يوجد في عالم اليوم الكثير من المآسي التي خلفتها الحروب الطائفية والإثنية والعرقية وغيرها، ولا أدل على ذلك مما يحصل اليوم في سوريا من نزاعات مسلحة تُغذيها أفكار طائفية مقيتة تحمل مجازفات ومخاطر كبيرة، وتحاول الدفع بحياة البشر نحو الهاوية، فضلاً عن ممارسات الأنظمة المستبدة مع شعوبها على أساس ديني أو مذهبي أو على أساس اللون أو العرق أو الجنس، ومع كل هذا وذاك لا بد من فسحة أمل وتفاءل والتفكير بغد أفضل للسوريين والبشرية عموماً، غد تنتفي فيه فكرة الطائفية والمذهبية، ويتم استيعاب الثقافات المختلفة، والانتصار لإنسانية لإنسان أياً كان دينه ولونه وجنسه، لأن هويتنا في نهاية المطاف ليست واحدة وإنما هويات متعددة، ووعينا يختلط فيه العقلاني مع الأسطوري، ولا مناص للبشرية إلا أن تهتدي إلى التعايش معاً في ظل الاختلاف والتعدد ونبذ المركزيات، والعمل على تعزيز فكرة التنوع والاختلاف بين البشر.
ومن أجل ذلك بدأت الكثير المنظمات الإنسانية، والهيئات الدولية تؤكد على أهمية التنوع الثقافي واحترامه، وقد أصدرت اليونسكو الكثير من التقارير التي تؤكد على أهمية التنوع، والتربية على المواطنة العالمية، والعيش معاً، كما بدأ المصطلح بالظهور والاستخدام في الأدبيات السياسية والحقوقية والثقافية والتربوية، وبدأت الكثير من الدول تحتفي به، وتسعى إلى تعزيزه من خلال تشجيع لغات الأقليات، واحترام خصوصياتهم الثقافية، والتشجيع على الحوار فيما بينهم.
وقد أفرزت المبادئ التي أقرتها الهيئات الدولية مجموعة من السياسات للتنوع الثقافي اعتمدتها بدرجات متفاوتة البلدان المختلفة، كان أهمها ما يتصل بالسياسات التعليمية للدول المتقدمة التي أعطت أهمية للتعددية الثقافية، وحثت الدول الأخرى على احترامها، وإدراج ما يتصل بها في المناهج الدراسية، والأنشطة التربوية، ونقدت السياسات التعليمية التقليدية القائمة على افتراض وجود ثقافة وطنية متجانسة، الأمر الذي أدى إلى تزايد البلدان التي لم تعدّ تكتفي بقبول أشكال التعبير عن التنوع الثقافي، وإنما أصبحت تعترف أيضاً بأن التنوع الثقافي والتعددية الإثنية، تُشكلان ركنين أساسيين من أركان الاندماج الاجتماعي الديمقراطي، ومعالجة أوجه عدم المساواة بين الأكثرية والأقليات (ديلور وآخرين، 1999، 206).
ومن ثم، فإنه ينبغي على التعليم أن يتصدى لكل ما من شأنه أن يُعطل الأنشطة التي تحدّ من تعزيز ثقافة التنوع، كما ينبغي للنظم التعليمية (بأوسع معانيها) أن تتصف بقدر من المرونة وسعة الخيال يكفي لإيجاد نقطة توازن في تعليم البشر المختلفين ثقافياً ودينياً، ووفقاً لذلك، فإن تعليماً قائماً على التنوع الثقافي الحق ينبغي أن يكون قادراً على الاستجابة في آن واحد لمقتضيات التكامل على الصعيدين العالمي والوطني، وللاحتياجات المحددة لجماعات خاصة (ريفية أو حضرية)، لكل منها ثقافة خاصة بها. فمثل هذا التعليم سوف يُمكّن كل فرد من أن يعي واقع التنوع ويحترم الآخرين، سواء أكانوا جيرانه أم زملاءه في موقع العمل، أم سكان العالم.
ولكي يظهر إلى الوجود تعليم كهذا يستهدف التنوع حقاً، سوف يتطلب الأمر إعادة التفكير في أهداف التعليم: ما معنى التعليم؟ وما معنى المتعلم؟ وكذلك إعادة تصميم مضامين وبرامج المدارس التقليدية، وابتداع طرق تدريس ومناهج تعليمية جديدة، والتشجيع على نشوء أجيال جديدة تؤمن بالتعدد الثقافي على المستوى النظري وتسلك بموجبه، فضلاً عن أهمية استغلال كل القيم التي تعزز احترام ثقافة التنوع والاختلاف، وكذلك استثمار ما ورد في الكتب السماوية مما يعزز تواصل البشر مع بعضهم بعضا. كقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (الحجرات: 13)
إن التعليم التعددي حقاً، إنما ينهض على أساس فلسفة ذات نزعة إنسانية تحترم إنسانية الإنسان، أي إنسان، وكل إنسان، أي على مبدأ أخلاقي ينظر إلى الآثار الاجتماعية للتنوع الثقافي نظرة إيجابية. غير أن الواقع يفتقر أحياناً إلى قيم التعددية الإنسانية والثقافية اللازمة، للتشجيع على إجراء مثل هذا التحول على مسار التعليم، لذا ينبغي العمل على نشر هذه القيم عن طريق التعليم الذي تعززه تلك القيم بدورها.
ومع ذلك، فإن هناك من المراقبين من يساورهم شك عميق فيما يتعلق بالتنوع الثقافي، وإمكانية انعكاسه على تعليم متعدد الثقافات. فمع تأييدهم للتنوع الثقافي، الذي لا يمكن نكرانه في عالم اليوم، فإنهم يبدون الشك في صواب العمل على إبرازه عن طريق التعليم، خشية أن يؤدي ذلك إلى بلورة هويات مستقلة، أو إلى تعزيز النزاعات الإثنية وتكاثرها مما يؤدي إلى تفسخ النماذج القائمة للدولة الأمة (اليونسكو، 1974، 3). ويدللون على ذلك بأمثلة عن المغالاة في النزعة القومية لدى مجموعات إثنية تدفعها إلى الانفصال السياسي، وتفضي إلى التفكك الاجتماعي كما يحصل جنوب شرق سوريا على سبيل المثال لا الحصر، عدا عن المجازر التي تشارف أعمال الإبادة، وعن حملات التطهير الاثني التي تغذيها مشاعر الحقد الطائفي كما هو الحال في سوريا أيضا. ومع ذلك فإن التنوع الإثني لا يمكن طمسه بفعل السحر، وليس من الواقع أن تلام سياسات التنوع الثقافي على ما ينشب من نزاعات عديدة بعض الدول، كثيراً ما يكون مصدرها عدم الاعتراف بالتعددية الإثنية أو محاولات القضاء عليها.
والانتقادات التي توجه إلى التنوع الثقافي (التي تحمل معاني مختلفة تبعاً لاختلاف السياقات) تصدر أحياناً من مجموعات إثنية ذات نزعة قومية، وتعتقد أن عناصر أجنبية (من مهاجرين وأقليات مختلفة ثقافياً) تهدد بالخطر “جوهر” وجودها القومي. ولكن من الانتقادات ما يصدر أيضاً من ليبراليين حسني النية، ينشدون تكوين أمة “مدنية” يكون جميع أفرادها متساوين، بصرف النظر عن العنصر أو اللغة أو الأصل أو الدين أو الثقافة.
لا شك أن التركيز على الفروق الثقافية أو الإثنية يؤدي إلى إقامة حدود وجدران تفصل بين بشر متساوين في الواقع، إن لم يكونوا متماثلين. والتعليم الذي يستهدف إيجاد ثقافة ذات طابع مدني حقاً، ويشارك فيه الجميع، هو وحده القادر على الحيلولة دون استمرار تسبب الفروق في ظهور أوجه عدم التكافؤ، ودون أن تصبح الخصائص مميزة مثاراً لمشاعر العداء. وفي هذا التصور تصبح الهوية الإثنية جزءاً من مجال الحياة الخاصة على وجه الحصر (شأنها شأن الدين في الدولة العلمانية الحديثة)، وتخرج من عداد اهتمامات السياسات العامة (جيدوري، 2012، 82).
بيد أنه على الرغم من هذا التصور المشرّف للغاية، يجد المرء في كل مكان مجموعات إثنية لا تزال تحشد قواها لنصرة معتقدات ورموز ثقافية، بل إن النظم التعليمية ذاتها تصبح طرفاً في هذه “الحروب الثقافية”، التي يشهدها عصرنا. وسواء أكان منشأ هذه الصرعات راسخاً في أعماق اللاوعي الجماعي (كما يدعي بعضهم)، أم كانت مجرد نتيجة للتلاعبات الانتهازية “للمتاجرين بالقضايا الإثنية” (كما يؤكد آخرون)، فإن تعزيز القيم الديمقراطية ذات النزعة الإنسانية لن يتم بنجاح من خلال التغطية على هذه الصراعات، وإنما من خلال فضحها ومواجهتها بتعليم يسعى إلى تشكيل عقلية تؤمن بالتنوع، وأن الآخر ليس جحيماً.
فمن المؤكد أن العالم قد بلغ اليوم من النضج ما يكفي لتمكينه من إقامة ثقافة مدنية ديمقراطية تنهض على أساس حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، ومن العمل في الوقت نفسه على تشجيع الاحترام المتبادل بين الثقافات، على أساس الاعتراف بالحقوق الجماعية للشعوب كافة، التي لا يقل أحدها جدارة عن غيره. هذا هو التحدي الذي يتعين على التعليم من أجل عالم متعدد الثقافات أن يتصدى له في القرن الحادي والعشرين.
مراجع المقال
– ديلور، جاك وآخرون (1999). التعلم ذلك الكنز المكنون، تقرير قدمته إلى اليونسكو اللجنة المعنية بالتربية للقرن الحادي والعشرين، القاهرة، مركز مطبوعات اليونسكو، ص206.
– جيدوري، صابر (2012). تنمية قيم المواطنة العالمية لدى طلبة المرحلة الجامعية، مجلة شؤون اجتماعية، السنة 29، العدد 116، الشارقة، جمعية الاجتماعيين، ص82.
– اليونسكو (1974). توصيات بشأن التربية من أجل التفاهم والتعاون والسلام على الصعيد الدولي, والتربية في مجال حقوق الإنسان وحرياته الأساسية, الدورة (18), باريس، ص3.