لعل أوضح ما يسجل للفكر الإقبالي البالغ التأثير في الأمة الإسلامية أنه كان فكراً قيامياً، لا يكف عن الإيمان بقدرة المسلم على النهوض والبعث، وإذا كان لرسالته من عنوان فهو فقه الجذوة التي لا تنطفئ، وأن همودها ولهيبها جدل مستمر، وكان يلخص دراسته بالإصرار على استمرار هذه الروح المتوثبة، وقدرتها على إنتاج الحياة من جديد.
لقد كتب إقبال طويلاً في الحضارة الإسلامية، وتمكن أن يرسم بريشته أروعَ ما في الحضارة الإسلامية وأشدها نقاء وتألقاً.
إنه لم يكن يتحدث كأستاذ في التاريخ لقد كانت رسالته واضحة وهي أن من أنجز ذلك اللون الفريد من الحضارة قادر على أن يعود للمجد مرة أخرى، أوليس الذي خلق الحضارة الأولى بقادر على أن يخلق مثلها؟ بلى وهو الخلاق العليم، إنه ينصب المسلم على منصة الإبداع العالمي في مكان القائد الآسر للقلوب تترقبه الأمم وتنتظره العزائم ويحاول أن يبعث فيه إرادة الحياة من جديد.
لقد تغنى بالقادة الفاتحين، وإقبال في الواقع ابن المرحلة اللاهبة التي شهدها العالم بين الحربين كما أنه ابن الهند الثائرة في وجه بريطانيا وابن الأمة التائقة إلى باكستانها الجليل… ، ومن الطبيعي أن ينحاز إلى الأبطال المنتصرين وأن يستلهم منهم أبطالاً من جديد يقومون بعبء التغيير في هذا العالم الإسلامي المنكوب.
كان يدرك تماماً ان هذه الآمال الكبار لن تأتي بالأمنيات، وأن التاريخ لا تصنعه النوايا الطيبة، وأن العالم مهما حفل بالعظماء والحكماء والفقهاء ولكن العسكر هم الذين يكتبون التاريخ وهم الذين يرسمون مستقبل الأمم.
كان يتبادل مع نيتشة غضبه على الكهنوت وعلى الأخلاق الخانعة التي يعلمها الكهنوت، لم تكن تعجبه ثقافة اذا ضربك على خدك الايمن فأدر له خدك الأيسر وإذا أخذ رداءك فاعطه إزارك… وهي المعاني نفسها التي تكرسها المدارس المنتشرة للصوفية الفاشلة التي حولت المجتمع الإسلامي إلى ملالي ومريدين، وأعلن غضبه الحارق على الفهم المتشطي للدين والإنسان، لقد كان يعجبه الثائر القوي يملك أقداره بيمينه ويكتب مستقبل الأجيال بزنده، ويكتب بسيفه حركة التاريخ.
وسجل إقبال في كتابه تجديد التفكير الديني في الإسلام أعجابه الكبير برجال ثلاثة من زعماء الهند وهم أحمد الفاروقي السرهندي وشاه ولي الله الدهلوي وأورنك زيب، وقال لولا هؤلاء الثلاثة لابتلعت الهند الحضارة الإسلامية.
أما أحمد الفاروق السرهندي المتوفى 1624 فقد كان من أبرز علماء الشريعة وكان مرشدا على الطريقة النقشبندية وعرف في التاريخ باسم مجدد الألف الثاني، وقد اشتهر بصلابته وثباته في وجه السلطان أكبر ومقاومته لمشروع الدين الجديد الذي دعا إليه أكبر، أما ولي الله الدهلوي فقد كان أبرز علماء الشريعة وفقهائها في الهند وقد توفي عام 1762، أما أورنك زيب فقد كان أبرز سلاطين المغول المسلمين في الهند 1658-1707 وقد نجح في بسط سلطان المغول المسلمين على كامل تراب الهند وأوقف انهيار الدولة المغولية.
وهؤلاء الثلاثة يرمزون في فكر إقبال إلى قوة المسلمين في الهند، وقد كانت الهند أحوج ما تكون الى ثقافة القوة في أيام إقبال بعد أن مارست بريطانيا احتلال الهند بشكل مباشر عقب إسقاط السلطان بهادر شاه.
ويجب القول إن إقبال لم يكتب على نسق هؤلاء المرشدين في الفكر، ولكنه اعتبر هؤلاء الرجال الثلاثة روائز كرامة وإرادة وثبات للمسلم الناهض في القارة الهندية، وإن يكن مشروعهم الفكري والتراثي غير متطابق مع رؤيته ودراساته.
ويقدم الدكتور محمد البهي مقارنة بالغة الأهمية للدور الإصلاحي الذي قام به إقبال ويعتبره تناوساً فكريا كاملاً مع مشروع الشيخ محمد عبده الإصلاحي:
” محمد عبده ومحمد إقبال كلاهما قام بمحاولة فكرية إسلامية أو بحركة إصلاحية في تعديل المفاهيم الإسلامية، قصد منها بيان القيمة الإيجابية في توجيه الإسلام. وكلاهما دفع إذن إلى هذه المحاولة تحت ضغط عامل خارجي أحدهما – وهو الشيخ عبده – تحت ضغط الاستعمار الصليبي، والثاني وهو – محمد إقبال- تحت ضغط الفكر المادي الطبيعي وسيادته في أوروبا، وانتشار الدعوة إليه في الهند خاصة في تلك الوقت عن طريق السيد أحمد خان والشاعر التركي توفيق فكرت من دعاة مذهب أوجست كومت في حركة التجديد الإسلامي في تركيا وكلاهما أخلص في محاولته، وبذل مجهودا مشكورا فيه” [1]
ولم يكن إقبال غاندياً في فهمه لحركة التاريخ لقد كان واقعيا تماماً، ولم يكن يكتم إعجابه بتلك القوافل الهادرة من المجاهدين الباسلين الذين وثبوا من صحراء العرب وفرضوا قيم رسالتهم على عواصم الحضارة وألبسوا العالم ثوباً جديداً…
كتب بريشته بطولات قادة الفتح الإسلامي كما لم يكتبها شاعر آخر حتى صارت أشعاره في الفتح الإسلامي أغنية العزيمة والبأس والإرادة في شفاه شباب العالم الإسلامي كله.
إنها ليست محض دعاوى فارغة، إنها الحقيقة التي يعترف بها كل من قرأ هذا التاريخ بروح متوثبة، وكل من فهم تدافع الأمم في العصر الوسيط للدخول في النادي الحضاري الإسلامي المجيد:
مَلَكْنَا هذه الدنيا قرونَا |
* | وأخضَعَها جدودٌ خالدونَا |
أين هو إذن هذا المجد التليد وأين ضاعت رياحينه وبساتينه وشذاه؟
إنه يطوف اليوم أطراف هذا العالم الإسلامي الكبير ويشهد قيام حواضره وأوابده، لا تزال شامخة عالية، ولكنها أحجار وصخور، ولم يعد تتدفق منها تلك الروح التي وهبتها في التاريخ الحياة والأمل، أين أولئك الرجال الذين كانوا يمنحون هذه الأوابد معناها؟ ويعيدون خطابها جذعاً متيناً تقرؤه الأجيال؟
أرى التفكير أدركه خمول وعند الناس فلسفة وفقه |
* | ولم تبق العزائم في اشتعال ولكن اين تلقين الغزالي |
لا تيأس أيها المسلم!! إنها ليست أول مآسي الدهر ولا هي آخر مآسيه، تذكر اختلاف الليل والنهار، وتعاقب القيام والسقوط، وتذكّر مجد الإسلام الباقي الذي ينطلق من بؤس السقوط المريع.
خلد إقبال في أروع قصائده حكاية سقوط بغداد في وعي بدرس التاريخ البصير الذي يحتاجه المسلم في قيامه ونهضته، على الرغم من السياق الحالك والمظلم لهذه المأساة الإنسانية الرهيبة.
في مطلع القرن الثالث عشر الميلادي كان هولاكو السفاح المغولي الأكثر توحشاً قد قاد الجحافل الهائجة المنسابة من عاصمة المغول في سفوح الهملايا لا يصدها شيء عن غايتها في استباحة كل ما واجهها من حضارات وحياة، وبعد أن أحرقت المدائن الإسلامية المتتالية من خوارزم إلى بلخ إلى نيسابور، إلى أصفهان والري وشيراز وقزوين ولم تسلم مدينة إسلامية من أذى المغول وبطشهم وصلوا في النهاية إلى بغداد وكانت أيام الهول التي رواها التاريخ، بكل مآسيها وجرائمها ونكباتها وأهوالها.
وعلى الرغم من استسلام الخليفة المستعصم لإرادة هولاكو فقد تم وضعه في كيس من الخيش وأمرت الخيول الجرارة أن تتحرك لتدق عنقه تحت سنابك الخيل، أما دجلة فقد طرحت فيه كتب الحضارة الإسلامية من خزائن بغداد الغنية والباذخة، وهناك في قلب العاصمة التاريخية راجت صورة المحارب المغولي تأخذ مكانها في مخيلة الناس على صورة وحش كاسر، لا يؤمن بالإنسان ولا بالمدنية ولا بالحضارة ويتحرك كوحش هائج.
ثلاثة أعوام من الصمت، وهولاكو يقول: لمن الملك اليوم؟؟ والجواب هو للسلطان الغازي المنصور المؤيد هولاكو بن تولوي بن جنكيز خان !!
كثيرون كتبوا عن نهاية العالم، وذهب القرطبي صاحب التفسير الذي عاصر المرحلة إلى أن المغول هم يأجوج ومأجوج، وأن دخولهم بغداد هو نهاية العالم بكل تأكيد، وشرح ابن كثير الفظائع الدامية التي خلفت بتقديره نحو ألف ألف قتيل وذبيح، وكان الناس يجتمعون في دور العلماء والأكابر ويغلقون عليهم الأبواب فيأتيهم المغول فيحرقون عليهم الأبواب أو يكسرونها ثم يقتلونهم على الأسطحة والأدراج حتى تعفنت الجثث وفاضت رائحة الموت في كل مكان في بغداد، حتى الإمام القرطبي وجد نفسه يتحدث عن المغول النسخة النهائية ليأجوج ومأجوج الذين يبعثون يوم الحشر علامة ظاهرة من علامات الساعة.
وقد خلد إقبال بروحه الشاعرية هذه المأساة الرهيبة التي أصابت الحضارة الإسلامية على ضفاف دجلة بقوله:
يا دجلة هل سجلت على |
* | شطيك مــــــآثر عزتنا |
ولكن الحضارة الإسلامية تمكنت في النهاية من مواجهة المشروع المغولي الهائج، ليس بالجيوش الجرارة، ولا بالاعداد المتدفقة من المحاربين، ولكن بقوة الحضارة الإسلامية وخلودها، وعمق الحكمة والعرفان فيها.
كانت المفاجأة أن أحفاد هولاكو من سلاطين المغول بعد أن عاشوا في حياض الإسلام وتعرفوا شيئاً فشيئاً على القيم الحضارية في الإسلام بدأت مشاعرهم تتوق لذلك النعيم الروحي، وفجأة أطلت على العالم وجوه مغولية تعتنق الإسلام، وفجأة فإنك بعد أن تقرأ ما ارتكبه جنكيز خان وهولاكو وما تبعهما من مجازر يخبرك المؤرخون نبأ قيام الدولة المغولية الإسلامية القبجاقية والدولة المغولية الإسلامية الإيلخانية، والدولة الإسلامية المغولية الإستراخانية، وهي دول قامت في الحواضر الإسلامية على يد أباطرة مغول انقلبوا على تاريخهم الدامي وراحوا يبشرون بالإسلام في حواضرهم !!
كانت أول دول المغول تحولاً إلى الإسلام هي دولة المغول في روسيا وأوكرانيا وكانت تسمى القبيلة الذهبية، حيث تحول ملكها بركة بن جيجي بن جنكيز خان إلى الإسلام، وكان ذلك عام 650 هحرية، أما الجولة الثانية فكانت دولة هولاكو نفسه فبعد مقتل خلفه كتبغا، تعاقب الأولاد على السلطة، وفجأة اعتنق تيكودار ابن هولاكو الإسلام، وتسمى أحمد وقد أثار ذلك غضب القادة المغول ودفعوا ابن أخيه أرغون لقتاله وحين ظفر به لم يتوان في إعدامه بكل بطش، ولكن هذا الغضب المغولي الهائل تبدد بعد سنين قليلة حيث تولى الحكم غازان ابن أرغون، وأعلن رسمياً دخوله في الإسلام 694 وتلقب بمحمود غازان!.
أما الدولة الثالثة للمغول فهي دولة كاشغر التي كانت تمتد غرب الصين وتشمل أوزبكستان وعدداً من دول آسيا الوسطى فقد تحولت بدورها إلى الإسلام أيضاً بعد أقل من قرن حيث أسلم السلطان المغولي تغلق خان 739- 755 على يد الشيخ جمال الدين وابنه رشيد الدين، وأعلنا كاشغر مدينة إسلامية.
ومن رحم هذه الدول المغولية الثلاثة ولدت بعد قرنين من الزمان الامبراطورية المغولية المسلمة التي حكمت الهند كلها ثلاثة قرون ونصف إلى عام 1858م، وظهر فيها أباطرة عادلون، وتركت بصمات حضارية كبيرة لا زالت أروع ما نشاهده في ربوع الهند العظيم.
وحين تتجول اليوم في القارة الهندية سيهولك مشهد المآذن المغولية المتناسقة التي تحكي حضارة هذه البلاد الجبارة بعد أن سعدت بربيع الإسلام، وفي لاهور مسجد بابر شاه الذي يقوم على مساحة تعادل ثلاثة أضعاف المسجد الأموي، وقد كتب على لوحة كبيرة بناه السلطان المغولي بابر.
المدارس والإيلخانات والتكايا والزوايا والبيمارستانات المغولية التي لا عدَّ لها ولا حد ولا حصر، بقيت شاهدة على خلود الحضارة الإسلامية على الرغم من البغي المغولي الكاسر.
أما الفراديس الخالدة والحدائق الغناء التي تركها المغول في ربوع القارة الهندية فهي تعكس الروح الخضراء التي وجدها المغول في فردوس الحضارة الإسلامية ولا زال قصر تاج محل الذي بناه السلطان المغولي شاه جهان بطرازه الإسلامي وحدائقه في أكرا بالهند أروع ما صممته الإنسانية كلها من فنون الجمال.
من كان يصدق أن أحفاد هولاكو سيحملون رسالة الإسلام إلى قلب آسيا ومعهم عبير حضارة معجون بالروح، يأسر أولي الألباب ويجعل الدنيا كلها تحن إلى رائحة الشرق؟
وفي الواقع فإنه لم تصدر حتى اليوم دراسة علمية موضوعية تشرح هذا التحول التاريخي المدهش الذي ليس له نظير في التاريخ، وتبدو الأسماء المذكورة في سياق هذا التحول لعدد من رجال التصوف المسلمين كنجم الدين الكبروي وسيف الدين الباخرسي وجمال الدين ورشيد الدين ونجم الدين مختار الزاهدي ورشيد الدين الهمداني وكذلك الأمير توزون غير كافية لرسم ملامح هذا التحول العظيم، ولا زلنا في فهم هذه الحكايات عالة على المؤرخ السير توماس أرنولد في كتابه الشهير الدعوة إلى الإسلام.
بعد بكائه على أطلال بغداد المفجوعة الذبيحة، راح إقبال يتحدث عن فجر جديد في مشهد الحضارة الإسلامية:
بغت أمم التتار فأدركتها ضياؤك مشرق في كل حين |
*
| من الإيمان عاقبة الأماني لأنك غير محدود المكان |
وما زال سر السقوط والقيام الرهيب الذي وقع في القرن الثالث عشر في هذا الشرق الإسلامي عصياً على كل تحليل، ولا زال من العسير منهاجياً تفسير هذا التحول الهائل في دور المغول الذي استفاق عليه المسلمون بعد المحنة الرهيبة.
إنها وفق تفسير إقبال قوة الحضارة الإسلامية وشمولها وربانيتها، وبذلك فقط استطاعت هذه الحضارة ابتلاع الحضارة المغولية تماماً، وإعادة إنتاجها طاقة إيجابية خلاقة قامت بنشر الإسلام وتوحيد الهند وتأسيس حضارة إسلامية رائعة فيها لمدة أربعة قرون!
[1] البهي، محمد، الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، ص 424-426