تعد العلاقة بين اللاهوت والسياسة، والترابط بين الساحة القومية والساحة العالمية، أبرز محاور هذا الكتاب المعني بالشأنين الديني والسياسي في أمريكا. فعلى مدى المئتين وثلاثين سنة الأولى من تاريخ الولايات المتحدة، كانت الغالبية العظمى لجمهرة الرؤساء الأمريكيين متكوّنة من أعضاء في الكنائس المسيحية غير الكاثوليكية: الإبيسكوبالية والبريسبيتارية (المشيخية) والميتودية والمعمدانية. وضمن هذا السياق يمثّل جو بايدن الرئيس الكاثوليكي الثاني بعد الرئيس “جون كينيدي” الذي مرّ على اعتلائه كرسيّ الرئاسة ستون عامًا. فقد أثار انتخاب بايدن تساؤلات سياسية على إثر انتخابه بعد الرئيس السابق “دونالد ترمب”، وبالمثل أثار تساؤلات بشأن مذهبه الديني. فهناك كثير رأوا في “بايدن” رجلاً مُخلّصا ذا مهمّة رسالية من أولوياته معالجة جراح أمريكا التي خلّفها ترمب (1).
في كتاب صادر سنة 2005 بعنوان “المؤسّسة” من تأليف ماسيمو فرانكو، يتحدّث فيه عن “الإمبراطوريتين المتوازيتين” حاضرة الفاتيكان وأمريكا. ولكن ذلك التوازن بين الإمبراطوريتين عانى أثناء فترة إدارة ترمب من الخلل وسوء التفاهم، فهناك اختلاف جوهري بين رؤية البابا فرنسيس للعالم ورؤية ترمب “لنحافظ على عظمة أمريكا”(2).
كتاب ماسيمو فاجولي الأستاذ في جامعة فيلانوفا بفيلاديلفيا، يقدّم شرحًا ضافيًا لمعنى انتخاب “بايدن” الكاثوليكي بالنسبة إلى تاريخ الكاثوليكية الأمريكية، ولِما يمكن أن تتمخّض عنه من آثار في الخيارات السياسية للرئيس. حيث يحاول فاجولي فهم أبعاد السيرة الدينية لبايدن، عبر مشواره السياسي، قَبل اعتلاء كرسي الرئاسة وأثناء تولي هذا المنصب واستشراف ما يمكن أن تسير الأمور نحوه. إذ يشكّل الانتماء للكاثوليكية بالنسبة إلى الرئيس بايدن ثقلا مضاعفا مُقارنة بالانتماء البروتستانتي. والطرافة في الانتماء الديني لبايدن، في المخيال العام الأمريكي (3).
وصاحب الكتاب يؤكد علي دور فلسفة جاك ماريتان في تشكيل عقلية جوبايدن (4)، ولذلك أحاول أن أقدم للقارئ هنا شخصية جاك ماريتان وفلسفته، وكيف أعجب به الرئيس الأمريكي؟
وفي هذا نقول: يعد جاك ماريتان Jacques Maritain – (1882 – 1973م)، قوة فعالة في الحياة الثقافية والفلسفية في القرن العشرين وقد شغل نفسه بجميع التيارات الفكرية والروحية في العالم المعاصر، وقد لعب دورًا كبيرًا مع زوجته “رايسا”، في فترة ما بين الحربين العالميتين داخل الأوساط الثقافية والسياسية الفرنسية والأوروبية. ومنذ البداية فتح معها أكبر صالون للنقاشات الفلسفية والدينية والأدبية في فترة مهمة من فترات فرنسا. وكان ذلك طيلة النصف الأول من القرن العشرين. ومعلوم أن الصالونات الفكرية لعبت دورًا كبيرًا في تاريخ فرنسا منذ القرن الثامن عشر وأيام فولتير وبقية الفلاسفة (5).
ولد ماريتان في باريس في 18 نوفمبر من عام 1882 في عائلة بروتستانتية وبورجوازية. وكان جده لأمه “جول فابر” أحد القادة السياسيين لفرنسا في ذلك الزمان. وفي ظله نما وترعرع. وقد درس في أفضل المدارس الفرنسية كجميع أبناء الأغنياء قبل أن ينتقل إلى الجامعة ويدخل السوربون؛ وهناك راح يدرس العلوم، خصوصًا علم الكيمياء والبيولوجيا والفيزياء (6).
كتب ماريتان كثيراً من المؤلفات الفلسفية التي فاقت الخمسين مؤلفاً، أشهرها باللغة الانكليزية: «درجات المعرفة» The Degrees of Knowledge، «الشخص والخير العام» The Person and the Common Good، و«فلسفة البرگسونية والتومائية» Bergsonian Philosophy and Thomism، وكتابه «الوجود والموجود Existence and the Existent الذي دافع فيه عن نمط من التفكير الوجودي أشد التصاقاً بالتومائية التي يعدّها “الوجودية الحقة”.
وكما يتبين من كتاباته في المنطق الصورى ؛ ونظرية المعرفة وتاريخ الفلسفة، والفن، وعلم الجمال، ونظرية الدولة، وبخاصة كتاباته عن العلاقة بين المسيحية والديمقراطية وعن التربية، والأمور الحيوية وفي زمانه مثل النازية، والحركة المناهضة للسامية، والحرب والسلم. وفي كثير من تفكيره نراه وثيق الصلة بالنزعتين ” الفردية” و” الإنسانية” (7).
ثم سافرا بعدئذ إلى ألمانيا لإكمال دراساتهما. ولكن قبل أن يسافرا كانا قد غيّرا مذهبهما البروتستانتي وتحولا إلى المذهب الكاثوليكي البابوي الروماني. وهو مذهب الأغلبية الفرنسية، وفي ألمانيا اكتشف “ماريتان” مؤلفات أكبر فيلسوف مسيحي في العصور الوسطى: القديس توما الأكويني. ويشبهه البعض بابن رشد. والواقع أنه كان من المتأثرين به والمواظبين على قراءته على الرغم من انتقاده له. وكان يستشهد به ذاكرًا: كما قال الشارح العربي.وقد وجدا عنده الأجوبة عن تساؤلاتهما الميتافيزيقية الملحة. ثم دفعتهما قراءته إلى قراءة أستاذه، المعلم الأول: أرسطو. ومعلوم أن القديس “توما الأكويني” خلع الطابع الإيماني والمسيحي على فكر أرسطو فلم يعد وثنيًا أو عقلانيًا صرفًا. لقد دجنه وجعله مسيحيًا تقريبًا أو قل صالحه مع المسيحية بشكل من الأشكال مثلما صالحه ابن رشد مع الإسلام من خلال كتابه الشهير: فصل المقال. ومثلما صالحه “موسي بن ميمون” مع الديانة اليهودية أيضًا من خلال كتابه: دلالة الحائرين (8).
ثم عاد “جاك ماريتان” وزوجته “رايسا” إلى فرنسا لكي يصبح زوجها أستاذًا في المعهد الكاثوليكي بباريس، وبعد انتهاء الحرب وتقديرا لمواقفه، عينه الجنرال ديغول سفيرا لفرنسا لدى الفاتيكان. وقد ظل يشغل هذا المنصب طيلة ثلاث سنوات من عام 1945 إلى عام 1948. ثم عاد بعدها إلى الولايات المتحدة للتدريس في جامعة برنستون، وقد استقال من مناصبه الجامعية بدءًا من عام 1960 بعد أن تقدم في العمر وتجاوز السابعة والسبعين؛ ثم عاد إلى فرنسا حيث فتح بيته للمثقفين من جديد (9).
وقد كتب بحرارة في ” الحرية في العالم الحديث” دون أن يخفف من اعتقاده بأن ” إقحام المسيحية وحقائق الكتاب المقدس في قلب الحياة الاجتماعية والثقافية ؛ أمر لا غني عنه لتحقق الإنسانية أغراضها ولتبلغ الحضارة أوج كمالها، ولذلك فإن “جاك ماريتان” يعد واحداً من أكبر المفكرين المسيحيين الفرنسيين في العالم اليوم (10).
اجتاز “جاك ماريتان” أزمة روحية سنة 1908 وهو طالب في ” هيدلبرج”، فلقد أدرك أن الفلسفة البرجسونية لم تكن كافية ؛ حيث أخذ “ماريتان” على “برجسون”، أن “برجسون” وقع فى فخ الماديون، وذلك لأن “برجسون” خلط بين العقل المشوه المصاب بالعمى وبين العقل الثمين جداً الجميل جداً الذى وهبه الله للإنسان، فبرجسون فى فلسفته يرى أنه لاوجود فى حين أن “ماريتان” ينتقد ذلك قائلاُ متى نفينا الوجود فقد حطمنا فى الأشياء ما به تشابه وما به ترينا الله ومن هنا يقول ماريتان أن “فلسفة برجسون هى ” وحدة وجود ملحدة “(11).
وفورا طالبه المنطق الحي مرة اخري أن يكتشف الاتناشق الكامن الخفي بين العقل والإيمان كي تتحقق قناعته بقوة علاقتهما معا وهو ما تجلى لحياته العاطفية والفكرية فلسفته – وقد وجد هذا الإنسجام أو الاتناسق في فلسفة “توما الأكويني” الذي كانت فلسفته هي الباب الوحيد المفتوح أمامه، الذي بينت له المطلق الذي كان يبحث عنه (12).
والتفكير الوجودي عنده ليس موقفاً إنسانياً مشخصاً، بل فعلاً وجودياً، فعل اختيار وحرية بالدرجة الأولى. وبتطابقه مع العرف المدرسي يرى أن الوجود هو كل ما هنالك، وأن اللاوجود هو سلب للوجود بمعنى العدم واللاكيان، محاولاً تضمين آرائه عن الأنطولوجيا Ontology؛ تصوراته عن الله، فالله هو الفاعلية الكاملة والتامة لكل إمكانات الوجود. أما الوجود الإنساني فمشدود إلى قطبين: القطب المادي وهو لا يهم الإنسان كشخص حق، وإنما هو ظلال للشخصية، والقطب الروحي وهو الذي يهتم به الإنسان، وعالم الوجود يتطلب معرفة ميتافيزيقية تستدعي معارف بديهية تقوم على العقل الحدسي الذي يسبق العقل المنطقي، أما عالم الطبيعة المتغير والمتبدل فيستلزم معرفة تجريبية – إدراكية، وعالم الكم صورته المعرفة الرياضية. وللمعرفة الإنسانية مراتب وأنواع يكمل كل منهما الآخر، ولكل نوع العقل المناسب له، وقبل المعرفة الشعورية والمعارف البديهية هناك اللاشعور الروحي الذي يسبق اللاشعور الغريزي، وهو مصدر المعارف جميعاً إدراكية كانت أم بديهية، والتي يصنفها في معرفة فلسفية وشعرية ومعرفة صوتية (13).
ولاتخلو فلسفة “ماريتان” من طابع ديني رافق نظرته الفلسفية، وانتهت بنظرة عن “الخلاص” تعرّض فيها لمسألة الخطيئة والشر: فالشر سلب أوعدم، وليس له أي مرتبة من مراتب الوجود، والخطيئة شر لأنها تجعل الإنسان مختل الطبيعة، ميال إلى العبث بالقانون فاقد الوجود، قاطعاً لأواصر الصلة الطبيعية والروحية بالله، وعليه فالخلاص من الشر والخطيئة يكون بتحديد علاقتنا بالله، وإعادة تكامل طبيعتنا بإقرارنا بالعناية الإلهية، وفي حالة الخلاص هذه يصبح الإنسان أكثر من ذاته، وأسمى من طبيعته الإنسانية، أي يصبح إلهاً بالمشاركة (14).
وتستند فلسفة عائلة “ماريتان” إلى أدلة مستمدة من الحواس المكتسبة من خلال فهم المبادئ الأولى. دافع ماريتان عن الفلسفة بأنها علم معارض لأولئك الذين يحطون منها، وروج ذلك للفلسفة باعتبارها “ملكة العلوم”. أكمل “جاك ماريتان” في عام 1910 مساهمته الأولى في الفلسفة الحديثة، مقال يتكون من 28 صفحة بعنوان “العقل والعلوم الحديثة” نشر في مجلة “مراجعة الفلسفة” (عدد يونيو). حذر في مقاله من أن العلم أصبح اليوم إلاها، يغتصب منهجه دور العقل والفلسفة. حل العلم محل العلوم الإنسانية في الأهمية (15).
أما بالنسبة للفلسفة التومائية فيقول ماريتان ” أن التومائية ترى أن حياة العقل ينظر إليها من جانبها العقلى الخالص والاستنباطى ومن وجهة نظر الترابط بين التصورات بعضها البعض و أن هذه الحياة تقدمية فى جوهرها وانتقال من الغير إلى الغير فى الروح (16). وفي رأيه أنه لا صدام بين الإيمان والعقل, وأن المعتقد عقلاني، ومع ذلك فان القانون المتحكم في الطبيعة البشرية مشتق من القانون الإلهي, وأن الخير الخاص متسق مع الخير العام الذي يحدده المجتمع. ومع ذلك فثمة خير آخر يتجاوز الخير العام وهو ما يسميه “ماريتان” الخير الروحي، وعلي الجماعات السياسية، أن تعترف بذلك الخير وتمارسه؛ وتأسيسا علي ذلك كله يرفض “ماريتان” الأنظمة السياسية التي ليست محكومة بسلطان الله، أو بالأدق بمركزية الله (17).
ومن منظور تومائي دافع “ماريتان” عن ميتافيزيقا الوجود، والتصور الطبيعي للعقل، وعن قيم الفضيلة الأرسطية، ورفض بشدة التصورات الوضعية والتاريخانية الحديثة، بل أدان بشدة النظم العلمانية المعاصرة وما يرتبط بها من قيم مدنية، وإن انتهى في آخر محطات مساره الفكري إلى قبول أطروحة الفصل بين الدين والدولة، مع التشبث بمكانة الدين الثابتة في النسق الأخلاقي العام (18).
كان الباباوات الثلاثة الذين سبقوا بابا الفاتيكان الحالي من أشياع وأتباع ماريتان، بدءاً ببولس السادس الذي كان شديد القرب من الفيلسوف الكاثوليكي الفرنسي، وبينهما مراسلات طويلة تتمحور حول النزعة الإنسانية الجديدة التي بشّر بها البابا في مقابل الإنسانية التنويرية الملحدة، والنزعة الماركسية المتعارضة مع الضمير الأخلاقي للمسيحية (19).
أما البابا يوحنا بولس الثاني، فقد اعتمد على فكر ماريتان في نزعته العقلانية ذات الخلفية الطبيعية التومائية، بما يبدو جلياً في ثلاثيته المتعلقة بالحرية والحقيقة والخير. وقد عبّر البابا “يوحنا بولس” عن الدَّين الذي يشعر به إزاء ماريتان خلال المناسبة الاحتفالية التي أقيمت للفيلسوف الراحل في الفاتيكان عام 1982 بمناسبة مئوية ميلاده، معتبراً على الخصوص أن ماريتان جدد الفلسفة التومائية وطرحها بديلاً فلسفياً ناجعاً للقرن العشرين من منظور يفتح العقل على المُفارِق والمطلَق وعلى رسالة الخلاص الأزلي المسيحية (20).
أما البابا السابق بنديكت السادس عشر الذي هو دون شك من أكبر العقول الفلسفية اللاهوتية المسيحية المعاصرة، فقد ركز اهتمامه على إشكالية العقل والإيمان، التي هي إشكالية تومائية تقليدية، استأثرت بجانب كبير من مشاغل “جاك ماريتان”. وفي هذا السياق، نجد لدى البابا المتنحي أطروحة ماريتان حول “العقل المتسع”، أي قدرة الإيمان على تنشيط العقل وإخراجه من عزلته الضيقة، ليكتشف الجوانب العقلية في الوجود في أبعاده المختلفة (21).
قد تكون اهتمامات البابا الحالي فرنسيس بعيدة عن المنحى الفلسفي لماريتان في لغته الميتافيزيقية العتيقة، وأقرب للتيارات الاجتماعية في الكاثوليكية التي انتشرت في أمريكا اللاتينية (وعرفت بـ”لاهوت التحرير”)، لكنه كغيره من اللاهوتيين الكاثوليك تظل مرجعيته تومائية، وبالتالي يبقى في صلة تأثر وقرابة بماريتان (22).
إن هذه الأطروحة ذات الخلفية اللاهوتية البعيدة هي ما يجعل من ماريتان فيلسوف اللحظة الراهنة في المجتمع الأمريكي ؛ خاصة بعد أنُشئ معهد جاك ماريتان بجامعة نوتردام في عام1958 ومعه أنشئت عشرون جمعية تنشغل بدراسة فلسفة جاك ماريتان. وقد امتد تأثيره إلي أمريكا الجنوبية وماريتان في هذا التأثير مروج لمعاداة العلمانية والتنوير بحكم التزامه بفلسفة توما الأكويني المتناقضة مع الرشدية اللاتينية (23).
وحول فلسفته الاجتماعية ففى عام 1926 أصدر البابا قرارا بإدانة الحركة، أو الحزب اليمينى المنتمى إليه ماريتان، فتخلى ماريتان عن ارتباطه بالحركة ثم أصدر عام 1936 كتابه ” النزعة الإنسانية الكاملة ” وانتقد غزو إثيوبيا وهاجم الملكية بعد تولى زمام الأمور فى فرنسا للاشتراكيين والشيوعيين، وأخذ يغازل الديمقراطية، وأصبح ماريتان رغم انتقاده لأسس الفلسفة الليبرالية، ولكنه أصبح يقف جانبها فيما يتعلق بالسياسة العملية، وصار من اشد المدافعين عن التقليد الجمهورى فى فرنسا، ولكن من وجه نظر الدين الكاثوليكى؛ حيث حرص ماريتان على توضيح دور الدين فى الحياة، فهو يرى أن مع اهتمامه بالعلم والفلسفة، ولكن ذلك يكون فى نطاق الدين أيضاً، وأن كان الدين فى حاجة للقديسين، فذلك يعنى أن الدين هو الأساس (24).
ويرى ماريتان أن المجتمع المدنى يقوم على أساس المصلحة المشتركة والعمل المشترك، وهما شيئان ذوا صفة أرضية، أو زمنية، أو دنيوية؛ وفى العصر الحديث جرت محاولة لتوطيد أسس الحياة الدنية على أساس العقل فحسب منعزلاً عن الدين، وقد انتعشت هذه المحاولة ولكن سرعان ما أخفقت ونظراً لتهميش دور الدين، ومن خلال ذلك يرى “ماريتان” أن تقوم ديمقراطية جديدة ليست علمانية، بل تضع الدين ضمن إطارها، وبالتالى يكون ممكناً لبناء مجتمعا سليما، ويرى ماريتان أن كل مجتمع بشرى، إنما هو بناء قائم على السلطة؛ أى يحتوى على تنظيم لتسلسل السلطة، فبعض الناس يأمرون والآخرون يطيعون، وان كان المجتمع متساوياً، فلا بد من وجود فوانيين يرضخ لها الجميع، وذلك الخضوع قد يكون بالإكراه، أو الرضا، وأن كان بالرضا، فلا بد للخاضعين أن تكون لهم قيم يؤمنون بها (25).
وقد صرح مؤخراً الرئيس الأمريكي “جو بايدن”، بأن فيلسوفه المفضل الذي يستمد منه برنامجه السياسي والاجتماعي هو “جاك ماريتان”، وهو لم يكن أغلب الناس قد سمع باسم هذا الفيلسوف الفرنسي المسيحي المتوفى سنة 1973. صحيح أنه تقريباً غير معروف في بلاده باستثناء حضوره في الأوساط اللاهوتية المسيحية، لكن له سمعة واسعة وتأثير كبير في أمريكا الشمالية والجنوبية. كان إذن من الطبيعي أن يعلن الرئيس الأمريكي الكاثوليكي عن إعجابه بهذا الفيلسوف الذي نشأ في بيئة بروتستانتية غير متدينة، لكنه اعتنق الكاثوليكية وأصبح من أهم المدافعين عن خط التومائية (فلسفة اللاهوتي الكبير توماس الاكويني) التي لا تزال هي المرجعية الأساسية لدى المؤسسة الدينية الكاثوليكية (26).
وبطبيعة الأمر، ليست هذه الجوانب الميتافيزيقية، هي التي يعني “جو بايدن”، حين يتحدث عن تأثره بفكر جاك ماريتان، بل إنه يعني فلسفته الاجتماعية التي تتمحور حول فكرتي التضامن الإنساني والعلاقة العضوية بين الفرد والمجموعة المدنية والأخلاقية (27).
إن “ماريتان” الذي يهم الرئيس بايدن هو مؤلف كتاب “الإنسانية الكاملة” الذي يدافع فيه عن حداثة ليبرالية تستبطن قيم التراحم والتعاضد التي نادى بها توماس الاكويني، وهو النهج الذي شكّل الإطار المرجعي للنزعات الديمقراطية المسيحية الأوروبية ومجموعات اليسار الكاثوليكي التي كانت نشطة في الأوساط النقابية العمالية (28).
إنها إذن كاثوليكية مختلفة عن المؤسسة اللاهوتية الأميركية المحافظة التي لم تتحمس للرئيس الكاثوليكي الثاني في تاريخ الولايات المتحدة، رغم إظهاره لانتمائه الديني وتردده الدائم على الكنيسة واستشهاده بنصوص القديس أوغسطين وتوماس الاكويني، ورغم علاقة الصداقة القوية التي تربطه بالبابا الحالي فرنسيس (29).
في كتابه “الإنسان والدولة” الصادر في بداية الخمسينيات، يبلور ماريتان تصوراً جديداً لعلاقة الدولة بالفرد في إطار نقد صارم لفلسفة الدولة المطلقة الكلية لدى هيغل، معتبِراً أن الشرط الأساس لحماية الإنسان من قبضة الدولة الحديثة هو الرجوع إلى نظرية “القانون الطبيعي” التي تكرس الأولوية الأخلاقية والقيمية الإنسان على السلطة العمومية. وفي هذا الباب، يوجه نقداً مزدوجاً للماركسية التي تلغي حرية الإنسان باسم المثالية الاشتراكية ولليبرالية التي وإن أعلنت أولوية حرية الإنسان فإنها تنتهي إلى نفيها باسم مركزية السياسة وهيمنة الدولة (30).
وقد أفاد المؤرخ الكنسي “مسّيمو فاجيولي” (Massimo Fagioli) في مؤلفه الذي صدر في أوائل هذا العام حول: “الوضع الديني في أمريكا”، أنّ بايدن هو كاثوليكي، لكنه ليس مُتمسّكاً بالتقاليد الكنسية. وقد ترسّخ إيمانه، وتأثّر بشخصية البابا يوحنا الثالث والعشرين (1958-1963)، ونتائج المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965)، الذي أصدر قرارات مهمة في تحديث الكنيسة، والإنفتاح على كل المذاهب المسيحية والإسلامية واليهود. وقد حلّل فاجيولي مقاربة الكاثوليك في أمريكا، حيث أنّ هناك بعض الأساقفة التقليديين يتحدّى سلطة البابا فرنسيس في ما يتعلق بمفاهيم المجتمع الحديث، وانفتاح الكنيسة على “الضالّين” من المؤمنين المُثليين، المُطلّقين (31).
وقد أشار فاجيولي إلى أنّ أساقفة عديدين تأثّروا بالبابا يوحنا بولس الثاني (1978-2005) والبابا بنديكتوس السادس عشر (2005-2013). وقد اعتنقوا التوجه المحافظ في الكنيسة، علماً أن الأخير شجّع على تبنّي الحركة المحافظة التي تميل إلى الليبرالية (Neointegralisme).؛ وقد دعا فاجيولي هذا الجناح من الكاثوليك ب”حزب الشاي الكاثوليكي”، حيث كان قسمٌ منهم من الموالين للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. وبالمقابل، فإنّ بايدن دافع عن الكاثوليكية المسكونية، والتعاون مع الكنائس المسيحية الأخرى (32).
الهوامش
(1) عزالدين عناية: جو بايدن والكاثوليكية في الولايات المتحدة، شباب التفاهم، 03 اغسطس 2021.
(2) المرجع نفسه.
(3) المرجع نفسه.
(4) المرجع نفسه.
(5) هاشم صالح: ماريتان.. رهان على الروح في زمن الحضارة المادية، جريدة الشرق الأوسط، الثلاثاء – 9 محرم 1438 هـ – 11 أكتوبر 2016 مـ.
(6) المرجع نفسه.
(7) ياسمين أحمد على برعى: فلسفة الدين والسياسة عند جاك ماريتان:2010، ص 6.
(8) هاشم صالح: المرجع نفسه.
(9) المرجع نفسه.
(10) ياسمين أحمد على برعى: المرجع نفسه، ص 8.
(11) د. رمضان الصباغ: العلاقه بين الفن والاخلاق عند جاك ماريتان، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر والتوزيع، الاسكندرية، 2004، ص 11.
(12) ياسمين أحمد على برعى: المرجع نفسه، ص 9.
(13) علي عبد المعطي محمد، مقدمات في الفلسفة (دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت 1985، ص 188.
(14) ج. بنروبي، مصادر وتيارات الفلسفة المعاصرة في فرنسا، ترجمة عبد الرحمن بدوي (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1980، ص 322.
(15) عبد الرحمن بدوي: موسوعة الفلسفة، الجزء الثاني، بيروت، ص 280.
(16) د. رمضان الصباغ: المرجع نفسه، ص 17.
(17) عبد الرحمن بدوي: المرجع نفسه، ص 283.
(18) السيد ولد أباه: بايدن والكاثوليكية الاجتماعية/ نشر في: 17 أغسطس ,2021: 10:50 م GST.
(19) المرجع نفسه.
(20) المرجع نفسه.
(21) المرجع نفسه.
(22) المرجع نفسه.
(22) المرجع نفسه.
(23) المرجع نفسه.
(24) د. رمضان الصباغ: المرجع نفسه، ص 17.
(25) المرجع نفسه، ص 18.
(26) السيد ولد أباه: المرجع نفسه.
(27) المرجع نفسه.
(28) المرجع نفسه.
(29) المرجع نفسه.
(30) المرجع نفسه.
(31) عزالدين عناية: المرجع نفسه.
(32) المرجع نفسه.