إن تحليل دور المدرسة في إعادة إنتاج الفوارق الاجتماعية قد طبع بشكل قوي الأبحاث اللاحقة في مجال التربية، وشهد انتشارا واسعا. هناك ثلاث عوامل أساسية بمقدورها تفسير هذا النجاح: ظرفية سياسية واجتماعية مساعدة، تقاطع هذه التحليلات مع الانتقادات التي تبلورت مسبقا إزاء المنظومة المدرسية، ثم قوة هذا العمل النقدي من حيث وجاهته التي أربكت بشكل قوي رؤيتنا حول المدرسة ورؤية بعض المدرسين اتجاه ذواتهم.
لا تشكل مسألة اشتغال المنظومة المدرسية الموضوع المركزي في أعمال بيير بورديو. فعلى مدار أكثر من ثلاثين عملا مهما ل “بورديو”، منذ كتاب ” سوسيولوجيا الجزائر ” (PUF, «Que sais-je ?, 2001 ) الى غاية ” الهيمنة الذكورية ” (Seuil, 1998)، تمكن هذا التلميذ خريج المدرسة العليا للأساتذة، قسم الفلسفة، من تشييد عمل واسع ومركب. لقد كانت إحدى طموحات “بورديو ” كما قال ” Pierre Ansart” ” هو الرقي بالسوسيولوجيا الى مستوى مرموق من العلمية ” (1). مع ذلك فإن عمله النقدي بالاشتراك مع ” جون كلود باسرون ” حول المؤسسة الدراسية هو الذي عرف شهرة كبيرة في فرنسا. لقد خلف تحليلهما حول دور المدرسة في إعادة إنتاج التفاوتات الاجتماعية، تأثيرا ملحوظا في الأبحاث اللاحقة في مجال سوسيولوجيا التربية، بل أحيانا في مجال التاريخ، وعرف انتشارا واسعا في أوساط الرأي العام. هنالك ثلاث عوامل رئيسية بمقدورها تفسير هذا النجاح. العامل الأول هو الظرفية السياسية والاجتماعية المساعدة خلال فترة نشر كتاب ” الورثة ” سنة 1964 وكتاب ” إعادة الإنتاج ” سنة 1970. العامل الثاني هو تقاطع هذه التحليلات مع الانتقادات التي تبلورت سابقا ومنذ مدة طويلة من طرف حركات بيداغوجية، نقابية أو سياسية إزاء المنظومة المدرسية. ويتجلى العامل الثالث في قوة هذا العمل النقدي الذي ساهمت وجاهته في زعزعة وجهة نظرنا اتجاه المدرسة ووجهة نظر بعض المدرسين اتجاه أنفسهم.
مرحلة الستينيات والدمقرطة”:
إن المرحلة التي نشر فيها “بيير بورديو وجون كلود باسرون ” كتاب ” الورثة ” كانت مرحلة مختارة بعناية. لقد تميزت سنوات الستينيات في المجال المدرسي بثلاث عمليات زعزعت العلاقات بين المجتمع الفرنسي ومنظومته المدرسية. العملية الأولى ديمغرافية حيث أن أجيال المواليد الذين ساهموا في الارتفاع الملفت في أعداد مدارس الحضانة والمدارس الابتدائية خلال سنوات الخمسينات، قد وصلت الى مستوى الثانوي ثم الجامعي. من هنا وجدت الثانويات والجامعات نفسها في مواجهة الارتفاع الملحوظ لأعداد التلاميذ والطلبة بينما كانت تلك الأعداد مستقرة خلال النصف الأول من القرن العشرين.
لكن ما يجب الانتباه إليه هو أن العامل الديمغرافي لا يفسر إلا جزئيا مسألة نمو أعداد المتمدرسين في مستوى الثانوي حيث أن إصلاحات مؤسساتية مهمة ساهمت في تسريع تلك الزيادة. لقد كان محيط الجنرال ” دوغول ” على غرار رؤساء الدول الغربية في تلك المرحلة، يؤمن بضرورة تكوين نخب علمية وتقنية متعددة من أجل تطوير القوة الاقتصادية. ضمن هذا المنظور، عملت إصلاحات 1959 و1963 على تمديد المدة الزمنية للتمدرس الإجباري من 14 الى 16 سنة، وتم تدشين السلك الأول للتعليم الثانوي. وهكذا تحولت قضية ” دمقرطة التعليم ” الى رهان مركزي للسياسات التربوية.
كما أن نمو أعداد المتمدرسين في مستويات الثانوي والجامعي قد تم تعزيزه أيضا من خلال الارتفاع المتصاعد والملفت لطلب الأسر. لقد أدى تحسن: مستوى المعيشة وتزايد نسبة الأطر والمهن التجارية وسط الساكنة النشطة الى تغير اجتماعي عميق. كما يوضح ذلك المؤرخ ” Antoine Prost” (2)، فالتركيز على أمل الصعود الاجتماعي للأطفال أصبح من معايير التربية الأسرية وخاصة وسط الطبقات المتوسطة. وهذا مستجد تاريخي: الى حدود الحرب العالمية الثانية كان يتم قبول غالبا الأطفال الذين يظلون في الطبقة الاجتماعية الأصل. حقيقة أن المدرسة الجمهورية سمحت بالصعود الاجتماعي، لكن كما تبين ذلك الأعداد الهزيلة جدا في التعليم الثانوي، الابتدائي العالي أو التقني، كان هذا الصعود يشمل فقط أقلية. إذن الأمر يتعلق بانقلاب في المنطق الاجتماعي المهيمن الذي تعكسه “دمقرطة التعليم ” : أصبح تمثل المدرسة تدريجيا كفرصة لجميع الأطفال وليس فقط للنخبة، من أجل تبوؤ مكانة سوسيومهنية أفضل من مكانة الآباء.
في سياق معين، بدا نشر كتاب ” الورثة ” كعملية جذرية لنزع الوهم. فبناء على تحليلات إحصائية دقيقة، كشف “بيير بورديو وجون كلود باسرون ” عن البعد الوهمي الى حد ما لعملية دمقرطة المدرسة. إن التمثيلية العالية في التعليم العالي للأطفال المنحدرين من أسر محظوظة من الناحية الثقافية، وكذلك على العكس ،التمثيلية الضعيفة للأطفال من أصول شعبية، تؤشران على أن المدرسة تشتغل كآلة للانتقاء الاجتماعي. بينما في الوقت الذي يلج فيه أغلب أطفال الأوساط ذات ” الرأسمال الثقافي ” القوي الى الجامعة، يخضع فيه أطفال الأوساط الشعبية الى “انتقائية مبالغ فيها”. بالنسبة لهم يشكل التمدرس خاصة في المستوى الثانوي، مسار مليء بالعقبات التي تفرض عليهم أن يبرهنوا على اكتساب مؤهلات فكرية ونفسية تفوق زملائهم من الأوساط المتعلمة. ومن ناحية أخرى، فهؤلاء الأطفال المنحدرين من أوساط متعلمة ” يرثون” هذه المؤهلات عن طريق وسطهم الثقافي والعائلي وبالتالي باستطاعتهم توظيفها تلقائيا في أنشطتهم المدرسية.
في كتاب ” إعادة الإنتاج ” يستنكر عالمي الاجتماع ” بورديو وباسرون ” ممارسة الدرس النخبوي. فالأستاذ حسبهما يطور خطابا حيث مستوى اللغة، المرجعيات الثقافية الخفية والحواشي المتعددة، تحيل على الثقافة الخاصة به أي بالأستاذ، لكن خطابا من هذا النوع لا يمكن حقيقة فهمه إلا من طرف تلامذة استفادوا سابقا من “استئناس مفترض ” وسابق على هذه الثقافة نفسها. ودعما لهذه البرهنة، يرد المؤلفان مثال معروف اليوم ويتعلق بعتاب بعض التلاميذ بكونهم ” مدرسيين جدا”. إن هذا العتاب تعتريه مفارقة داخل المؤسسة التعليمية، لكنه عتاب يحتال على الاشتغال الخفي لهذه المؤسسة: ما يتم نقله مدرسيا ليس كافيا، تتوقف الثقافة الأصلية على وعيها بكيفية رسم المسافات مع المعرفة المدرسية وترجمة ارتياح لغوي وسلوكي هو بمثابة الخاصية التي تعكس ” تميز ” الطبقات الاجتماعية المهيمنة. سوف يحصل داخل التعليم الثانوي والعالي ” تواطئ تقليدي ” بين الأساتذة والتلاميذ المنحدرين من أسر متعلمة. كتب كل من “بورديو وباسرون ” سنة 1972 ما يلي ” إن كل فعل بيداغوجي هو بشكل موضوعي عنف رمزي باعتباره عسفا ثقافيا مفروضا من طرف سلطة تعسفية ” (3)
إن فكر “بورديو” حول المدرسة يشبه بصورة ما إدانة غير قابلة للطعن لكل محاولة لدمقرطة المنظومة التعليمية. إذن فالانتشار الواسع لهذا الفكر في فترة بدا فيها المجتمع الفرنسي بكامله منخرطا في هذا المشروع ( مشروع دمقرطة التعليم )، يمكن أن يبدوا مفارقا.
” إعادة الإنتاج ” أو خيبة أمل المدرسة:
يجب أولا توضيح أن نجاح “بورديو وباسرون ” لم يكن نجاحا مباشرا : فهو يعود أساسا الى سنوات السبعينات، حيث كان المهيمن على الحياة الثقافية العامة هو تبعات حركة 1968. إلا أن الأمر الذي سيجعل من هذا التحليل مؤثرا في الرأي العام هو إدانته للممارسات البيداغوجية التقليدية وأساليب الانتقاء المرتبطة بها أكثر منه تأويله لعملية إعادة الإنتاج الاجتماعي الذي تمارسه المدرسة. من بين شعارات الحركة الطلابية لسنة 1968 والسنوات اللاحقة، الشعار الناجح ” لا للانتقاء ” أو ” إدانة “الثانوية الثكنة ” والذي سيكشف الى أية درجة أصبح فيها النظام البيداغوجي التقليدي متجاوزا بالمقارنة مع أنماط الحياة، الاستهلاك والعلاقات الاجتماعية للشباب.
إن عسف السلطة النخبوية والذي يتجلى في القوة التقديرية للتنقيط والانتقاء، والإرث النابليوني الحاضر في بعض الثانويات بعد عام 1968، مثلا من خلال منع البنطلون أو التنورة بالنسبة للفتيات….، كل هذا منح لأعمال “بورديو” صدى قويا على الرغم من أنها كانت أعمال تقريبية من الناحية العلمية.
القليل من الطلبة خلال سنوات السبعين من قرأ بشكل مباشر “بورديو وباسرون” . لكنهم كانوا يتقبلون بالضرورة الخطابات التي تنهل من الرجلين والتي تكشف عن الجزء التعسفي والصوري للثقافة الأكاديمية وأساليب نقل هذه الثقافة.
إلا أنه على الرغم من صداها في الظرفية الاجتماعية والسياسية لما بعد 68، فإن أعمال عالمي الاجتماعي ” بورديو باسرون”، تزامنت أيضا مع مجموع الانتقادات الموجهة منذ مدة طويلة الى المدرسة الجمهورية. هنا يكمن العامل الثاني لنجاحهما.
منذ مطلع القرن العشرين، أعلن الجمهوريون التقدميون إدانتهم للطبيعة الاجتماعية النخبوية للتعليم الثانوي: ” لا يمكننا المشاركة في التقسيم العتيق بين تعليم ابتدائي موجه للشعب وتعليم ثانوي مخصص للبورجوازية ” يكتب ” Ferdinand Bouisson ” منذ 1914 (4). اتسع نطاق هذه الانتقادات بعد الحرب العالمية الأولى. لقد تحولت دمقرطة التعليم الثانوي الى موضوع أساسي في وثائق أحزاب ونقابات اليسار بدء من الجبهة الشعبية. وكانت عملية نشر مخطط ” Langevin-Wallon ” عام 1947 مشروعا لا غنى عنه. وقد صاحب هذه الإدانة للنزعة الاجتماعية النخبوية للنظام التعليمي نقد الممارسات البيداغوجية التقليدية ولا سيما الدرس النخبوي. عمل ” Célestin Freinet ” ومشتغلين آخرين على إبداع طرق بيداغوجية جديدة، على الربط بشكل وثيق بين الدمقرطة والتحول البيداغوجي. بعد التحرر، ناضل رواد علوم التربية أمثال ” Gilles Ferry، Maurice Debesse أو Antoine Léon، أو أيضا علماء الاجتماع ك ” Pierre Naville ” في نفس الاتجاه. إذن هناك تقارب بين حركات الأفكار هاته والتي ليست حديثة العهد والكشف الذي قام به ” بورديو وباسرون ” للعلاقات بين الممارسات البيداغوجية المهيمنة والانتقاء الاجتماعي الذي يمارسه النظام التعليمي.
لكن هناك في نفس الوقت مفارقة على مستوى نجاح أعمال ” بورديو وباسرون “، حيث سيساهم تحليلهما في إحداث قلق دائم داخل الأوساط الإصلاحية ذاتها. مثلا كتب ” A.Prost ” في مجلة ” Esprit ” مقالا عنونه ب ” سوسيولوجيا عقيمة، إعادة الإنتاج “(5) وفيه أدان النزعة الحتمية المفرطة التي تقترب من العدمية. بعد ست سنوات استعاد رائد علوم التربية ” George Snyders ” (6) هذه القراءة.
الثقافة الأسرية والتفوق الدراسي:
في قلب تحليل ” بورديو وباسرون ” توجد فكرة أن الانتقاء الاجتماعي يتم بشكل فعال داخل المدرسة لأن المدرسين ليسوا واعين بما يساعد على إنتاج هذا الانتقاء في ممارساتهم المهنية. كل فرد في نظر” بورديو ” يدمج بطريقة لا واعية ” قواعد” خاصة بالطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها، أي العادات السلوكية، اللغة، الأحكام، العلاقة بالعالم. يشكل مجموع هذه القواعد ما يصطلح عليه “بورديو ” ب ” الهابيتوس”. الهابيتوس غير واعي، إنه يحجب عن أعيننا “الشروط الاجتماعية لإنتاج” سلوكياتنا وأحكامنا. على سبيل المثال أطفال الطبقات المتوسطة والبورجوازية الذين تفوقوا في المدرسة يعتقدون أنهم اشتغلوا بشكل جيد أو أنهم موهوبين، لكنهم لا ينتبهون إلا نادرا أو بشكل سطحي الى أفضال الثقافة و”القواعد” المدرسية التي ورثوها عن أسرهم. إن أساتذة التعليم الثانوي والعالي والذين كانوا دوما تلاميذ نجباء سابقا، على الأقل على مستوى انضباطهم، هم بشكل من الأشكال “متهمين” من طرف ” بورديو ” بكونهم لا يستحضرون أن نجاحهم يعود الى إرثهم الثقافي. أو أنهم كانوا من أصل شعبي، يتناسون المجهودات الاستثنائية التي اضطروا لبذلها بغاية التفوق في محو آثار ثقافتهم الأصلية. على الرغم من أن ” بورديو ” قام خلال مساره الفكري بتعديل بعض المفاهيم التي نحتها، خاصة مفهوم ” الهابيتوس”، فقد بقي وفيا الى أبعد حد لهذا التصور النقدي للعالم التعليمي والجامعي. كتب ” بورديو ” في ” تأملات باسكالية ” ( 1997) ” إن المغمورين في عوالم مدرسية للغاية وبعضهم منذ الولادة، وهي عوالم ناتجة عن عملية ممتدة من التمكين الذاتي ، هم مدعوين لنسيان الظروف التاريخية والاجتماعية الاستثنائية التي تجعل من المتاح رؤية العالم والأعمال الثقافية من زاوية البديهي والطبيعي ” .(7)
من هنا، يوجد أيضا بعد استفزازي في عمل ” بورديو”. وقد تحمله بشكل واضح في كتابه ” تأملات باسكالية “، لكن على شاكلة معاناة: ” لم أشعر أبدا في يوم من الأيام وشكل حاد، بغرابة مشروعي، نوع من الفلسفة السلبية معروضة على شكل فلسفة للهدم الذاتي “(8). إذن فتحليل “بوردو وباسرون ” كان في نفس الوقت تحليلا منخرطا في روح العصر واستفزازيا. الأمر الذي شكل في معظم الأحيان عوامل نجاح ملفت.
لكن سيكون من غير الكافي الادعاء أن نجاح عالمي الاجتماع ” بورديو وباسرون ” يختزل في تأثير الموضة الثقافية. إن الطابع المتجدد والمتميز لأعمالهما يعترف به نظرائهما من الباحثين بشكل واسع. وهذا هو السبب الثالث الذي يفسر نجاحهما وخاصة استمرارية هذا النجاح. في سنة 1982 سجل ” André Petitat (9) ” مثلا ذكاء نظرية إعادة الإنتاج التي اعتبرها نظرية ” صراعية غير ماركسية ” : يقر كل من ” بورديو وباسرون ” بأن للصراع بين الطبقات الاجتماعية دورا محددا في المجتمع، لكنهما يبرهنان أن هذه الصراعات تجري أيضا على المستوى الرمزي كما على مستوى العلاقات الاقتصادية والسياسية، الأمر الذي يمنح للمدرسة خصوصيتها واستقلاليتها داخل لعبة العلاقات الاجتماعية بين المهيمنين والمهيمن عليهم. إن نظرية إعادة الإنتاج تفرض التفكير في المدرسة من زاوية علاقتها مع المجتمع الذي ينتجها، وفي ذات الوقت من زاوية العلاقات الاجتماعية الخاصة التي تقع داخل المؤسسة حيث قواعد اللعب هي الى حد ما مستقلة. لقد كانت هاته المقاربة الديالكتيكية مثمرة لأنها تفادت منزلقين: من جهة أولى منزلق التحليل شديد الاختزالية على شاكلة ما أنتجه في البداية Cristian Baudelot و Roger Establet في كتاب ” المدرسة الرأسمالية ” (10) حيث جعل المؤلفان من النظام المدرسي أداة في يد البورجوازية للهيمنة المباشرة، ومن جهة ثانية منزلق أعمال العديد من مختصي البيداغوجيا الذين يحصرون تحليلاتهم في ممارسات بيداغوجية وبالتالي يحتقرون تأثير المجتمع على ما يجري داخل المدرسة.
لهذا، فالعديد من علماء اجتماع التربية بعد ” بورديو وباسرون ” وضعوا نتائجهم تحت اختبار ومحك نظرية إعادة الإنتاج. وكانا عالمي الاجتماع الأخيرين موضوع استدعاء، اختبار، تأكيد أو تفنيد، سواء تعلق الأمر بدراسة الاصول الاجتماعية للمدرسين، بناء البرامج المدرسية، تطور مدرسة الحضانة، ممارسات المعلمات داخل القسم، الحياة اليومية للتلاميذ داخل المؤسسة التعليمية أو التفوق الدراسي للأطفال المنحدرين من عائلات شعبية. علاوة على ذلك، فإن الإحالة الدائمة على أعمالهما هي التي أتاحت حاليا إمكانية بلورة حصيلة ما يمكن أخذه من تحليلاتهم وكذلك ما يبدو قابلا أكثر للنقد.
سوسيولوجيا حتمية للغاية:
بداية لا بد من التذكير أن المعاينة الإحصائية للانطلاقة لم تتغير. قياس الترابط بين الفشل الدراسي والوسط الشعبي يتم حاليا منذ السنة الثانية من المدرسة الابتدائية وداخل الشعب ذات الحظوة في التعليم العالي، الأطفال المنحدرون من الأوساط المحظوظة ثقافيا هم على الدوام من يمثل النسبة العالية. ومع ذلك، فهذه المعاينة لا تعني ميكانيكيا صلاحية قراءة “بورديو وباسرون”.
إن ما يتعرض للنقد في نظريتهما هو بعدها الحتمي المبالغ فيه وبالتالي يتم عتابهما على كونهما رسم جدولا للمدرسة حيث يشكل هابيتوس الفاعلين و”العنف الرمزي ” للمنظومة من المحددات الأساسية التي يظهر أنها لا تترك أي مجال لمقاومة محتملة أو لاستراتيجيات الأفراد.
من بين علماء الاجتماع الأوائل الذين عملوا على بلورة هذا النقد هو عالم الاجتماع “Raymond Boudon ” (11). انطلاقا من فرضية أن اشتغال المجتمع هو نتيجة تلاقي القرارات والأفعال اليومية الصادرة عن أفراد عقلانيين، يقترح قراءة معاكسة للنتائج الإحصائية الملاحظة من طرف ” بورديو وباسرون “. نعرف مثلا أنه في العلاقة بالنتائج الدراسية المتكافئة لأطفالها، تختار الأسر من أصول شعبية بطريقة سهلة توجيههم نحو التعليم التقني والمهني بالمقارنة مع الأسر المحظوظة. يفسر ” بورديو ” هذه الهوة من زاوية علاقة الهيمنة : إن هابيتوس الأسر المتواضعة لا يمنحها الأدوات اللغوية والثقافية الممكنة التي تؤهلها كي تعارض بشكل فعال اقتراحات التوجيه الصادرة عن مجلس القسم، بينما نجد أن هاته الاقتراحات نفسها تتأثر بالأحكام الاجتماعية المسبقة واللاواعية للأساتذة. بينما يطرح ” R.Boudon ” تفسير هذه الاقتراحات من زاوية القرار العقلاني. بالنسبة لأسرة متواضعة، التوجيه نحو التعليم التقني يحمل مخاطر أقل بالمقارنة مع التوجيه نحو شعب عامة : الدراسات التقنية تضمن على المدى القصير اندماجا مهنيا دون أن تحول و متابعة الدراسة إذا كانت النتائج جيدة، بينا تظل مردودية الشعب العامة مرتبطة بالمدى الطويل، هذا بالإضافة الى أن الشعب التقنية هي على كل حال ذات قيمة من حيث أنها تؤدي الى مركز سوسيومهني يتيح فرص وحظوظ الترقي أفضل من مركز الآباء الذين ينتمون الى فئات اجتماعية أكثر تواضعا. بالنسبة ل ” Boudon”، إن فشل الدمقرطة يعود الى ” فعل منحرف ” ناتج عن تراكم القرارات الفردية أكثر منه ناتج عن الهيمنة الرمزية التي تمارسها الطبقات الاجتماعية المحظوظة داخل المدرسة.
إن هذا النمط من النقد كان خصبا بالنسبة لعلماء اجتماع التربية، وقد قادهم الى التركيز على الهفوة التي تميز نظرية إعادة الإنتاج : توجد نسب هامة من الأفراد الذين ينفلتون من الحتميات الاجتماعية التي أعلنها ” بورديو وباسرون سواء تعلق الأمر بأبناء العمال الذين تفوقوا في المدرسة أو أبناء الأسر المحظوظة ثقافيا الذين لم يتفوقوا. اشتغل ” Philipe Perrenoud ” (12) أو ” François Dubet “(13) على التجربة اليومية للتلاميذ داخل المدرسة، أنجز ” Bernard Lahire ” (14) تحقيقا حول حياة الأسر العمالية التي تشهد تفوقا دراسيا لأبنائها، قام كل من ” Bernard Charlot، Elisabeth Bautier، و Jean-Yves Rochex ” (15) بدراسة علاقة أبناء الأسرة من أصول شعبية بالمعرفة، تساءل كل من ” C.Baudelot و R.Establet” (16) عن التفوق الدراسي للفتيات، وآخرين عملوا على توضيح مسألة أن التشكيلات العائلية، الفردية، المدرسية، الجنسية أو المهارات الاجتماعية، يمكن أن تكون مساعدة الى هذا الحد أو ذاك على النجاح داخل المدرسة. هي تتفاعل مع الحتميات الاجتماعية دون أن تقوض أسسها. من الممكن أن يتقاطع تفسير ” بورديو وباسرون ” مع وجهات نظر أخرى لأن الأمر لا يتعلق بقضية دحض أو تفنيد أطروحتهما.
هل المدرسون مذنبون؟
على الرغم من كل شيء، تبقى هذه المقاربات الجديدة في نظرية إعادة الإنتاج، متمحورة أساسا حول التلاميذ وأسرهم. من جانب تحليل الممارسات التعليمية، كانت الانتقادات العلمية نادرة. فخلال سنوات الثمانينات، أكدت أعمال كل من ” Jean-Michel Chapouli ” (17)، ” Eric Plaisance ” (18) أو” Régine Sirota ” (19)، على تقارب القيم والممارسات التربوية للمدرسين مع قيم وممارسات الطبقات المتوسطة التي ينحدر منها أغلبهم. توضح ” Régine Sirota ” مثلا أنه داخل المدرسة الابتدائية يكون التلاميذ الذين ينسجم سلوكهم داخل القسم بشكل أفضل مع انتظارات المعلمات هم غالبا ينتمون الى نفس وسطهن الاجتماعي. ولهذا، في حالة وجود هؤلاء التلاميذ في وضعية صعبة يكون سلوك المعلمات معهم أكثر تسامحا بالمقارنة مع آخرين. لقد انبثقت منذ عهد قريب سوسيولوجيا ” مهن التربية ” المستلهمة من النموذج الانكلوساكسوني. لكن تظل هذه السوسيولوجيا حتى الآن جنينية لا يتحدد موضوعها في وضع الممارسات التعليمية داخل منطق الحتميات الاجتماعية.
من الممكن أيضا التساؤل عن ما إذا لم تكن لسوسيولوجيا التربية المعاصرة نوع من الصعوبة في العودة الى موضوع مؤلم بالنسبة لمهنة التدريس. ذلك لأن بعض عبارات ” بورديو وباسرون ” هي تحديدا عبارات قاسية: ” إنه من خلال إعطاء المدرس الحق والقوة في تحويل سلطة المؤسسة لصالح شخصه، تصبح المنظومة التعليمية هي الأداة المؤكدة للموظف الذي يستثمر إمكاناته وكل حماسته في خدمة المؤسسة وبالتالي في خدمة الوظيفة الاجتماعية للمؤسسة ” (20). حتى في حالة قدرتنا على نقاش التصور الحتموي الذي يكتنف هذا التحليل، نلاحظ أنه يضع الأصبع على إحدى النواقص الأساسية لمدرسة الجماهير: وهي تلك المتعلقة بالصعوبات التي يواجهها المدرسون في نسج علاقة بيداغوجية أصيلة مع الأطفال المنحدرين من أوساط شعبية. لما يشير “B.CHARLOT ” الى أن تلاميذ المستوى الإعدادي بضاحية “Seine –Sint-Denis” يضعون مقارنات بين لغة المدرسين ولغة ” رجال السياسة” (21)، فإنه يسجل الحقيقة نفسها. كما أن “A.PROST “، علاوة على نقده الى جانب نظرية إعادة الإنتاج، لا يقول في نهاية المطاف شيئا آخر لما يقر أن مدرسة الجماهير هي اليوم بعيدة جدا عن انشغالات الشباب “وذلك بسبب مضامين تلك المدرسة من جانب، ومن جانب آخر بسبب الأصل الاجتماعي لأساتذتها” (22).
إن ” ” بورديو وباسرون “، ومن خلال إدانتهما للمشاركة الواعية أو غير الواعية للمدرسين في عملية الانتقاء الاجتماعي الذي تمارسه المنظومة المدرسية، خلفا في النهاية أثرا سديدا للغاية. لقد وضعا الاصبع على شعور بالذنب قديم للغاية، وهو شعور رجال الدين وعلاقاتهم الغامضة والأبدية بالسلطة. وهي السلطة التي يقدرون أنه من الواجب استنكار عيوبها، لكنهم غالبا ما يغذونها.
إن هذا الشعور بالذنب، الذي يبدو أن ” بورديو ” الذي انفلت من الانتقاء المدرسي بطريقة ذكية وتمرد عليه، هو نفسه أحس به بشكل مكثف. وعلى أية حال، هذا ما يؤكده دائما في كتابه ” تأملات باسكالية “. لندعه إذن يصل الى استنتاجات من خلال هذه الكتابة المتدفقة نوعا ما، وربما هي تجلي لمعاناة أصيلة: ” لا أحب في نفسي ذلك المثقف، وما يمكن أن يحدث رنينا، فيما أكتب، كأن مقاومة النزعة المثقفاتية تتجه ضد ما تبقى في ذاتي، رغم كل مجهوداتي في مجال النزعة المثقفاتية أو في مجال العقلانية، كالمعضلة النموذجية التي تميز المثقفين كثيرا، أي معضلة أن أقبل أن يكون فعلا لحريتي حدودها” (23).
(*) في الأصل المقال نشر بالفرنسية تحت عنوان:
« Pierre Bourdieu et l’école : la démocratisation désenchantée. »
Vincent Troger
Maitre de conférence à l’IUFM de Versailles.
Sciences Humaines. Hors-série N° 15 – Février-mars 2012
(**) البريد الالكتروني: medmbarki66@gmail.com
NOTES
- P. Ansart, Les Sociologies contemporaines Seuil, « Points », 1990.
- A. Prost, Histoire générale de l’enseignement et de l’éducation en France, T. IV :
L’École et la Famille dans une société en mutation Nouvelle Librairie de France, 1981.
- P. Bourdieu et J.-C. Passeron, La Reproduction Minuit, 1970.
- Texte de Ferdinand Buisson, paru dans le Bulletin de la Ligue des Droits de l’Homme
en mai 1914, cité par Hervé Terral dans L’École de la République Centre national de documentation pédagogique, 1999.
- A. Prost, « Une sociologie stérile, la reproduction », Esprit , décembre 1970.
- G. Snyders, École, classe et lutte des classes, Puf, 1976.
- P. Bourdieu, Méditations pascaliennes, Seuil, 1997.
- Ibid
- A. Petitat, Production de l’école, production de la société, Droz, 1982.
- C. Baudelot et R. Establet, L’École capitaliste en France, Maspéro, 1975. Le livre se terminait par une annexe composée d’une citation de Mao Tsé-Toung et d’un texte pédagogique du Groupe rédactionnel de critique révolutionnaire de Chang-hai.
- R. Boudon, L’Inégalité des chances, Armand Colin, 1973, rééd. « Pluriel », 1979.
- P. Perrenoud, Métier d’élève et sens du travail scolaire, ESF, 1994.
- F. Dubet et D. Martuccelli, À l’école. Sociologie de l’expérience scolaire, Seuil, 1996.
- B. Lahire, « Les raisons de l’improbable, les formes populaires de la réussite à l’école élémentaire », in G. Vincent, L’Éducation prisonnière de la forme scolaire, Presses universitaires de Lyon, 1988.
- B. Charlot, É. Bautier et Jean-Yves Rochex, École et savoir dans les banlieues … et ailleurs, Armand Colin, 1992. 16.
- C. Baudelot et R. Establet, Allez les filles !, Seuil, 1992.
- J.-M. Chapoulie, Les Professeurs de l’enseignement secondaire. Un métier de classes moyennes, Maison des sciences de l’homme, 1987.
- É. Plaisance, L’Enfant, la maternelle, la société, Puf, 1986.
- R. Sirota, L’École primaire au quotidien, Puf, 1988.
- P. Bourdieu et J.-C. Passeron, La Reproduction, op. cit
. 21. B. Charlot, Le Rapport au savoir en milieu populaire, Anthropos, 1999.
- A. Prost, « L’enseignement s’est-il démocratisé ? », entretien paru dans L’Histoire « Mille ans d’école », Les Collections de L’Histoire, octobre 1999.
- P. Bourdieu, Méditations pascaliennes, op. cit
.