فى غمرات التطرف والتخلف يخطو المفكر بقلمه ، يستمد منه نوراً وقبساً ، يخمد به ناراً ويطفىء به لهب ، يصدع به فى اذان صم، ويفتح به عيون عمي ، ويهدى به قلوب غلف، فيهدم به جدران من التخلف تعزلهم ، ويخرق به سفناً الى قرون خلت تنقلهم، ويرد به داعيهم إلى حروب قدستها،ويسقط به رايات للدين زيفتها، ويحقن انهار من الدماء استبحتها. يعبر جزر من الاساطير والخرافات ، يتحدى عواصف التطرف والارهاب الطائشة ، ويسبح ضد امواج من الطائفية والقبلية الزاجرة ، يحرر أسرى القلاع التكفيرية والجهادية والداعشية، و يقيم سلاماً فى عقول يملأها العنف والانعزالية والانطوائية ، ويحرر العقل من غرائز العنف والتطرف الحيوانية ، ويطلق روح الحرية والتسامح والتعايش الامنة .
ففى فترة عصيبة من تاريخ مجتمعاتنا العربية والاسلامية ، خرجت هوام الفكر المتطرف فى حليها ولباسها الدينى تدعو الى دولة دينية ، ترنو الى احلام بعيدة وسراب بقيعة، وتهفو الى امجاد واهية ، وترصو الى جرف هارية ، يتصدى رواد الفكر المعاصر لهذه الهجمة الشرسة على الدين الاسلامى ، سواء من الداخل أو الخارج ، من جانب من اساءوا الى الاسلام بان نسبوا اليه ما ليس فيه ، او من جانب بعض وسائل الاعلام الغربية التى تستغل اعمال العنف التى تقوم به هذه الجماعات الضالة لتشويه صورة الاسلام والمسلمين.
وقد طالعت العديد من الادبيات المعاصرة عن ظاهرة الاسلام السياسى ، ولعل من أهمها كتاب السراب ، للمفكر الاماراتى ، الدكتور جمال السويدى ، مناقشته لفكر الجماعات التكفيرية ، وعلى راسها فكرة “الحاكمية”، حيث أكد على أن أغلب رجال الدين يتفقون على أن هذا المبدأ لم يرد فى أى اية فى القراءن الكريم أو الأحاديث النبوية الشريفة، وهو يثير العديد من الاشكاليات المفاهيمية والفقهية لهذه التفسيرات محدودة الأفق وضعيفة المرجعية لبعض أيات القراءن التى تستخدهام هذه الجماعات الضالة ، والتى تتعارض مع الآيات الاخرى التى تدعو إلى السلام والتسامح والحوار قبول الاخر ، كما أن تطبيق مبدأ الحاكمية بهذا المعنى سوف يؤدى إلى ظهور حكم ثيوقراطى مستبد (دينى مستبد) ويضفى نوع من القداسة على سلطة الحاكم الذى سيزعم عندئذ انه يطبق شرع الله ويستمد أحكامه منه ، وأعتقد أنه يستدعى فى ذاكرة نظرية “الحق الالهى المقدس” وهى أحد نظريات الفكر السياسى التى حاولت أن تبرر استبدادية الحكم الثيوقراطى باعتبار أن الحاكم هو خليفة الله فى أرضه .ولا اختلاف أن تطبيق مبدأ الحاكمية بهذا المعنى يؤدى إلى جمود الفكر وانتشار التخلف فى العالمين العربى والاسلامى.
ثم مناقشته فكرة ” دولة الخلافة” باعتبارها من أهم القضايا الشائكة فى فكر الاخوان المسلمين ، التى يعتبرونها البديل الوحيد للدولة المدنية ، دون البحث فى صيغة عصرية تناسب العصر وما توصل إليه البشر من تقدم انسانى وعلمى فى مختلف الميادين ، ويرى المؤلف أن فصل الدين عن السياسة والاقتصاد والاجتماع كان سبيل القارة الاوربية نحو التقدم العلمى والارتقاء الانسانى ، فالمدنية ليست كفراً او الحاداً ، فالدولة المدنية قد تكون حلاً للعديد من المشكلات الاجتماعية والصراعات الطائفية والمذهبية .ويستند إلى رفض بعض الرموز الدينية مثل الشيخ الشعراوى ترشيح الأحزاب الدينية على أساس أن الوازع الدينى دون حسابات العقل معتبراً أن الدين لا علاقة له بالأحزاب التى تمثل الفكر السياسى لأصحابها وليس للمسلمين.
وقد أستطاع بعقل الباحث السياسى أن يستخدم أدواته البحثية ومنهجه العلمى ملتزماً بالموضوعية العلمية، ليكشف بعض الحقائق الهامة ويقدم خريطة معرفية حول نشأة هذه الجماعات وتطورها ،وتفنيد أفكارها وحجها الباطلة بعد تفكيك بنائها الفكرى والرجوع لمصادره، ونقد تأويلها وتفسيرها للنصوص بتعصب دينى أعمى يهدف إلى فرض القدسية على أفكارها التى تروج لها ، وهو ما يؤكد توظيفها للدين لتحقيق أهداف سياسية.
وقد توصل الى نتيجة هامة وهى أن دمج الدين فى السياسة يكرس الشقاق والفرقة بين المسلمين أنفسهم بمذاهبهم ومعتقداتعم المختلفة ، وبينهم وبين العالم غير الاسلامى ،ولذلك فان بعض الدول العربية والاسلامية تعيش ظلامية جديدة تشبه ما حدث فى اوربا ابان القرون الوسطى . فالاشكالية الأساسية فى معظم الدول العربية والاسلامية لاتكمن فى العلاقات بين الدين والسياسية ولا فى انفصالها او ارتباطها بل هى بالأساس فى توظيف الدين لخدمة السياسة.
وقد قدم رؤية استشرافية للمستقبل معتمداً على تحليله للمؤشرات والمعطيات السياسية الراهنة مثل فشل تجربة حكم الاخوان المسلمين فى مصر ، فمن المتوقع أن تبقى الجماعات الدينية السياسية على هامش الحياة السياسية فى العالمين العربى والاسلامى خلال المدين المتوسط والقصير على أقل تقدير ، ويرى أن عودة هذه الجماعة إلى صدارة المشهد السياسى يتوقف على شروط أهمها الاخفاق فى إيجاد البديل الأفضل تنموياً الذى يخرج الدول من مشكلاتها التنموية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتراكمة عبر عقود طويلة من الزمن. ويبرر وجهة نظره بانه فى ظل الامكانات المتاحة وتطلعات الشعوب إلى ى مستويات معيشية أفضل ، وفى ظل التنافس الدولى على التنمية ، فمن المتوقع أن تؤدى عثرات محتملة فى بعض الدول إلى عودة هذه الجماعات الى صدارة المشهد من جديد .والنقطة الاهم هنا ، هى أن المؤلف قدم بعض الحلول التى يقترحها لمحاصرة هذا الفكر المتطرف وأهمها الانفتاح على الاخر بدلا من الانغلاق ورفض الاخر ، والتحرك نحو الحداثة والابداع والابتكار والاجتهاد الفقهى الذى يجعل الدين باعثاً للنهضة وليس عائقاً لها.