لا يعرف في تاريخ الإسلام اسم أكثر احتراماً من عمر بن عبد العزيز، فهو الرجل الذي يمثل الأفق الأعلى للعدل والكرامة والمساواة في التاريخ الإسلامي، وقد حظي باحترام الجميع حتى أطلق عليه الفقهاء والمؤرخون لقب الخليفة الراشدي الخامس.
ولست هنا في معرض سرد تاريخي حياة الإمام الكريم، فهو على قصر أيامه التي حكم فيها 715-718م كان مدرسة كاملة في العدل وفي الازدهار الاجتماعي وفي مكافحة الفساد وفي التقوى والاستقامة، ولكنني أسوق هنا فصولاً من أيامه المجيدة فيما أرجو أن يكون قدوة لشباب هذه الأمة من الجيل الجديد في رسالة الإخاء والمحبة التي يجب ان تطبع علاقاتنا وإخاءنا المجتمعي في الوطن والشتات.
ورث عمر بن عبد العزيز امبراطورية مترامية الأطراف وكان المسلمون قد اندفعوا إلى الفتوح بشكل كبير فكانت جيوشهم في كاشغر تطرق أبواب الصين شرقاً وفي الأندلس على تخوم الغال، وكانت جيوشهم تحاصر القسطنطينية.
لقد أدرك الإمام الكبير أن هذا المشهد لن يحقق السلام في الأرض، وأن الاندفاع بفائض القوة لاحتلال الشعوب لن يثمر دخولها في الإيمان، فالإيمان عمل من أعمال القلب ولا إكراه في الدين، وقد تحولت الفتوح إلى ممارسات حربية لا علاقة لها برسالة الإيمان والهدى، على الرغم مما تحظى به الفتوح من شعبية وتشجيع لدى عموم الناس.
لم يوافق ابداً على أن العالم عدو كافر ماكر، يجب قتاله، بل أمم أمثالنا، خلقهم الله ليتعارفوا.. ولدينا كتاب مصدق لما بين يديه، ولديهم قيم مشتركة نبيلة، وعلينا أن نؤسس العلاقات الدولية على أساس من القانون والاحترام، وأن الحرب والثأر ليس شكل العالم المتحضر، بل السلام والحب والرحمة….
كان قراره الأول في غاية الشجاعة والجرأة فقد امر فوراً بسحب الجيوش من القسطنطينية، حيث كان مسلمة بن عبد الملك يحاضرها من البر وهبيرة بن عمرو يحاصرها من البحر، وأمر السمح بن مالك الخولاني أن ينسحب من الأندلس، على الرغم من استحالة تنفيذ هذا الطلب في تلك المرحلة ولكنه أصر عليه ولم يتحقق له ذلك.
أما في الشرق الإسلامي حيث كانت الناس تتغنى بانتصارات قتيبة في مناطق أفغانستان وأوزبكستان وقرغيزستان، نظر عمر بن عبد العزيز إلى هذه الحروب بعين أخرى، ولم يجد لها مبرراً إلا التوسع الحربي، ووصله وفد من بلاد ما وراء النهر يشكو قسوة قتيبة وتجاوزاته، وبناء على ذلك فقد أنجز مراجعات عميقة لحركة الفتوح ونصب محكمة دستورية هائلة في الشرق برئاسة القاضي جميع بن حاضر، وقد قامت المحكمة باستدعاء الحكام والجنرالات الكبار من رجال قتيبة، وبعد محكمة عظيمة أصدر القاضي امره ببطلان الفتح وتناقضه مع قيم الإسلام العظيمة… وأمر عمر واليه على ماوراء النهر عبد الرحمن بن نعيم أن يقفل راجعاً بالمسلمين من بلاد ما وراء النهر إلى مرو، وأمر الجيوش الفاتحة أن تخرج من سمرقند وفرغانة وأعاد البلاد إلى أهلها…..يختارون ما يشاؤون.. وألغى على الفور الرسوم التي فرضها عليهم الفاتحون ومنها رسم الأعياد ورسم الزواج ورسم الفتوح التي كانت تجنيها الدولة من السكان، وهو ما كان يشكل مغنماً للمحارب وللدولة على حساب الشعوب المغلوبة…
لم تكن المحاكمة مجرد صدفة بل كانت منهجاً عمرياً راشدياً… وحين كانت الجيوش تخرج من المدن، وتعيد للناس الغنائم المسلوبة منهم، كان الناس يدخلون في الدين أفواجاً… إن الناس لم تسلم بسيف قتيبة ولا بسيف محمد بن القاسم ولا ببطش الحجاج… وإنما أسلمت بعدل عمر
وحين شكا له عدد من عماله أن سياسته هذه ستفقر الخزينة… فالناس لم تعد تدفع الجزية.. ولا الضرائب المفروضة غضب عمر أشد الغضب، وقال لواليه: إن الله أرسل محمداً هادياً ولم يرسله جابياً…
ولاحت فكرة خبيثة في ذهن واليه على خراسان الجراح بن عبد الله الحكمي فقال: إن الناس يدخلون في الإسلام هروباً من الجزية والمكس فلو امتحنتهم بالختان!!.. قال له ويلك: إن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه خاتناً…..ثم عزله على الفور لأفكاره الجهنمية وولى مكانه عبد الرحمن بن نعيم القشيري.
أما واليه على البصرة عدي بن أرطأة الذي استمر في قبض الجزية فقد أرسل إليه من جلده عشرين سوطاً وبهدله امام الناس وعزله من ولاية البصرة وكرر له عبارته المشهورة: قبح الله رأيك!! إن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً.. وددت لو أن الناس أسلموا وأننا رجعنا حراثين نأكل من زرع أيدينا.
أما الروم الذين كانوا يتاخمون الدولة الأموية في الشمال فقد نجح خلال سنتين في قلب الصفحة نهائياً من علاقة حرب وكرب، وحصار وحروب إلى سفارات دبلوماسية ناضجة نجحت أولاً في تحرير الأسرى من الطرفين، ثم فتحت حوارات لاهوتية وعقلية مستمرة لم تنقطع مدة خلافة عمر بن عبد العزيز، حيث نشأت علاقة متميزة بين عمر وبين الامبراطور ليو الثالث.
وحين كان عمر في طريقه إلى حلب وأصابه المرض وكان في الأغلب نتيجة مؤامرة، أوى إلى دير سمعان الشرقي قرب إدلب، وهناك تلقاه الكهنة بحب واحترام وقاموا بتمريضه، وبلغ الخبر الامبراطور ليو فأرسل على الفور وفداً طبياً متحصصاً برئاسة رئيس الأساقفة للمساعدة في تمريض عمر بن عبد العزيز وحين فاضت روحه وبلغ الخبر الامبراطور ليو الثالث قال كلمته المشهورة.. مات اليوم الرجل الصالح عمر، ولقد علمت لو كان بعد المسيح بن مريم رجل يحيي الموتى لكان عمر!!
لقد كان مدهشاً أن يختار عمر دير سمعان ليمرض فيه ويوصي ان يكون مدفنه فيه، وبعد عشر سنوات قامت زوجته فاطمة بنت عبد الملك بالوصية ان تدفن فيه أيضاً، ولا يزال الدير إلى اليوم يرقد فيه الخليفة الراشدي وزوجته في أروع صورة للإخاء والتعايش والتواصل.
من المؤلم ان ينجح الخلفاء الراشدون قبل أكثر من ألف عام ببناء أوثق العلاقات وأكثرها نجاحاً ونضجاً بين دول كانت متحاربة متباغضة، وتحويلها إلى علاقات سلم وثقة وحسن جوار فيما نفشل اليوم أن نحقق هذا المستوى من الوفاق والاحترام في مجتمعاتنا التي باتت تضيق بالآخر المختلف، وتصر على استخراج أسوأ ما في التاريخ من فصول الكراهية والحقد لإعادة تدويرها في واقعنا الصارخ بالفشل والآلام.