تسعى هذه المقاربة إلى بلورة رؤية ما عن الاتجاهات الرئيسية في الخطاب الفكري العربي، في محاولة لاكتناه دلالاتها، والكشف عما يمكن أن تؤديه من دور في استمرارية الأزمة التي يعيشها هذا الفكر، منذ ما يقرب من قرنين، أو الإسهام في تحقيق انفراج جدي، تلمسًا لأفق رؤية مستقبلية.
فمنذ انسحاب الفكر العربي عن مسرح الفعل التاريخي الفاعل، والكفّ عن الإسهام في إعادة تشكيل المعطيات الحضارية لعالم اليوم والاكتفاء بالموقف الاستهلاكي المنفعل، ورجال الفكر العرب، يسعون جاهدين للتعبير عن إحساسهم بالأزمة التي تحولت إلى واقع إشكالي، في محاولة لإيجاد إجابات لتلك الأسئلة التي شغلت بال من سبقهم من رجال النهضة؛ بدءًا بالأفغاني، مرورًا بالطهطاوي ومحمد عبده، وصولًا إلى مساعي طه حسين وزكي نجيب محمود وطيب تيزيني وحسين مروة ومحمود أمين العالم ومحمد عابد الجابري وحسن حنفي وعلي حرب وهشام جعيط ومحمد أركون ومحمد جابر الأنصاري وكمال عبد اللطيف، وسواهم من الكتّاب والمفكرين العرب، الذين يختلفون رؤى واتجاهات وفلسفات.
وقد لا نكون بحاجة إلى كبير جرأة للقول بأن مرور ما يقرب من قرنين على بدء مشروع المراجعة الفكرية للموقف من التراث والآخر، لم يكشف عن خروج هذا الخطاب من أفق الإشكالية التي يحياها، وإن قطع شوطا على طريق تحديث أدواته ومناهجه ورؤاه. وقد نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول إننا نعدّ تراكم هذه الأسئلة المطروحة جزءًا من أزمة هذا الخطاب وتجليًا من تجلياتها.
وإذا شئنا تحديد طبيعة هذه الإشكالية، لقلنا: إنها تتجلى أبرز ما تتجلى في توزع هذا الخطاب بين مرجعيتي التراث والتحديث( الأنا والآخر)، أو ما كان يعبر عنه بالأمس القريب، بالأصالة والمعاصرة، من دون أن نصيب تقدمًا في إنضاج رؤية علمية أو إنتاج وعي ابستيمولوجي بهذه الثنائية التي لا يزال فكرنا المرهق ينوس بينهما.
من ناحيتنا نرى أن إشكالية الخطاب العربي أمر طبيعي، يفسرها ما انتهى إليه فكرنا من دور هامشي، وانسحاب اكتفى بآلية الاستهلاك والتلقي السلبي، مبتعدا عن روح الجدل والتفاعل والحوار. ولا ريب عندنا أن الفكر العربي لم يكن يعاني من الإحساس بوطأة هذه الثنائية، في زمن النهوض الحضاري، وامتلاكه عناصر قوته وتقدمه. ففي الوقت الذي نجد فيه اليوم أصواتًا كثيرة، وتيارات فكرية، تدعو إلى التمسك بالتراث، حاصرة به قيم المعاصرة ودلالاتها وتجلياتها، رافضة التأثر بالآخر والأخذ منه أو الاقتباس عنه، نجد فيلسوفًا عربيًّا مسلمًا كالكندي، يعلنها صريحة، بأنه ينبغي ألا نستحي من الحق، وأن علينا اقتناءه من أين أتى” وإن أتى من الأجناس القاصية عنا والأمم المباينة لنا، فإنه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق، وليس ينبغي بخس الحق ولا تصغير قائله ولا الآتي به، فلا أحد بخس بالحق، بل كل يشرفه الحق.””1″
إن الذي دعا الكندي إلى صياغة معادلة الحق، وسعي العقل إليها، دونما إقامة لاعتبارات زائفة، لا صلة لها بجوهر السعي الإنساني الخلاق، إنما يرجع في تقديرنا إلى حالة القوة التي كان يتمتع بها الفكر العربي والحضارة التي أظلته، وانتفاء مسوغات الخوف، في حين ينطلق الموقف الرافض للآخر من سيكولوجيا الخوف التي تغذيها لحظة الضعف والانسحاب الحضاري أو ما أسماه محمد عابد الجابري بالميكانيزم الدفاعي للمقهور. “2”
لم يكن الكندي وحده ممثلًا لهذا الموقف الفكري الرحب، في المشهد الثقافي العربي، فقد شجعت المرحلة التاريخية الخصبة تلك، تيارات مختلفة؛ تتفاوت حدة وهدوءًا، تحررًا ومحافظة على الانتظام في سياق فكري واحد. فهذا الشيخ الغزالي يجلي الأمر الذي رأيناه لدى الكندي، كاشفًا عن دلالات ما ينطوي عليه هذان الموقفان المتباينان:” لو رفضنا قبول الحق لأنه جاء على لسان من لا نثق به، لكان معنى ذلك أننا نهجر كثيرًا من الحق”. “3”
من هنا فنحن لا نظن أن بإمكان خطابنا الفكري المعاصر أن يتجاوز هذه الإشكالية في المدى القريب، ما دام العقل العربي مكتفيًا بدوره الاستهلاكي(المنفعل)، بعيدًا عن المشاركة في إنتاج منظومة العلم والفكر والفلسفة.
إن الموقف الذي يكشف عنه خطابنا الفكري، إنما يعكس عجزًا عن الانتظام في التراث انتظامًا منهجيًا، يجعلنا ننظر إليه بوصفه بنية موحدة، أكثر منه أخلاطًا من الأحداث المنفصلة والأفكار المتباينة والفرق المتناحرة، أي بإعادة بَنْيَنة هذا التراث، على حد تعبير الجابري. “4”
إن الوصول إلى تأسيس وعي ابستمولوجي بالتراث، يتطلب أول ما يتطلب، امتلاك منهجية الفكر النقدي، القادر على إعادة إنتاج معطيات التراث، والكفّ عن النظر إليه نظرة سحرية إطلاقية، بوصفه إنتاجًا متعاليًا مثاليًا، وليس نتاجًا بشريًا نسبيًا، قابلًا للنظر والمراجعة والنقد، توظيفًا وإعلاء واستغناء.
وحتى يتحقق لنا ذلك سيظل خطابنا الفكري يعيش غربة العصر التي يمتلك الآخر المتقدم لحظته وقيادته، وغربة التاريخ المتجلية في فقداننا منجز الأمس الآفل. وبمعنى آخر فقداننا الوجود الفعلي، إذا ما فهمنا الوجود الإنساني بوصفه تعبيرًا عن أولوية الماهية أكثر منها تعبيرًا عن الوجود المادي.
ولا ريب في أن بين واقعنا الذي نحياه والواقع الذي نرجوه مسافة، لا بد من قطعها، تبدأ بإشاعة ثقافة الحوار والمساءلة، ومشروعية الاختلاف، وقيم التحرر من الخوف، وتهيئة الأجواء المشجعة على المغامرة في القول، والجهر بالرأي، والكشف عن الحقيقة، والشك في المعطيات التاريخية التي بين أيدينا، ونقد المعتقدات والآراء والمواقف المرتبطة بمعطيات تاريخية، لها من المصالح والأهواء والعلاقات والانشدادات ما لها، بغية تأسيس رؤيتنا للتراث على وعي نقدي(لا شكلي) وثقافة نقدية. بدون توافر أجواء مشجعة على الفكر الحر؛ تتيح لهذا الفكر التخلص من مختلف الضغوط والتابوات، لن يكون بإمكان هذا الفكر أن يجترح جديدًا أو يكشف عن تجلياته النهائية المرجوة.
إن إعادة إنتاج رؤيتنا للتراث على أساس الوعي النقدي لن يخدم التراث حسب وإنما ينعكس على الحاضر، في شكل رؤية منهجية تتيح فهم شبكة العلاقات الملتبسة والتمييز بين الرؤى الأسطورية والأيديولوجية والأبستمولوجية.
وقبل الاستطراد في ما ينبغي أن يتوافر من أرضية ملائمة لاستنبات الفكر الذي نأمل، نسارع إلى القول إن ثمة اتجاهات رئيسة ثلاثة، تتوزع خريطة الخطاب الفكري المعاصر اليوم، هي:
أولا. الخطاب الاستعادي: وأقصد به الخطاب الذي ينطلق من الانتظام في الموروث العربي، الذي يرى فيه مرجعية شديدة التمايز والاستقلال عن سواها من المرجعيات الحضارية الأخرى، مثلما يراها مقياسًا للحكم على المرجعيات الأخرى، وعلى الحاضر الراهن، الذي يتخذ في هذا الخطاب شكل الامتداد الإلحاقي والظلال الباهتة.
لقد عبر عن هذه الرؤية عدد من الاتجاهات والتيارات الفكرية والأيديولوجية، مثلتها الاتجاهات السلفية والمحافظة والقومية في مراحلها الصاعدة.
ولا ريب في أن رؤية هذا الخطاب تجانب الرؤية العلمية، في الوقت الذي تجافي فيه منطق التطور والحقائق التاريخية، لتقف عند حدود رؤية ماضوية، من شأنها الانتهاء إلى الجمود والتخلف. فالتراث في المنظور العلمي ليس سوى محصلة لتفاعل عقول أبنائه مع تراث من سبقهم من عقول الأمة والأمم الأخرى. وهذا ما تجلى في الفكر الإسلامي، حين أسس حضارته الإنسانية الراقية على أساس من الحوار العقلي مع الثقافة السابقة عليه، فأقر طائفة من المفاهيم والقيم والمعتقدات والاتجاهات السابقة التي لم يرفضها، بما في ذلك بعض الشعائر الدينية التي آمن بها العرب، قبل ظهور الإسلام. ولعل في حديث الرسول(ص): ” إنما جئت لأتمم مكارم الأخلاق”، تأكيدا للنهج الإسلامي المحتضن للثقافات، لا المستأصل لها.
وليس بعيدًا عن هذا أيضا تلك المواقف والرؤى الفكرية التي عبر عنها بعض فلاسفة المسلمين، أمثال الكندي الذي عبر عن رؤية إنسانية وشمولية لحركة الفكر والثقافة الإنسانيتين، حين رأى أن تراث كل أمة إنما هو حلقة من حلقات “تتميم النوع الإنساني”. وحري بنا إذا كنّا حِراصًا على تتميم نوعنا، كما ينقل عصفور عنه” إذ الحق في ذلك “، في ما يقول الكندي، أن نبدأ مما قاله السابقون علينا، لا على سبيل استعادته أو تكراره بوصفه الأكمل والأنقى، بل على سبيل ” تتميم ما لم يقولوا فيه قولًا تامًا، على مجرى عادة اللسان وسنّة الزمان”. “5”
إن الخطاب الاستعادي يتجاهل حقيقة مُفادها أن التراث بوصفه نتاجًا بشريًّا مرهون بالقدرات العقلية والوجدانية الراهنة لأهله، فضلًا عن أنه محكوم بواقع علاقاتهم الاجتماعية والثقافية، وأدوات عصرهم، ومستوى تطوره، والظروف المتاحة فيه، وأشكال تنظيم أولي الأمر لحياتهم. وبكلمة فهو كشف عن جانب من الإمكانات البشرية المتاحة، في مرحلة تاريخية ما. وهو ما يجعل من التراث لحظة متحركة، تنتسب إلى المستقبل، متجاوزة الماضي الذي يشكل مطلب العودة إليه ضربًا من ضروب الاستحالة المتعارضة مع قوانين التاريخ. لكن بلوغ هذه الإمكانات مستواها الأكمل يتطلب اعتماد منهجية علمية، تعتمد الشك والنقد والحوار الذي يمحصها ويجعل منها موضوعة معرفية. يقول النظّام:
“لم يكن يقين قط حتى صار فيه شك، ولم ينتقل أحد من اعتقاد إلى اعتقاد غيره حتى يكون بينهما حال شاك”. “6”
ولا ريب في أن الرؤية الاستعادية تطرح نفسها بوصفها وصية- دون سواها من ممثلي الفكر التاريخي- على الأمة ووعيها وتراثها جميعًا، وتعكس استهانة بالعقل العربي وانتقاصًا من إمكاناته المتجددة الدائمة، حين تسلبنا – نحن جيل الحاضر- إمكانات الإبداع والتواصل، في مقابل إضفاء القداسة كلها على الماضي وحده، وحصر التأهيل العقلي برموز هذا الماضي وبأهله. وهو موقف غير علمي ورؤية لا تاريخية. فليس التراث جوهرًا صافيًا مكنونًا أو هوية متعالية ثابتة، أو مكتملة، مستغنية عن الحاضر، كما أنه ليس هوية مغلقة على الآخر أو على الزمن، بل هو بنية منفتحة على المرجعيات المختلفة، مغتنية بمعطيات المكان والزمان، الذي يشهد مرحلة من التفكك والتداخل والامتزاج، في عصر التفكك السريع للأنساق وثورة الاتصالات والتفجر المعلوماتي.
إلى جانب هذا فإن الاتصال بالآخر والتفاعل معه إنما يجسد قانونًا منطقيًا ورؤية تاريخية ترى في هذا التواصل ضربًا من ضروب الجدل المنتج، وشرطًا من شروط اكتمال وعي الأنا بنفسها، وإدراكها قيمتها، كما يذهب عصفور. “7”. فثمة على الدوام وعي ناقص، محكوم بالشروط الداخلية (الذاتية) لرؤية النسق، لا سبيل إلى ردمه إلا بامتحانه برؤية الآخر(الخارجية). كما أن مواقف رفض الآخر أو الاستغناء عنه، تظل مطالب تنطوي على مغالطات تاريخية وواقعية، إذ من الاستحالة بمكان اليوم رفض الآخر الذي غدا حالًا فينا وجزءًا من تكوين بنيتنا الذاتية المتشكلة على الدوام.
وإذا كان صحيحًا أن المتابعة السلبية للآخر، وتبني نموذجه، ينطوي على تبعية تستوجب الرفض، فإن الوقوف عند حدود الماضي التليد، وتكريس الاتجاه الساعي نحو تقديسه، والنظر إليه نظرة إطلاقية(لا زمنية)، لايقل عنه سلبية وخطلًا.
إن الرؤية الاستعادية التي تتمسك بالتراث، تنظر إلى هذا التراث بوصفه كتلة واحدة، من دون أن تتمكن من التمييز بين الاتجاهات المختلفة فيه؛ اجتماعية وسياسية وذاتية وطبقية وأيديولوجية. . إلخ. وبهذا فإن تراثنا، شأنه شأن أي تراث إنساني، بحاجة إلى الكشف عما خفي من جوانبه، وغمض من علاقاته، واستدق من حلقاته، فضلًا عن حاجة هذا التراث إلى استكمال حلقاته المغيّبة وصفحاته الضائعة واتجاهاته غير المضاءة.
ولعل الالتباس الأساس الذي ينطوي عليه الموقف الاستعادي، يتجلى في رؤيته مفهوم التراث الذي يعني لهم: كل ما يخلفه السلف لنا. في حين لا نرى في التراث سوى ذلك الجزء الذي يمكنه الإفلات من أسر الزمن، بسبب من امتلاكه عناصر القوة والحياة، ليبقى حاضرًا فينا، وما عدا هذا لا يعدو كونه موروثًا مرشحًا لامتلاك شرعيته ليس غير.
ثانيًا. الخطاب التغريبي: ونقصد به ذلك الخطاب الذي ينطلق من واقع الإحباط الذي يعيشه الفكر العربي، بإزاء امتلاك الآخر للحظة التاريخية والتفوق الحضاري، داعيًا إلى الانخراط في منظومته المعرفية والتماهي به؛ مصطلحًا ومقولات ومناهج ونظريات. وهو خطاب يمثل رؤية هروبية ويؤسس لاتجاه استهلاكي في مجالي الفكر والحياة معا.
لقد كان طه حسين وزكي نجيب محمود- في مرحلة مبكرة من نشاطه الفكري- ممن يمثلون هذا الاتجاه. ولعل المشروع الذي وضعه طه حسين للنهوض بواقع مصر، واستشراف مستقبلها، وصدر في كتاب فيما بعد، حمل اسم” مستقبل الثقافة في مصر”، خير معبر عن رؤيته تلك. يقول:
” إننا في هذا العصر الحديث نريد أن نتصل بأوربا اتصالًا يزداد قوة من يوم إلى يوم حتى نصبح جزءًا منها لفظًا ومعنى وحقيقة وشكلًا”. “8”
إن العلاقة التي يريد لها طه حسين أن تقوم بين المصريين والغرب ليست علاقة احتكاك أو تثاقف أو حوار، بل علاقة تماه وذوبان، يظل فيها نمط العيش والتفكير الأوربيين هما الهدف، ولن يتأتى ذلك إلا بالاندماج الكلي) وأساسه أن: ” نشعر الأوربي بأننا نرى الأشياء كما يراها، ونقوم الأشياء كما يقومها، ونحكم على الأشياء كما يحكمعليها”. “9”
إنه الموقف الذي عبر عنه زكي نجيب محمود حين تمنى أن يأكل كما يأكلون ويكتب كما يكتبون، متناسيًا في غمرة هذه الحماسة المنطق الذي يحكم تطور المجتمعات وقوانين الفكر. فكيف يمكن تحقيق نهوض حضاري لأمة في ظل رؤية للمماثلة، لفظًا ومعنى، نغدو وكأننا نرى الأشياء فيها ونقوِّمها ونحكم عليها، بمثل ما يرونها ويقومونها ويحكمون عليها؟ أليس واضحًا أن هذا الموقف- إن كان تحققه ممكنًا – ينطوي على الذوبان والإلحاق والاتّباع، الذي يفقد التابع معه مكونات خصوصيته وشرط وجوده؟
لا ريب في أن طه حسين كان مهيًّأ؛ بحكم تكوينه الثقافي ونزوعه الإقليمي (المصري أو المتوسطي)، لممارسة دور الداعية إلى ربط مصر بالغرب، والاستماتة في إيجاد مشابهات تاريخية بين كل منهما، على نحو ما نلمس في موقفه الذي يتخذ من المصرية جوهرًا، في مقابل الإسلام الذي يبدو عرضًا لهذا الجوهر:
” إذا صح أن المسيحية لم تمسخ العقل الأوربي، ولم تخرجه عن يونانيته الموروثة، ولم تجرده من إقليم البحر الأبيض المتوسط، فيجب أن يصح أن الإسلام لم يغير العقل المصري أو لم يغير عقل الشعوب التي اعتنقته”. “10”
لا ريب في أن الخطاب التغريبي نتاج لرؤية مجانبة لمنطق العلم وحقائق التاريخ. وإذا كان الانكفاء على التراث والالتصاق به، التصاقًا عاطفيًا، والنظر إليه نظرة مثالية لا يعبر عن موقف علمي، فإن البراءة من التراث والهروب منه إلى الآخر، بهدف الذوبان فيه والاستسلام لإنجازه والتماهي معه، لا يعدو كونه الوجه الآخر لأزمة الوعي الزائف، إذ يجرد هذا الخطاب الذات من إرادتها، ماسخًا حضورها الممكن كذات تمتلك إمكانات النهوض والانبعاث، وتنطوي على طاقات غير محدودة للتجدد والمطاولة والحوار الخلاق.
ولعل خطل رؤية هذا الخطاب هو الذي كان وراء فشل تلك المشاريع التي حاولت تكريس اتجاه الانتظام في مرجعية الآخر، بوصفه حلًا لإشكالية الفكر العربي المستديمة. إن كلا الموقفين (الاستعادي والتغريبي) إنما هو موقف تغريبي ولا تغريبي في آن معًا.
لقد عبر أصحاب الاتجاه الاستعادي، الساعي إلى تكريس مقولة (ليس بالإمكان أفضل مما كان) إلى إضفاء مسحة من الكمال والإعجاز على الماضي، تصل حد التوثين، عن قصور في الرؤية التاريخية للتراث، كاشفين بذلك عن وقوعهم في أسر النظرة التبسيطية المجانبة لمنطق العلم والتاريخ معا. وهو موقف لا يقل خطأ وقصورًا عن الموقف التغريبي الساعي إلى تبنّي نموذج الآخر، فضلًا عن أنه تعبير عن حالة يأس، منطلقة من عقد الإحساس بالدونية ومن مركبات نقص، لم تر معها أفقا للخلاص سوى بالاستسلام وتلقّف النموذج الحضاري الجاهز، في مقابل نفض اليدين عن أية صلة لنا بماضينا.
- الخطاب المعرفي(الأبستمولوجي): ظهر هذا الاتجاه تاريخيًا، في أعقاب الاتجاهين السابقين. وتمثله مجموعة من المشاريع الفكرية التي حاولت التصدي لإشكالية العلاقة بين التراث والتحديث، متخذة عددًا من المناهج التي أنتجها اشتغال الفكر الغربي على واحدة من موضوعاته المعرفية، كالمناهج البراجماتية والفينومينولوجية والبنيوية والتفكيك والهيرمينوطيقيا، وسواها من المناهج الغربية المعاصرة.
وفي ظننا أن المشكلة التي ينطوي عليها هذا الاتجاه إنما تكمن في عدم انتظامه أحيانًا، في المنظومة العلمية، لحظة الاشتغال على موضوعته، وانزلاقه إلى مواقف أيديولوجية، تتخفى وراء أقنعة المناهج الحداثية أو ما بعدها.
من هنا فإن ثمة خطابًا معرفيًّا يتخذ من المنهجية العلمية وسيلة للحفر في التراث والتقدم، وفي العلاقة فيما بين الأنا والآخر؛ لإنتاج معرفة حقيقية تسعى إلى فهم وإضاءة جوانب مهمة منهما، ظلت خفية، لم تصل إليها أدواتنا ومناهجنا من قبل. إلى جانب هذا فإن ثمة ملامح أيديولوجية في بعض مشاريع هذا الاتجاه، تجعله عرضة لتغليب المنطلق الأيديولوجي، بوصفه قناعات مسبقة، تبحث عن إسقاطاتها في قراءتها موضوعة التراث أو الآخر، ليصبح المقروء أقرب إلى القناع. يتجلّى هذا التوجه في كتابات كل من: حسين مروة والطيب تيزيني وبعض كتابات محمود أمين العالم، وإن بنسبة أقل.
ولعل من أبرز تجليات هذا الخطاب سقوطه في منزلق الرؤية التوفيقية، اعتقادًا منه أن بالإمكان الخلوص إلى معادلة ممكنة، من حاصل تلاق بين معطيات إنجاز كل من الأنا والآخر. وهي رؤية تكشف في عدد من محاولاتها، ضروبًا من القسر والتلفيق الذي يتنافى وموضوعية العلم. يقول محمود أمين العالم في تأسيسه مفهوم التراث: إن ” التراث لا يوجد في ذاته وإنما هو قراءتنا له، وموقفنا منه وتوظيفنا له”. “11”
وهي رؤية تنفي إمكان وجود التراث، في شكل حضور مستقل، راهنة إياه بممارستنا فعل قراءته. وهو أمر من شأنه أن يشرع فعل القراءة، من دون تحديد ضوابط واضحة للفصل بين نسقي القارئ والمقروء، معليًا من النسق الأول عل حساب الثاني.
لا ريب في أن العالم هنا ينطلق من ثقل ما يعانيه من بواعث ومعطيات تتلفع في نسق عملية التلقي، تاركة آثارها الدالة عليها. وهي رؤية تمنح القارئ هيمنة كبرى، تمّحي معها أية معطيات موضوعية قبلية، أو فعالية جديدة لإنتاج المعنى.
أما حسن حنفي، فيمضي بعيدًا بهذا النهج، ليقف على تخوم قراءات تأويلية ومنطلقات هيرمينوطيقية، يقول حنفي:
” ليست مناهج التفسير إلا تبريرات للذات أمام النفس وأمام الجماعة وأمام التاريخ. وقراءة النص بهذا المعنى هي إيجاد تطابق بين الحاجة والنص، بين الذات والموضوع. فالمعنى يأتي من النفس أولا كحاجة أو رغبة أو أمنية، ثم تجد ما يقابلها في النص فتتطابق معه وتتشبث به على أنه التفسير الصحيح. في الظاهر يبدو أن المعنى الموضوعي قد انتقل من النص إلى الذهن، وفي الحقيقة ينتقل المعنى الذاتي من الشعور إلى النص. القراءة إذن هي إيجاد ما ترغب فيه النفس متحققا في الخارج”. “12”
القراءة التي يدعونا حسن حنفي إليها في هذا النص إذن، محركها الأساس هو رغبات القارئ وأمانيه، بعيدًا عن معطيات النسق الموضوعي. فليست المناهج في النهاية سوى تبريرات أمام النفس والتاريخ، إذ تجد النفس في ما يتراءى لها في النص مقابلًا يسوغ لها خلعه عليه وتصويره على أنه التفسير الصحيح.
هكذا يكتشف الكاتب فجأة وهم الحقيقة الموضوعية القارة في النص، ليصحح مسار حركة الدال من الشعور إلى النص، أو من الذات إلى الموضوع، حتى أنه ليعلنها صريحة واضحة، بقوله:” القراءة إذن هي ما ترغب فيه النفس متحققًا في الخارج”. وهو ما يعني أنه ليس ثمة حقيقة موضوعية في واقع النص.
وفي ظني أن هذا النهج الهيرمينوطيقي من شأنه أن يفسح المجال لشتى القراءات، ليتحول بنا إلى قراءات أيديولوجية ذاتية، تتخذ من معطيات التراث ونصوصه قناعًا لتمرير مواقفها الذاتية ورؤاها النفعية.
وإذا كان صحيحًا أنه لا مجال للحياد المحض في حقل الفكر، وأنه ليس ثمة قراءة بريئة أو بكر، ما دامت كل قراءة تسهم في إنتاج المقروء، فإن ذلك لا يعني انفلات الدال أو غيابه كليًا في مواجهة فعل القراءة التي تتحول إلى ممارسة إسقاطية وقناع لتمرير الأيديولوجيا.
إن ثمة فرقًا معرفيًا دقيقًا ينبغي الوعي به، فيما بين مقولة إعادة إنتاج المقروء ومقولة الخلق الجديد للمقروء، كما يذهب إلى ذلك جابر عصفور بحق”13″. ففي الأول إقرار بوجود حوار جدلي مثمر واندماج لنسقي الموضوع والقارئ، وفي الثانية ترحيل لكل ما نفكر فيه ونحلم به، وتشكيله كيفما نشاء، من دون اعتراف بوجود ثوابت أو معطيات موضوعية قبلية.
ولعل هذا ما جعل كاتبًا كمحمد جابر الأنصاري، وهو يحاول الخروج من مأزق الدوران بين ثنائية الأنا والآخر، باحثًا عن طريق للانعتاق جديد، يقع في مطب اللغة الشعرية والرؤية السحرية، غير الواقعية. يقول جابر الأنصاري:
” ماذا لو قرر العربي المعاصر كسر طوق هاتين القوتين الطاغيتين وخرج من ورطة التوفيق بينهما وأنهى حالة استلابه بالعودة إلى براءة الذات الحرة وفطرتها بمنأى عن أغلال الموروث والمقتبس معًا واتخذ من معاناته الذاتية وكينونته وأشواقه وموقعه الفريد في الزمان والمكان قيمة أساسية وحيدة يغربل على أساسها ما يتقبله من التراث والحضارة الحديثة على السواء، بدل أن تكون شخصية محكومة بثنائية قيمية لمصدرين غريبين عنه بحكم الزمان والمكان. . . لعله بهذا أن يكتشف ذاته، ويعيد اكتشاف التراث والعصر، برؤية ذاتية مستقلة صادقة، فاعلة، مبدعة إبداعًا أصيلًا”. “14”
يثير نص الأنصاري إشكالات كثيرة وأسئلة تحتاج إلى إجابات واضحة، من قبيل: السؤال عما يعنيه الكاتب بالعودة إلى براءة الذات الحرة وفطرتها، وعن كيفية النأي عن سلطتي الموروث والمقتبس، وعن معنى الركون إلى الكينونة بمأساتها وأشواقها واتخاذها قيمة أساسية وحيدة للحكم على التراث والحضارة الحديثة؟
هل ثمة مقياس لتحقيق براءة الذات وفطرتها؟ وهل يمكن لنا في عصر ثورة الاتصالات والانفجار المعلوماتي الحديث عن العودة إلى براءة الذات وفطرتها؟ وكيف يمكن الركون إلى الكينونة في الوقت الذي يطلب منّا الكاتب النأي عن سلطة الموروث؟ أوليس الموروث جزءًا لا يتجزأ من كينونتنا؟ وهل يمكن الحديث عن كينونة في ظل استبعاد الموروث؟
كيف يمكن اكتشاف الذات برؤية ذاتية مستقلة، في ظل النأي عن الموروث الذي يشكل جزءًا مكينًا من الرؤية الذاتية المستقلة؟ أوليس التوكيد على الاستقلال، ينطوي على الاتكاء على الموروث واستحضاره ذهنيًّا وواقعيًّا؟ وأخيرًا فأنى للرؤية الذاتية المستقلة أن تكون فاعلة ومبدعة بعيدًا عن الإفادة من تراث الآخر أو من هضمها وتمثلها لموروثها ووعيها به وعيًا منهجيًا؟
وعلى الرغم من إحساس الباحث بصعوبة دعوته التي تصل إلى حد الاستحالة التي يعبر عنها صراحة، فإنه يعود إلى التذكير بأن من الخير للعربي” أن يتنبه إلى هذا الخواء الذاتي، ويكشف عنه، ويملأه بإبداع أصيل من أن يظل في الحلقة المفرغة تتجاذبه القوتان النقيضتان إلى ما لا نهاية. . . لعله إذا عاد إلى كينونته الحاضرة، واتخذها قيمة عليا تتقرر على أساسها مراتب القيم الأخرى من موروثه ومقتبسة”.
أحسب أن للخروج من مأزق الرؤية التوفيقية التي أرهقت كاهل الكاتب وروحه طريقًا آخرَ غير التضحية بالسلة وثمرها كاملًا.
إن الحديث عن الخواء يفترض اطّراح الذات وتنازلها عن كل ما امتلأت به، وهو ما يعني اقتراح بداية من الصفر. وهذا مطلب غير واقعي ولا ممكن، فضلًا عن التناقض الكامن في القول بضرورة العودة إلى الكينونة الحاضرة مع القول بالخواء والتخلص من سطوة كل من التراث والمقتبس في الوقت نفسه.
ويبقى ما هو أهم بعد ذلك، وهو معرفة الآلية التي يمكننا بها الوصول إلى ذلك الحل اليوتوبي الذي يدعونا إليه الباحث، بعد تلك الوصفة الإشكالية المضمخة بالأشواق.
إن الإشكالية التي يحياها العقل العربي، ممثلة في كفّه عن الإسهام في إنتاج مكونات حضارة العصر، وعجزه عن امتلاك وعيه المستقل، ورزوحه تحت وطأة ثنائية الأنا والآخر، هي إشكالية مفهومة من واقع كونها تعبيرًا عن فقدان اللحظة التاريخية، فما دامت أمتنا بعيدة عن الإنتاج الفكري والعلمي والفلسفي، مكتفية باستهلاك المنتج المادي والمعرفي، فإنها ستظل تعيش أزمتها التي لا فكاك منها.
ولا ريب في أن الخروج من هذه الأزمة لن يتم بإصدار مرسوم أو قوانين، مثلما لن يتم بالنيات الحسنة والرغبات الطيبة، وإنما من خلال الشروع في برنامج علمي، يرفض الانتظام في مرجعية مسبقة جاهزة (سواء أكانت مرجعية تنتمي إلى الأنا أو الآخر)، اعتمادًا على منهجية العلم والفكر النقدي، والسعي إلى التمييز بين ماهو علمي وما هو أيديولوجي، والدخول في حوار معرفي جاد، وتفاعل خلاق بين جميع المرجعيات الفاعلة، بغية الوقوف منها موقفًا نقديًا، وإعادة إنتاج ما تجده مفيدًا للتأسيس عليه، وفق حاجات الذات وضرورات العصر. هكذا فعل أجدادنا حين قدموا للغرب الفكر اليوناني، وفعل الغرب حين أعاد قراءة الإنجاز العربي وتمثله، ليعيد إنتاجه عبر مصفاته النقدية، لنفسه وللعالم كله.
ولعل الخوف من السقوط في أحبولة التراث والانشداد إليه عاطفيًا، وتكييف قراءتنا له، تكييفًا خاصًا منحازًا له، هو الذي دفع بالدكتور جابر عصفور إلى التعبير عن موقف فكري له خصوصيته، وإن لم يخل من إثارة وإشكالية، إذ يدعو إلى الإبقاء على التراث ضمن نسقه، وفي موضعه المخالف لنا، إذا ما أردنا له أن يكون تراثًا حاضرًا فينا، وأردنا لأنفسنا الاستقلال عنه، يقول:
“وعندما نضعه(يقصد التراث) في سياقه التاريخي أو في مواضعه التاريخية المخالفة لموضعنا، فإننا نبقي على حضوره المغاير لحضورنا ونحفظ لأنفسنا كياننا المستقل عن وجوده، فنحرره من أوهامنا عنه، ونتحرر من خوف أن يحكم قيده على رقابنا”. “15”
ويلتمس الدكتور عصفور لموقفه مسوغًّا يقوم على افتراض أن التراث هو الحضور المقدس للأب، الذي لا سبيل إلى النجاة منه إلا بالتخلص منه؛ ذلك أنه سيبقى يحمل صورة مثالية، في مقابل الصورة الشائهة التي يبدو عليها الابن، في الحاضر المعيش، يقول:
“إن التراث هو الحضور المقدس للأب الذي لا يمكن أن يكون الابن إلا صورة شائهة منه مهما سعى”. “16”
هكذا يجسد عصفور حالة من اليأس من إمكانية تقديم العربي المعاصر قراءة علمية للموروث، وكأن ذلك قدر الإنسان العربي المحتوم. ويبقى السؤال: ماذا لو ترك الأبناء في كل جيل تراثهم راقدًا في سياقه وكفوا عن مباشرة فعل قراءته وإعادة إنتاج معرفتهم به؟ وهل يمكن للمرء على المستوى الواقعي، أن يضع التراث جانبًا، ليحفظ للذات حضورها المغاير المستقل؟ كيف يمكن تحقيق ذلك، في وقت لا تعدو فيه الذات أو الكيان سوى بعض من تجليات التراث ومعطياته؟
من ناحية ثانية فإن الانطلاق من مقولة الحضور المقدس للتراث، وكون الابن صورة شائهة منه، لا يمثل سوى رؤية أحادية، إذ إن منطق التاريخ، وقوانين الانتخاب الطبيعي، والواقع الفعلي، تنزع جميعًا نحو أن يتجاوز الابن أباه ويتفوق عليه، أكثر من نزوعها نحو تعميق الإحساس بالصورة الشائهة للأصل وبمركبات النقص. إلى جانب هذا فنحن لا نرى أن بالإمكان وضع خط فاصل بين التراث واللحظة المعاصرة؛ فليس التراث منجزًا ينتسب إلى الماضي، بقدر ما هو لحظة ثقافية شديدة التشابك والجدل مع الذات ومع الحاضر. فالسياسي والثقافي والاجتماعي المعاصر يشكل منطلقًا لقراءة التراث والاحتماء به وتأويله على الدوام. ولو كان الأمر بمثل هذه السهولة لما ظلَّ الفكر العربي طوال هذه القرون ينوء تحت ضغط معضلة التراث ومظاهرها الإشكالية المختلفة.
والحقَّ أن إشكالية التراث في الخطاب العربي هي إشكالية حقيقية ومزمنة، لا يكاد ينجو منها حتى من أعلن عن اعتناقه عقيدة العلم، فهذا هو الدكتور زكي نجيب محمود الذي بدأ مسيرته الفكرية، متحمّسًا للفلسفة البراجماتية وعقيدة الوضعية المنطقية، ينتهي إلى موقف يضم أمشاجًا من المتناقضات والرؤى التوفيقية، الخارجة على المنهج العلمي والرؤية الموضوعية.
لقد بدأ الرجل حياته الفكرية متحمّسًا، كما ذكرنا من قبل، للغرب وحضارته، داعيًا إلى بتر التراث الذي فقد مقومات الحياة والديمومة، للعيش مع من يعيشون في عصرنا علمًا وحضارة ووجهة نظر إلى الإنسان والعالم”17″، مؤيدا الدعوة إلى محاكاة الغرب وتقليده. يقول واصفًا ما كان عليه حاله، بضمير الغائب:
” لقد كان يتمنى أن نأكل كما يأكلون، ونجدّ كما يجدون ونلعب كما يلعبون، ونكتب من اليسار إلى اليمين كما يكتبون”. “18”
لكن الرجل يعدل عن موقفه، بغير قليل من الندم والاعتراف بتعجله وبجهله بما في التراث، في مقابل إلمامه بثقافة الغرب، لينتقل إلى مرحلة من التساؤل ومواقف فكرية تتمحور حول فكرة المواءمة بين الغرب والتراث:
” كيف نوائم بين ذلك الفكر الوافد الذي بغيره يفلت منا عصرنا أو نفلت منه، وبين تراثنا الذي بغيره تفلت منا عروبتنا أو نفلت منها؟”. “19”
وإزاء هذه الثنائية التي يلح عليها مفكر الوضعية المنطقية، ويتخذها منطلقًا أساسيًّا في كتابه(تجديد الفكر العربي)، نراه يدخل في دوامة من المتناقضات التي ينقض فيه الموقفُ الموقفَ السابقَ عليه في بضع صفحات.
يبدو من كلام مفكرنا أن الذي دعاه إلى التخلي عن موقفه الخاطئ، ليس إنجازه وعيًا جديدًا أو علميًّا بموضوعته القديمة، بقدر ما رأى أن من يمثل صورة الحضارة المعاصرة إنما هو عدونا اللدود، ليجد نفسه مضطرًا للتعاطف مع دعاة العروبة ومقولة المعاصرة، وكأنه وقع على هذا الاكتشاف فجأة، فضلًا عن الطبيعة اللاموضوعية في النظر إلى طرفي المحركين اللذين يصفهما وصفًا ذاتيًا(عاطفيًّا)، إذ هما عدو لدود، وداع للعروبة يستوجب التعاطف!
” فما دام عدونا الألد هو نفسه صاحب الحضارة التي توصف بأنها معاصرة، فلا مناص من نبذه ونبذها معا، وأخذت أنظر نظرة التعاطف مع الداعين إلى طابع ثقافي عربي خالص”. “20”
ولا نجد الرجل يستقر على رأي أو يثبت على موقف، فهو في موضع من كتابه المذكور يخلص إلى موقف يرى أن أصداءه متوزعة في فصول الكتاب، مفاده أن علينا أن نأخذ من التراث شكله دون مضمونه. “21 “. وفي موضع آخر يسمي ما يمكن أن يأخذه العربي المعاصر من التراث صورته دون مادته، متناسيًا ما كان قد قرره قبل صفحات من أن التراث كله قد فقد مكانته بالنسبة إلى عصرنا، متمنيًّا لأبناء العصر أن يستخلصوا الرأي الذي يراه. “22”
لكن الدكتور محمود يعود في مواضع أخرى متقدمة من كتابه، ليقرر في جواب عن سؤال يطرحه على نفسه: ماذا يأخذ المعاصر من أسلافه ليكون عربيًا ومعاصرًا في آن؟ ليأتي جوابه مؤكدًا بوضوح” أنه لايأخذ من هذا كله شيئا”، مغفلًا دعوته السابقة إلى الأخذ بشكل التراث دون مضمونه. وهي دعوة لا يمكن أن تستقيم مع التوكيد على النفي المطلق لمنجز الأسلاف، والتشديد على كليّته. “23”
ولا يتوقف مفكرنا عند هذا الحد، إذ نجده في صفحات لاحقة ينفي أية إمكانية للتوحيد بين المعاصرة والتراث، واضعًا القضية في إطار معادلة لا تقبل سوى الخيار الأوحد ( إما المعاصرة أو التراث). “24”
ومما له دلالته في موقف الرجل، تلك الرؤية التي يلخصها في ما يمكن لنا، نحن المعاصرين أن نتخذه من مواقف، إزاء آدابنا وفنوننا ومعارفنا، منتهيًا إلى أنه غادر موقفه السابق المتطرف، وأنه يجنح الآن إلى موقف معتدل، يقول:
” وتسألني: وماذا نحن صانعون بآدابنا وفنوننا ومعارفنا التقليدية كلها، والتي كانت تحتكر عندنا اسم “الثقافة”؟ فأجيبك بأنها مادة للتسلية في ساعات الفراغ، ولم أعد أقول – كما قلت مرارًا مقلدًا هيوم وجاريًا مجراه- لم أعد أقول إنها خليقة بأن يقذف بها في النار. وحسبي هذا القدر من الاعتدال، ابتغاء الوصل بين جديد وقديم”. “25”
وبغض النظر عن عودة الرجل إلى نشدان وصل القديم بالجديد، بعد أن لم يكن ير فيه شيئًا نافعًا تارة، وإمكانية للإفادة من شكل التراث تارة أخرى، فإنّ لنا أن نتساءل عن مغزى اتخاذ العربي المعاصر موقفًا من ثقافته التقليدية، بالقول إنها لا تعدو كونها مادة للتسلية في أوقات الفراغ. فهل ثمة فرق جوهري، على مستوى الدلالة، بين أن يقذف امرؤ بثقافته التقليدية في النار وأن ينظر إليها بوصفها مادة يمكنه التسلي بها في أوقات فراغه، من دون أن يكون لها شأن جاد في حياته؟
واضح أن إشكالية التراث والحداثة قد اضطرت فيلسوف البراجماتية إلى الانسحاب مما دعا إليه كثيرًا من فلسفة علمية، سواء في دعوته إلى الوضعية المنطقية أو الفلسفة التحليلية، كاشفة عن موقف وسطي ورؤية تلفيقية، لا تخلو من متناقضات لا ينبغي لصاحب مشروع فكري مهم أن يقع فيها. “26”
الإحالات:
- رسائل الكندي الفلسفية:تحقيق أبو ريدة، 1/103، نقلًا عن قراءة التراث النقدي، جابر عصفور، ط1، سلسلة دراسات نقدية، الكويت، دار سعاد الصباح، 1992،163.
- إشكاليات الفكر العربي المعاصر: محمد عابد الجابري، ط1، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، يونيو-حزيران،1989، ص26، وانظر 18 أيضا.
- مصطفى السعدني: المشروع المستقبلي للعرب بين عولمة الفكر وتخصيص الثقافة، مؤتمر مستقبل الثقافة العربية 11-14 مايو 1997، سلسلة أبحاث المؤتمرات/2، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2011.
- المصدر نفسه، 38.
- رسائل الكندي الفلسفية، مصدر سابق،1/103، نقلا عن قراءة التراث النقدي، 121.
- الحيوان: الجاحظ،تحقيق عبد السلام هارون، 1948،6/ 11.
- قراءة التراث النقدي: د. جابر عصفور، مصدر سابق،114.
- مستقبل الثقافة في مصر: طه حسين، الهيئة المصرية العامة للكتاب،القاهرة، 1993، 1/33.
- المصدر نفسه: المؤلفات الكاملة، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1973، ج9،50-51.
- المصدر نفسه: 23.
- الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر: محمود أمين العالم، القاهرة، دار الثقافة الجديدة، 1987، 225.
- انظر مجلة ألف، مجلة البلاغة الجديدة، القاهرة،ع 18، ربيع 1988.
- انظر كتابه؛ قراءات في التراث النقدي، مصدر سابق، 94،95.
- الفكر العربي وصراع الأضداد: محمد جابر الأنصاري، ط1،المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،1999، 649.
- هوامش على دفتر التنوير: جابر عصفور،ط1، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1994،34.
- المصدر نفسه:27.
- يقول زكي نجيب محمود:” فبدأت وبتعصب شديد بإجابة تقول إنه لا أمل في حياة فكرية معاصرة إلا إذا بترنا التراث بترا، وعشنا مع من يعيشون في عصرنا علما وحضارة ووجهة نظر إلى الإنسان والعالم”، تجديد الفكر العربي، ط1، سلسلة (الفائزون 4 )دبي، مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الإمارات العربية المتحدة، 1982،13. وانظر أيضا، حصاد السنين، 341.
- تجديد الفكر العربي، مصدر سابق: 13.
- المصدر نفسه: 7-8.
- نفسه: 13.
- نفسه: 101، وانظر 254.
- نفسه: 84.
- نفسه: 162. ومما له صلة بالموقف الجذري للرجل قوله في الكتاب نفسه:” لا تحول إلا بدأناه من الجذور: من المباديء، نقتلعها لنضع مكانها مبادئ أخرى فنستبدل مثلا عليا جديدة بمثل كانت عليا في أوانها ولم تعد كذلك”، 204.
- نفسه: 75-76.
- نفسه: 187.
- يقول زكي نجيب محمود: ” ليست هذه هي المشكلة وإنما المشكلة على الحقيقة هي: كيف نوائم بين ذلك الفكر الوافد الذي بغيره يفلت منا عصرنا أو نفلت منه، وبين تراثنا الذي بغيره تفلت منا عروبتنا أو نفلت منها؟(. . . ) كيف السبيل إلى ثقافة موحدة متسقة يعيشها مثقف حي في عصرنا هذا، بحيث يندمج فيها المنقول والأصيل في نظرة واحدة؟”؛ تجديد الفكر العربي، 7-8.