ملخص:
قد يكون هذا البحث فريدا من نوعه، وذلك عندما يخوض في جزئيّات لم يألفها الإبداع العقليّ، فلم يدفع عشق فوكو للسّلطة إلى مجرّد إخلاص إلى تقليد فلسفيّ يوغل في التّأمّل النّظريّ، ولكن يتعقّبها كظاهرة عبر التّاريخ والنّزوح إلى الجسد الاجتماعيّ في الثّكنات والمستشفيات والسّجون… وإعادة تفتيتها إلى وحدات ميكروسكوبيّة كشف عنها في “المراقبة والمعاقبة”، ما أطلق عليه بـ “ميكروفيزياء السّلطة”. لهذا فإنّ هذا التّفتيت والتّفكيك ألزمه تحديد أماكن تواجدها وإن كانت “توجد في كلّ مكان ولا مكان بعينه”. وإذ، نحن نسأل، ماذا تعني السّلطة؟ فإنّ هذا السّؤال سيورّطنا في علاقات وتمفصلات لا يمكن أن تبقى خارج جاهزيّة السّلطة، كالجنسانيّة والحقيقة والجنون والعقاب الّتي تنمو فيها وتربو، فلم تعد السّلطة في “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكيّ” تقتصر على العنف والتّعذيب، وقد تمّ تدجينها بما يعرف بـ “الإصلاح”، ووجب تسييس الجسد وضبطه اِقتصاديّا باعتباره منتجا، لذلك كان امتيازها في كونها تحدث بطرق خفيّة في كلّ لحظة وفي كلّ نقطة وتوجد في كلّ علاقة وتنتقل من نقطة إلى أخرى، موجودة في كلّ مكان وتأتي من أيّ مكان.
كلمات مفاتيح: السّلطة، الجسد، الجنون، الحجز، الإصلاح، العقاب.
Abstract:
This article is an attempt to approach the thought of the philosopher, Michel Foucault, especially his concept of power. That is because he challenges the idea that power is wielded by people by claiming his idea of “power everywhere”. He uses this term to signify that power is reflected in various forms of knowledge, thoughts, and perceptions. It is reality, it is what makes us what we are, operating on a quite different level from other theory. It is not related only to a specific institution or part of a state. Instead, it is a kind of met power to knowing it and know both its compositions and parts. This idea was clearly revealed in his most work “Discipline and Punish: the birth of the prison”.
For Foucault, power is associated with sexuality, truth, madness, punish. So, a discussion will be devoted to madness and its relation to power to which Foucault devoted “history of insanity in the Classical Age”. In short, Foucault presents the idea that power is everywhere. It exists in different places and aspects in our life. Power can be in our relations, might happen in multiple points. It does not exist in a certain point or location. Therefore, Foucault goes beyond the state and society duality of power to look for its details because it is misleading and leads to ambiguity.
Keywords: power, body, irrational, panopticism, reform, punish.
1- تقديم:
«إنّ النّقطة الأقوى بالنّسبة للحياة هي تلك الّتي تتركز فيها طاقتها، هي تلك الّتي تصطدم فيها بالسّلطة. تتصارع معهما، ساعية إلى استعمال قواها أو الإفلات من شركها»[1].
يسعى ميشال فوكو في مقارنته لمختلف المواضيع الّتي يشتغل عليها، والّتي تتعلّق في الغالب بالتّحوّلات الّتي نتج عنها العصر الحديث، إلى تحويل السّؤال عن الحقبة من سؤال عن السّبب الّذي يتجلّى في التّساؤل عن لماذا؟ إلى سؤال آخر يتعلّق بالكيفيّة الّتي حدث بها هذا التّحوّل؟ مسترشدا في ذلك بمنهجيّة نيتشه في الجينيالوجيا. ولا يمكن أن نفهم التّحوّلات الّتي تمخّض عنها ميلاد الحداثة ما لم نكن على اضطلاع قريب من المصادر الّتي تتحدّث عن كيفيّة ميلاد الحداثة، لهذا السّبب تولّى فوكو مهمّة تتبّع الكيفيّة الّتي نشأت بها الحداثة، ولعلّ هذا هو السّبب الّذي جعل عددا من مؤلّفاته تكتب بغاية التّأريخ لكيفيّة هذا الانتقال.
في هذا السّياق لا يسعى فوكو إلى أن يجيب عن السّبب الّذي يدفعه للاهتمام بالسّياسة مثلا، أو الحقيقة أو الجنون… إنّما يسعى لأن يبرز أنّ ما يميّز طريقة اشتغاله إنّما هي الكيفيّة الّتي يهتمّ بها بهذه المواضيع، ويجيب فوكو –مثلا- عن السّؤال الّذي دفعه للاهتمام بالسّياسة إلى إبراز أنّ الكيفيّة تتعلّق في العمق بتخيّل نموذج اجتماعيّ مثاليّ موظّف في مجتمعنا العلميّ والتّقنيّ، حيث ترتبط السّياسة بخطاب معيّن يتخلّل المجتمع الحديث والمعاصر بطريقة غير مباشرة. وعلى غرار هذا القياس يسعى فوكو إلى أن يبرز أنّ ما يدعى في العادة بالحداثة، إنّما هو نتاج لتداخل العديد من الأصوات والخطابات اجتمعت فيما بينها فأنتجت خطابا قد يبدو لنا في أوّل وهلة أنّه خطاب واحد؛ بينما هو في العمق خطاب متعدّد تتداخل فيه مستويات عدّة يرصد الكيفيّة الّتي تسكن بها السّلطة خطاب الحداثة.
لا يُذكر فوكو إلاّ وتذكر معه عبارة السّلطة، ومهما حاول الانفلات منها يجد نفسه مشتبكا بها، ولو أنّ اشتباكه في الحقيقة لم يكن في السّلطة في حدّ ذاتها إنّما الذّات الّتي عبّر عنها في آخر أعماله بالقول: “ها نحن أولاء نظلّ دوما وباستمرار عاجزين مرّة أخرى عن تجاوز الخطّ، عن المرور إلى الجانب الآخر… ونختار دوما جانب السّلطة. وجانب ما تقول به أو ترغم على قوله…”[2].
يلاحظ دولوز أنّ تورّط فوكو في السّلطة ليس بالأمر الهيّن ولا يمكن الحياد عنه، إنّه تورّط مقدّر ومقرّر سلفا، يستقيم أمره في أكثر الحالات الّتي نظنّ فيها أنفسنا خاليين من أثرها – كقدر أنطولوجيّ بالعبارة الهايدغريّة-، نحن عالقون في السّلطة دوما وباستمرار في جزئيّاتها البسيطة الخفيّة بصورة أقلّ مجازفة وأقلّ سُمكا، تجرّد خواطرنا من أيّ احتمال مشكوك “فإذا كان فوكو قد خلص في نهاية الكتاب إلى طريق مسدود، فليس مردّ ذلك طريقته في التّفكير في السّلطة بل كونه اكتشف المأزق الّذي تضعنا فيه السّلطة ذاتها. في حياتنا كما في تفكيرنا، نحن الّذين نصطدم بها في أتفه حقائقنا”[3].
تطرّق فوكو في كتابه “إرادة المعرفة” إلى دراسة طبيعة العلاقة بين المعرفة والسّلطة مع الحرص على بيان الآليّات الّتي تتحكّم في الجسد الاجتماعيّ والعمل المضني والشّاق للسّلطة اتّجه به إلى تصنيف الأفراد وتوزيع المهام، لذلك فإنّ الفرد في ارتباط دائم ومحكم بسلسلة لا متناهية مع السّلط الّتي تحيط به من كلّ جانب، لكن قد نتساءل: هل سقط فوكو في العدميّة بإطلاقيّته للسّلطة؟ خاصة إذا ما استحضرنا نقد جان بودريار Jean Baudrillard الّذي يتلخّص في أنّ فوكو قد ساوى بين السّلطة والمجتمع، ما قد يجعله ينسلخ عن أيّ إمكانيّة للتّغيير خاصّة عندما أعدم كلّ شيء معتقدا أنّ كلّ شيء سلطة، جاعلا من خطاب فوكو ذاته خطاب سلطة ومرآتها الّتي يكتبها أو يحلّلها[4].
ومن نافلة القول أن نشير إلى أنّ هذا التّعاطي مع موضوع السّلطة قد يؤدّي إلى اختزالها عند فوكو وهو المهووس بتقديم “نظريّة للسّلطة” بعبارات القمع والحقيقة أنّه يحاول مجرّد تحليلها وذلك: «إذا حاولنا أن نبتكر نظريّة للسّلطة، فعلينا دوما أن نصفها كشيء ينبثق في مكان وزمان محدّدين، وأن نستنتج من هنا تكوّنها ونعيد بناءه. لكن، إذا كانت السّلطة في الواقع مجموعة علاقات منفتحة، منسّقة تقريبا (وفي الحالة هذه، ستكون غير منسّقة دون شكّ)، فإنّ المشكلة الوحيدة تكمن حينئذ في التّزوّد بشبكة تحليل تجعل تحليليّة علاقات السّلطة ممكنة»[5]، فالسّلطة ليست شيئا يُكتسب أو يحتفظ به أو ينتزع بالتآمر؛ السّلطة هي الطّريقة الّتي تعمل بها التّكنولوجيّات السّياسيّة من خلال الجسم الاجتماعيّ[6]، وليست ثابتة أو متساوية بل هي متحرّكة تنتشر عبر تكنولوجيّات في “تاريخ الجنسانيّة” وتشمل السّلط السّياسيّة والاجتماعيّة إذ تعمل على الظّفر بخدمات الآخرين ونيل طاعتهم وتلك هي غاية تأمينها. وبعيدا عن النّظر للسّلطة كعنف من حيث احتكارها وشرعنتها كما عند ماكس فيبر الّذي يحدّدها في ثلاثة نماذج (النّموذج التّقليديّ، النّموذج الكارزميّ، النّموذج القانونيّ)، وبعيدا كذلك عن التّنظير الماركسيّ بحصره لها في أجهزة الدّولة والعنف وعن الأطروحة اللّيبيراليّة الّتي تلخّصها في المؤسّسات والقوانين والدّستور بينما السّلطة الّتي تعنينا هي الّتي تنزّل الواقع أي الحفر في جذور البنى الاجتماعيّة من أجل معرفة علاقتها وآليّاتها وتكتيكاتها والّتي تتراوح غالبا بين (السّلبيّة) و(الإيجابيّة)، لأنّها لا تكون سلبيّة بإطلاق ولا إيجابيّة بإطلاق وهي تمارس (القمع) وتزيد في (الإنتاج) بالحرمان من الحرّيّة والمشروع الإصلاحيّ.
وقد تبدو هذه التكتيكات جدّ معقدّة، لكنّ السّلطة واعية بأنّه لا أرباح دون خسائر وتحاول أن تغلّب الأرباح عن الخسائر، وهو ما يفسّر سبب لجوئها إلى خوض المعارك الّتي لا تستطيع أن تعرف الرّاحة بسببها: جرّاء غموض أجهزتها والإمكانيّة الدّائمة لانعكاسها[7]، فهي لكي تُؤمّن انصياع أفراد المجتمع لهذا النّظام أو ذاك لا تقتصر على جانب الإكراه والقسر بل تضفي صبغة قدسيّة عليها وتستثمر طقوسا وأعرافا تزيد من شعورها بالسّموّ والرّيادة، وقد شغلت هذه الرّابطة بين السّلطة والقداسة السّياسة والمجتمع منذ عصور وهو ما نراه مع ميرسيا إلياد ودوركهايم وماكس فيبر الّذين يبرّرون رجوع الإسكندر المقدونيّ أو الإسكندر الأكبر الّذي جعل من انتصاراته على الفرس شعارا لنيل قداسة الآخرين.
وبهذه الهيمنة الّتي تفرضها السّلطة في المجتمع ترتسم تمفصلاتها المعقّدة، فهي مرفوضة في الوقت الّذي تُقبل فيه، يقول فوكو: « إنّ الدّهاء الأقصى للسّلطة هو في اعتراضها على ذاتها طقسيّا لكي تتوطّد فعلا بصورة أفضل، هذا ما يؤكّد خطورة آليّاتها حتّى في حالة نفيها لذاتها أو نفي النّاس لها. فمن يصرخ لا، لسلطة الدّولة، هو ذاته من يهمس: نعم لحزبه»[8].
ويجب أن نلفت النّظر إلى مسألة لها أهميّتها وهي أنّ فوكو لا يتناول السّلطة عبر ثنائيّة الدّولة والمجتمع، والحقّ أنّه اختار مجاوزة “ما يبدو” إلى النّظر في “ما وراء” الدّولة والمجتمع لذلك نتساءل مع فوكو: أين نجد هذه التّفاصيل للسّلطة في المجتمع؟ وما موقع الجسد من هذه السّلطة؟
لا يتناول صاحب القاعات السّبع السّلطة من جهة القانون ولا من جهة السّيادة الشّرعيّة أو المفاهيم المكوّنة لجهازها، إنّه لا يحتاج إلى مثل هذه الدّلالات لكن بالنّظر إليها في بعدها المادّيّ العمليّ فهي عنده تعني وقبل كلّ شيء علاقات القوى المتعدّدة الّتي تكون محايثة للمجال الّذي تعمل فيه تلك القوى مكوّنة لتنظيم تلك العلاقات[9]، بل هي “الاستراتيجيّات الّتي تعمل تلك القوى فعلها، والّتي يتجسّد مرماها العامّ ويتبلور في مؤسّسات _ أجهزة الدّولة وصياغة القانون وأشكال الهيمنة الاجتماعيّة”[10]. غير أنّ هذا الانزياح الفوكونيّ يضعنا بين قطبين: إمّا مدح الدّولة وهجاؤها من ناحية، أو الوقوف على أشكال الضّبط والمراقبة والإخضاع من ناحية ثانية، أيّهما أكثر ماديّة، اللّجوء الاختزاليّ إلى مفهوم الطّبقة المهيمنة أم البحث الكادح الّذي يذكرنا أنّ حقائقنا ودلالاتنا ومراجعنا كلّها “جاثمة على أجساد الموقوفين والمحبوسين والمهلكين” والّذي “يخبرنا عن عدد الموتى الّذين بهم تصبح حقيقة ما، حقيقة عظيمة”[11].
وإن كان فوكو يصرّ على دراسة آليّات السّلطة في المجتمع، فإنّ ذلك ليس إلاّ من أجل الحقيقة، فكلّ أشكال التّصنيف للأسوياء والشّاذّين والمنحرفين ما هي إلّا تفرقة أوّليّة تُمكّن من الحكم على سلوكات الأفراد، ومن ثمّة فإنّ السّلطة هي الّتي تبرّر عمليّة “تطويق” ومصاحبته وحبسه أو تحديد إقامته سواء كان ذلك في الملجأ (المجنون) أم في المستشفى (المريض) أم في السّجن (الشّاذّ بما هو كائن اجتماعيّ)[12].
ويحدّد جسد الإنسان انزياحات هذه السّلطة الّتي لم تعد تقوم على أساليب العنف والتّعذيب، فقد تمّ تدجينه من مرحلة الجسد المعذّب والمريض والمجنون والمسجون إلى الجسد المنزاح إلى المعزل، إلى وحدة المصحّ العقليّ وابيضاض العيادة، وأخيرا إلى رماديّة السّجن. تلك هي المؤسّسات الأخرى المضادّة، فأحيانا حتّى يمكن الاستدلال على كلام الكيان العقلانيّ القائم يمكن استنطاق مضادّاته[13]، لذلك فإنّ امتيازها هو أنّها تحدث بطرق خفيّة في كلّ لحظة وفي كلّ نقطة توجد في كلّ علاقة وتنتقل من نقطة إلى أخرى وليس لها مكان ثابت إنّما موجودة في كلّ مكان وتأتي من كلّ مكان.
حاول فوكو في كتابه “إرادة المعرفة” بيان التّشابك والتّعالق بين المعرفة والسّلطة كعلاقة المعرفة بالسّلطة الاعترافيّة في القرون الوسطى، واتّخذ مسافة من الآراء الّتي تقول بوجود انفصال بينها، و«إنّ الفلاسفة والمثقّفين بشكل عامّ يبرّرون هويّتهم وخصوصيّتهم وحتّى نخبويتّهم عن طريق إقامة حاجز منيع يفصل بين عالم المعرفة الّذي يعتقد بأنّه عالم الحقيقة والحريّة. وبين عالم السّلطة وممارسة السّلطة. الشّيء الّذي أدهشني لدى دراستي للعلوم الإنسانيّة هو أنّه لا يمكن أن نفصل إطلاقا بين نشأة هذه المعارف وبين ممارسة السّلطة»[14]. ويسترسل فوكو في هذه العلاقة موضّحا أنّ الاستراتيجيّات المطبّقة على الجسد والتّحكّم فيه تتمّ انطلاقا من تقنيات الجسد السّياسيّة وأنّ “السّلطة سوف تقود إلى الحقيقة، حقيقة وجودي كفرد داخل المجتمع وداخل نظام الدّولة، وداخل ثقافتي أنا، الحقيقة تنتج مفاعيل السّلطة، فليس هناك سلطة من دون اقتصاد أي تنظيم سياسيّ للحقيقة أو للحقيقيّ”[15].
ومن ثمّ كيف يتحوّل دور السّلطة القائم على الإكراه والقسر إلى إعمال إستراتيجيّة تنظيميّة تكبح بها أشكال العنف والتّعذيب؟
2- من الجسد المعذّب إلى الجسد المراقب:
بشكل أو بآخر تجد الذّات نفسها متورّطة في هذه العلاقة وفي هذه الإستراتيجيّة للسّلطة، إنّها متابعة متأنّية لاختراقها للذّات البشريّة، فدراسة فوكو لجسم السّلطة قاده إلى دراسة الأجسام الخاضعة لهذا الجسم الغامض، ويرى أنّ عمل جسم ما لا يكون إلاّ بتأثيره على جسم آخر وجسم السّلطة ليس بغريب ولا ببعيد عن الأجسام الأخرى، هذه الّتي تحدّد مجال اشتغاله وتطوّره لذلك يأخذ فوكو بالجينيالوجيا ليبيّن وجهة نظر الجسم: الجسم المعذّب، المنصهر، المشوّه، المفكّك، المجبر، المضطرّ… الّذي يحتكم بجسم السّلطة ليعيد إنتاجه وتنظيمه وتفصيله ثمّ تجميعه من أجل إنتاج النّفوس وإنتاج الأفكار والمعرفة والأخلاق أي إنتاج السّلطة الّتي تتواصل بأشكال أخرى[16]، كلّه من أجل الإنتاج. الإنتاج دائما، ذاك هو الشّيء الوحيد الّذي تأمر السّلطة به[17]. لكن هل تتلخّص السّلطة في هذا الجانب ذو البعد الواحد من الإنتاج؟
بعكس التّحليل الماركسيّ الّذي يحدّد علاقات السّلطة من خلال العلاقات الإنتاجيّة، يرى فوكو أنّه إذا لم يوجد تقارب بين السّلطة والإنتاج فذلك راجع إلى أنّ السّلطة تعمل بنفس عمل علاقة الإنتاج الرّأسماليّ، لا لأنّها في خدمة الرّأسمال وبعكس تقسيم ماركس للبناء الفوقيّ والتّحتيّ، فأن يكون الحاكم شقيقا لربّ العمل ليس ذلك لأنّهما يقدّمان لبعض خدمات متبادلة وإنّما لأنّهما وبشكل أعمق، وكيلان لنفس الطّريقة السّلطويّة، فالسّلطة في الرّقابة المتسلسلة للأنظمة لا يحتفظ بها كشيء ولا تُنقل كملكيّة، إنّها تعمل كآليّة. وإذا كان صحيحا أن تنظيمها الهرميّ يعطيها “رئيسا”، فإنّ الجهاز بأسره هو الّذي يُنتج “السّلطة” ويوزّع الأفراد في هذا الحقل الدّائم والمستمر[18]، وعليه؛ فبدل النّظر للسّلطة بعبارات الرّبح أو كملكيّة أو كجهاز دولة ننظر إلى تكتيكاتها الجزئيّة في إنتاج الأجسام*. وعوض البحث عمّا تنازلت عليه الذّوات لصالح السّلطة نبحث عن الكيفيّة الّتي تمّ بها هذا الإخضاع. وهي بلا شكّ لم تستند إلى العنف والإكراه لأنّه لو كانت السّلطة تشكّل قوّة حقيقيّة لما حافظت على سلطتها وقوّتها، ولما استطعنا كذلك كشف عملها في أجسام الأفراد والسّكان (السّلطة الانضباطيّة والسّلطة الحيويّة)، كما لا ينبغي النّظر إليها باعتبارها آتية من الأعلى فقد تأتي من الأسفل، وهذا يعني أن ليس هناك في الأصل علاقات السّلطة وكطابع عامّ، تعارض ثنائيّ شامل بين المسيطرين ومن يقعون تحت السّيطرة بحيث ينعكس صدى هذا التّعارض من أعلى إلى أسفل… ينبغي أن نفترض؟ أنّ علاقات القوّة المتعدّدة الّتي تتكوّن وتعمل في أجهزة الإنتاج والأسر والجماعات الضّيّقة والمؤسّسات تكون حاملا للانقسامات الّتي تسري في الجسم الاجتماعيّ بمجموعه[19].
والأمر ينطبق، كذلك، في الجنس حيث لا ينبع القمع من قوى عليا تأخذ شكل الجسد السّلطويّ وتقلب الأدوار في لحظة إلى الطّبقات الاجتماعيّة المهيمنة، ألم تحمل الارستقراطيّة والبرجوازيّة* عناء قمع الجنس خارج الزّواج حفاظا على الجسم البشريّ وتنظيم النّسل بل أكثر من هذا حفاظا على الإنتاج.
في هذه العلاقة بين السّلطة والجسد، ورغم أنّ الجينيالوجيا لا تحدّد أولويّة أحدهما عن الآخر، ولكن استطاع بها فوكو أن يعرف واقعيا كيف يندمج العقاب أو السّلطة العقابيّة ضمن مجموعة من المؤسّسات المحلّيّة والجهويّة الماديّة سواء فيما يتعلّق بالتّعذيب أو بالسّجن، وهذا في الميدان القانونيّ والفيزيائيّ المنظّم والعنيف للمؤسّسات الواقعيّة العقابيّة[20]. وفي هذه الهشاشة لجسد الإنسان لم يكتفِ فوكو بعرض متتالٍ لأفكاره، ولكنّه اختار فتح كتاب “المراقبة والمعاقبة” بلوحات تعذيب في شخصيّة “داميان” Damiens.
وإذا كان فوكو يرفض تقديم نظريّة عامّة للسّلطة فإنّه في المقابل قدّم شروحات –تبدو أحيانا بالغة الغموض- في تحليله للسّلطة من خلال التّكنولوجيا التّأديبيّة الّتي تقيم علاقات مع الأماكن المؤسّسية المختلفة ويعبّر عن ذلك بوجود “مُشتمل” Panoptique ويقصد به «نموذج عمل قابل للتّعميم؛ وطريقة لتحديد علاقات السّلطة بحياة النّاس اليوميّة […]. إنّه رسم تخطيطيّ لميكانيّة سلطويّة مردودة إلى شكلها المثاليّ […]، إنّه بالفعل صورة تكنولوجيا سياسيّة يمكننا وعلينا أن نفصلها عن كلّ استعمال محدّد. فهو ذو تطبيقات متعدّدة الأوجه»[21]. يعمل المشتمل على المراقبة والتّنظيم على أن يجعل المساجين مراقبين من بعيد وفي غرف مجاورة لا يرى أحدهم الآخر وأن يحسّ المساجين بأنّهم مراقبون في غياب المراقب أي أن يجعل السّجين حارس نفسه.
من بين رهانات “المشتمل” بوصفه وسيلة لممارسة السّلطة: أوّلا؛ موضعة الأجساد في المكان، ثانيا؛ جعل الأجساد منتجة ومراقبة. المشتمل إذن هو المراقبة المستمرّة لساكنيه[22]، مراقبة الأجساد ومراقبة المكان. وفي هذه الانعطافة نحو المراقبة وتقليص ما أمكن من عنف جسدي معلن، من شأنه إقامة علاقة تجمع بين السّلطة والمعرفة والجسد والمكان، مع الأخذ بالاعتبار إلى أنّ فوكو عندما يتناول المؤسّسة العقابيّة فهو لا يتّخذها كنموذج عن تأريخيّة التّمفصل الوقائعيّ للسّلطة والمعرفة[23]، في حين أنّه يبيّن كيف أنّ التّقنيات الانضباطيّة للسّلطة مدروسة في مستواها الدّقيق والأوّليّ، مدروسة على مستوى جسد الأفراد ذاته[24]. ويلحظ أنّ آثار السّلطة المطبّقة على الأجساد ستصل إلى انضباط المعارف، أي أنّ الجسد الفرديّ الانضباطيّ يعبّر عن دخول الجسد الاجتماعيّ ككلّ في شبكة انضباطيّة معقلنة.
يمكن لتتبّع السّلطة في جسم الفرد من أن يقود إلى معرفة التّطوّرات السّلطويّة لتطويقه ومحاصرته، ويمكن لتتبّع تاريخ الجسد أن يضع بين أيدينا علما ماديّا في أركيولوجيا المنشأة المتلازمة والمزدوجة للمعرفة والسّلطة عبر شبكيّات تمفصلاتها المتتابعة المعقّدة[25]. فالفرد مهمّ بالنّسبة إلى الدّولة وذلك بجعله ذاتا منتجة ومنخرطة في العمل الاقتصاديّ، والسّلطة تعمل وفق مصالح الدّولة “فتصبح السّياسة سياسة حيويّة”، حيث إنّ حياة الأفراد والسّكان خيارات سياسيّة”[26]. وتضاعف مجهود السّلطة للسّيطرة على الجسد خلال القرن السّابع عشر لزيادة النّفع الاقتصاديّ وأصبحت السّلطة التّأديبيّة بمثابة فنّ لصناعة الأجساد، الّتي تظهر في “التّشريع السّياسيّ للجسد الإنسانيّ”[27].
هكذا إذن، ستُلجم حرّيّة الأفراد بسلاح الدّولة وستصبح مغلوبة على أمرها أمام التّقنيات السّياسيّة، وهذا ما يجعلنا نستنتج أنّ الحرّيّة الّتي خُيّل للإنسان أنّه يسعى إليها فهي مجرّد وهم، كما أنّ عمليّة “الأسر” لم تعد تقتصر على الاعتقال وراء القضبان بل تتعدّى ذلك إلى استحداث السّجن الكبير الّذي استبدل اعتقال الجسد بإلقاء القبض على الرّوح[28]. وهي الأطروحة الّتي كانت هدفا مباشرا لنقد ماركس، إذ كيف نتحدّث عن الحرّيّة في القرنين الثّامن عشر والتّاسع عشر ولازالت البروليتارية مقيّدة بالرّأسماليّة ووسائل الإنتاج، هذه الحرّيّة ما هي إلاّ أزعومة من أزعومات البرجوازيّة تقوّت مع اللّيبيراليّة.
تظهر الطّرق الموصلة للتّحكّم في الجسد بفرض “الرّقابة الدّائمة لنشاطاته وسير عمله من خلال ضبط كلّ فعل من أفعاله”[29]. بهذا نجدها تلجأ في بعض الأحايين إلى الاستعباد والقمع والمراقبة… لتكوين جسم طيّع ذو هويّة محدّدة، «إنّ هذا الإنسان الّذي أرادت العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة الغربيّة كعلم النّفس والاقتصاد والسّكّان والأحياء وعلم الإجرام أن تتّخذ منه موضوعا ليس إلاّ النّتيجة اللّازمة لهذه الممارسات القمعيّة الّتي تناولت جسمه ونفسه بالتّشكيل والتّطويع داخل السّجن والمستشفى والمصحّة والمدرسة والمعمل»[30].
لماذا نقول إذن، إنّ الذّوات مقموعة بهذا الحماس وبمثل هذا الحقّ ضدّ ماضينا الأقرب وضدّ حاضرنا وضدّ ذواتنا؟ كيف حدثت النّقلة العقابيّة إلى المراقبة والّتي دائما ما يكون الجسد موضوعها المنشود؟
حدّدت السّلطة موقع الذّات والذّاتيّة، إنّه واقع مختلف بواسطة تلك التّكنولوجيّات السّلطويّة الخاصّة الّتي تسمّى “التّأديب”، ووجود الجسد مهمّ وضروريّ لوجود الدّولة ووجوده لا يتعيّن في ذاته بل لذاته لتصبح السّياسة “سياسة حيويّة” حيث إنّ حياة الأفراد والسّكّان ما هي إلاّ خيارات سياسيّة، فقد تمّ إخضاع الأجساد وحذف فرديّتها وخصوصيّتها لتكون آلة تعمل في صمت. تعمل السّلطة _كفيروس منتشر يلاحق الفرد في جلّ تحرّكاته، بل كعنكبوت تنسج خيوطها في كلّ مكان_ على الاستبعاد والقمع والكبت والرّقابة والجرد لإنتاج الواقع الحقيقيّ، فنحن نخضع للسّلطة ونقبلها لأنّها تعطينا الإحساس بوجودنا وتمنحنا شارة التّواجد من الولادة إلى الموت.
إنّ الأجساد مستقطبة، وأمام هذا الاستقطاب لم يعد يمكن الوصول إلى الحرية لذلك حاول فوكو فكّ هذا الاستقطاب من خلال نقده للعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة.
3- الحجز الكبير:
ظهرت معالم تشكّل الحجز منذ العصور الوسطى حيث كان مخصّصا لداء البرص قبل أن يتحوّل إلى ركن جامع لكلّ الفئات الّتي أُخفيت واستبعدت من المجتمع. وليس بالضّرورة أن يكون السّجين في عالم مغلق بل قد يكون سجينا في الأماكن الأكثر إطلاقيّة وأكثر انفتاحا؛ سجينا عبر أكثر الطّرق حرّيّة وأفضلها نفاذا[31]. هي إذن، رهبة جدّ شاقّة تلك الّتي تتكالب على الجسد المعذب، وحتّى وإنّ تمّ إدخاله لعالم الحجز سوى أنّ لعبة الترّاجيديا والخوف لم تنتهي بعد، فلأوّل مرّة سيصبح السّجين شخصيّة اجتماعيّة ولأوّل مرّة سيفتح معه حوار، لكنّه حوار مغلق وغير مسموع. ويُعبّر فوكو عن ذلك بقوله: «والحاصل أنّنا نادرا ما نعثر على سجن ليس فيه مجانين ساخطون، لقد كان هؤلاء البؤساء مكبّلين داخل زنزانات ضيّقة جنبا إلى جنب مع المجرمين. يا له من ربط فظيع، فالمستلبون الهادئون كانوا يتلقّون معاملة أسوأ من تلك الّتي يتلقّاها المجرمون»[32]. صار الحجز مصدرا للرّبح ومكّن المجانين وغيرهم من أن يصيروا ذواتا فاعلة بمجهود مضاعف وبثمن بخس، إنّه أخطر مكان ينتشر فيه الدّاء ويسود إذ أصبح مصدر رعب وخوف وقلق لا منتهٍ كقلق “صاد Sade” من “رجال السّود” الّذين كانوا يترصّدون لقتله. وهذه ليست حال “صاد” لوحده، بل حال آخرين كُثر ممّن يشاركونه نفس المبنى ولم يعد الخوف داخليّا (في أرجاء الحجز)، لكنّه تجاوزه إلى كلّ أرجاء المدن، «إنّه قرحة رهيبة على جسد السّياسة، قرحة واسعة وعميقة ومقيحة كلّما تخيّلناها أشحنا بأنظارنا. فكلّ شيء فيه فاسد، حتّى الهواء الّذي نستنشقه على بعد 400 قامة. إنّ كلّ شيء يذكّركم أنّكم تقتربون من سجن أو مارستان سّيء ورديء»[33].
الجنون الّذي منحه عصر النّهضة هو الظّهور وحرّيّة التّعبير إلى جانب الشّذوذ الجنسيّ، سيلوذ في العصر الكلاسيكيّ بالصّمت وتمّ إخراسه كما يُخرس الطّفل من حديثه عن الجنس. هناك مكان معلوم للمجانين وهو الحجز كما هناك مكان خاصّ للجنس هو غرفة الوالدين[34]، فإلى غاية القرن الثّامن عشر كانت البرجوازيّة تسيطر على مشهد الحجز إلى أن برز التحوّل سنة 1784 بإعلان دعوة الخلاص من متطلّبات البرجوازيّة، «فأن يقوم شخص راشد بزواج معيب أو يبذّر أمواله أو ينحرف سلوكه ويعيش وسط الأنذال فإنّ هذه الأمور لا تبيح لنا حرمانه من حرّيّته فهو يتمتّع بكامل حقوقه»[35]. وبجانب البرص الّذي وُضع لأجله الحجز، أقيم المستشفى أوّل مرّة لمعالجة الجذام، إذ فتحت انجلترا مستشفياتها ولم يشهد نزلاؤه إلاّ حالات قليلة جدّا خاصّة في حكم إليزابيث. وهكذا بقي الجذام متصدّرا المسرح إلى أن اختفى غريبا مخلّفا وراءه أماكن وضيعة وطقوسا لم تكن الغاية منها القضاء على الدّاء، بل الإبقاء عليه في مكان معزول وتثبيته في طقوس للإثارة العكسيّة[36].
لم يكن الحجز يوفّر غرفا كافية ولا تنظيما جيّدا والسّرير الواحد يمكن أن ينام فيه ثلاثة إلى أربعة أفراد، فكيف يمكن الحصول على هواء نقيّ في أسرّة ينام فيها من 3 إلى 4 مجانين يتدافعون ويتحرّكون ويتصارعون[37]. غدا الحجز بذلك وكما حدّده فوكو ذا وجه أو صورة علاجيّة استشفائيّة وإن كان ما يمنحه من علاج مجرّد تفاهة تمنح المستشفى صيتا، وبغضّ النّظر عن تفاهة العلاج إلاّ أنّ من المجانين من عاد إلى صوابه ورغم وجود الطّبيب داخل الحجز فإنّ ذلك لا علاقة له بوجود مرض. إنّ العلاج الطّبّيّ لا يكون في الممارسة الحجزيّة إلاّ من أجل اِتّقاء بعض الآثار، ووجوده لا يشكّل معنى الحجز ولا الغاية منه[38]، إنّما وجوده خاضع لمنطق يخدم جانب السّلطة الّتي وحدها لها الكلمة الأولى والأخيرة.
3- 1- العزل الأوّل: الإقصاء والاستلاب:
للإقصاء والاستلاب كتب فوكو “تاريخ الجنون” بما هو كتاب غنيّ بالوقائع التّاريخيّة الّتي حلّت بالجنون في الثّقافة الغربيّة منذ القرن الخامس عشر إلى العصر الكلاسيكيّ، مُبيّنا الرّحلة الطّويلة في عوالم النّبذ والتّهميش والإقصاء واللّانسجام واللّانظام واللّاكينونة الّتي استهدفت حياة المجانين بدءا من ترحالهم عبر السّفن والبراري في الأنهر المديدة والسّبل الأكثر حرّيّة إلى حدود عالم الحجز.
تميّز “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكيّ” بلغة شاعريّة أقرب إلى لغة نيتشه[39]، وبأسلوب غاية في الدّقّة والأداء زاوج فيه بين مجالات عدّة ولا يُقرأ كتاب فوكو كما تُقرأ مؤلّفات القرن 19 والقرن 20 المبنيّ بدقّة وإحكام، تحرّكه نفحة خطابيّة تجعل القارئ ينطلق من البداية وإن كان عاجزا عن المشي حابيا إلى النّهاية. حاول فيه فوكو الكشف عن الأساليب والبروتوكولات السّلطويّة لطقوس الإقصاء، فظهور الطّبّ في الحجز ليس بغرض الشّفاء لكن لإقصاء العناصر الشّاذّة والجذام عن الجنون أي إقصاء عالم اللّاعقل عن عالم الجنون وإقصاء المجنون أمام سلطة الطّبيب الّذي يقرّر مصيره بين الحرّيّة والسّجن.
إنّ كلّ التّمثّلات حول عناصر الشّذوذ والجنون والانحراف والمصابين بأمراض تناسليّة… ستتمركز في النّهاية في عالم الحجز حيث الإقصاء الكبير؛ الإقصاء من الحياة الاجتماعيّة ومن التّجوال في أرجاء المدينة أين سيتمّ إرساله إلى عالم جديد لا يرى نورا ولا حرّيّة وكلّ ما فيه أجساد مختلطة تحيل إلى الفناء بعدما تعايشت مع الجذام في جميع مراحله، إنّه كقدر سيزيفيّ دائم التّجدّد[40]. إذا اهتمّ تاريخ الفكر بالفكر والعقل والصّواب وما يتضمّنه من قيم الحرّيّة والمواطنة والدّيمقراطيّة بوصفها مطلبا إنسانيّا، فإنّ فوكو يُنظّر لغياب الشّرط الإنسانيّ* أمام فئات سلطويّة كالحرّاس والجلّادين وقد كتب “تاريخ الجنون” لغرض انتزاع سيرورة الإقصاء من النّسيان الّذي لفّها لقرون عديدة وعمِل على كشف مختلف التّصوّرات الّتي تجذّرت في الأوساط الاجتماعيّة والدّوائر العلميّة إزاء ظاهرة اعتبرت غريبة وشاذّة فهو كتاب مشحون بالفحص العميق الّذي يمسّ مجالات متعدّدة وقطاعات مختلفة مثل الأدب والفنّ والفلسفة والتّاريخ وعلم النّفس، ومواضيعه تتناول مفاهيم متفرّقة؛ كمفهوم الإقصاء الّذي يدخل كعتبة بين العقل واللّاعقل، وقد نال ذروته خاصّة في عصر النّهضة بمنع المجانين من الدّخول للكنائس للتّعبّد وطردهم من المدينة بالرّمق بالحجارة والعصيّ و أيضا جلد بعضهم أمام الملأ[41]. وقد تجلّى هذا الإقصاء فيما يسمّى بالطّقوس لذلك كانوا يرحّلون في سفينة الحمقى عبر البحار المديدة إلى بلدان أخرى غير بلدهم الأصل. وإن أُقصي الجنون والجذام والمريض بالأمراض التناسليّة إلاّ أنّ صورتهم لم تُستبعد وظلّت حاضرة، ففي القرون الوسطى كان الجذام والجنون تعبيرا عن وجه الله بغضبه وبرحمته، وإذا أُقصي من الكنيسة والمجتمع فإنّه تحت عناية إلهيّة «ومع أنّك تقصى الآن من الكنيسة وتستبعد من جوار القدّيسين، فإنّك مازلت تحت رعاية الله»، فالتّخلّي عن المريض خلاص له وإقصاؤه يمنحه شكلا آخر من الانتماء إلى الجماعة[42].
إضافة إلى الإقصاء تناول فوكو الاستلاب من خلال العلاج الأخلاقيّ في فصل “ولادة المصحّ” وذلك بخلق عقدة الذّنب، هذا ما كانت ترمي إليه تقنيّات التّهديد والإذلال والحكم والرّقابة: فمن أجل أن يتخلّى المجنون عن إظهار سلوك الهذيان نحاول أن نلحق به حالة من الألم وهو ما تحاوله التّقنيّات الحديثة لعلم النّفس بإطالة هذا الانشطار بين العقل والجنون وإرسال الأخير إلى الحدود الخارجيّة للعزل كمسافة داخليّة بين المجنون وذاته. لم يعد المجنون ذلك المنفيُّ أي ذاك الّذي ندفعه إلى هوامش مدننا، بل ذلك الّذي نحوّله إلى غريب بالنّسبة إلى ذاته من خلال خلق عقدة الذّنب عنده بكونه ما هو عليه، وما ينبغي أن يعيشه المجنون هو جنونه بكونه خطأ[43]، أي أن يصير الجنون مستلبا من تلقاء ذاته بإلحاقه جملة من الأدبيّات الأخلاقيّة الّتي تضخّ شعوره بفظاعة الذّنب وتصل إلى فعل “الاحتقار”.
اكتسى مفهوم (الاستلاب) أو (الاغتراب) l’aliénation؛ la reification، إذن، فرصة الظّهور في القرن الثّامن عشر عند هيغل وفيورباخ وماركس… . واستخدم أوّل مرّة للتّعبير عن احتجاج الإنسان على الدّين دفاعا عن الإيمان في البروتستانتيّة مع (كالفن ولوثر) ثمّ بات يُستخدم في شتّى الظّاهرات وأشدّها تباينا في السّياسة والاقتصاد والوعي … الخ. ولعلّه يظهر عند فوكو بغياب المعنى أو بانفصال أو غربة الفرد (المجنون) عن المجتمع، أو انسحاق ذات المجنون إزاء الموضوعيّة (الطّبّ) بعدما استمرّ -الاستلاب- بمعناه القديم؛ انفصال أو غربة عن الله في اللّاهوت.
ليس غرضنا هنا الشّروع في إظهار منظومات الاستلاب الفلسفيّة أو مذاهبه الاجتماعيّة المتنافرة أو كشف الكيفيّة الّتي عقبت تنوّعه المتنافر والمتكامل في آن، بيد ومن غير الدّخول في هذه الأمور، تحديد اللّفظ أوّلا، خاصّة وما يصاحبه من مماهاة مع مفهوم الاغتراب. وتطلعنا فلسفة فوكو إلى عدم وجود أيّ مماهاة فقد تجاوز الاستلاب في اصطلاحه الّذي يفيد السّلب والتّدمير إلى معنى الانتزاع والخلع والانطواء وما شاكله.. وما الاغتراب إلّا علائق تنطوي على قسر تجاه حياة المجانين حيث الموضوعيّة الّتي نكوّنها عنهم تنحو بهم لأخذ حياة مستقلّة خاصّة بهم (الواقع الّذي تجسّده سفينة الحمقى وعالم الحجز بجميع أشكاله).
3- 2- العزل الثّاني: البعد الأخلاقيّ للإصلاح:
لم ينظر العصر الكلاسيكيّ إلى الجنون بمن فقد صوابه ولم يعد يميّز بين الفضيلة والرّذيلة، لكنّ الجنون هو من لا يتماشى والنّاحية الأخلاقيّة، وقد كان “بيرغودي” أحمق ولكنّ حمقه لا يشبه حمق الأشخاص الّذين رحلوا على متن “سفينة الحمقى”، فهؤلاء كانوا كذلك لأنّ الجنون استبدّ بأرواحهم، وكان “بيرغودي” أحمق، لا لأنّه لم يعد قادرا على استعمال عقله بل لأنّه مارس الرّبا […] ولأنّه خرج بسلوكه هذا عن النّظام الأخلاقيّ. […] إنّ هذه الواقعة أساسيّة تمكّننا من فهم العصر الكلاسيكيّ وتكشف عن أنّ الجنون نظر إليه من زاوية أخلاقيّة، وعليه فإنّ الجنون ارتبط بنوعيّة الإرادة لا بكمال العقل[44]، بحيث لا يفسّر الجنون في عالم الحجز ولا يبرّر، إنّه جزء من الشّرّ وهو يدعمه ويجعله أكثر حضورا وأكثر خطورة كما يمدّه بوجوه جديدة[45].
لا نبحث في “تاريخ الجنون” عن الأخلاقيّ أو المصلح إنّما عن الجانب السّياسيّ في هذا الإصلاح ولا نودّ أن نقابل الأخلاقيّ بما هو معطى طبّيّ أو واقعة أدبيّة ولا نودّ مقابلته كذلك بمونتيسكيو الّذي قابل الانتحار الرّومانيّ بالانتحار الانجليزيّ* فدخول الأخلاقيّ إلى الحجز تعبير عن تواطؤ مع الطّبّ لمقاومة الأخطار الّتي عجز الحجز عن ترويضها[46].
بما أنّ الحجز اختراع العصر الكلاسيكيّ؛ فقد كان يمارس سياسة العقاب وهو ليس مخصّصا للمجانين فقط أو الشّاذّين أو المنحرفين بل يضمّ أولئك الّذين تجرّؤوا على القيم الّتي لا تتناسب مع المجتمع، إنّه مزيج من هذه الكائنات الّتي تمرّدت على قيم المجتمع والّتي بات أمرها غير مرغوب لما تجلبه من متاعب وتهوّر وانحلال. وهكذا فإنّ غاية الحجز هي الإصلاح، وإذا كانت له من مهمّة فإنّها لن تكون المعالجة بل القبول بتوبة نصوح. والزّمن السّائد في الحجز والمحدّد لوجوده ليس سوى الزّمن الأخلاقيّ الّذي يقود إلى التّحوّل والحكمة، إنّه زمن العقاب الّذي يقود إلى هذه النّتائج[47] حيث نجد بعض الآباء –مثلا- يطلبون نقل أبنائهم الّذين يعانون من فساد أخلاقيّ إلى الإصلاحيّة. شهدت الإصلاحيّة نزلاء وحالات تدخل في ما هو غير أخلاقيّ كأن يكون له خلل أو الّذي عامل زوجته بفظاظة أو ذاك الّذي أراد أن يضع حدّا لحياته[48].
ورجوعا إلى العصور الوسطى نجد أنّ “برانت” خصّص 116 نشيدا من قصيدته من أجل رسم صورة لركّاب سفينة الحمقى: إنّهم بخلاء ونمّامون وسكّيرون، إنّهم أولئك الّذين يؤولون الكتاب المقدّس بشكل سيّء[49]. وقد ارتبط الجنون في هذه العصور بالخطأ والحيوانيّة، وأن تكون الطّبيعة البشريّة حيوانيّة، ذلك لأنّ الوسط بؤرة تشوّه هذه الطّبيعة وتجعلها في صراع دائم من ذاتها، -فالطّبيعة الإنسانيّة في علاقتها بذاتها، وبشكل مباشر، هي طبيعتها المضادّة، لكن تمّ التّخلّص من الفكرة المستبدّة للحيوانيّة وللإنسانيّة في نهاية القرن 18، فأن يكون الجنون من طبيعة حيوانيّة، لكان الكلاب عرضة له لوفائهم لأسيادهم، ولكان أيضا البدائيّون أكثر جنونا وهم الّذين يعيشون حياة الهمج والبدو، «إنّ نظام الفلّاحين أسمى في هذا المجال من كلّ فئات الشّعب الأخرى المكوّنة من الحرفيّين، ولكنّهم يعدّون مع الأسف أقلّ ممّا كانوا عليه سابقا، في الوقت الّذي لم يكن فيه الشّعب مكوّنا سوى من الفلّاحين، وهي الحالة الّتي مازال يعيش وفقها بعض الأقوام الهمج الّذين يجهلون تقريبا كلّ شيء عن الأمراض ولا يموتون إلاّ بالحوادث أو الشّيخوخة»[50]. إنّ السّبب في وجود الجنون يعود إلى كلّ ما دمّره الوسط في الإنسان من وجود حيوانيّ[51].
يضاف إلى هذا أنّ تعدّد الملذّات والرّغبات والأهواء هي مصدر الرّذائل والشّرور، وحتّى يكون المرء أخلاقيّا، عليه أن يكفّ عمّا يُؤلّف طبيعته البشريّة، وحتّى وإن تجازونا عصر الأنوار ونيتشه وفرويد، فلازال التّناظر بين الخير والشّرّ حاضرا* فقد احتفظ العقل البرجوازيّ بالجنون باعتباره نسيانا عرضيّا طارئا للمبادئ الأخلاقيّة والدّينيّة والّذي يجب محاكمته.
4- خاتمة:
لعلّ جهد فوكو الأركيولوجيّ ليس إلاّ محاولة لقراءة لحظات حاسمة من تاريخ الفكر الغربيّ بإظهار الخلفيّات المعرفيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة والأخلاقيّة الّتي تحكم العلاقة بين السّلطة والذّات، إذ كيف يمكن للذّات وللجسد أن يتعرّفا على ذاتهما –وهو الجسد الفريد والغامض- في خضم التّطوّرات التّاريخيّة والمعرفيّة والسّلطويّة. قد يكون بالفعل قد غطّى لعبة التّراجيدية الغربيّة، لكنّه كرّس لخوف انتهى إلى دخوله عالم الحجز واستضاف البعد الإصلاحي لهذا الكائن المتحرّك والجامد، الثائر والهادئ، المطيع والعاصي، العاقل واللّاعاقل، فحالة اللّاعقل هي الحالة الوحيدة الأنطولوجيّة الّتي تجمع المتناقضات بشيء من اللّامبالاة واللّانتظام، لكنّه لا يكون داخل اللّاوعي، فهناك منطق كسمولوجيّ للعالم وهناك منطق اللّاعقل، ولعلّ السّلطة وحدها من تفسّر هذا المنطق وتنظّمه.
ليس غرض فوكو التّساؤل عن ماهيّة السّلطة أو السّياسة أو الحقيقة ولكن عن الكيفيّة الّتي نقول بها أنّ هذا الجسد يحتاج إلى عقاب ومصحّة وإصلاح وعن كيفيّة خضوعه للسّلطة فليس “تاريخ الجنون” مفاجأة فوكو لدراسة علاقة السّلطة بالذّات وإنّما تتوزّع فلسفته كلّها في هذا الجانب وبالطّبع، حول هذه الانعطافة نحو نشاط الجسد وحيويّته من قوّة اقتصاديّة ماديّة إلى ضبط اجتماعيّ، ومن جسد فرديّ إلى جسد اجتماعيّ.
وإذا نحن استطعنا فهم هذه الغاية الّتي ترجوها السّلطة، تمكنّا بالتّالي من استيعاب تلازمها مع المعرفة ومع الحقيقة الممزوجة بالوهم والخداع والمتنقّلة من حقيقة بيد السّلطة إلى حقيقة بيد الذّات المنصهرة؛ ذات المجنون، والّتي تحدّد له أشكاله المتربّصة به من كلّ ناحية.
المصادر والمراجع:
المصادر:
- فوكو (ميشال)، إرادة المعرفة، ترجمة مطاع صفدي وجورج أبي صالح، بيروت، مركز الإنماء القوميّ، 1990.
- فوكو (ميشال)، المراقبة والمعاقبة: ولادة السّجن، ترجمة، د. علي مقلد، مراجعة وتقديم، مطاع صفدي، مركز الإنماء القوميّ، لبنان، بيروت، 1990.
- فوكو (ميشال)، يجب الدّفاع عن المجتمع، دروس كوليج دو فرانس 1976، ترجمة وتقديم وتعليق، الزّواوي بغورة، دار الطّليعة للطّباعة والنّشر، لبنان، بيروت، الطّبعة الأولى، 2003.
- فوكو (ميشال)، جنيالوجيا المعرفة، ترجمة، أحمد السطاتي وعبد السّلام بن عبد العالي، الدّار البيضاء، دار توبقال للنّشر، الطّبعة الثّانية، 2008.
- فوكو (ميشال)، تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكيّ، ترجمة وتقديم، سعيد بنكراد، الطّبعة الأولى، المركز الثّقافي العربيّ، الدّار البيضاء، المغرب، 2014.
- Foucault (Michel), Surveiller et punir, naissance de la prison, Paris, Gallimard, 1975.
- Foucault (Michel), Histoire de la sexualité, La volonté de savoir, Paris, Gallimard, 1984.
المراجع:
- دولوز (جيل)، المعرفة والسّلطة مدخل لقراءة فوكو، ترجمة، سالم يفوت، المركز الثّقافيّ العربي، لبنان، بيروت، الطّبعة الأولى، 1987.
- دريفوس (أوبير) و (رابينوف) بول، ميشال فوكو، مسيرة فلسفيّة، مراجعة وشروحات: مطاع صفدي، ترجمة: جورج أبي صالح، منشورات مركز الإنماء القوميّ، لبنان، بيروت، 1990.
- العيادي (عبد العزيز)، ميشال فوكو المعرفة والسّلطة، المؤسّسة الجامعيّة للنّشر والتّوزيع، لبنان، بيروت، الطّبعة الأولى، 1994.
- غرو (فريدريك)، ميشال فوكو، ترجمة، محمّد وطفة، المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر، بيروت، الطّبعة الأولى،
- موسى (حسين)، الفرد والمجتمع عند ميشال فوكو، دار التّنوير للطّباعة والنّشر والتّوزيع، بيروت، 2009.
- المزوغي (محمد)، في نقد ما بعد الحداثة: فوكو والجنون الغربيّ، ضمن السّلسلة الفلسفيّة، منشورات، كارم الشّريف، تونس، 2010.
- شاتليه (فرنسوا) وآخرون، معجم المؤلّفات السّياسيّة، ترجمة محمد عرب صاصيلا، الشّبكة العربيّة للأبحاث والنّشر، الدّار البيضاء، المغرب، الطّبعة الثّالثة، 2014م.
- Guigot (André), Michel Foucault, le philosophe archéologue, éd, Toulouse : Editions Milan, 2007.
[1]– دولوز (جيل)، المعرفة والسّلطة مدخل لقراءة فوكو، ت . سالم يفوت، بيروت، المركز الثّقافيّ العربيّ، ط.1، 1987، ص101.
[2]– المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[3]– المرجع نفسه، ص103.
[4]– فوكو (ميشال)، يجب الدّفاع عن المجتمع، دروس ألقيت بكوليج دو فرانس في سنة 1976، ترجمة وتقديم وتعليق، الزّواوي بغورة، دار الطّليعة للطّباعة والنّشر، لبنان، بيروت، الطّبعة الأولى، 2003، ص 24.
[5]– دريفوس (أوبير) ورابينوف (بول)، ميشال فوكو: مسيرة فلسفيّة، مراجعة وشروحات: مطاع صفدي، ترجمة، جورج أبي صالح، منشورات مركز الإنماء القوميّ، لبنان، بيروت، 1990، ص 165.
[6]– المرجع نفسه، ص166.
[7]– شاتليه (فرانسوا)، دوهاميل (أوليفيه)، بيزيه (ايفلين)، معجم، المؤلفات السياسية، ترجمة محمد عرب صاصيلا، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الدار البيضاء، المغرب،الطبعة الثالثة، 2014م، ص 721.
[8]– العيّادي (عبد العزيز)، ميشال فوكو المعرفة والسّلطة، المؤسّسة الجامعيّة للنّشر والتّوزيع، لبنان، بيروت، الطّبعة الأولى، 1994، ص49.
[9]– فوكو (ميشال)، جنيالوجيا المعرفة، ترجمة، أحمد السطاتي وعبد السّلام بن عبد العالي، الدّار البيضاء، دار توبقال للنّشر، الطّبعة الثّانية، 2008، ص78.
[10]– المصدر نفسه، الصّفحة نفسها.
[11]– العيّادي (عبد العزيز)، ميشال فوكو المعرفة والسّلطة، مرجع سابق، ص51.
[12]– حسين (موسى)، الفرد والمجتمع عند ميشال فوكو، دار التّنوير للطّباعة والنّشر والتّوزيع، بيروت، 2009، ص121.
[13]– فوكو (ميشال)، المراقبة والمعاقبة: ولادة السّجن، ترجمة، د. علي مقلد، مراجعة وتقديم، مطاع صفدي، مركز الإنماء القوميّ، لبنان، بيروت، 1990، ص34.
[14]– فوكو (ميشال)، إرادة المعرفة، ترجمة مطاع صفدي وجورج أبي صالح، بيروت، مركز الإنماء القوميّ، 1990، ص208.
[15]– فوكو (ميشال)، يجب الدّفاع عن المجتمع، دروس ألقيت بكوليج دو فرانس في سنة 1976، مصدر سابق، ص51.
[16]– شاتليه (فرانسوا) وآخرون، معجم، المؤلّفات السّياسيّة، ذكر اسم المرجع، ص711.
[17]– المرجع نفسه، ص712.
[18]– المرجع نفسه، ص715.
*– لا يستبعد فوكو نهائيّا السّلطة عن الإنتاج، بل من المهمّات الأوّليّة للسّلطة: هو الإنتاج، ولهذه الغاية تلجأ لممارسة القمع كعنصر للمقاومة ضدّ اللاشرعيّات، وهو في الواقع لا وجود إلاّ للا شرعيّات؛ لاشرعيّات سلطويّة.
[19]– فوكو (ميشال)، يجب الدّفاع عن المجتمع، دروس ألقيت بكوليج دو فرانس في سنة 1976، مصدر سابق، ص54.
*– ليس من مصلحة البرجوازيّة القيام بالنّفي أو التّعذيب في حدّ ذاته إنّما إيجاد تقنية أكثر عمليّة تحقّق بها نوعا من الرّبح الاقتصاديّ والفائدة السّياسيّة، ولا يهمّ البحث في استبعاد البرجوازيّة للمجانين وقمع الجنسانيّة، لكن البحث عن الآليّات المتضمّنة في هذا الاستبعاد وفي هذا القمع؛ إذ تسخر البرجوازيّة من الجانحين ومعاقبتهم أو تأهيلهم لأنّهم دون عائد اقتصاديّ، غير أنّه في المقابل يوجد للبرجوازيّة مصلحة في مجموع الآليّات الّتي تتمّ من خلالها مراقبة المنحرف ومتابعته ومعاقبته، إنّها مصلحة تعمل داخل النّظام الاقتصاديّ السّياسيّ العامّ.
[20]– فوكو (ميشال)، يجب الدّفاع عن المجتمع، دروس ألقيت بكوليج دو فرانس في سنة 1976، مصدر سابق، ص53.
[21] – Foucault (Michel), Surveiller et punir, naissance de la prison, Paris, Gallimard, 1975, p, 206- 207.
[22]– دريفوس (أوبيير) وآخرون، ميشال فوكو: مسيرة فلسفيّة، مرجع سابق ، ص172.
[23]– Foucault (Michel), Surveiller et punir, op, cit, p, 32.
[24]– فوكو (ميشال)، يجب الدفاع عن المجتمع، دروس ألقيت بكوليج دو فرانس في سنة 1976، مصدر سابق، ص189.
[25]– فوكو (ميشال)، المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، مصدر سابق، ص34.
[26]– موسى (حسين)، الفرد والمجتمع، مرجع سابق، ص122.
[27]– Foucault (Michel), Histoire de la sexualité, La volonté de savoir, Paris, Gallimard, 1984, p, 183.
[28]– Foucault (Michel), Surveiller et punir, op, cit, p, 22.
[29]– موسى (حسين)، الفرد والمجتمع، مرجع سابق، ص131.
[30]– المرجع نفسه، ص134.
[31]– فوكو (ميشال)، تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكيّ، ترجمة وتقديم، سعيد بنكراد، الطّبعة الأولى، المركز الثّقافيّ العربيّ، الدّار البيضاء، المغرب، 2014، ص22.
[32]– المصدر نفسه، ص409.
[33]– المصدر نفسه، ص371.
[34]– Foucault (Michel), histoire de la sexualité, la volonté de savoir, op, cit, p, 10.
[35]– فوكو (ميشال)، تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكيّ، مصدر سابق، ص115.
[36]– المصدر نفسه، ص26.
[37]– المصدر نفسه، ص135.
[38]– المصدر نفسه، ص137.
[39]– Guigot (André), Michel Foucault, le philosophe archéologue, éd, Toulouse : Editions Milan, 2007, p, 17.
[40]– فوكو (ميشال)، تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكيّ، مصدر سابق، ص13.
*– من بين الّذين اهتمّوا بإشكاليّة الشّرط الإنسانيّ؛ المفكّرة الألمانيّة حنا ارندت في كتابها “الشّرط الإنسانيّ الحديث” الّذي لخّصته في غياب للفعل، على غرار هايدغر الّذي عبّر عنه بنسيان الوجود. وتقرّ ارندت أنّ غياب الفعل بلغ أوجها خاصّة مع التّوتاليتاريّة الّتي كانت تعمد إلى تحطيم المجال العامّ وتحويل المجتمع بطبقاته إلى جماهير، أي إلى اغتراب العالم ومسخ الإنسان بتحويله من فاعل إلى كادح ممّا سيعجل تغييب الفعل الإنسانيّ من الحيّز السّياسي.
[41]– المصدر نفسه، ص32.
[42]– فوكو (ميشال)، تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكيّ، مصدر سابق، ص26.
[43]– غرو (فريديرك)، ميشال فوكو، ترجمة، محمّد وطفة، المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر، بيروت، الطّبعة الأولى، 2008، ص34.
[44]– فوكو (ميشال)، تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكيّ، المصدر السابق، ص158.
[45]– المصدر نفسه، ص160.
*– يعتبر مونتيسكيو الانتحار الرّومانيّ سلوكا مقصودا، في حين يكون الانتحار الانجليزيّ مرضا يجعل صاحبه ينتحر دون سبب. وليس الانتحار في كليهما ناتجا عن حزن، وقد يحدث ذلك وهم في ارتياح وحبور.
[46]– المصدر نفسه، ص375.
[47]– فوكو (ميشال)، تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكيّ، المصدر نفسه، ص138.
[48]– المصدر نفسه، ص133.
[49]– المصدر نفسه، ص46.
[50]– المصدر نفسه، ص388.
[51]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
*– إنّ نزع الأسطورة الّتي طبّقها ميكيافيل فعليّا في السّياسة والّتي تتجلّى في تخلّي الأمير عن الأخلاق لصمود حكمه، هي نفسها الأسطورة عند كانط ونيتشه في القيم الأخلاقيّة. فإذا كان الإغريق يحدّدون الخير والشّرّ انطلاقا من عمليّة التّذكّر والنّسيان، فإنّهما في عصر الأنوار ناتجان من معرفة وفي رفض تامّ للتّصوّر المسيحيّ الّذي يعود بالشّرّ إلى الخطيئة الأولى المتأصّلة في الإنسان؛ فإنّ نيتشه وكانط يأخذان بمبدأ المسؤوليّة الفرديّة. هذا ونألف عودة الشّرّ والرّذيلة في الأدب والشّعر والفنّ المعاصرين خاصّة في أعمال: بودلير ووالتر بنجامين وجورج بطاي.