الملخّص:
ابتغى أستاذ علم الاجتماع السوري ”علي أسعد وطفة“ في كتابه ” الأميّة الأكاديمية في الفضاء الجامعي العربي: مكاشفات نقدية في الجوانب الخفية للحياة الجامعية ” إثارة مسألة جدّ مهمة، أضحت من شواغل الفكر العربي، وهي ظاهرة الأميّة الأكاديمية التي شهدت تفاقما وانتشارا سريعين في البلاد العربية، وغدت سببا من أسباب التهديم الفكري، وقد حاول تقصّيها معنى ومعاينة، وما شدّنا في هذه المحاولة هو عمقها التحليلي وجرأة صاحبها في طرح مثل هذه القضية، لذلك رغبنا في تقديمها إلى القارئ العربي علّنا نساهم في زيادة وعيه واستفادته منها لما في هذا الجهد التحليلي من إجابات عن كل ما قد يجول بذهنه حول حيثيات هذه المسألة.
الكلمات المفاتيح: الأميّة، الأكاديمي، الثقافة، المثقّف، علي أسعد وطفة.
Abstract:
Syrian sociology professor Ali Assad Watfa wanted in his book “Academic illiteracy in the Arab university space: critical disclosures in the hidden aspects of university life” referring to a very important issue, which became a concern of Arab thought, which is the phenomenon of academic illiteracy, which witnessed the rapid aggravation and spread in the Arab countries, and became one of the reasons for intellectual destruction, and what attracted us to this attempt is its analytical depth and the audacity of its Ali Assad Watfa to raise such an issue.
Keywords: Ignorance, Academic, Culture, Ali Assad Watfa.
1- المقدمة:
الجهل المقنّع، سماجة التعليم، أو الأمية الأكاديمية، ظاهرة انتشرت وتفاقمت طرديا، فتعاظمت فظاعتها في عصرنا الراهن، حتى أضحت خطرا داهما وجد لنفسه مكانا بين منابر العلم ومنابع المعرفة العربية. فما إن نزلت الجهالة بجامعتنا العربية حتى حالت دون قيامها بوظيفتها الطبيعية في صناعة الفكر وبناء الحضارة.
ولعلّه من المحزن القول إنّ التعليم الجامعي في العالم العربي -بفاعل الأمية الأكاديمية-قد تقاعس وتأخّر ففاته الركب، بعد أن نضب معينه وضؤل نتاجه، وامّحى نفاذه إلى شواغل الأمّة، وصار الأكاديمي الجامعي يجيل الطرف في مواكب المعرفة الحقيقية والفكر الحر، فينقلب إليه بصره خاسئا وهو حسير…
كلّ هذا وغيره جعل الحاجة ماسّة إلى طرح ظاهرة الأمية الأكاديمية على مشرحة النقد والتحليل المنطقي، من خلال تفكيك المسألة في محاولة للكشف عن مسبباتها ومحرّكاتها وتداعياتها، والبحث عن الحلول المناسبة لمكافحتها.
ويعتبر الكتاب الذي ألفه الأكاديمي السّوري الأستاذ الدكتور أسعد علي وطفة والموسوم بـ ” الأميّة الأكاديمية في الفضاء الجامعي العربي: مكاشفات نقدية في الجوانب الخفية للحياة الجامعية ” من المؤلفات الرّائدة التي اهتمت بهذه الظاهرة دراسة وتحليلا.
فما هي أهم الإشكاليات التي تمّت إثارتها في هذا الكتاب؟ وما حدود هذا الطرح؟
اخترنا الاشتغال على هذا الأثر الفكري نظرا لأهمية ما احتواه من طرح؛ في محاولة من الكاتب للإجابة على عدة مستويات من هذه الظّاهرة المركبة وما يشوبها من غموض والتباس.
2- التقديم المادي للكتاب:
قام مركز دراسات الخليج والجزيرة العربية بإصدار كتاب: الأمية الأكاديمية في الفضاء الجامعي العربي: مكاشفات نقدية في الجوانب الخفيّة للحياة الجامعية للباحث السوري ”علي أسعد وطفة“[1]، وقد حوى الكتاب 717 صفحة. وينقسم إلى مقدمة وتسعة فصول.
يتضمّن كل فصل مجموعة من القضايا الجوهريّة المهمة.
الفصل الأوّل: المثقّف الأكاديميّ من مفهوم المثقّف إلى مفهوم المثقّف الأكاديميّ
الفصل الثاني: في مفهوم الأميّة الأكاديميّة: من الأميّة الثقافيّة إلى الأميّة الأكاديميّة.
الفصل الثالث: التلقين والترويض في الجامعات العربية: التلقين بوصفه إيديولوجيا تدميرية وقوّة تجهيل استلابيه.
الفصل الرابع: التسييس الأكاديمي ومساراته التدميرية: التدمير المنظّم للوعي الأكاديمي.
الفصل الخامس: ما بين الحريات الأكاديمية والاستبداد الأكاديمي- دور الاستبداد الجامعي في ترسيخ الأميّة الأكاديمية
الفصل السادس: من الاستبداد إلى الفساد: مظاهر الفساد الأكاديمي في الجامعات العربية.
الفصل السابع: الجامعات العربية: تدمير العقل وإنتاج الجهالة: من الفساد إلى الإفساد ومن الجهل إلى التجهيل.
الفصل الثامن: الإطار المنهجي لإشكالية الأميّة الأكاديمية.
الفصل التاسع: هل يعاني الأكاديميون العرب من الأميّة الأكاديمية؟ آراء نخبة من الأكاديميين والمفكرين العرب.
3- قراءة في المحتوى:
3- 1- المقدمة:
افتتح الكاتب علي أسعد وطفة كتابه بمقدمة وسمها بـ: “مشروعية التساؤل”، طرح خلالها الدور التاريخي للجامعات في بناء الأوطان وتحقيق نهضة الأمم، مبرزا الدور المركزي الذي يلعبه الأستاذ الجامعي في هذا البناء وتلك النهضة، إذ هو الضياء الذي يُنِير طريق الأمة إلى الرقيّ والفلاح، وهو المسؤول الرئيسي والراعي الرسمي لإعداد أجيال خالصة القلب والعقل.
كما لمح الكاتب إلى التفاقم الكبير للأمية الأكاديمية في الأوساط الجامعية العربية التي أفرزتها جملة من العوامل السياسية والثقافية والاجتماعية.
3- 2- الفصل الأوّل: المثقّف الأكاديميّ من مفهوم المثقّف إلى مفهوم المثقّف الأكاديميّ:
استهلّ علي أسعد وطفة هذا الفصل بمعالجة مفاهيمية أفضت إلى بيان المقصود بمفهوم المثقّف وعلاقته الجوهرية بالثقافة والأكاديمية. إذ ابتدأ بتعداد أصناف المثقّفين، موضّحا العلاقات الجدلية بين المثقف والثقافة والأكاديمي، واستدعى مرجعيات فكريّة وفلسفيّة غزيرة، وهو ما أفضى بالبحث إلى تحديد ضروب من التمايز بين الأكاديمي المثقّف والأكاديمي.
3-3- الفصل الثاني: في مفهوم الأميّة الأكاديميّة: من الأميّة الثقافيّة إلى الأميّة الأكاديميّة:
لقارئ هذا الفصل بتمعّن أن يلاحظ معالجة المفكر السوري المعمّقة لمؤدّى المركب الإضافي “الأمية الأكاديمية”، أو ما يسمّيها بالجهل المقنّع أو “الجهل المتوهّم علما”. حيث فصّل القول تفصيلا لا مزيد عليه في تبيان المقصود بالأمية الأكاديمية ضمن حدوده الإمبيريقية الإجرائية، ملمّحا إلى كون الأمية في الدوائر الأكاديمية تتجلى بوضوح في عدم قدرة المعلّم على تحقيق التفاعل المعرفي في كل من الكلية والمجتمع، مثلما تتمثل في العجز على تحقيق نهضة نوعية في مجال الخلق الفكري، وكذا في مجال التواصل الفعال بين أطراف العملية التعليمية، والاخفاق في مسايرة حركة العلم والتكنولوجيا المعاصرة.
وقد انتهى الكاتب إلى التصريح بأنّ معظم الأكاديميين العرب، الذين كان يعوّل على علمهم وحكمتهم ورجاحة عقولهم في الأزمات وفي المنعطفات التاريخية الحاسمة، قد أبدوا جهلا أكاديميّا مريعا، حيث بيّنت التجارب المرّة التي شهدتها المنطقة العربية، أن كثيرا من الأكاديميين انحدروا إلى الدرك الأسفل من السلوك الغرائزي الطائفي والعرقيّ والمذهبي الأرعن، وانظموا إلى القطيع الذي ينوء تحت أثقال التخلّف والجهل.
وكيفما دارت الحال، فإن محنة الأمية في جامعتنا العربية هي المسؤول الأول عن شلل الأمة، فالخواء والوهن والعجز الأكاديمي هي العلامات التي تضع الفكر العربي أمام صورته الحقيقية كاشفة عن سوءاته في عالم اليوم الذي لا نرى له فيه بضاعة غير الخيبات المرّة في صناعة الأجيال، والهزائم المتتالية أمام قضايا الأمّة، والتخريب الثقافي والأخلاقي والاجتماعي.
3- 4- الفصل الثالث: التلقين والترويض في الجامعات العربية: التلقين بوصفه إيديولوجيا تدميرية وقوّة تجهيل استلابية:
في الفصل الثالث من الكتاب المعنون بــ “التلقين والترويض في الجامعات العربية: التلقين بوصفه إيديولوجيا تدميرية وقوّة تجهيل استلابيه”، عدد علي أسعد وطفة مساوئ نظام التعليم القائم على التلقين.
وذهب إلى أن أهم ما يعيّر به هذا الأسلوب هو لكنته المتعثّرة وعدم قدرته على إحداث الرقيّ، ذلك أنّ دور الطالب فيه يتوقف عند التخزين والاستظهار، وترداد الجمل التي سمعها دون أن يتقصّى مقاصدها، وليس من قصد لهذا النوع من التدريس سوى تدريب المتعلمين على أسلوب التفكير الميكانيكي الناتج عن العوَز النظري وعدم فهم الواقع ومستلزماته، وهكذا يتحول الطالب إلى وعاء خاو يفرغ فيه الأكاديمي عباراته المستهلكة، المرهقة، والمهلكة ليكون بالتالي مجرد اسطوانة بالية لا غير.
يتضح من ذلك أن النمط التلقيني يثبط صبابة الإبداع، وينزع الى التطويع والترويض من أجل أن يقف حاجزا بين الطالب وإطلاق العنان لقدراته الإبداعية.
وعلى النقيض من ذلك فإن المنهج التعليمي المتنوّر يقوّي ملكة الإنشاء، ويستفز نزعة الحصافة والإحاطة بحقائق الوجود وبالتالي فإنه يحقق شرف طالب العلم لكونه يرقى به عقلا ومعيشة.
ومن المؤسف القول – على حد قول الناقد السوري- إن حياتنا الجامعية لا تحتمل اليوم أكاديميا متنورا مثقفا يجيد الحوار ويمتلك القدرة على التنوير ويشارك طلبته في الهم المعرفي والفلسفي، الأستاذ المثقف البارع في اختصاصه، الأستاذ الذي نذر نفسه للمعرفة والتساؤل المعرفي، الأستاذ الذي يستنير بالمناهج الفلسفية والمعرفية الكبرى، لأن أمثالهم يشكلون خطرا على الأنظمة الاجتماعية القائمة[2].
وكم نحن اليوم في أمس الحاجة إلى المثقف الأكاديمي لا إلى الأكاديمي الملقّن الذي يستظل بأسوار الجامعة ويحتمي بحصونها بعيدا عن الحاضن الفكري والثقافي القائم على هواجس الفكر النقدي. فهناك اليوم «فرق كبير بين أكاديمي التذكر وأكاديمي الإبداع».
3-5- الفصل الرابع: التسييس الأكاديمي ومساراته التدميرية: التدمير المنظّم للوعي الأكاديمي:
يختص هذا الفصل بالحديث عن آفة تداخل السياسي والأكاديمي. ويشخّص الآثار السلبية الناتجة عن هذا التشابك.
وفي ثنايا هذا الفصل يؤكد الكاتب على أنّ الغاية من تسييس الأطر الأكاديمية هي تدجين العقل التربوي ليتواءم مع الوضع القائم، ويدفعه إلى قبول التعثّرات الإيديولوجية من ميل عن الحق وجور اجتماعي وقهر فكري، كأمر طبيعي قسري لا يمكن التنصّل منه أو تهذيبه قطعا، وبين أسوار جامعتنا العربية استطاعت أقذار السياسة أن تجد لنفسها مكانا، ونجحت بشكل واضح في نشر نموذج متعثّر من التعليم يناهض الاختلاف ويطوّر هاجس الخوف من التغيير، ويوقد النائرة تجاه كل ما هو خارج عن المعهود، هذا المعهود الذي خبرناه، فشعرنا بالخيبة منه، ونال من عقولنا وأقدارنا الفرديّة والجماعيّة . ولهذا لم تكن مشاريع تسييس الجامعات سوى نبذ للتحرّر من التعسف والغصْب والجوْر، إذ لا ترى فيه السلطات الحاكمة سوى شرّ مطلق يعصف بامتيازاتها ويخلخل مرتكزات هيمنتها واستتباب الأمر لها.
والمفجع هنا بلا ريب، هو أن الأستاذ الجامعي في الكثير من البلدان العربية، وتحت تأثير هذه الدورة الاستلابية للفساد والإفساد يميل إلى الانسجام مع النظام السياسي الحاكم طمعا بالمزايا والعطايا السلطانية، وطلبا للشعور والإحساس بالهوية والوجود بعد أن فقد كل ركائز ومقوّمات هويته الأكاديمية وقصر دوره على التلقين الساذج المهلك للقيم، وانكفأ إلى وظيفة التجهيل وتدمير الوعي، فاقتصر دوره على حشو أدمغة الطلبة بالمعلومات الفارغة[3].
ويمكن القول إجمالا، إنّه ما إن زجُّ بالعملية التعليمية نحو المناكفات والصراعات الإيديولوجية، حتى أجبر المثقف الأكاديمي الحرّ على أن يقف خارج بوتقة الفكر الثوري التنويري، فلم يعد الأستاذ بذلك أساسا لقيام الحضارات، ولا النبراس الذي يضيء للأجيال دربها، ويوجّه طاقات الشباب إلى منارات المعرفة ودروب النور والمغامرات الفكرية المخصبة.
3- 6- الفصل الخامس: ما بين الحريات الأكاديمية والاستبداد الأكاديمي-دور الاستبداد الجامعي في ترسيخ الأميّة الأكاديمية:
سلط الأستاذ الدكتور علي أسعد وطفة في هذا الفصل الضوء على مسألة ذات طابع خاص وحساس تتعلق بحال الحريات الأكاديمية في جامعاتنا العربية. فأكّد أنّ الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية تعيش حالة غياب وتغييب تراجيدية، ويرى الكاتب أن هذه الحريات لم تولد بعد في معظم الجامعات العربية الحديثة التي تشكلت في النصف الثاني من القرن العشرين. حيث تأسست الجامعات الحكومية في محراب الولاء للأنظمة السياسية التي شكلتها، وهي لا تعدو أن تكون مؤسسات حكومية وظيفتها الأساسية القيام بترويض الأجيال على الولاء للنظام السياسي القائم وتزويده بالموظفين المروّضين على التفاني في خدمة أغراضه ومخططاته[4].
جزم الكاتب بأنّ الحرية داخل الأطر الأكاديمية هي حجر الأساس في بناء كل صرح معرفي راق، وهي مناط التكليف العلمي وشرط البراعة الفكرية، حيث أنها تعتق العقل التعليمي من براثن العبودية السلطوية التي تكبّله وتكبح انطلاقته للاجتهاد وإنتاج المعرفة والنقد، وتسوقه سوقا إلى حيث تشاء وراء أستار الغيب المجهول.
وفي المقابل، كما أكّد الأستاذ وطفة مرارا، فإن استقلال الأكاديمي الإداري والمادي والفكري يحرّضه بصرامة على التميّز، وتحمل مسؤولية جودة مخرجاته أمام الطلبة وأمام المجتمع، فالكليّات الرائدة في العالم تباهي باستقلالها الكلي وحرية فكر منتسبيها، وتناضل من أجل حماية مكسب الحرية من تدخلات الأنظمة السياسيّة والدّينية وكل من تحدثه مصالحه بمحاولة التأثير والتوجيه والتدخّل بأيّ شكل وعلى أيّة صورة كانت.
3- 7- الفصل السادس: من الاستبداد إلى الفساد: مظاهر الفساد الأكاديمي في الجامعات العربية:
يتناول هذا الفصل موضوعا في غاية الخطورة، وهو الفساد الأكاديمي، بما هو جريمة عظيمة الشر جسيمة الضرر، وسمة من سمات الجهل المؤذن بخراب العمران الفكري، وأكّد الدكتور وطفة أنّه لا يحقّ لخاصة العلم والبصيرة أن يتردّوا في منزلقاته المهلكة التي تركن إلى السفاهة المعرفية والجهالة التعليمية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، استقبح الكاتب بلسان فصيح موقف “الحكومات العربية التي لم تتخذ، بصورة عامة، أي إجراءات حقيقية في مواجهة هذا السيل الجارف والمدّ الهادر من الفساد الضارب في مجتمعاتها وفي مؤسساتها الأكاديمية، ويبدو أنه يطيب لهذه الحكومات -إذ هي حاضنة الفساد والإفساد- أن ترى نموذجها الأمثل وحليفها الوفي يصول ويجول في الجامعات والأكاديميات”[5].
يمكن القول استنادا إلى ما تقدّم، إنه ما إن أسند العلم لغير أهله في عالمنا العربي حتى استشرت البذاءة الأخلاقية والبلادة المعرفية، فتسللت إلى معظم رتب المؤسسة التعليمية، فأزكمت رائحتها الأنوف، حيث تجمعت داخل تلك الأوساط جل أقذار الفساد وخبائثه من رشوة ومحسوبية وفساد في الذمّة وجرأة على الانتحال.
3- 8- الفصل السابع: الجامعات العربية: تدمير العقل وإنتاج الجهالة: من الفساد إلى الإفساد ومن الجهل إلى التجهيل:
خصص الأستاذ الدكتور علي وطفة هذا الفصل لطرح موضوع التجهيل الأكاديمي أو ما يسمّيه بإعادة إنتاج الجهل في الجامعة، فعمد الى استفزاز الضمير الأكاديمي العربي المستغرق في سباته الكسول. مصرّحا بأنّ “الفساد والتسلّط والاستبداد الذي تعانيه جامعاتنا العربية قد بدّد ضياءها التنويري، وعطل جمالها الثقافي فاسودّت وأظلمت بالفساد الذي دمّر أنوارها، فأصابها في مقتل، وأدى إلى تدمير كل ما هو جميل ونبيل في مرابعها، وكل ما هو مضيء في مدارجها ومتوهّج على منابرها”[6].
وأعلن الكاتب أنّ التعليم العالي لن يُؤت أُكُله، ولن تطيب ثمرته إلاَّ إذا نُفِض عن جامعاتنا غبارُ الجهل، وكرعت المعارف من مصادرها ومشاربها الأصلية، واُنزل أهل العلم منازلهم.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ جبابرة السّلطة في العالم العربي، وفق ما أكّده الكاتب، قد علموا، أن صناعة جهل الشعوب، هي أقوم المسالك لاستعبادها، وكلما أقبل عالم أو مُصلح يبصّر القوم بغفلتهم، نَكِرَه النظام المُنتفع بدوام البلاهة، وأوجس منه خيفة. فليس أسهل عند القادة من استعباد أمّة لا تقرأ، وكما قيل “أمة جاهلة أسلس قيادة من أمة متعلّمة”.
3- 9- الفصل الثامن: الإطار المنهجي لإشكالية الأميّة الأكاديمية:
عطفا على مضمون ما سبق، قدّم الكاتب هذا الفصل كتقرير وافٍ حول الخط المنهجي الذي اعتمده في مطارحة موضوع الدراسة ودوافع الخوض فيها وأهدافها وصعوباتها الإجرائية.
ومثّل هذا الجزء من العمل، بشكل عام، الضابط المنهجي الذي اعتمده الدكتور علي في بيان إشكالات مكاشفته النقدية لقضية “الأمية الأكاديمية في الفضاء الجامعي العربي” من جهة، والدليل المرشد للقارئ في استيعاب عمق المسألة وما يتعلّق بها من جهة أخرى.
3- 10- الفصل التاسع: هل يعاني الأكاديميون العرب من الأميّة الأكاديمية؟ آراء نخبة من الأكاديميين والمفكرين العرب:
اتجهت همّة الكاتب في هذا الفصل نحو عرض عيّنة من الشهادات العلمية والأكاديمية حول المسألة المطروحة مستعملا منهج الاستقصاء والاستبيان المباشر عبر تشريك صفوة من الأكاديميين والمفكرين من مختلف البلدان العربية.
وكان الاستبيان بشكل عام يبحث عن أجوبة للأسئلة الآتية:
- ü أولا: هل يعاني الأستاذ الجامعي في الجامعات العربية من الأميّة الأكاديمية؟
- ü ثانيا: هل يعاني الأستاذ الجامعي في الجامعات العربية من الأمّية الثقافية؟
- ü ثالثا: ما مظاهر الأميّة الثقافية الأكاديمية في الوسط الأكاديميّ في الجامعات العربية؟
- ü رابعا: ما حدود هذه الظاهرة وأبعادها في الجامعات العربية؟
- ü خامسا: ما العوامل الاجتماعية الثقافية السياسية المؤسسة لهذه الأميّة إن وجدت في الجامعات العربية؟[7].
لم يكتف الكاتب بعرض تلك الآراء عرضا وافيا ومبسّطا، بل تعامل معها بأسلوب حفري أركيولوجيّ، ليعود إلى أسسها ولحظات تجسّدها، فتراه يفكك الأقوال تفكيكا ثم يعيد تركيبها لينتهي إلى مناقشتها وتفريغها.
وفي القابل، لم يفت الدكتور علي أسعد وطفة أن يثمّن كل المشاركات وأن يثني على أصحابها الذين أضفوا بلا ريب، عمقا إضافيا على محتوى الطرح، وأغنوه بأبعاد ودلالات مهمة تحليلا وطرحا وتفكيكا.
حدود الطرح:
لئن بدا لنا هذا الطرح طريفا في بعض جوانبه، حيث استطاع الكاتب إلى حد بعيد الإجابة على جملة من الأسئلة المتداولة، وإماطة اللثام عن عدد من الالتباسات الملازمة للمفكر الباحث في مسألة الأمية الأكاديمية، فإنه لا يفوت المتلقي أن يسوق بعض الملاحظات على سبيل التفاعل المثمر، وطلبا لتخاصب الآراء والأفكار.
يبدو لنا ابتداء أنّه كان بالإمكان العكوف أكثر على تفكيك ظاهرة الأمية في الأوساط الجامعية وعدم تحميل الأستاذ كل المسؤولية في ما آلت إليه الجامعة من سقوط وتدهور فكري، فالطالب والإداري والأسرة ومرحلة التعليم ما قبل الجامعي، كلّ من موقعه، يتحمّل، بلا شكّ، جزءا من هذا الفشل. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يلاحظ القارئ العادي، فضلا عن المتخصّص، أثناء عملية الاستفتاء في الجزء الثاني من العمل اكتفاء الدكتور علي وطفة بالبحث عن أجوبة للأسئلة التي طرحها، فقط داخل الأوساط الأكاديمية، إذ نلحظ تغافله على توسيع دائرة الاستفتاء لتشمل الطلبة والإداريين والأطياف الفاعلة في المجتمع وكذلك بعض السياسيين خاصة أن الجامعة هي النموذج المصغّر للمجتمع.
4- خاتمة:
نخلص مما تقدّم إلى أنّ مقاربة الكاتب لمسألة الأميّة الأكاديمية مفهوما وتحليلا وتفكيكا واستقصاء… قد أفضت إلى أنّ مسألة الجهالة الأكاديمية قد تشكّلت كحالة فكرية داخل الجامعات العربية بناء على مسار ملتبس، تداخلت فيه عناصر تدميرية مختلفة.
ومهما يكن من أمر فإنّه لا يفوتنا، في خاتمة هذا التقديم، أن نثمّن عاليا الجهود التي بذلت في هذا العمل الرائد، الذي سلط الضوء على واحدة من أخطر قضايانا المعاصرة وأشدّها حساسيّة في محاولة لبثّ الوعي بها، ومحاولة إيجاد حلول جذرية للحدّ من تفاقمها، عبر إخراجها من دائرة المسكوت عليه واللامفكّر فيه، إلى مدارات النقاش والتشريح العميق.
[1]-باحث وأكاديمي سوري، أستاذ علم الاجتماع التربوي بجامعة الكويت، رئيس تحرير مجلة نقد وتنوير ، عضو اتحاد الكتاب العرب، له العديد من المؤلفات، ومجموعة من الترجمات وعدد كبير من الأبحاث العلمية المحكمة.
[2]– وطفة، علي، الأميَّة الأكاديميَّة في الفضاء الجامعي العربي، مكاشفات نقديَّة في الجوانب الخفيَّة للحياة الجامعيَّة، مركز دراسات الخليج والجزيرة العربية، سلسلة إصدارات الاستكتاب، العدد 9، 2021، ص 170.
[3]– المصدر نفسه، ص232.
[4]– المصدر نفسه، ص 282.
[5]– المصدر نفسه، ص 320.
[6]– المصدر نفسه، ص 384.
[7]– المصدر نفسه، ص513.
2 تعليقات
تحية طيبة لكم أستاذنا الفاضل كيف حالك طيب اريد نسخة من الكتاب جزاكم الباري سبحانه وتعالى وأحيا قلوبنا بكتابه ومصدر النور الى جناته دمتم أوفياء للوحيين وسنة خير المرسلين سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وآله الأطهار وعترته الأخيار اللهم انك عفو تحب العفو فاعف عني يا رب استجب وانالكم جوائزكم واعتدكم الله من أوليائه واصفيائه اللهم تقبل منا ومنكم صالح الأعمال وكل خير تقدمه تجده عند الله خيرا واعظم اجرا ويبارك الله لكم ولأهليكم وذريتك الهناء والراحة والطمأنينة والسعادة
أعجبني المقال كثیرا ولا سیما الحدیث عن فكرة الحدیث عن الأمیة الأكادیمیة بموضوعیة شدیدة إذ تمثل تحدیا حضاریا مصیریا یواجھ التعلیم العالي العربي من المحیط إلى الخلیج. وینطلق الباحث من معالجة مختلف مظاھر ھذه القضیة ودینامیاتھا في سیاق رؤیة سوسیولوجیة معمقة، كما أعجبني الحدیث عن أھمیة التثقیف الأكادیمي في محو الأمیة الأكادیمیة وتقلیل حجمھا وذلك یكمن بحد ظاھر التلقین الأكادیمي كأحد أكبر طرق التدریس انتشا ًرا، أعجبني أیضا التركیز علي مسألة ال ّتسییس الأكادیمي ومساراتھ التدمیریة للوعي الأكادیمي والبحث في مظاھر الفساد والإفساد الأكادیمي في صفوف الأكادیمیني، والدور الذي یؤدیھ ھذا الفساد في تكریس ظاھرة الأمیة ألأكادیمیة في الجامعات العربیة، وأعجبني أیضا تناول الملامح المنھجیة للجانب المیداني وتم فیھ تحدید الخطوات المعتمدة منھجیا في تناول ھذه الظاھرة میدانیا. مقالة رائعة أعجبتني