذي ينقلها بالتّدريج من الحيوانيّة إلى الإنسانيّة، لأنّ الإنسان لا يولد إنسانا، بل يصير كذلك بالتّربية. نحاول في في هذه المقالة أن نرصد “شروط إمكان ظهور فلسفة التربية” في العصر الحديث، ونقف على نموذج منها عند الفيلسوف الألماني كانط.
أنطلق في هذا المقال من دعوى مفادها أنّ تاريخ الفلسفة –في وجهيه القديم والحديث على الأقل- هو تاريخ أنساق نظريّة (أو برادايمات بلغة توماس كون) يتفاعل فيها الفلسفي والعلمي، وتعكس إشكالاتهما انشغالات العقل البشري في مرحلة تاريخيّة معيّنة. تتولى النظريات العلمية تفسير ظواهر الطبيعة والكشف عن أسرارها والإجابة عن تساؤلات العقل البشري بصدد أصل الكون وآليات عمله وطرق اشتغاله، وعندما تواجه هذه النظريات مكذبات تعجز عن حلها تخلي المجال لأخرى جديدة تكون أقدر منها على حل الإشكالات القائمة. غالبا ما تصاغ النظريات العلمية بلغة رمزية قوامها الرموز والأعداد (لغة الرياضيات والمنطق)، وهي لغة العلماء وهم يشتغلون على المستوى النظري. وبما أن هناك ترابطا وثيقا بين العلم والفلسفة، فإن أي كشف علمي نظري يصيب بيت العلم، يقتضي إعادة ترتيب البيت الفلسفي بما يغيّر نظرة الإنسان إلى الذات والعالم. على هذا النّحو تتغير الأفكار والمناهج والمبادئ في المجتمعات العلمية، فظهور نظرية علمية جديدة دائما ما يُحدث تغيرا فكريا يطال جميع المجالات من فلسفة وتقنيات وفنون وإنسانيّات وآداب وما شاكل ذلك. لم يقتصر نشاط الفيلسوف على النّظر في القضايا التي تقع على تخوم العلم فحسب كما زعم ياسبرز، بل تضمّن أيضا مهمّة أخرى تتجلّى في جسرَ الهوّة التي تفصل النّظر العلميّ المحض عن الحياة العمليّة ومسائل الوجود البشري.
يظهر ذلك في أنّ الفلسفة تتكلّم لغة طبيعية (غير رمزيّة كما هي لغة العلم) تجمع بين صرامة العلم وبساطة الأدب، فتقلّص المسافة بين أفهام العامة وعلوم الخاصة، وتفتح بذلك المجال أمام النّظريّات العلميّة حتى تجد طريقها إلى السّلوك، وتنعكس على القيم. يمكننا رصد ذلك في مجال “فلسفة التربية” التي لم تظهر باعتبارها مبحثا فلسفيّا قائما بذاته إلا بعد ظهور البرادايم الحديث الذي صار الإنسان مركزه، وصار البحث في القضايا التي تخصّ وجوده وكينونته موضوعا ٍرئيسيا تنشغل به المجالات الفلسفيّة الكلاسيكيّة (السياسة، الأخلاق، المعرفة…)، بل وخلق النّظر في الطّبيعة البشريّة مشكلات اقتضى حلّها ظهور نظريّات فلسفيّة تنظر في موضوع التّربيّة.
لقد فهم العصر الحديث ذاته على أنه عصر التقدم والتطور والتّجديد. بدأ هذا التّحوّل الحديث من الثّورة العلميّة التي عرفها علم الفلك بعدما ادّعى عالم الفلك البولندي أنّ الأرض ليست مركز الكون المغلق كما اعتقد القدماء والذين من بعدهم، بل إنّها مجرّد كوكب يدور حول الشّمس التي تحتلّ المركز. لم تقتصر تداعيات هذه النّظريّة على العلم الذي توجّب عليه أن يعيد النّظر في تصوّره عن العالم (بنية الكون المنقسمة بين عالمي السّماء والأرض وطبيعتهما وتركيبتهما…) فحسب، بل امتدّت إلى الفلسفة العمليّة (الأخلاق والسياسة) التي توجّب عليها أن تراجع ما ورثته عن التّقليد القديم وتعيد النّظر فيه. شيّد هذا الأخير تمثّلاته عن القيم والعدالة والحياة السّعيدة والخير على الطّبيعة (الكوصموص الهرمي)، واتّخذ منها مرجعا يستمدّ منه التّشريعات والقوانين، فكان انهيار هذه الخلفيّة هزّة فكريّة فقد معها العقل نقطة الارتكاز التي ينظر من خلالها إلى العالم. والواقع أنّ الثّورة العلميّة دفعت العقل البشري إلى اتّخاذ موقف مشكّك من الدّين نفسه[1] بعدما تبنّت الكنيسة قصصا توراتيّة تنسجم في بعض مضامينها مع مبادئ المنظور العلمي القديم، خاصّة منه “مركزيّة الأرض للعالم”، بحيث بدا أنّ تكذيب مبادئ العلم يكافئ في مضمونه التّشكيك في حقائق الكتاب المقدّس، وهو الأمر الذي يفسّر معاداة الكنيسة مظاهر هذه الثّورة العلميّة (حظر نظريّة كوبيرنيك وكتابه، إحراق العالم جيوردانو برينو، محاكمة جاليلي…). فما الذي يتبقّى للإنسان بعد انهيار المرجعيتين التّقليديتين اللّتين استند إليهما لبناء تمثّلاته حول ذاته والعالم؟
لا عجب أن يصف الفيلسوف الفرنسي لوك فيري فلاسفة العصر الحديث وعلماءَه “بالتّائهين“[2] الذين وجدوا أنفسهم حيارى بعدما تنكّروا لما آمن به آباؤهم، فتعيّن عليهم أن يبحثوا عن أساس جديد يستندون إليه لإعادة بناء العالم المتداعي من حولهم. لقد كان موقع الأرض الثّابتة في مركز الكون يضمن للمعرفة الإنسانية صلاحيتها وصدقها المطلقين. أما وقد كفت الأرض عن أن تكون في المركز، فإن المعرفة الإنسانية تصبح نسبية ما دام أن الموقع الذي تقف عليه الذات ليس إلا موقعا من جملة مواقع أخرى للملاحظة. يبدو إذن أنّ الأزمة التي فجرتها الكوبيرنيكية متعلّقة بالحواس، وكانت دلالتها الإبستمولوجية تقتضي بناء المعارف الإنسانيّة على العقل؛ ذلك أنّ إدراك الحقيقة لا يمرّ عبر المشاهدة الحسية الخادعة (دوران الشمس حول الأرض)، بل يستلزم من الإنسان أن يتموقع بعقله. هكذا ظهر المركز/الأساس الجديد الذي استند إليه البرادايم الحديث، إنه الإنسان. فما الذي يجعل من الإنسان أساسا جديدا يسمح بإعادة تشكيل العالم وتحديد معاني الخير والحياة السّعيدة والعدالة…؟
كان البحث عن إجابة لهذا السّؤال منطلقا لأغلب الفلسفات التي ظهرت في العصر الحديث (خصوصا فلسفات القرنين 17 و 18). يشهد على ذلك حضور الإشكالات المتعلّقة بالإنسان –من قبيل طبيعته وعقله وخصائصه وميوله- في الأعمال الفلسفيّة الكبرى لهذه المرحلة، بدءا من توماس هوبز (اللفياثان وما تضمّنه من تصوّر أنثروبولوجي حول الطّبع البشري وانفعالاته…)، مرورا بديكارت (انفعالات النّفس، التّأمّلات…)، واسبينوزا (الإتيقا، رسالة في إصلاح العقل)، ولوك (رسالة في الفهم البشري) وروسو (خطاب في أصل التّفاوت بين النّاس، إميل)، وانتهاء بهيوم (رسالة في الطّبيعة البشرية) وكانط (تأملات في التربية) وغيرهم .
وبصرف النّظر عن مظاهر الاختلاف التي يصعب حصرها بين هذه الفلسفات فيما خصّ منظورها إلى الإنسان وما يجعله متميّزا، إلاّ أنّها تكاد تُجمعُ على أنّ المنظور القديم (في صورته الأرسطيّة) –الذي اعتبر أنّ الطّبيعة تفعل في الإنسان فعلها في مختلف الكائنات الطّبيعيةن فتتحكّم في مصيره وتحدّد مواضعه من خلال ما تهبه من ميل وقوّة- إلى الإنسان لم ينظر إلى الإنسان كما هو في الواقع، بل كانت تحرّكه غائيّة أخلاقيّة جعلته يتمثّل الإنسان كما يجب أن يكون، فانتهى تلقائيّا إلى نظريّات مثاليّة لم تجد طريقها إلى التّحقّق الفعلي. ومن أجل تجنّب السّقوط في هذا المنزلق، وبناء فكرة واقعيّة عن الإنسان، لجأت الفلسفات الحديثة إلى “حيلة منهجيّة” تسمح بعزل الظّاهرة المدروسة عن محيطها وما عَلِقَ بها عبر الزّمن، بما يُمكّن من النّظر إليها بشكل واضح.
سُميّت هذه الحيلة “بفرضيّة حالة الطّبيعة“، ويقترح مضمونها افتراض وجود حالة أصليّة كانت قائمة قبل وجود المؤسّسات الاجتماعيّة والسيّاسيّة والنّظم الأخلاقيّة. كان الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز أوّل من استعمل هذه الفرضيّة في كتاب اللفياثان (1651)، فانتهى منها إلى أنّ الطّبيعة البشريّة نزّاعة إلى الشّر بفعل الأهواء المتصارعة التي تحرّكها من قبيل التنافس (rivalité) والحذر(méfiance) والفخر (fierté)،[3] وليس هناك من سبيل إلى ضبطها إلا بوجود سلطة مطلقة يحتكرها طاغية يمتلك الحقّ في القيام بكلّ شيء من أجل تحقيق الأمن ومنع النّاس من إلحاق الضّرر ببعضهم بعضا. وبالرّغم من الانتقادات التي وُجّهت إلى النّتائج التي انتهى إليها اللّفياثان، خاصة من الفيلسوف روسو الذي بيّن انطلاقا من الفرضيّة نفسها أنّ الطّبيعة البشريّة في صورتها الأصليّة تنطوي على الرّقّة والرّحمة والخير[4]، إلاّ أنّه في الوقت نفسه رصد المخاطر التي أدّى إليها اجتماع النّاس مع بعضهم، من قبيل الغيرة والتّنافس والحسد، وما يمكن أن تؤدّي إليه هذه الانفعالات –إن تُرِكَت طليقة- من صراع وعنف، ممّا يُبيّن أنّ الفيلسوفين اللّذين اختلفا في تصوّرهما للإنسان، انتهيا إلى أنّ الوجود البشري تطبعه “الهشاشة”، ممّا يجعله في حاجة ماسّة إلى آليات تضبط الطّبيعة البشريّة وتسمح بترويضها على نحو يجعل من العيش المشترك أمرا ممكنا. اقتصر الحلّ الهوبزي على اللّجوء إلى القوّة التي توفّرها السّلطة السّيّاسيّة ورقابتها القويّة لأفعال النّاس وحتّى نياتهم. لكن، لم يفته الوعي التامّ بمحدوديّة هذه المقاربة ما دام أنّ التّسلّط على الأفكار والآراء والقناعات يظلّ بعيدا عن متناول السّلطة السّيّاسيّة. فهل من سبيل إلى إنشاء نوع من الرّقابة الذّاتيّة التي تجعل الفرد يلتزم ذاتيّا بفعل الصّواب؟
وجد روسو في الطّبيعة البشريّة منفذا يُفضي اتّباعه إلى تحقيق هذا الغرض، عندما أكّد أنّ الطّبع البشري ينطوي على قوّة فطريّة تحافظ على نقائها الأصلي وتبقى منيعة ضدّ مساوئ المجتمع التي يمكن أن تلحق بالإنسان، أطلق على هذه القوّة اسم “الضّمير الفطري“[5]، وزعم أنّ تحصينها من الإغراءات التي توفّرها الحياة الاجتماعيّة المُترَفَة، يجعلها تمارس نوعا من الرّقابة الذّاتيّة على الإنسان. لكنّ وجودها ليس ضمانة كافيّة للتّأكّد من أنّه سيأتي الخير دائما، ما دام أنّه يتمتّع بالحريّة التي تجعله قادرا على الاختيار بين الخير والشّر. وقد بسط الآليّات التي تسمح للضّمير بممارسة هذه الوظيفة الرّقابيّة باستمرار في كتاب “إميل”.
لم يكن عبثا أن يُطلق كانط لقب “نيوتن الأخلاق” على روسو، بل إنّ هذا الوصف لا يعكس التّمجيد الشّخصي الكانطي لروسو فحسب، بل ويؤكّد في الآن نفسه أنّ إنجاز روسو الكبير في مجال الأخلاق إنّما يظهر في انتباهه إلى أنّ ضبط الإنسان لا يتأتّى بالرّقابة التي تمارسها المؤسّسات الخارجيّة، دينيّة كانت أو دنيويّة، بل يقتضي تحقيق ذلك تكوين رقابة تنبع من الإنسان ذاته، بحيث يختار فعل الخير طوعا. تلقّف كانط هذا المبدأ وحرص على تطويره من جهتين –كما سنشرح تاليا- نعرضهما باختصار:
- أخذ أوّلا بالمبدأ القائل بأنّ الطّبيعة البشريّة –حتى وإن انطوت على الشّرّ- تحمل استعدادات يمكن توجيهها نحو الخير بفضل آليات التّربيّة.
- إن كان الإنسان يتمتّع بالحرّيّة –خاصّيّة القابليّة للاكتمال حسب روسو-، وكان من شأن الاستعمال البشري لهذه الحريّة أن يؤدّي إلى السّقوط في الشّرّ، فإنّ الطّبيعة الإنسانيّة تحمل أيضا مبدأ “الإرادة الحرّة والطّيّبة” الذي لا يلحقه الفساد قطعا، ويمكن اعتباره أساسا لبناء مشروع تربويّ لا يكتفي بمجرّد الضّبط، بل ينشد التّخليق الذي يصل فيه الإنسان إلى مستوى المشرّع الذّاتي للإنسانيّة جمعاء. هكذا فتح كانط الرّهان التربوي الأكبر، وحدّد بذلك مهمّة نظريّة التّربيّة باعتبارها طموحا ينبغي أن تعكف الحضارة البشريّة على تحقيقه. وسنعرض في الصّفحات الآتية لأهمّ مبادئ نظريّته كما بسطها في كتابه “تأمّلات في التّربيّة”.
اشتُهِرَت فلسفة كانط “بالنّقد”، ولم يكن النقد مجرد عنوان لمؤلفاته الأساسية، بل عدّهُ عنوانا لعصر بأكمله، يقول في هذا الصدد: “إن عصرنا هذا هو عصر النقد الذي ينبغي أن يخضع له كل شيء، يريد الدين بجلاله والتشريع بقدسيته أن يتملصا منه، لكنهما يثيران بذلك شبهات مشروعة ضدهما، ولا يمكنهما أن يطمحا إلى تحقيق احترام العقل الذي لا يمنحه إلا لمن يجتاز اختباره الحر والعلني[6].
هكذا اعتبر كانط أنّ المهمة الكبرى للنقد تكمن في العمل على إخضاع التشريع السياسي والممارسة الدينية للنقد العقلي، فبوّأ بذلك العقل في ذروة السّلطات، بحيث توجّب على كل خطاب أن يتوقف عن ادّعاء القداسة، أو اعتبار أفكاره بداهات لا تقبل النقاش والتغيير، وأن يتقبّل المساءلة العقلية. ولكن، من أين استحق العقل هذه الصلاحية؟ من الذي منحه حق فحص المجالات الأخرى؟.
لقد اكتسب هذا الحق بعد نقده أولا لذاته، ونقد العقل ذاته لا يعني تقويض أسسه، بل يعني عودته إلى ذاته من أجل معرفة قدراته وإمكاناته الحقيقية، ومن ثمّة الوعي بحدوده. إنّ النّقد هنا يحيل على نوع من محاكمة العقل لذاته، تلك المحاكمة العلنية التي انتهت إلى تحديد إمكاناته، وأوجه استعمالاته المشروعة، ورصدت مدى نجاعة استعمال تلك المبادئ، وهذا هو موضوع ” نقد العقل المحض“. لقد بين كانط أن العقل في استعماله النظري لا يملك صلاحية الخوض في كل المواضيع ومعرفتها والبرهنة عليها، بل إن ما يستطيع معرفته محدود بعالم الظواهر الطبيعية [الفينومين][7] حيث تشتغل حساسيته ومقولات فهمه، وكلما حاول معرفة ما يتجاوز عالم الظواهر لن ينتج إلا التناقضات والأوهام، إنّ وظيفة النقد هنا هي تحرير العقل من الأوهام والمشاكل التي تنبع منه كلما حاول تجاوز عالم الظواهر، ومعرفة ما لا يمكنه بطبيعته أن يعرفه.
يؤكد كانط أن استعمال العقل لا يتم بطريقة واحدة في كل المواضيع، فهناك استعمال نظري وآخر عملي وآخر جمالي وآخر غائي…، ويخضع كل استعمال لجملة من القواعدالتي يمكن اعتبارها شروطَ إمكان تجعل من إصدار الأحكام السّليمة أمرا ممكنا. يحمل التّحديد الكانطي لأوجه استعمالات العقل اعترافا بأنّ النّاس قد يسيؤون استخدام عقولهم فيُصدرون أحكاما غير مشروعة بدافع من الأهواء والمصالح الخاصّة، أو بسبب القصور الذّاتي. فكيف يمكن التّحرّر من هذين التّأثيرين معا؟
نجد الإجابة عن هذا السّؤال في النّصّ الكانطي القصير حول ” التّنوير”. يعرف كانط التّنوير بأنه خروج الإنسان من حالة القصور الذاتي الذي يعد هو بذاته مسؤولا عنه“[8]، وليس المقصود بالقصور هنا خضوع المرء لوصاية قد تُمَارس عليه من سلطة خارجيّة، بل إنّه وضع ينتج عن عجزه عن استعمال عقله الخاص دون قيادة وتوجيه الغير، والسبب في ذلك لا يعود إلى نقص في العقل، وإنما إلى جبنه وخوفه من استعمال عقله بكل حرية. هذا ما يجعل من الأنوار دعوة للإنسان إلى إعمال عقله من أجل التّحرّر من كل أشكال الوصاية التي يخضع لها بنفسه، طالما أن لا أحد يفرض عليه القبول بتلك الوصايات إلا خوفه من استعمال عقله، لذلك كان شعار الأنوار:” كن جرّيئا في استعمال عقلك أنت“[9].
غير أن بلوغ الإنسان لحظة الأنوار الحقة أمر لا يتوقف على إرادته الخاصة فحسب، بل إنها مسار تربوي طويل، والتربية هنا ليست مجهودا فرديا خاصا، ولا تتوجه للفرد وحده، بل يتعلق الأمر بتربية تهم الإنسانية جمعاء. يعتبر كانط في مقاله ” تأملات في التربية ” أن التربية التي تستجيب لعصر الأنوار ليست وصفة جاهزة يكفل اتباعها بلوغ الغاية المرجوة سريعا، لأن ما تنشده ليس شيئا سهلا، إنها سيرورة طويلة تبتغي الوصول إلى لحظة “الأخلاقية” حيث يكون الإنسان قد تحرَّر من كل الانفعالات والدوافع الذاتية أولا، ومن كل السلط الخارجية ثانيا، وأصبح حرا بحيث لا يخضع لأي سلطة عدا سلطة إرادته الطيبة. إنها سعي إلى الكمال الأخلاقي الذي لا يمكن للأفراد تحقيقه، لهذا يتحدث كانط عن فكرة ” الأخلاقية” باعتبارها فكرة ترسم مسبقا مسار التربية البشرية التي تتوجه إليها باعتبارها غاية النوع الإنساني ككل وليس الأفراد فقط. يتطور فن التربية ويربو من خلال نقل كل جيل لمكتسباته وإرثه الفكري والفني والعلمي والحضاري إلى الجيل الذي يليه، وهذا الأخير يتلقاه ويضيف إليه مكتسبات جديدة، والأجيال اللاحقة تكون أكثر قدرة على إرساء تربية إنسانية ترمي إلى تقدم وتطور النوع الإنساني كله نحو نموذج الكمال[10].
وبما أن الإنسان في نظر كانط لا يستطيع لوحده أن يفهم غاية التربية (بلوغ الأخلاق) ويقصدها في كل سلوك أو ممارسة، فقد ” رأت العناية الإلهية أن يضطر إلى أن يطلب الكمال الأخلاقي في ذاته واعتمادا عليه”[11]، ولذلك وهبته مجموعة من الاستعدادات الطبيعية التي تقوده نحو الخير. غير أن هذه الاستعدادات لا تزال في حالة كمون، وهي غير متحققة ولا مكتملة، ويكمن واجب الإنسان في أن يعمل على تنميتها وتطويرها بما يفتح المجال أمام تحققها وتفتحها النهائي[الأنوار]، وهذا ما تتغياه التربية، “فالأنوار تتوقف على التربية، كما أن التربية بدورها تقصد الأنوار[12].
لقد كانت الطبيعة شحيحة مع الإنسان عندما لم تهبه كل ما يحتاج إليه لضمان استمرار نوعه وتقدمه على نحو ما فعلت مع الحيوان. وهو حرمان مقصودٌ غايته دفع الإنسان إلى الاعتماد على ذاته وعقله الخاص. يقوم فن التربية على النظر والتفكير في الغايات الكبرى للنوع الإنساني ككل، وهدف هذا الفن هو استشراف آفاق النوع الإنساني مستقبلا، بحيث لا تبقى الأجيال القادمة حبيسة ما خلفته الأجيال السابقة، بل تغنيها بتجاربها وعلومها وفنونها. يشير كانط –انطلاقا ممّا سبق- إلى أن تربية الأطفال يجب ألا تتم بحسب حالة النوع البشري الراهنة،بل بحسب الحالات الممكنة التي قد تكون أفضل من الوضع الراهن[13]، والموجه لاستشراف كل حالة هو الغاية الكبرى للإنسانية جمعاء، وهذا مبدأ على المربين احترامه واستحضاره دوما، إذ من المعتاد أن يربي الآباء أبناءهم بهدف تكييفهم مع الوضع الراهن مهما كان فاسدا، وما يهمهم هنا هو النجاح فقط، وفي سبيل تحقيق غاية ضيقة صغيرة يتم تناسي غاية الإنسانية التي تمثل خيرا أسمى لكل البشر. وهنا يؤكد كانط أن تحقق هذا الخير الأسمى للبشر رهين بتفتح الاستعدادات التي وضعتها العناية الإلهية في الإنسان،كما أن استحضار الأفراد للغايات الكبرى للإنسانية واحترامهم لها لا يلغي غاياتهم الخاصة، ولا يتعارض معها، لأن تلك الاستعدادات المودعة في طبيعة الإنسان لا تتوفر على أدنى مقدار من الشر، فلا استعداد فيها إلا من أجل الخير[14].
إن تربية الإنسان على ما فيه الخير العام للإنسانية، يجب أن يكون غاية يتوجه إليها كل مشروع تربوي. غير أن التربية باعتبارها ممارسة داخل الميدان العمومي تفرض التساؤل حول دور السلطة السياسية في مسار التربية، إذ من المعروف أن الأمراء لا يرون في مواطنيهم إلا مجرد أدوات لتحقيق غاياتهم وأغراضهم الخاصة. فإذا كان الوالدان لا يهتمان إلا لنجاح أبنائهما وتكيفهما مع الواقع مهما كان هذا الواقع فاسدا، وإذا كان الأمراء لا يرون في رعيتهم إلا أدوات تحقق غاياتهم الخاصة، فإن هذين النّوعين من التربية يلغيان الهدف الأسمى لها، وهو خير الإنسانية جمعاء لا خير الأفراد.
يقودنا هذا الاستنتاج إلى السؤال الآتي: ممن ينبغي انتظار حالة أفضل للعالم؟ أمِن الرعية أم من الأمير؟ يجيب كانط أن الإصلاح يجب أن يكون شاملا، لكنه يشير إلى أنّ الإصلاح الذي يبدأ من الأمراء هو الذي يمكن أن يحقّق نتائج أفضل[15]. فبما أنّ الأمراء هم الذين يستطيعون تنزيل مشاريع التّربيّة النّاجحة، فإنّ خضوعهم لتربية صارمة منذ حداثتهم، يدفعهم إلى إيثار الخير العام، والسعي إلى تحقيق الغايات الإنسانية العليا، وأهمها دفع الناس إلى مرحلة الأخلاقية حيث تنتفي كل الدوافع والميول الأنانية لصالح أخلاق الواجب التي دافعها الإرادة الطيبة فقط.
يقر كانط بأن نظرية حول التربية تبقى مثلا أعلى يصعب تحقيقه فعليا، لكن هذا لا يعد سببا كافيا لاستبعاده ونعته بالخيالي، ذلك أنّ المثل الأعلى يبقى فكرة حقيقية لم تجد بعد طريقها إلى التحقق. وفكرة تربية تنمي الاستعدادات الطبيعية الكامنة في الإنسان هي بالتأكيد فكرة صادقة، وإذا كان كل الناس يكذبون، أيكون الصدق بسبب ذلك مجرد وهم، بالتأكيد كلا.فما الطريقة التي يمكن اعتبارها أقصر طريق لتحقيق هذا الغرض؟
يقترح كانط بعض المراحل[16] التي يرى أنّ المرور عبرها يقود إلى تحقيق مرحلة الأخلاقية:
1، الضبط: تمثل هذه اللحظة بداية مسار التربية، وغايتها الحيلولة دون دون أن تؤدي الحيوانية الأولى إلى فقدان الإنسانية في الأفراد أو في الإنسانية جمعاء، فالضبط ترويض للتوحش الأصلي للإنسان.
2، التثقيف: على كل إنسان أن يكون مثقفا، لأن الثقافة هي التي توجد المهارة، وتعني الأخيرة امتلاك القدرة على تحقيق غايات ما، فهناك مهارات حسنة في ذاتها كما هو حال القراءة والكتابة، وأخرى تمكن من بلوغ مآرب إنسانية أخرى.
3، التحضر: على كل فرد أن يكون متكيفا مع المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه، وأن يكون فاعلا ومؤثرا فيه، أي أن يكون متمدنا يساهم في بناء الحضارة الإنسانية التي هو جزء منها، وأن يكون متمدنا معناه أن يمتلك آداب الممارسة والسلوك المهذب التي تميز مرحلة التمدن.
4، التخليق: وهو الغاية القصوى التي تمهّد لها المراحل الثلاث السّابقة، فلا بد من الحرص على التنشئة الأخلاقية، إذ ليس كافيا أن يكون الإنسان مؤهلا وقادرا على القيام بكل أنواع المهارات وبلوغ الغايات، بل الواجب أن يمتلك إحساسا يجعله لا يختار إلا الغايات الحسنة التي يتبناها كل شخص، ويمكن في نفس الوقت أن تكون غايات كل إنسان[i].
تعد مرحلة التّخليق تتويجا للمسار التربوي الكانطي، لأنها لا يمكن أن تتحقق لدى الفرد، بل هي غاية النوع الإنساني كله، وأمر تحقيقها يبقى فكرة منظمة فقط ولا يمكن بلوغها نهائيا، كما لا يمكن التحقق ممّا إذا كان النوع الإنساني قد بلغها، إذ من الممكن أن يُرغَم الإنسان بقوة القانون والسلطة على أن يكون كائنا مدنيا، لأن الإلزام هنا خارجي ظاهر، لكن يستحيل إرغامه على أن يكون كائنا أخلاقيا، لأنه لا يمكن التحقق من مصدر السلوك الإنساني حتى لو كان أخلاقيا، لأن إلزام الفعل الأخلاقي نابع من الإرادة الطيبة، فهو إلزام داخلي لا خارجي. إن بلوغ هذه اللحظة يقتضي أولا تفتح الاستعدادات الطبيعية كاملة، لأنه بتفتحها يتحقق الخير الأسمى[17]. فما الكيفية التي تتفتح عبرها هذه الاستعدادات؟.
يعتبر كانط أن تفتح الاستعدادات الكامنة في الإنسان أمر لا يتوقف على الإنسان فقط، بل إن الطبيعة تتدخل لتدفعه إلى ذلك، والوسيلة التي تلجأ إليها هي أنانية الناس، وعبر تحريكها تدفع الناس إلى الصراع، إذ أن الإنسان بالرغم من ميل الإنسان إلى الاجتماع مع الناس، إلا أن هذا الميل يبقى مقترنا دوما بنزوع طبيعي يدفع في اتجاه التفرد والسيطرة على الآخرين، مما يهدد كل إمكانية لقيام مجتمع إنساني[18].
يضمن وجود المجتمع للأفراد سلما وأمنا يوفران هامشا لتطوير الاستعدادات الطبيعية، وهذا يدفع الناس نحو الميل إليه، إلا أن الإنسان في الوقت نفسه نزاع إلى أن يوجه الأشياء حسب فهمه الخاص، وأن يستثني نفسه من الخضوع للقانونّ. لذا فهو ينتظر مقاومة من الآخرين وردود أفعالهم عليه. وهنا تظهر حكمة الطبيعة، لقد أنشأت بين الناس علاقات تجعلهم متوقفين على بعضهم بعضا، ما دام الفرد لا يكفي نفسه بنفسه، لكنها في الآن ذاته استخدمت أنانيتهم ومحبة كل فرد لمصلحته الخاصة لتدفعهم إلى الصراع فيما بينهم.
من الواضح أن أنانية الناس وصراعاتهم ستكون لها آثار سلبية على حياة الناس، إذ لولاها لعاشوا في سلام وأمان ووئام، ولما واجهوا كل الآثار الناجمة عنها من حروب وصراعات. لكنّها في الوقت نفسه تلعب دورا حاسما في تطور استعداداتهم وتفتحها؛ فالتنافس هو الذي يوقظ في الإنسان ميله الغريزي نحو التّفوّق، ويدفعه إلى تجاوز الكسل والجبن، وبذل المجهود، بحيث يمكن اعتبارها المحرّك الذي دفع البشرية إلى التّطوّر في اتّجاه إنشاء الحضارة. ولولاها لبقيت مواهب الناس مطمورة، ولما تَفتّح أي استعداد، فهي سر إبداع كل الإرث الحضاري والثقافي الإنساني. تؤدّي أنانية الأفراد إلى خلق نوع من التنافس بينهم، ممّا يدفعهم إلى تطوير قدراتهم وشحذ مواهبهم من أجل التفوق على الآخرين. غير أن هذا التنافس –إذا ظلّ غير مُقيّد- يؤدي في الوقت نفسه إلى إشعال نار الفتنة والصراع بين الأفراد، ممّا يضعنا أمام دافع مهم وضروري لتقدم البشرية من جهة، وهو في الآن نفسه يهددها بالتدمير ما دام يمكن أن يؤدّي إلى الصّراع من جهة أخرى.
حلا لهذه المفارقة يشير كانط إلى أن الإبقاء على التنافس الضروري للتطور وتفتح الاستعدادات الطبيعية دون أن ينتهي إلى الحرب، يتوقف على إنشاء مجتمع مدني يخضع لنظام حقوقي يقيد حرية كل فرد حسب قوانين عامة بشكل يجعلها لا تمس حرية الآخرين، ذلك لأنه إذا كان مباحا للذات أن تفعل كل ما تريد دون شروط، فهذا يعني ضمنيا إلغاء إمكانيات الفعل لدى بقية الناس. لذا لا بد من تقييد إمكانيات الفعل لدى جميع الناس دون استثناء وفقا لمبادئ الحق، فالحق يمثل معيارا تُقبل القوانين التي لا تلغيه، وتُرفض تلك التي لا تتوافق معه[19].
يوفّر المجتمع المدنيُّ المجالَ العموميَّ الذي يسمح للجميع أن يتصرفوا بحرية، وأن يطوروا استعداداتهم. إنه الذي يضمن لكل مواطن فيه هذه الحرية. يبدو المجتمع المدني كما لو كان يقيد الحرية عبر القوانين، لكنه في الوقت نفسه يفتح مجالا واسعا من الحرية يسمح للجميع بتطوير استعداداتهم دون وجود أي نوع من أنواع التوتر والصراع؛ ومن ثمّة فهو الضمانة الوحيدة لحياة يسودها السلام والأمن والتطور والتقدم، ولهذا فإن بلوغ هذا المجتمع يمثل مطلبا ضروريا لمشروع التربية، وهو لحظة التمدين. إن سيادة فكر الأنانية والميل إلى تحقيق المصلحة الذاتية لا ينتهي إلا عبر ثالوث الضبط والتثقيف والتمدين، وهنا تكون غاية التربية تهذيب الغرائز المتوحشة.
يتوقف عمل الطبيعة عندما تدفع الناس إلى تأسيس مجتمع مدني يمكن من فتح المجال أمام تطور الاستعدادات الكامنة في الإنسان، وذلك عبر تحريك أنانية الناس ودفعهم إلى الحرب، وهنا يكون الإلزام خارجيا من طرف الطبيعة، لكن عملها يتوقف هنا، إذ لا تستطيع إلزام الإنسان لأن يكون كائنا أخلاقيا، لكن وجود مجتمع مدني يسمح بتفتح الاستعدادات يعد خطوة هامة نحو التخليق، إذ من جملة هذه الاستعدادات واحد منها يتعلق باستعمال العقل، وهذا الاستعمال يتوقف على الإنسان ذاته، وهنا يبدأ عمل العقل الذي عليه أن يكمل مسار التربية من أجل تحقيق التخليق[20].
إن مسلسل التطور التاريخي الذي أطلقته الطبيعة لا يعرف النهاية إلا ببلوغ الإنسانية مرحلة الكمال الأخلاقي، وهذا لن يتأتى إلا بانتزاع العقل ذاته من كل أشكال الوصاية الخارجية التي ما زال يقبل البقاء فيها. إن أعظم وصاية واجهها الإنسان هي تلك التي مارستها عليه الطبيعة، عندما جعلته يخضع طويلا لدوافع الغريزة ومطالبها، ودفعته عبرها إلى خلق مجتمع مدني سمح لاستعداده الأساسي أن يتفجر. يتعلق الأمر بظهور العقل وامتلاك الإنسان للقدرة على التفكير والفحص، ومع ظهور العقل ارتفعت وصاية الطبيعة عنه، وتركته لوحده ليتحمل مسؤوليته بعد أن هدته إلى سبيل الرقي والتقدم والتطور.
لقد آن الأوان أن يتخلص من قصوره الذاتي الذي يسببه خوفه من استعمال العقل بكل حرية، وهذا ما يعبر عنه كانط بقوله ” إن الكسل والجبن هما السببان في أن عددا من كبيرا جدا من الناس يفضلون البقاء قاصرين طوال حياتهم بعد أن تكون الطبيعة قد حررتهم منذ أمد بعيد[21]“. إن من يفضلون حالة الوصاية ينزعون باختيارهم إلى توكيل الآخرين للتفكير والتقرير بدلا منهم، ومع مرور الوقت يستعذبون هذه الحياة إلى درجة يصبح التفكير في تجاوزها أمر خطير بالنسبة لهم، لهذا يشبههم كانط بمن يوضع منذ نعومة أظافره داخل عربة ويحبس داخلها بحيث يحال بينه وبين محاولة مغادرتها والمشي اعتمادا على نفسه دون مساعدة الغير وقيادته، ومن يقوم بقيادته يهول عليه أمر مغادرتها بدعوى أنه لن يستطيع المشي لوحده، وهو في حاجة ضرورية له، ولهذا يبقى خائفا من محاولة مغادرة العربة، غير مدرك أن خطر مغادرتها أهون من البقاء فيها، لأنه سيتعلم المشي بعد أن يكون قد سقط بضع مرات، وهذا يقال على استعمال العقل، فما على الفرد إلا أن يتجرأ على استخدام عقله لوحده، قد يخطئ في بعض الأحكام، لكنه سيتعلم من ذلك[22].
يتساءل كانط في نصه حول التّنوير قائلا ” هل نعيش حاليا عصرا أنواريا؟ والجواب كلا، نحن نعيش في عصر يسير نحو الأنوار، وما زال يلزمنا الكثير حتى يستطيع الناس استعمال عقولهم…دون توجيه وإرشاد من الغير[23] “. وهو الأمر نفسه الذي يثيره في نصه حول التربية بقوله ” إننا نعيش عصرا يتميز بالانضباط والثقافة والحضارة، لكننا لا نعيش عصرا يتسم بالخلقية[24]“، وهنا يؤكد كانط على أن البشرية اليوم [في عهده] تعيش لحظة فارقة ما دام أن المجال بات مفتوحا أمام حرية الاستعمال العمومي للعقل، والعوائق التي كانت تحول دون خروج الإنسان من حالة القصور الذاتي باتت تتقلص تدريجيا.وأهم عائق ما زال يعرقل مسار التربية التنويرية داخلي لا خارجي، يتعلق الأمر هنا بتخلي الأفراد عن الجبن والخوف من استعمال العقل والمعرفة بحقيقة إمكانياته وحدوده أيضا، لقد استطاع العقل التحرر من الضرورة الطبيعية التي يخضع لها في استعماله النظري، والتي يلزم فيها بالبقاء داخل عالم الظواهر فقط، لأن محاولة معرفة ما يوجد خارج هذا العالم تعني إنتاجه للتناقضات والأوهام والمغالطات، ليصبح في استعماله العملي مشرعا للقوانين الأخلاقية .
أخيرا نخلص إلى أن التربية كما صاغها كانط تسعى لبلوغ غايتين تخدم إحداهما الأخرى، تتجسد الأولى في تحرر الإنسان من كل أنواع الدوافع والغرائز الطبيعية التي تبقيه ضمن دائرة الحيوانية، وبالتالي استعادة العقل زمام السيطرة والتحكم في الإنسان، وامتلاك هذا الأخير القدرة على اتخاذ القرار السليم والتقرير في المصير دون تدخل الأهواء والانفعالات أولا، أو أي سلطة خارجية ثانيا، لكن تحرر العقل ليس إلا جزءا من مسلسل طويل على العقل أن يمر به من أجل تحقيق غاية الإنسانية الكبرى، وهي قيادتها نحو الاقتراب من الكمال الأخلاقي. ما ينفك كانط يعترف في كل مرة أن تحقق الفعل الأخلاقي بكل شروطه يتطلب ملاكا لا إنسانا، طالما أنّ الإنسان لا يستطيع التحرر نهائيا من كل الميول والعواطف والمشاعر.لكن كانط يعتبر أن عدم تحقق الفكرة كاملة لا يلغي أهميتها وقيمتها العملية، يجب أن يجعل بنو الإنسان من بلوغ لحظة التخليق غاية ينشدون بلوغها في كل أفعالهم، قد لا يحققونها كاملة، لكنهم يقتربون منها، وكلما اقتربوا منها كلما ارتقوا أخلاقيا[25]، إن نظرة كانط التربوية تندرج في سياق حداثي سيطرت عليه فكرة التقدم والتطور، بحيث فرضت نفسها في كل الميادين، ولهذا كانت فلسفة كانط التربوية تستجيب لعصر التنوير.
مراجع المقالة :
[1] . فيري، لوك، تعلم الحياة، سأروي لك تاريخ الفلسفة، ترجمة سعيد الوالي، مراجهة زهيدة درويش، أبو ظبي للثقافة والتراث، ص. 151.
[2] . المرجع نفسه، ص. 152.
[3]. Thomas Hobbes, Léviathan, trad. François Tricaud, paris, 1971, Sirey, p, 123.
[4] . جان جاك روسو، أصل التفاوت بين الناس، ترجمة، نور الدين العلوي، دار المعرفة للنشر، الطبعة الثانية، 2008. ص. 105.
[5] . روسو، دين الفطرة أو عقيدة القس من جبال السافوا، ترجمة، عبد الله العروي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2012، المركز الثقافي العربي. ص. 74.
mymedic.es name=”_ftn6″>[6] . اسماعيل المصدق، المهمة التاريخية للفلسفة النقدية، واردة بمجلة “التأصيل النقدي للحداثة وما بعدها، قراءة في الفلسفة الكانطية” ص. 24.
[7] . إيمانويل كانط، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، بيروت، مركز الإنماء القومي، ص. 167-168.
[8] . أمانويل كانط، تأملات في التربية، ما هي الأنوار؟ ما التوجه في التفكير؟ تعريب وتعليق، محمود بن جماعة، صفاقس، دار محمد علي للنشر، الطبعة الأولى 2005، ص.85.
[9] . المصدر نفسه. ص. 85.
[10] . المصدر نفسه. ص. 17.
[11] . المصدر نفسه. ص. 17.
[12] . المصدر نفسه. ص. 17-18.
[13] . المصدر نفسه. ص. 19.
[14] . المصدر نفسه. ص. 20.
[15] . المصدر نفسه، ص. 20.
[16] . المصدر نفسه. ص. 22-23.
[17] . المصدر نفسه. ص. 16.
[18] . المصدر نفسه. 12.
[19] . كانط، مشروع للسلام الدائم، تر: عثمان أمين، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، ص: 78.
[20] . المصدر نفسه. ص. 16.
[21] . أمانويل كانط، تأملات في التربية، ما هي الأنوار؟ ما التوجه في التفكير؟ ص. 85.
[22] . المرجع نفسه. ص. 86.
[23] . المصدر نفسه. ص. 92.
[24] . المصدر نفسه. ص. 23.
[25] . كانط، مشروع للسلام الدائم، مرجع سابق، ص، 77.
- Thomas Hobbes, Léviathan, trad. François Tricaud, paris, 1971, Sirey.
- فيري، لوك، تعلم الحياة، سأروي لك تاريخ الفلسفة، ترجمة سعيد الوالي، مراجهة زهيدة درويش، أبو ظبي للثقافة والتراث.
- جان جاك روسو، أصل التفاوت بين الناس، ترجمة، نور الدين العلوي، دار المعرفة للنشر، الطبعة الثانية، 2008.
- روسو، دين الفطرة أو عقيدة القس من جبال السافوا، ترجمة، عبد الله العروي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2012، المركز الثقافي العربي.
- اسماعيل المصدق، المهمة التاريخية للفلسفة النقدية، واردة بمجلة “التأصيل النقدي للحداثة وما بعدها، قراءة في الفلسفة الكانطية”.
- إيمانويل كانط، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، بيروت، مركز الإنماء القومي.
- أمانويل كانط، تأملات في التربية، ما هي الأنوار؟ ما التوجه في التفكير؟ تعريب وتعليق، محمود بن جماعة، صفاقس، دار محمد علي للنشر، الطبعة الأولى 2005.
- كانط، مشروع للسلام الدائم، تر: عثمان أمين، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة.