رغم تعدد الآراء اتجاه ثنائية الفرد والمجتمع إلا أن الفلاسفة والمفكرين انقسموا بوجه عام إلى اتجاهين أساسيين: الاتجاه الأول، الذي يرجح كفة الفرد على كفة المجتمع، أما الاتجاه الثاني، فإنه يرجح كفة المجتمع على كفة الفرد، وفي هذا المقال سوف نناقش الآراء التي تتصل بطرفي الثنائية، ثم نذهب إلى بيان انعكاساتها على الفكر التربوي وتطبيقاته المختلفة، وتقديم محاولة لتجاوز الثنائية باعتبارها ثنائية تكامل وليس ثنائية تناقض.
الاتجاه الأول: الفلسفة الوجودية
يؤكد أنصاره وهم من (الفلاسفة الوجوديين) الاهتمام بفردية الإنسان، إذ تعلن الوجودية على لسان فلاسفتها أن هدفها الأساسي هو الدفاع عن الفرد وحريته وحمايته من الذوبان في المجتمع، وفي الوقت ذاته تنظر إلى الفرد وحيدًا منعزلاً تتركز اهتماماته كلها حول ذاته، فالفرد ليس جزءًا من نظام كوني وإنما هو حر، ولذا فهو مسؤول عن تصرفاته جميعها، والحرية جوهر الإنسان بها يوجد وبفقدانها ينعدم وجوده (1).
من هذا المنطلق، يرى أنصار الفردية أن النظم والمؤسسات الاجتماعية تهدد حرية الفرد المطلقة، لذلك فهم يخشون من ترجيح كفة المجتمع على كفة الفرد حتى لا تضيع المواهب الفردية الخلاقة، وكيلا يتم خنقها عن طريق غمس الفرد في سلوك جماعي لا يسمح له بالتعبير عن الملامح الحقيقية لشخصيته (2).
ويضيف أنصار الفردية، أن الحضارة الإنسانية نفسها مدينة للمجهودات الفردية في قيامها وازدهارها. ويسوقون في هذا الصدد مثالاً هو الفيلسوف اليوناني “فيثاغورث” الذي اخترع الهندسة، و”جاليليو” الذي حول التفكير من الخط الأرسطي إلى مرحلة تطوريه حضارية جديدة (3). ومن الحجج التي يسوقها دعاة الوجودية ضد الجماعية حجة تقول: إن الاهتمام بالمجتمع معناه التأكيد على عملية تكيف الناشئة للأوضاع القائمة، وغض الطرف تمامًا عن المستقبل، وبذلك يفقد الجيل التالي بذلك القدرة على التكيف وفقًا للتغيرات الجديدة التي سوف تطرأ والتي لم تظهر بعد إلى الوجود. ذلك أن الشخص بعد أن يتكيف في طفولته لوضع معين إنما يصعب تحويله عنه، بينما يعمل الاتجاه المدافع عن الفردية على تمكين الفرد من الاختيار والانتقاء والتبصر بالموقف وعما يتضمنه من احتمالات متعددة (4).
ولهذا السبب عوملت الحرية الفردية في أفكار الوجوديين بأهمية العالم الموضوعي بوصفها القيمة الأساسية والمبدأ الهام للوجود الإنساني، حتى أن رواد الوجودية جعلوا منها الشيء الذي لا يستطيع الإنسان العيش من دونه. وهذا ما يؤكده “يسبرز” بقوله: “إن الوجود هو الذات الفردية التي تظل دائما فردية والتي لا يمكن الاستغناء عنها أو استبدالها” (5).
من هنا يرى أنصار الفردية أن الإنسان حر حرية مطلقة، بل أكثر من ذلك يجب أن يكون حرًا ومحكوم عليه بالحرية. أي أن الحرية هي الوجود الإنساني ذاته، وليست صفة مضافة أو خاصية من خصائص الوجود إنها كما يقول: “سارتر” نسيج وجودي (6)؛ بمعنى أن الوجود الإنساني كله يستند على مقولة الحرية ومن الخطأ – برأي “سارتر” الحديث عن وجود الإنسان دون الحديث عن حريته. لقد كتب “سارتر” يقول: “الإرادة الإنسانية تسبق ماهية الإنسان وتجعل من ماهيته شيئًا ممكنًا، وما نسميه حرية لا يمكن أن يصبح فيما بعد حرًا، فلا فرق بين وجود الإنسان وبين وجوده الحر. فالحرية قدرة ذاتية على الاختيار، لأن الإنسان يجب أن يختار دون توقف وأن يتجاوز ما هو موجود، فالاختيار الحر هو الذي يخلق الشخصية (7).
خلاصة القول: إن دعاة الفردية لم ينادوا بأكثر من حرية الفرد المنفصلة عن الحرية العامة للمجتمع، وذلك بحجة أن المجتمع بما يفرضه من طرائق تكيفية وقيود على الشخصية الفردية إنما يحول الإنسان إلى آلة لا تستطيع أن تفكر أو تنقد وهذا بدوره يقضي على المواهب الفردية الخلاقة.
الاتجاه الثاني: الفلسفة الماركسية
قبل الشروع في مناقشة ما يراه أنصار هذا الاتجاه (ومعظمهم من الماركسيين) من ضرورة ترجيح كفة المجتمع على كفة الفرد، من الأهمية بمكان الإشارة إلى رؤية مفكري الاتجاهات الاجتماعية الطبقية التي تقول: إن الطبائع البشرية معدة مسبقًا إما بطريقة تراتبية يكون بعضها مؤهلًا للقيادة بالفطرة، والبعض الآخر مؤهلًا للخضوع (افلاطون، ارسطو) أو أنها ملوثة بفعل الخطيئة التي انحدرت إلى تلك الطبائع من آدم، وأن الله اختار بعضها للحياة الأبدية لحكمة لا نعرفها (القديس أغسطين، توما الأكويني، لوثر، كالفن) أو أنها صيغت بالفطرة أيضا بطريقة يكون كل إنسان ذئبًا لأخيه الإنسان، وإن الحاجة تقضي بوجود ذئب أكبر يحق له أن يعمل في شتى الاتجاهات ويتعين على الجميع الخضوع له لكي يكونوا في مأمن من شر بعضهم البعض (هوبز).
بينما يرى هؤلاء ذلك فإن أنصار المجتمع من “الماركسيين” ينحون منحى آخر ينطلقون فيه من حقيقة أساسية مفادها: أن الدولة ضرورة لا بد من وجودها حتى يستطيع الإنسان تحطيم علاقات العمل الاجتماعية القائمة على أسس طبقية (8).
ومن ثم لا بد أن توجد الدولة ويعمل الأفراد تحت مظلتها حتى يستطيعوا تحقيق حرياتهم الفردية بوصفهم شخصيات اجتماعية. وهكذا فإن الفرد المطلق لا وجود له هنا لأن حرية الفرد وذاتيته لا تتحقق إلا عبر التطور الحر لجميع الأفراد، فالماركسية ترى “أن الإنسان قد ولد مستعبدًا مقيدًا بشتى الظروف الخارجة عن إرادته، وبالتالي فإن حرية الفرد ليست شيئًا فطريًا وداخلًا في التكوين الطبيعي للإنسان، وإنما هي شيء ينتزع بالتدريج ويتحقق عبر عصور النشاط الإنساني (9).
بعبارة أخرى، إن الإنسان لم يولد حرًا كما يقول بعض الفلاسفة (روسو)، وإنما ولد مخلوقًا تحدده ظروف مستقلة عن إرادته، ووفقًا لهذا الاتجاه، فإن الإنسان بفضل وجود المجتمع وقوانين تطوره، يستطيع أن يطور بالتدريج – في إطار الممارسة الاجتماعية- قدراته التي تجعله فردًا اجتماعيًا فيما بعد .
يتضح مما سبق، أنه لا وجود لفرد إلا في ظل المجتمع، ومن ثم يصبح وجود الدولة ضرورة لا بد منها للأفراد، وبما أن الفرد يستطيع أن يحقق بوعي طبيعته الاجتماعية من خلال معاملة غيره من الأفراد، فإن الإنسان يصبح حرًا ليس عبر العزلة عن الأشخاص الآخرين، وإنما عندما يرتفع بأنانيته ويجعل الأشخاص الآخرين الهدف الدافع لأعماله.
الانعكاسات التربوية لثنائية الفرد والمجتمع
قد تستهدف الدولة من نظامها التعليمي العمل على تربية الفرد من أجل ذاته ومنحه المعرفة التي تناسبه وتفيده. كما أنها قد تهدف إلى تكوين المواطنين الذين يتمشون مع رغباتها وتحقيق الأهداف التي تسعى من أجلها. ويرى “بيتر” أن هذين الهدفين اللذين يمثلان طرفي الثنائية قد يكون من المفيد من الناحية العملية بالنسبة للدولة العمل على تحقيقهما. فالدولة يهمها أن يتمكن المواطنون من إتقان مهارات القراءة والكتابة والحساب، كما يهمها أن يحرزوا بعض المهارات الفنية التي يستطيعون عن طريقها أن ينجزوا عملًا منتجًا. ومما يسر الدولة أيضًا أن يتمتع المواطن بسلوك خلقي معين تفضله، وأن يتجنب الجريمة وكل ما هو شر. والدولة ترغب كذلك لمواطنيها أن يتمتعوا بالذكاء الكافي الذي يمكنهم من توجيه حياتهم. غير أن بعض فلاسفة التربية يذهب إلى أنه عندما نرتفع عن مستوى هذه المطالب، فإن مصالح الفرد قد تتصارع مع مصالح الدولة، ويدللون على ذلك بقولهم: إن الكثير من الدول، وبخاصة النامية منها، لا تشجع عادة الفكر النقدي لدى الطلاب (10).
من هنا فإن أطفال المدارس، وبخاصة في مجتمعنا العربي، يلقنون تصديق ما يقال لهم، ويعاقبون إذا هم عبروا بشيء ينم عن عدم إيمانهم بما يلقن لهم. وهذا ما كان يحدث في الدول الاستبدادية، فالأنظمة الاستبدادية تستخدم البيروقراطية الطاغية وسيلة لتقييد المعلومات والمعرفة وقصر الاتصالات على القنوات الرسمية فقط، وأسوأ ما كان يعيب هذه الأنظمة وجود البوليس السري وتحكم الدولة في رسم السياسة التعليمية، وفي السيطرة على وسائل الإعلام وإرهاب المثقفين وقمع حرية الفن (11). وهذا يعني أن هناك نمطًا معينًا، وعمل التربية هو أن تعدّ الناشئة على غرار ذلك النمط،، بحيث لا يسمح للناشئين إبداء أي رأي أو طرح أي فكرة تلامس حياتهم من قريب أو بعيد. ومن ثم تصبح عملية التربية في صميمها استغلالًا لهذه الطفولة العاجزة عن وقاية نفسها.
من هنا، فإن الفرد غالبًا ما تستغله الدولة لخدمة أهداف معينة دون النظر لمصلحته أو الإنسانية. وهذا ما أشار إليه الفيلسوف الإنجليزي “برتراند رسل” بقوله: “إن الإنسان غالبًا ما يستغل لصالح الدولة من جهة أو لصالح الكنيسة من جهة أخرى، أي لصالح رجال الحكومة ورجال الدين. فالدولة من صالحها جعل التلاميذ مواطنين صالحين. وتعني كلمة المواطن هنا فردًا يقبل الأوضاع القائمة ولا يثور عليها، لأنه إذا نشا ثائرًا على تلك الأوضاع فإنه سوف يهدد كيانها، لذلك كان المواطن الصالح – كما تراه الدولة – هو ذلك الفرد الذي لا يعترف لنفسه بوجود بالقياس لها، وإذا ما هدد الدولة خطر ما فإنه من المحتم عليه أن يضحي بنفسه في سبيلها. كذلك تحاول الكنيسة من خلال التربية الدينية أن تقلل من ثورة الأفراد على الأوضاع القائمة (12).
تأسيسًا على ما سبق يمكن القول: إننا أمام ثنائية يؤكد أنصار الطرف الأول منها ضرورة أن نربي الطفل لذاته، بينما يؤكد أنصار الطرف الثاني ضرورة أن نربي الطفل من أجل المجتمع الذي يعيش فيه. ولكي نبلور وجهتي النظر المتقابلتين في صورة أبين وأوضح نقول: إنه لا يمكن أن يحدث اتفاق بين أولئك الذين يعدون التربية وسيلة لغرس عقائد معينة ومحددة في عقول الناشئة، وبين أولئك الذين يعتقدون أن من واجب التربية خلق قوة لدى الشخص يستطيع بها أن يصدر حكمًا مستقلًا.
وهكذا، فإن المشكلة التي تطرحها ثنائية “الفرد والمجتمع” وكيف يجب أن تكون التربية هي من الأمور الأساسية التي اختلفت في فهمها الفلسفات الاجتماعية والسياسية، فكل فلسفة تضع المشكلة في الإطار الذي يتفق مع اتجاهها العام، فبعض الفلسفات تضع الفرد أولًا (الوجودية)، وبعضها يجعل المقام الأول للمجتمع (الماركسية).
ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الاعتماد أو الأخذ بأحد هاتين الفلسفتين يؤدي إلى نتائج سيئة ولا يمثل التربية النموذجية. ففلسفة التربية الوجودية التي تؤكد على ثقافة الفرد تؤدي إلى الفوضوية وتنمية النزعة العدوانية عنده. والتربية من أجل المجتمع التي تقول بها (الماركسية) تطالب بالسيطرة على الفرد وتضحي به من أجل المجتمع، مما يؤدي إلى عرقلة التقدم العلمي للفرد والمجتمع معًا. ولذا فإن أي نظام تربوي نموذجي يسعى لتحقيق صالح الفرد والمجتمع لا بد أن يقوم على تحقيق نوع من التناسب بين الفلسفتين.
كما أن المفاضلة بين تربية الفرد من أجل المجتمع، والتربية من أجل الفرد ذاته أمر له أهميته في التربية والسياسة والأخلاق. غير أن الموجة السائدة في العصر الحاضر هي الحد من الفردية، والتوسع في المواطنة التي تهدف إلى تأييد النظم القائمة، وذلك بدرجات مختلفة في الدول المختلفة، ولعل أبرز جانب في تربية الفرد من أجل المجتمع بالقياس إلى تربية الفرد من أجل ذاته هو الوطنية والدفاع عنها.
ومن أجل ذلك توظف نظم التعليم لخدمة المجتمع، لأنها من أكثر النظم الاجتماعية تأثيرًا في التنشئة، حيث تمارس هذه النظم دورًا مهمًا في تشكيل الأجزاء الأخرى من خريطة الثقافة السياسية، ويمكنها تقوية الشعور اتجاه النظام السياسي مثل تدعيم الثقافة الوطنية التي تخدم السلطة (13). ويشير ” حامد عمار ” إلى بعض الدول التي وظفت التعليم لخدمة أهدافها السياسية وتكوين مواطنيها بناء على تلك السياسة فيقول: “يحتل التعليم الابتدائي الإلزامي مكان الصدارة في فترات الأزمات، كما حدث في فرنسا بعد هزيمتها في الحرب مع “بروسيا” عام /1879/ وكذلك الحال بالنسبة لبريطانيا في معمعة الحرب العالمية الثانية، حين صدر قانون /1944/ ليجعل التعلم الابتدائي ذا أولوية متقدمة تسيطر عليه الدولة وأجهزتها المحلية بعد تقليص دور الهيئات الأهلية والدينية” (14).
ويرى “برتراند رسل “أن إشراف الدولة على التعليم في العصر الحالي أمر لا يتفق وروح الاحترام، لأن أوضاع التربية الحالية في كثير من المجتمعات المعاصرة لا يهمها الطفل في ذاته، ولكنها تعمل بصفة دائمة على صوغ الأوضاع القائمة. وهي عندما تدخل في اعتبارها الطفل نفسه، فإنما تعمل فقط على خدمة أهداف معينة.
ويذهب “رسل” إلى أن الدافع للتربية يكاد يكون كله سياسيًا، فهو يهدف إلى دعم جماعة ما، سياسية أو دينية أو اجتماعية، في ميدان منافستها جماعات أخرى. وهذا الدافع كما يرى “رسل”، هو العنصر الأساسي في تحديد المواد التي تدرس والمعلومات التي تعطى للتلاميذ أو التي تمنع عنهم، وهو أيضًا الذي يحدد العادات العقلية التي ينتظر منهم اكتسابها (15).
وتجدر الإشارة إلى أن طبيعة التربية الموجهة للمواطن تختلف من وقت لآخر تبعاً الاختلاف البيئة والظروف الاجتماعية والسياسية التي يعيشها المجتمع، فعملية تربية المواطن وإكسابه القيم الثقافية والسياسية مرتبطة إلى حد كبير بطبيعة الكيان السياسي وما يسوده من ايديولوجية وما يتبناه النظام القائم من سياسات وأساليب في تنظيم الناس وتوجيههم نحو هدف مشترك.
من هذا المنطلق، فقد اختلفت أهداف التربية باختلاف الأنظمة الاجتماعية والمجتمعات، فقد كان هدف التربية في العصور الوسطى (في أوروبا) تخريج القساوسة، وفي بداية عصر النهضة أصبح الهدف تربية الفرد (الجنتلمان) أما في العصر الحاضر فقد تبلور هدف التربية في جعل الفرد مواطنًا مطيعًا للدولة وأهدافها، وإن كان هناك بعض العناصر التي تهتم بثقافة الفرد فهي تُعدّ نتاجًا لبعض التقاليد التي ما زالت مستمرة ولكن الاتجاه العام السائد هو تربية المواطنة.
لذا، فإن معظم المناقشات التي دارت حول موضوع تربية المواطن في تراث علم الاجتماع الماركسي تذهب إلى أن تربية المواطن تحقق وظيفة تدعيم النسق والمحافظة عليه. فالاستقرار خاصية مرغوبة وإيجابية، والتربية هي الوسيلة التي يصبح الفرد من خلالها واعيًا بالنسق السياسي والتفافي ومدركًا لهما (16).
من هنا، يمكن تقرير أن النظام التعليمي بأدواته ومؤسساته يُعدّ وسيلة وأداة رئيسة غالبًا ما توظفها الدولة بغرض إنجاح عملية تربية المواطن. ولهذا السبب تسعى الدول على اختلاف أشكالها “رأسمالية” أم “اشتراكية” إلى التأكيد على القيم والاتجاهات الملائمة لها، وتحاول الإعلاء منها في برامج التربية الموجهة، سواء في المدارس أو الجامعات، مما حدا بأنصار “مدرسة فرانكفورت” إلى توجيه نقدهم لمثل هذه السياسة كونها تستغل لتحقيق أهداف السيطرة والتسلط على الفرد، واستعباده واحتواء وعيه لصالح السلطة المتحكمة (17).
وتجدر الإشارة إلى أن هناك فرقًا بين المواطن الصالح كما يراه المجتمع، والمواطن الصالح كما تراه الحكومة. فالمواطن الصالح، من وجهة نظر المجتمع، هو الذي تشكل إرادته نوعًا من التناغم الاجتماعي مع غيرها من الإرادات. وأما وجهة نظر الحكومة (السلطة العليا في المجتمع) فإنه الشخص الذي يؤيد الأوضاع القائمة ويكون مهيئًا لتكريس نفسه من أجل المحافظة عليها.
وهذا في الواقع هو النموذج الذي تسعى إلى خلقه المؤسسات والمعاهد التربوية التي تتبع الدولة، إذ تستهدف سياستها طبع نفوس الناشئة على القيم الصالحة من وجهة نظر القائمين عليها، لا تلك القيم الصالحة من وجهة نظر أولئك الذين يراد لهم بناء المستقبل، كما تعمل تلك السياسات حتى في أكثر الدول ديمقراطية – أو إن شئنا الدقة في أكثر الدول زعمًا أنها ديمقراطية – على قمع كل نزوع نحو الخروج والتمرد على القيم المألوفة، أو محاولة إعادة النظر فيما يعد مبادئ مقدسة، أو ممن يعدون أشخاصًا مقدسين.
وعليه، فإن مثل هذه السياسات التربوية تصبح قوة جديدة تعمل على تشكيل غريزة القطيع في أسوأ أشكالها الممكنة، وتصبح في النهاية عامل من عوامل الكراهية والحرب والعدوان، بدلًا من أن تكون عاملًا من عوامل الحب والسلام والتعاون بين البشر في كل مكان.
ومن المسلم به أن حياة أي مجتمع توقف على التعاون بين أفراده وتربيتهم التربية الصحيحة، ولهذا فإن التعليم ينبغي أن يستهدف إعداد الفرد الصالح أولًا على أن يكون ذلك مقدمة أساسية لخلق المواطن الصالح بمعناه الواسع، لا ذلك المعنى الذي تأخذ به الحكومات حاليًا، وهذا يستلزم بالضرورة إعادة النظر في مضمون المناهج التعليمية الحالية، كما يستلزم إعادة النظر في وسائل العملية التعليمية وأساليبها (18).
على أن كثيرًا من الفلاسفة لم يكتفوا بالدعوى إلى إعادة النظر في بعض جوانب العملية التربوية، ولكنهم أشاروا إلى أن بقاء الحضارة مرهون بإنشاء الدولة العالمية، والاستعاضة عن التربية الحالية بتربية تهدف إلى بث روح الولاء في النشء لهذه الدولة العالمية، حتى ولو كان ذلك على حساب الحد من استقلال الفرد ونمو الفردية. فالاتجاه الجديد في العالم، كما يرى برتراند رسل، يجب أن يكون زيادة الترابط بين الأفراد والشعوب سياسيًا واقتصاديًا، ولتحقيق ذلك لا بد من التوسع في فكرة المواطنة. وعندما يصبح العالم وحدة سياسية وثقافية واقتصادية آمنة سوف يصبح من الممكن العودة إلى إحياء تربية الثقافة الفردية، ولكن إلى حين قيام الحكومة العالمية يجب أن تسعى الدول الصناعية إلى الموازنة بين تربية الفرد وتربية المواطنة.
ويؤكد “رسل” أن تربية الفرد أفضل، لذلك يجب ألا ينتقص من إرادته المطلقة، إلا بالحد الأدنى الذي تتطلبه المواطنة، فالفرد أولًا والمواطن ثانيًا، كما يُشير إلى أن تربية المواطن في معظم دول العالم ما زالت تمثل المرتبة الأولى نظرًا لأسباب سياسية (19).
ومن الجدير بالذكر أن فكرة إنشاء حكومة عالمية لحل الصراع بين تربية الفرد وتربية المواطن التي يقول بها “رسل” فكرة لها سابقاتها في تاريخ الفكر الفلسفي، فقد ظهرت هذه الفكرة عند “افلاطون” و “اغسطين” من فلاسفة المسيحية، والفارابي من الفلاسفة المسلمين، وان كان الهدف من إنشائها مختلفًا بين هؤلاء الفلاسفة. كما يبدو أن “رسل” كان متأثرًا بأراء “كانط” ومشروعه “للسلم الدائم” وآراء “رالف بارتون بيري” فيما يتصل بفكرة “الوفاق العالمي” وآراء “هيجل” في الدولة القومية.
غير أنه إذا كان “رسل” قد اقترح حلًا ميتافيزيقيًا للصراع بين تربية الفرد وتربية المواطن، أو بين خير الفرد وخير المجتمع، فإن السؤال التالي يطرح نفسه: كيف نتجنب ما ينجم عن تدخل السياسة في التربية؟ وكيف نوفق بين المواطنة والفردية؟
يرى بعض المفكرين أن الخطر الذي يترتب على تدخل السياسة في التربية ينشأ عن مصدرین: (20) أولهما: إيثار مصلحة مجموعة من الناس على مصلحة الجنس البشري. وثانيهما: المبالغة في حب التجانس بين الأفراد. فقد اعتاد كل نظام تربوي أن ينحاز للدولة التي ينتمي إليها المتعلم ولديانته. من هنا فقد أصبحت التربية جانبًا من جوانب النضال في سبيل الحصول على النفوذ للديانات والدول، ولا يربي الطفل لذاته بل بوصفه مجندًا في سبيل غرض معين، ولذا فإن الأجهزة التربوية لا تهتم بمصلحة الطفل الذاتية بقدر اهتمامها بأهداف سياسية خارجه عنه. فكل نظام سياسي ينظر إلى التربية بصفة عامة وإلى التعليم بصفة خاصة على انهما وسيلتاه الرئيسيتان اللتان يستعين بهما لإكساب الأفراد القيم والاتجاهات والمهارات والصفات التي تمكنهم من التكيف مع اتجاهات النظام القائم والوفاء بمتطلباته والعمل على تحقيق أهدافه، وذلك عن طريق تربية تتسم بطابع سياسي معين يتشكل وفقًا لاتجاهات النظام السياسي في المجتمع الذي تتم فيه التربية. من هنا، فإن النظام التعليمي يتأثر في جميع جوانبه ويتشكل حسب نوعية القوى الاجتماعية التي يُعبّر النظام السياسي عن مصلحتها، إذ تتحدد أهداف النظام التعليمي وبرامجه وطرقه ونوعية إدارته وفقًا للاتجاهات السياسية للنظام الحاكم في المجتمع (21).
يتضح مما سبق عرضه، أن هناك فلسفتين تؤكد الأولى على أن يكون الطفل غاية التربية، وتطالب بتنمية جوانبه المختلفة بشرط أن يتم ذلك بعيدًا عن المجتمع ومؤسساته المختلفة، بينما تجعل الفلسفة الثانية الطفل وسيلة، فتسعى إلى غرس عقائد معينة تخدم مصالح الدولة وتحقق أهدافها مثلما حصل في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية.
والحقيقة أن هناك نوعًا من التعارض بين الفلسفتين الأولى والثانية، فأنصار الفلسفة الأولى يريدون أن تُحصر عملية التربية اهتمامها في الطفل ذاته لتنمو طبيعته بغض النظر عن ملاءمة تلك الطبيعة مع ثقافة المجتمع المحيط به أو عدم ملاءمتها، في حين يريد أنصار الفلسفة الثانية أن تكون الغاية من عملية التربية إحداث نوع من التجانس بين الفرد والمجتمع. وعلى ذلك يكون موضع الخلاف بين الفلسفتين هو:
أنربي الطفل ليكون فردًا أم نربيه ليكون مواطنًا؟ النوع الأول مؤداه أن تنمو الفردية بما يحقق طبيعتها من غير أن يعيق طريق نمائها ولاؤها للمجتمع، والنوع الثاني يقتضي أن يحد من فرديته بما فيه مصلحة المجتمع الذي هو عضو فيه، ويبدو أنه في حالة الاختيار بين طرفي الثنائية، أو تفضيل أحدهما على الآخر يظهر الوضع على حقيقته كونه ليس اختيار لهذا الطرف أو ذاك. ولهذا يصبح من الضروري طرح السؤال الآتي: هل يمكن أن يتم التكامل بين طرفي الثنائية ولو إلى حد معين بحيث يتحقق صالح المجتمع وصالح الفرد، وكيف يتم ذلك؟ الإجابة عن هذا السؤال تتضح من خلال الموقف التوفيقي أو محاولة تجاوز الثنائية التي نقدمها على النحو الآتي:
بداية لا بد من الاعتراف بمسلمة مفادها أن الأغلبية العظمى من الشعب العربي تعيش تحت وطأة الاستبداد السياسي، إن الاعتراف بهذه الحقيقة مهما كانت مرة ومؤلمة أفضل من تبرير الواقع وزخرفته بالخيال وخلع أبهي الأوصاف على عهود الاستبداد، وإذا ما سلمنا أيضًا أن الاستبداد ما هو إلا نتاج لواقع اجتماعي ناجم عن المجتمع وثقافته التي تكرس الطغيان والطبقية، وإذا ما سلمنا كذلك بما يقول به “التوسير” أن التعليم الحالي التي تسيطر عليه الدول يقوم بعملية إعادة إنتاج البناء الأساسي للمجتمع في صورة “سيطر وتابع”، إذا ما سلمنا بكل هذا فإنه يمكن القول: إن هدف التربية في أغلب المجتمعات هو تسخير الإنسان لخدمة أغراض وأهداف تفرضها الطبقات الحاكمة لتحقيق مشروعاتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية دون النظر إلى ذاتية الإنسان وإنسانيته .
لهذا تصبح الحاجة ملحة إلى وجود فلسفة تربوية تتخذ نقطة بدايتها نقد التربية التي تقوم من أجل تحقيق مصالح معينة آخذة بعين الاعتبار ثنائية الفرد والمجتمع وكيف تكون التربية، لأن وجود فلسفة واضحة للتعليم من شأنها أن تذيب هذه الثنائية وتحويلها إلى ثنائية تكامل بدل من كونها ثنائية تناقض، بحيث تصبح قادرة على تحديد الأهداف والغايات التربوية التي ينبغي تحقيقها، ومن أجل ذلك نقترح أن تقوم التربية في المجتمع العربي بتحقيق الغايات التي تتمثل في بناء الإنسان الحر، ووحدة الشخصية الإنسانية، ووحدة القيم وتنمية الوعي الناقد، وتنمية المشاركة في حياة المجتمع من جوانبه كافة.
ومن الأمور المهمة التي ينبغي الأخذ بها للتوفيق بين الفردية والمواطنة ضرورة أن ينظر القائمون على رسم السياسات التربوية إلى ثنائية الفرد والمجتمع على أنها وحدة ديالكتيكية، وأن ينظروا إلى تنمية الشخصية الفردية والتربية داخل المجتمع على أنهما وجهان لعملة واحدة. فالتربية الصحيحة لا بد وأن تبلور هدفها بحيث تهدف إلى تنمية الفرد داخل المجتمع الذي التي يعيش فيه مع إعطائه الفرصة لكي تنمو شخصيته نموًا متكاملًا، بعبارة أخرى، يجب ألا تهدف التربية إلى القضاء على الفردية ولكنها أيضًا لا تعمل على غرسها وتنميتها.
من هنا تصبح الحرية ضرورية للفرد والمجتمع، فعندما تقوم التربية بمساعدة التلاميذ على النمو واكتساب القدرة على التكيف مع المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، فيجب أن تتمتع بقسط كاف من الحرية من أجل أن يمارس التلاميذ من خلالها حياة اجتماعية مبنية على العدل والمساواة والحرية، لأن الفردية تحقق ذاتها وتكتسب حريتها من خلال عملية التفاعل الاجتماعي، وأن الشخصية الإنسانية تجد فرصتها للنمو في ظل المجتمع، وأن المجتمع ينمو ويتقدم بنمو أفراده. فالمجتمع الحقيقي والحديث هو الذي يجمع أفراده هدف مشترك وعمل مشترك ذو مغزی اجتماعي، ومشاعر واهتمامات عامة وآراء مشتركة.
هذه العلاقة الإيجابية بين الفرد والمجتمع إذا أريد لها النجاح والاستمرار يجب على التربية خلق جو مدرسي ملائم يعيش فيه التلاميذ في مدارسهم حياة اجتماعية حقيقية يتمتعوا من خلاله بممارسة حرياتهم، فتناقش المشكلات الاجتماعية وأهداف المنهج وفلسفته في صورة تناسب مستوى التلاميذ. ولذا لا بد أن تكون المدرسة صورة مصغرة عن المجتمع يحيا فيها التلاميذ حياة مشتركة، ويمارسون فيها نظامًا لحياة الفرد الخاصة، وأسلوبًا لمعيشته ولطريقته في تناول الأمور ومعالجة المشكلات. وبذلك تصبح المدرسة مجتمعًا ديمقراطيًا ينمو فيه وعي التلاميذ للقيم الجديدة التي يسير عليها المجتمع. وتستطيع المدرسة أن تسهم بنصيب كبير في توعية التلاميذ بمسؤولياتهم إذا اتخذت من المنهج العلمي أساسًا لمناقشة ما يتعرض له التلاميذ من مشكلات. والمجتمع الذي تتوافر فيها هذه الصفات يستطيع أن يوفر الحرية له ولأفراده.
وعليه، فإن الفردية رغم ضرورتها في التربية فهي بحاجة إلى مزيد من الرقابة والتوجيه، ولكي تكون حياة الفرد مقبولة لا بد أن يتوافر لها نوعان من التوافق، توافق داخلي بين الذكاء والعاطفة والإرادة، وتوافق خارجي مع إرادة الآخرين. والتربية الراهنة، وبخاصة في المجتمع العربي، مقصرة في هذا وذاك. فالتوافق الداخلي لا يتوافر بسبب التعاليم السياسية التي يتلقاها الطفل، والتي تتحكم فيما بعد في مجالاته الفكرية .
ومن الممكن تحاشي هذا الصراع لو قمنا بتربية الأطفال تربية توازن بين الذكاء من جهة، والعاطفة من جهة أخرى، تربية توازن موازنة صحيحة بين حرية الفرد وخضوعه للنظام، وبين نمو الشخصية نموًا طبيعيًا وتزويدها بالمبادئ التي تكفل أمن الجماعة. تربية توفق بين حاجة الفرد وحاجة المجتمع، أو بين الفرد بوصفه كائنًا مستقلًا والفرد بوصفه ملتزمًا بحق الوطن عليه، ولو فعلت التربية ذلك لأصبحت ثنائية “الفرد والمجتمع” ثنائية تكامل وليست ثنائية تناقض كما يصورها بعضهم.
المراجع
1- صابر جيدوري: مفهوم الحرية في بعض فلسفات التربية المعاصرة، رسالة ماجستير (غير منشورة)، معهد الدراسات والبحوث التربوية، جامعة القاهرة، 1993، ص 118.
2- المرجع السابق نفسه: ص ۱۱۸.
3- برتراند رسل: آمال جديدة في عالم متغير، ترجمة عبد الكريم أحمد، دار سعد مصر للطباعة والنشر والإعلان، القاهرة، د. ت.، ص 31.
4 – روبير بيلو: المواطن والدولة، ترجمة نهاد رضا، منشورات عويدات، بیروت، 1983، ص ص 82-83.
5- جون ماكوري: “الوجودية”، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1989، ص 94.
6 – جان فال: الفلسفة الفرنسية من ديكارت إلى سارتر، ترجمة الأب مارون خوري، منشورات عويدات، بیروت، د. ت.، ص 101.
7 – Olson , Ropert. An Introduction to Existentialism , Dover, New York, 1962, P. 172.
8- أرثر کیش: الماركسية والديمقراطية، ترجمة رجاء أحمد، مركز الأبحاث الاشتراكية في العالم العربي، دمشق، 1991، ص 120.
9- J. J. O. Rourke , The Problem of Freedom in Marxist Thought , Boston, D. Reidel Publishing Co., 1974, P. 63.
10- Peter. M. Lichtenstein: “Radical Liberalism and Radical Education”. J. The American Journal of Economics and Sociology, Vol. 44, No. 1, Spring, 1985, P. 45.
11- الفين وهايدي توفلر: “تنحو بناء حضارة جديدة (سياسات الموجة الثالثة)“، تقديم وتلخيص عبد الفتاح جلال، المركز القومي للبحوث التربوية والتنمية، القاهرة، 1990، ص 77.
12- B. Russel: “ Education and The Social Order ” , George Allen and Unwin, London, 1977, P. 13.
13- Peter. M. Lichtenstein: “Radical Liberalism and Radical Education” , Op. Cit. P. 47.
14 – حامد عمار (تقديم) في: شبل بدران: التربية والنظام السياسي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1995، ص 19.
15- برتراند رسل: نحو عالم أفضل، ترجمة عبد الكريم أحمد ودريني خشبة، العالمية للطبع والنشر، القاهرة، 1956، ص 115.
16 – Stanislav Merkuriey: “Marxism as A philosophy of Education”, J. Harvard Educational Review, Vol. 41, No. 3 , Spring, 1971, P.344.
17 – عبد الغفار مكاوي: النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، مرجع سابق، ص 62-63.
18- نصار محمد عبد الله: فلسفة برتراند رسل السياسية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1987، ص 122.
19- برتراند رسل: آمال جديدة في عالم متغير (الفصل الحادي عشر: الحكومة العالمية)، ترجمة عبد الكريم أحمد، دار سعد مصر للطباعة والنشر والإعلان، القاهرة، د. ت.، ص ص 91-98.
20 – Stephen. L. Esquith: “ Political Theory and Political Education”, J. Society, Vol. 24, No. 3, Spring, 1985, P. 54
21- سعيد اسماعيل علي: الأصول السياسية للتربية، عالم الكتب، القاهرة، 1997، ص 107.