المقدمة:
تأخذ مسألة التعصب مكانها اليوم بين أكثر الموضوعات والقضايا الإنسانية أهمية وتواترا في حقل العلوم الإنسانية، وقد شكلت هذه القضية ميدانا خصبا للبحث السوسيولوجي، حيث تقاطرت الدراسات والبحوث التي تناولت ظاهرة التعصب بمختلف تجلياتها الإثنية والقبلية والطائفية. وقد شكلت هذه القضية بؤرة تتقاطع فيها مختلف العلوم الإنسانية في عملية الاستكشاف العلمي الأعمق لبينة التعصب وماهياته في مختلف مستوياته وتجلياته السياسية والاجتماعية. وينظر الباحثون إلى التعصب بوصفه ظاهرة اجتماعية معقدة في تكوينها وأسباب وجودها، تتداخل في تكوينها منظومة من العوامل الثقافية والاجتماعية وتتقاطع في تشكيلها متغيرات تربوية وسياسية وتاريخية ومذهبية على درجة من التنوع والتشابك والتغاير. ويعد التعصب من أقدم الظواهر الإنسانية الوجودية وأكثرها إثارة للخوف والقلق والجدل، إنه نوع من الظواهر التاريخية الدموية التي تضرب جذورها في أعماق التاريخ الإنساني، وقد شكلت هذه الظاهرة الإطار المرجعي السيكولوجي لأكثر المآسي الإنسانية فظاعةً ودموية، فأخذت صورة حروب مدمرة وإبادات جماعية لم يسلم منها شعب من الشعوب أو أمة من الأمم، إذ تعرضت شعوب بكاملها للإبادة تحت عنوان التعصب والكراهية، وتحت إكراهات التمييز العنصري والديني، في مختلف مراحل التاريخ وعلى تنوع الجغرافيا البشرية.
يعاني المجتمع المحلي العديد من المشكلات الاجتماعية، ومن أبرزها التعصب. وقد لقي هذا المفهوم اهتماما بالغاً في الأدبيات الغربية الحديثة، وتحديداً مع بداية ومنتصف القرن الماضي وبعد موجات التمييز العنصري في هذه المجتمعات، وامتدت المشكلة بجذورها لتأخذ أشكالا مختلفة ومتعددة ليست بحديثة بدون شك. فقد عانت المجتمعات الإنسانية على مر العصور من هذه الظاهرة الخطيرة، وقد أشارت العديد من الدراسات الاجتماعية والسلوكية المعاصرة إلى خطر تفشي مثل هذا السلوك. ولعل هذه المشكلة تزداد خطورة عندما تكون منتشرة ومتفشية بين صفوة المجتمع، والنخب الفكرية والعلمية، والثقافية، والسياسية. فهذه الشريحة هي من تناط بها مسئولية قيادة المجتمع الإنساني، وإذا ما تلاصقت هذه السمة بهذه الشريحة، فإن المجتمع بكل تأكيد سيعاني من مشكلات أكبر تؤثر بشكل كبير على استقراره وكيانه، وفي النهاية أيضا هويته.
فعندما يتولد الشعور بأن هذه الشريحة الاجتماعية لا تقود المجتمع على أسس فكرية وعملية عادلة وتتجه نحو ميول ذاتية وشخصية يغيب فيها مبدأ العدالة، والفكر، والفعل والعمل القائم على الموضوعية، فإن الاستقرار الاجتماعي لهذا المجتمع بكل تأكيد سيكون مهدداً. فهذه الشريحة تؤثر على الشرائح الاجتماعية الأخرى وبالتحديد شريحة الشباب التي تبحث عن الرمزية الفكرية، والتي تعتبر من سمات هذه المرحلة العمرية. فعندما يتولد شعور واتجاه لدى الشباب بأن النخبة والصفوة المجتمعية جادت عن طريق الحق، فإن ذلك سوف يكون له انعكاس سلبي عليها وعلى سلوكها بكل تأكيد داخل إطار المجتمع.
لقد بينت الأحداث الجارية والملاحظات القائمة في المنطقة العربية بشكل عام إن بعضا من “المثقفين” قد وقف موقفا سلبيا من الانفجارات الطائفية، وبعضا آخر وقف وقفة المتفرج، ومنهم من انجرف مع أمواج الطائفية فركبوا أمواجها يجدفون وإليها يدعون. ولا يخلو الأمر من مثقفين واجهوا التيارات العنيفة للتعصب فأعلنوا الحرب ضد كل أشكال الطائفية والعنصرية في المنطقة. ومما لا شك فيه إن مواقف المثقفين ودورهم في هذه المحنة مرهون بمنظومة من العوامل والمتغيرات السياسية والاجتماعية التي تشكلوا فيها وعاشوا في ظلالها، بل هي مرهونة بطبيعة نشأتهم ومستويات تأهيلهم الفكري والثقافي. لقد بينت الملاحظات المنهجية أيضا إن بعض رجال الدين وبعض من “المثقفين” تمذهبوا على تمجيد الطائفية وتأجيج الكراهية وتكريس الحقد الطائفي فأخذوا ينفخون في نار الفتنة ويّقلبون جمارها ويعزفون على أوتارها. وبينت الواقع أن أساتذة جامعات معروفين، ومفكرين كبار، رجال دين مشهود لهم، شعراء، أدباء، انخرطوا في معركة التعصب المذهبي والطائفي وأصبحوا ممثلين لطوائفهم وأعراقهم وأديانهم حتى لانتماءاتهم العشائرية والمناطقية الضيقة.
يقول بدر ملك ( ٢٠١٣ ) في مقالة له حول التعصب مؤكدا حضور ظاهرة التعصب لدى أساتذة الجامعة: “بعث أحد الأساتذة برسالة للمقربين له
ولكن – وبطريق الخطأ- ذهبت الرسالة عبر “الواتس أب” إلى زملائه في العمل حيث يعمل في كلية تربوية! من ضمن الرسالة عبارة منقولة – يبدو أن الأستاذ لم ينتبه لها – تصف أهل مذهب من المذاهب الإسلامية بأنهم “أنجاس”! ووصلت الرسالة لزملائه في العمل ومنهم من ينتمي لذلك المذهب! ليس الإحراج في الخروج من المأزق فحسب بل انتشار تلك الرسائل الالكترونية الجارحة بين العامة والخاصة”.
ومثل هذه القصص الواقعية كثير، حيث يتكشف الواقع عن بلوى التعصب المنغرس في نفوس المثقفين وفي أذهانهم والخطر كبير جدا إذا كانت أعلى نخبة في المجتمع وأكثرها حسما في مجال الفكر الإنساني قد وقعت في فخ الطائفية وفي شرائك المذهبية. ويتابع ملك مصدوما من السلوك التعصبي للمثقفين وأساتذة الجامعة فيقول:
من الغريب أن يدرس شخص مغترب في أرقى دول العالم حضاريا، ثم يعود لبلده ويتكلم بصفته الأكاديمية عن الوطنية وعن التسامح والتعايش علانية، ثم عمليا يخالف ما يصرح به وقد يظهر على حقيقته بين أقربائه والمقربين منه فيكيل الشتائم للمخالفين له. هذا التناقض بين ما نتصوره ونكنه في صدورنا. وبين ما نكتبه ويصدر عنا علانية أمام الناس يدل على أزمة قيمية تجتاح واقعنا وتهدد مستقبلنا وتفتت وحدتنا وتضع المثقف في مأزق مزعج محرج.
وهذا يدل على أن بعض المفكرين والمثقفين نكفوا دورهم الثقافي ودورهم الإنساني في مواجهة كل القيم السلبية ولاسيما هذه التي تهدد الوجود الإنساني والأخلاقي للمجتمعات العربية، ولقد أسهمت أيضا العديد من وسائل الإعلام المحلية في تمجيد الطائفية والمذهبية والدعوة إلى تكفير الآخر واستئصال جذوته، وكان أصحاب هذه المقالات من أساتذة وكتاب وصحفيين ورجال دين، و تناولت أيضا بعض من المنابر وأججت الفتنة، وفي الوسط الجامعي، لوحظ انخراط بعض أساتذة الجامعة والطلاب في جدل ثقافي واسع حول قضايا المذهبية والطائفية والقبلية والتعصب وذلك على أثر الأحداث الإقليمية، يمكن الافتراض بأن ثمة عوامل عديدة تؤثر في هذا المد التعصبي المذهبي والقبلي وأهمها الأحداث الدموية الطائفية والمذهبية والقبلية التي انفجرت في سوريا ولبنان والعراق وليبيا، ومن أهم العوامل تأثير الإعلام المذهبي الذي أصبح يشكل خطرا واضح المعالم على المنطقة العربية برمتها، حيث انتشرت القنوات الفضائية المتخصصة في البث المذهبي والتحريض الطائفي، وانتشرت المواقع الإليكترونية الطائفية والمذهبية والقبلية.
هذه الظواهر ليست عادية أو مألوفة في المجتمع الكويتي الذي عرف بتسامحه وتعايشه السلمي، في مجتمع تلعب فيه الصحافة الحرة دورا يندر مثيله في بلدان العالم الثالث، وفي ظل ديمقراطية برلمانية واسعة المدى ويبقى السؤال: لماذا تنفجر هذه الحوادث وتلك المشاغبات التعصبية القبلية والطائفية؟ وما العوامل التي تفعل فعلها في إيقاظ هذه المشاعر وتغذيتها في الصرح الجامعي؟
1 تعليق
مزيد من التوفيق والتألق أستاذنا الفاضل