“إن العقل الذي اعتاد أن يسير في إتجاه واحد والذي يعجز عن فهم حقيقة النسبية وتعدد طرق الوصول إلى الحقيقة لا بد أن يوصل أصحابه دون أن يشعروا إلى هذه النتائج الخطيرة وهكذا يصبح من بديهياتهم التي لا تناقش .. الاعتقاد بأن الشك خطيئة والنقد جريمة والتساؤل إثم وجريرة” – فؤاد زكريا
في عام 1987 حضرت مناظرة مسجلة عبر الفيديو بثت في مدرج جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة لفائدة طلبتها بين المفكر فؤاد زكريا أستاذ الفلسفة والكاتب المعروف والشيخين يوسف القرضاوي ومحمد الغزالي في موضوع الإسلام والدولة المدنية وكانت شجاعة من فؤاد زكريا أن يواجه الشيخين بما يستحوذان عليه من رأسمال رمزي وأسبقية لدى الجماهير فمناظرهما خاسر مقدما ، ظهر ذلك من متابعي المناظرة في القاهرة من الشباب الذين حضروا للتشجيع والمناصرة لا للتعلم والنقد والشك والاعتراض وكأنه ملعب كرة قدم والمقابلة بين الأهلي والزمالك وآية ذلك أن الشيخين إذا تكلم أحدهما قابل الشباب ذلك بالتكبير والهتاف في حين يتم التشويش على الخصم الذي اشتكى من رفع الشيخين صوتيهما وهي سلطة رمزية أخرى تسعى لدحض الخصم بكل السبل ونفس الشيء حصل في مدرج جامعة الأمير عبد القادر ،هتاف وتشجيع للشيخين ونيل بالكلام من الخصم فؤاد زكريا والكل ضرب عرض الحائط المقولة التراثية الهامة التي تنسب إلى الإمام علي “اعرف الرجال بالحق ولا تعرف الحق بالرجال”، مما يذهب بالفائدة المرجوة من هذه المناظرة وأمثالها لغياب التفكير وثقافة السؤال والنقد والشك وحلول المباركة والتمجيد محل ذلك.
إنما أتينا على هذه المناظرة لبيان الشجاعة الأدبية التي تحلى بها هذا المفكر العربي ورغبته في تطبيق مبدأ الحوار دون خوف ولو كان أمام عالمين كبيرين من علماء الإسلام في القرن العشرين تهيأت لهما ثقافة دينية رصينة وإلمام عميق بالتراث العربي والإسلامي .
لم يخف فؤاد زكريا يساريته طيلة حياته ولربما ظلم كثيرا كما يذهب محمد الرميحي في مقالة خاصة حول تهميشه وعدم قراءته ونقده موضوعيا وحصره أيديولوجيا دون الاستفادة من رصيده الفلسفي والفكري والعلمي وهو الذي تبنى الخطاب العلمي وناصر مبدأ الدولة المدنية وانشغل كثيرا بدراسة المذاهب الفلسفة الغربية وترجمة كثير من تراث الغرب العلمي والفلسفي.
وكان في بداية الأمر من المناصرين للثورة الإيرانية ككل مفكر حر كونها قوضت دعائم الاستبداد والعبث بمقدرات الشعب الإيراني والعمالة للغرب، ولكنه سرعان ما انقلب عليها كما فعل ميشيل فوكو فهي لم تجلب الجنة للشعب وإنما حاربت سلطة الشاه لتحل محلها سلطة رجال الدين والملالي وقلصت من حجم الحريات وطالما عانت المرأة من ذلك كثيرا وحاربت التعددية السياسية بإقصاء اليسار وتصفيته ومتابعته.
وعارض فؤاد زكريا الحركات الإسلامية بجميع أطيافها وهي إن اختلفت في الدرجة لكن الجوهر واحد في رأيه وانتقد كثيرا الداعين إلى التطبيق الفوري للشريعة الإسلامية باعتبارها الحل الوحيد للخروج من مأزق التخلف والاستبداد والفساد منتقدا أول الأمر مبدأ الحاكمية الذي ترفعه الحركات الإسلامية وجماعة الإخوان في مصر مثلا معللا خضوع هذا المبدأ للبشرية في تطبيقه بما أن الأهواء والأغراض الإنسانية تتدخل حتى في تطبيق الشريعة ، وفي التاريخ الإسلامي على طوله خير مثال على ذلك فالسيادة لم تكن للنصوص وإنما للفهوم والممارسات التي جعلت التاريخ الإسلامي يحفل بكل هذه التجاوزات باسم تطبيق الشريعة اللهم إلا في الفترة النبوية وفترة الخلفاء الراشدين كما يرى.
وانتقد المبدأ الثاني الذي ترفعه الحركات الإسلامية وهو مبدأ صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان مؤكدا على درجة التعقيد والتطور في الحياة الحديثة بما لا يتهيأ مع الممارسات التي كانت في التاريخ القديم وإن كان من الضروري الاحتكام إلى القيم كالعدالة الاجتماعية، والنزاهة، وحب الخير للناس وكف الأذى ، واحترام الناس ، وطلب العلم لنفع الناس وليس بالضرورة البحث عن مطابقة الحياة الحديثة مع العصور السالفة حتى لكأنها تنسحب كالموج العاتي على العصر فتطمسه فاسحة المجال لهيمنة الماضي على الحاضر والمؤسسة على الإنسان ومقلصة من حجم المناورة البشرية بسبب الاقتصار على حرفية النصوص وهيمنة الفقهاء.
وواضح تأثر فؤاد زكريا هنا بالتنوير الغربي فالفكر الأوروبي في عصر الأنوار اتجه نحو الإنسان وكرس العلاقة الأفقية مقلصا من حجم العلاقة الرأسية فتخلص من الاستبداد السياسي والكهنوت الديني وحرر العقل من سيطرة الخرافة وأعاد له الثقة في نفسه منطلقا في فتوحه العلمية التي كرست عصر الصناعة والتقنية وسيادة الإنسان ،مخترعا آليات سياسية لإقرار الديمقراطية كالاقتراع والمجالس المنتخبة ومبدأ التداول على السلطة وحرية الإعلام ومراقبة الساسة والحفاظ على المال العام من الإهدار في حين كان ملوك أوروبا يدعون أنهم من نسل الآلهة لا يجوز عليهم ما يجوز على رعاياهم.
إنما الحركات الإسلامية في نقده اهتمت من تطبيق الشريعة بالعقوبات والحدود في جلد شارب الخمر والزاني وقطع يد السارق دون استبصار لتعقيدات الواقع في جوانبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية فهيمنة الجبر والفقر والأمية والطبقية الكبيرة تجبر فقراء الناس على إتيان ممارسات – وهي منكرة طبعا- اضطرارا لا اختيارا وكان الأولى رفع مستوى المعيشة وزيادة دخل الفرد ، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتكريس الحريات الأساسية للإنسان وتجويد المنظومتين الصحية والتربوية للوصول إلى مجتمع الكفاية لتختفي هذه المنكرات من تلقاء نفسها كما يرى قاطعا الطريق على من يقول بإرجاء تطبيق الشريعة إلى المرحلة الثانية حين يتحقق مجتمع الكفاية وهو يرى أنه إن تحقق فمعنى ذلك صلاحية الحلول العلمية لمجابهة الواقع وتحسين وضع الإنسان.
وقد انتقد كثيرا في مقالاته ومحاضراته وندواته الفكرية تطبيق الشريعة في باكستان والسعودية وأخيرا السودان في عهد جعفر النميري حين بادر الإخوان في مصر إلى مباركة الأمر ثم تنصلوا بما بدا من تجاوزات في وجود جماعات بشرية من مقطوعي الأيدي ومجلودي الظهور وبما لم يحقق التنمية الاجتماعية و الاقتصادية في بلد هو من أخصب البلاد العربية.
إن اتساع القاعدة الجماهيرية للحركة الإسلامية وللمنادين بتطبيق الشريعة لم يكن يعني عند فؤاد زكريا غير تدني مستوى الوعي الجماهيري ففي عهد السادات مثلا انتشرت الأغاني الهابطة والأفلام الرديئة، فهل هذا يعني أن ذوق الجماهير كان رفيعا؟
يرجع فؤاد زكريا ازدهار الحركات الإسلامية في الثمانينيات مثلا إلى انتشار ثقافة الاستهلاك والتقارب مع الغرب ولعبت السعودية (البترو إسلام )كما يسميها دورا في انتشار هذه الحركات بتشجيع الشكل في التدين على حساب المضمون وما المضمون إلا تقرير الحريات وإقرار مبدأ العدالة الاجتماعية والمحافظة على كرامة الإنسان وعدم العبث بمقدرات الأمة فالإسلام هناك كرس لخدمة النفط وليس العكس بما يحفظ للحكام امتيازاتهم وسيطرتهم على مقدرات الأمة في حيت تنغمس العامة في أشكال التدين الطقوسي على حساب المضمون ذاته، وهناك سبب آخر لانتشار هذه الحركات في الثمانينيات مثلا هو ضرب اليسار وخنق المنظومة الاشتراكية ومحاربة جيوبها في البلاد العربية.
إن قيام المجتمع الشمولي بتطبيق الشريعة في رأيه يقضي على التعدد والتنوع والتناغم بين أفراد المجتمع والإصرار على مجتمع النمطية والواحدية على حساب الحريات الأساسية للإنسان وعلى حساب النشاط الإنساني القائم على الحرية في الآداب والفنون والتيارات الفلسفية والفكرية ويتخذ من معادة هذه الحركات للرقص وفن الباليه وللنحت والرسم أمثلة على ذلك ، وتبعا لذلك تعمل ثقافة الإلغاء على إقصاء التثاقف مع الآخر المختلف وتحديدا الثقافة الغربية باعتبارها ثقافة إنسانية أحرزت تقدما وسبقا في تحرير وعي الإنسان .
إن النزعة الوثوقية واليقين الذي تجابه به الحركات الإسلامية المختلفين معها كما يرى تقضي على ثقافة السؤال ومبدأ الشك الذي هو طريق إلى المعرفة وما الحياة في سيرورتها وصيرورتها إلا ثمرة لهذا القلق الفكري وهاجس الكمال والشغف بفتنة السؤال الذي يستنسل من رحم سؤال سابق ،في حين تأتي الإجابة الجاهزة والنزعة الوثوقية كمجمد للفكر ومتوقف بالحياة الإنسانية عند صورتها الراهنة.
فالإعجاز العلمي في القرآن مثلا الذي غدا موضة العصر جاءت الكشوف العلمية من التأمل في الطبيعة ودراستها وفق منهجية علمية صارمة وكشف مجاهيلها لا من النص مباشرة وهو ما قام به علماء الطبيعة في حين اكتفى العالم العربي بإحالة ما توصل إليه العلماء الغربيون على النصوص في خمول وكسل عن الفاعلية العلمية والحضارية،ناهيك عن تغير النظريات العلمية ونسبيتها بما يجعل الشغوفين بتأويل النصوص لتنسجم مع الكشوف العلمية في ورطة إذا ثبت بطلان هذه النظريات مستقبلا.
أخيرا في نقده للحركة الإسلامية في دعواها بتطبيق الشريعة يرى أنها دعوة لم تتحقق طيلة التاريخ الإسلامي اللهم إلا في عهد النبي والخلفاء ثم غدا التطبيق بشريا خاضعا للأهواء والنزوات والدليل ما حفل به التاريخ الإسلامي من استبداد وفساد وتفاوت طبقي وظلم في عصر بني أمية وبني العباس فالدعوة بعدالة الإسلام وصلاحية الشريعة لكل زمان ومكان ظلت حبيسة النصوص في حين كان الواقع بعيدا ومخالفا (ومجمل القول إن دعاة تطبيق الشريعة يرتكبون خطأ فادحا حين يركزون جهودهم على الإسلام كما ورد في الكتاب والسنة ويتجاهلون الإسلام كما تجسد في التاريخ أعني حين يكتفون بالإسلام كنصوص ويغفلون الإسلام كواقع ) الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة ص11.
وفي نقده لداعية اليسار الإسلامي حسن حنفي صاحب لاهوت التحرير فيما يتعلق بالعلاقة بين الإخوان وثورة يوليو وحادثة المنصة التي شهدت مقتل الرئيس محمد أنور السادات من خلال نقد زكريا لكتاب عبد السلام فرج “الفريضة الغائبة” وكتابات سيد قطب حول جاهلية الحياة الحديثة ومراجعة أقوال واعترافات منفذي العملية يرى أن السبب المباشر هو تبديد السادات لحلم الإخوان في قربهم من تحقيق أحلامهم وتراجعه فيما يتعلق بقضايا المرأة التي رأوا انه خالف الشريعة فيما قرر من إجراءات وتشريعات جديدة لصالحها ، ولا يعني هذا في تصوره إلا هوس الإسلاميين بالمرأة وبقضية الجنس فالمرأة في تصورهم باعث على الريبة ليست محلا للثقة ولا للندية مع الرجل مادام سلطان الجسد عادة يستخدم للإغراء وتأتي الآليات التي تمنع ذلك في مبادرة الجمعيات الشبابية المتدينة منع الاختلاط في الجامعة ومنع المصافحة ومحاربة التبرج وكأنها بهذه التدابير القمعية حلت مشكلة التقدم العلمي والرفاه الاجتماعي وحققت مستويات عليا في التنمية والحريات. وأما العنف فليس ردة فعل كما يرى حسن حنفي على التعذيب والسجون التي طالت الإسلاميين بل في رأي زكريا لتكريس النظام ثقافة الطاعة والولاء والخضوع لا مبدأ الاختلاف والتعدد الذي يسمح بهامش للمناورة والفاعلية السياسية والفكرية.
أخيرا في نقده للفكر الديني ارتأى فؤاد زكريا هذه المرة توجيه نقده للشيخ محمد متولي الشعراوي الذي ظهر أول الأمر في برنامج “نور على نور ” وكان قبلا قد مارس التعليم في مصر والسعودية وفي فترة حكم السادات حدث تقارب بين مصر والسعودية وعرفت مصر عهد الانفتاح والنزوع نحو الاستهلاك فأبرزت ثقافة العصر آنذاك مع الخلفية السياسية الداعمة الشيخ الشعراوي إلى الواجهة باعتباره يبارك التقارب مع السعودية في حين يشجب التعاون مع السوفيات الملحدين أسوة بالمسلمين الأوائل الذين حزنوا لفوز الفرس على الروم النصارى ثم فرحوا بعد ذلك حين انتصروا على الفرس وهذا الإسقاط على العصر يندرج في مباركة التقارب مع الغرب على حساب الشرق الاشتراكي.
ويمتد نقد فؤاد زكريا للشيخ الشعراوي إلى العدة المعرفية فيما يتعلق بالعلوم الحديثة فهو وإن كان لا يشق له غبار في الثقافة الدينية والعربية لا ينسحب ذلك على العلوم الحديثة ويظهر ذلك في معارفه البسيطة عن فرويد وماركس وداروين مثلا وترديد كلمات سطحية لا تتعمق العلوم الحديثة وتؤثر في العامة تأثيرا بالغا كنقده مثلا لنظرية التطور والمادية الجدلية والتاريخية وهلم جرا وهو يخوض في كل ميدان في الفلك والطب والفيزياء والجيولوجيا وكأنه موسوعة مع أن علما واحدا من هذه يستهلك عمر جيل بكامله في الغرب فهو يخوض في تفسير السماوات السبع بشكل مخالف لقواعد علوم الفضاء والفلك ويأتي أقوالا غريبة كالقول بأن حجاب المرأة لا يدعو الزوج إلى الشك في نسبة أبنائه إليه والعكس صحيح ويرجع تأثير الشعرواي بسبب امتلاكه للرأسمال الرمزي وطريقته في الكلام وحركات يديه واكتفاء السامعين بترديد الكلمة الأخيرة على أسئلته “قلنا إيه؟” “كتاب إيه؟” “القرآن ” أي ثقافة السمع والطاعة والشيخ والمريد لا المتعلم الذي يسأل وينقد ويعترض ويشك ويرفض .
وكان يوسف إدريس وزكي نجيب محمود قد انتقدا الشيخ الشعراوي بكل أدب وسماحة واحترام فجابهتهما العامة بالتجريح والقذف والهجوم مما اضطرهما إلى السكوت مما يدعو إلى الاعتراف بهيمنة رجال الدين وتأثيرهم على ساحة الخطاب لا لعلميته فقط ولكن لامتلاكهم الرأسمال الرمزي وطغيان خطاب العاطفة واللغة المبرمجة للوعي.
وما يزال الواقع الذي تناوله فؤاد زكريا بالنقد والتحليل يراوح مكانه بله ما يزال كذلك منذ أن انخرط في نقده بحثا عن النجاة مفكرون ومعلمون أمثال قاسم أمين وعبد الرحمن الكواكبي وزكي نجيب محمود وعلي عبد الرازق وبرهان غليون ومحمد أركون والطيب تيزيني وصادق جلال العظم وغيرهم، وهو واقع يشبه حالة الحطام المفتوح بتوصيف الراحل طيب تيزيني.