الملخص:
بِتنا نتوفّر على نصوص بحثيّة رصينة في حقول معرفيّة عديدة، ومن بينها نصوص بحثيّة تربويّة رائعة، وهذا أمر إيجابيّ. بيد أن التّشخيص النّقدي الدّقيق يُفضي بنا إلى الإقرار بأنّنا ما زلنا نعاني في حقيقة الأمر من ضعف في الممارسة البحثيّة في العلوم الإنسانيّة لأسباب متعددة. هذه الورقة لا تسعى البتة إلى معالجة هذا الضعف، ولا تروم الاشتباك مع أسبابه أو التّعريف بتمظهراته أو نتائجه، وإنما تتوخى فقط الإشارة إلى جانب واحد من الضعف البحثيّ، وقد جرى اختيار البحث التّربويّ لعدة أسباب.
يتجلى الضعف البحثي المُعالَج في هذه الورقة فيما شاع في البحث التّربويّ في الفترة الأخيرة بما يمكن تسميته بـ “بدعة التصوّر المقترح“، لدرجة أصبحنا معها نتوفر على المئات من المقترحات التّربويّة العجلى، مع ضعف أو انعدام الجانب الترّاكمي. عمدتْ الورقة إلى تشخيص هذه الممارسة، حيث توصلتْ إلى وجود عدة آثار سلبيّة ترتبت عليها. ما سبق، مهَّد الطريق في الورقة إلى تقديم معالجة أوليّة عامّة لهذه الظّاهرة اندرجت في مسارين: الموضوعات التّربويّة والقرارات التّربويّة.
كلمات مفتاحية: البحث التّربويّ، المقترحات التّربويّة، طلاب الدّراسات العليا، المنهج التّجريبّي، المنهج النوعيّ.
Abstract:
There is solid research in many fields of knowledge, and among them is good educational research, and this is a positive. However, a careful critical diagnosis leads us to report that in fact we still suffer from a weakness in research practice in the humanities for various reasons. This paper does not seek at all to address such a weakness, nor does it seek to engage with its causes or define its manifestations or results, but rather seeks only to point out one aspect of research weakness, and educational research was chosen for several reasons.
The research weakness addressed in this paper is manifested in what has spread in educational research in the recent period, with what can be called “the fashion of the proposed proposal”, to the extent that we have hundreds of hasty educational proposals, with little or no cumulativeness. The paper proceeded to diagnose such a practice, as it concluded that there were several negative effects that resulted from it. The foregoing enabled the paper to present a general preliminary treatment of this phenomenon that fell into two tracks: educational research topics and educational decisions.
Keywords: Educational Research, Educational Proposals, Graduate Students, Experimental Approach, Qualitative Approach.
1- مدخل:
في العقود الماضية، استطاع عدد من مؤسساتنا البحثيّة العربيّة ومجلاتنا المحكَّمة أن تُنتج وتُصدر نصوصاً بحثية رصينة في حقول معرفيّة عديدة ضمن مختلف تخصّصات العلوم الإنسانيّة، ومن بينها حقل التّربية، وهذا أمر إيجابي يتعين تغذيته في قوالب مؤسسيّة تشريعيّة مستدامة. وتقرير ما سبق لا يعني البتّة خلو نتاجنا البحثيّ من سلبيات كبار، إذ ما زلنا نعاني في حقيقة الأمر من ضعف في الممارسة البحثيّة لأسباب متعددة، بعضها يرجع إلى الجماعات العلميّة المتخصصة وضعف قدراتها وجهودها في ترسيخ تقاليد بحثيّة جيّدة، وبعضها يخص المؤسّسات العلميّة وعجزها عن تبني نماذج عمل ناجحة وميزانيات كافية لدعم ممارسات بحثيّة ناجعة، وبقيتها يتعلق بالباحثين أنفسهم، ضعفًا وتكاسلاً، إذْ لا يبذلون جهودًا كافية ولا يستخدمون المناهج البحثيّة الّتي تستغرق وقتًا وجهدًا كبيرين مثل المنهج النوعيّ والمنهج التجريبيّ، جريًا وراء مكاسب بحثيّة سريعة، كالترقيات والحصول على وظائف أو شهادات علميّة أو مكافآت ماليّة ونحو ذلك من “الغنائم الشخصيّة”.
هذا النصّ لا يسعى إلى معالجة الضعف في النتاج البحثيّ العربيّ، ولا طاقة له إطلاقًا بالاشتباك مع أسبابه المباشرة وغير المباشرة، ولا بالتّعريف بتمظهراته، ولا برصد آثاره وانعكاساته على المستويات الوطنيّة والقوميّة، وإنما يتوخى فقط الإشارة إلى جانب واحد من هذا الضعف البحثيّ، مع التّركيز على شق من البحث التّربويّ، أي أن النصّ لا يمارس تعميمًا على عموم البحث التّربويّ. وقد جرى اختيار البحث التّربويّ لجملة من الأسباب ستتضح في الجزء الموالي، ويدخل في ذلك أن البحث التّربويّ يعيش لونًا من “الدّوار الماهويّ” و”الميوعة الماهويّة”، الّتي قادت الحقل التّربويّ إلى التشقق إلى تخصصات فرعيّة متكاثرة، مع ضعف الحدود أو المعالم المائزة بين حقل التّربية وعدد من الحقول المعرفيّة في العلوم الإنسانية، بجانب سمات أخرى سلبيّة (البريدي، 2021).
2- بحث تربويّ من قبيل العصف الذّهنيّ: التّشخيص:
شاع في البحث التّربويّ في الفترة الأخيرة ما يمكن تسميته بـ ” بدعة التصوّر المقترح“، من قبيل: “سياسة تربويّة مقترحة”، “تصوّر تربوي مقترح”، “آلية تربويّة مقترحة” أو “إطار تربويّ مقترح” أو نحو ذلك، لدرجة أصبحنا معها نتوفر على مئات وربما آلاف المقترحات التّربويّة. ومن العجيب أن أحد الباحثين التّربويّين العرب قدّم محاضرة عن فن بناء التصوّر التّربويّ المقترح عبر طلبة الدّراسات العليا (محمد مجاهد، 2013)، عادَّا ذلك نوعاً من “البارادايم” (=النّموذج الإرشاديّ أو المِرشاد)، في سياق يُسطِّح هذا المفهوم الارتكازيّ في تطوّر العلم وتاريخه؛ وفق ما طرحه بعمق وشمول توماس كون في كتابه الشهير بِنية الثّورات العلميّة، إذ كيف يكون تصوّر مقترح يقدمه طالب أو باحث مبتدئ بارادايمًا أو مرشادًا؟! إذن، يبدو أنّنا إزاء ما يتجاوز مجرد شرعنة اقتراف هذه البدعة البحثيّة، إذ تجعلنا مثل هذه الطروحات السطحيّة قُبالة تسويق مضلّل لطلاب الدّراسات العليا، وهو ما يجب أن نتعامل معه بشفافية وحزم نقديّين.
دعونا نفكر في هذا السؤال: كيف يمكن لطالب محدود المعارف والمهارات والخبرات أن يقدم مقترحًا تربويًا ناضجًا في مدة زمنيّة مضغوطة؟ لقد بات الطّالب التّربويّ في عجلة من أمره، وأضحى في مشهد بحثيّ مرتبك إلى حد كبير، وقد وقفتُ على تجارب عشرات الطّلاب التّربويّين في الماجستير والدكتوراه، إما بغرض تحكيم أداة البحث، أو التماس لاستشارة بحثيّة من قبيل بلورة مشكلة بحثيّة أو حل مشكل منهجيّ أو ما شابه ذلك. ففي أكثر الحالات الّتي وقفتُ عليها، أجد أن الطالب يُطالب بجمع بيانات كيفما اتّفق، ثم تحليلها على عجل، لكي يتفرغّ للمهمة الكبرى وفق الخطة البحثيّة، وهي: تقديم المقترح التّربويّ (=البرادايم وفق التّصوير السّابق!)، مما يجعله يخسر معركة المنهج، إذْ لا يتفهم الكثير من أسرار المنهج ومتطلباته بالعمق المطلوب، ولا يسعه بتؤدة تطبيق الأساليب البحثيّة، ولا يُفيد من جمع البيانات وتحليلها كما ينبغي، وقد شاطرني في ذلك جملة من خبراء تربويّين ذوي نزعة نقديّة داخل الحقل التّربويّ نفسه في نقاشات موسّعة حول جوانب الضّعف في الممارسة البحثيّة لطلاب الدّراسات العليا في هذا الحقل.
حديثي السّابق لا يعني البتّة انتفاء وجود هذه البدعة البحثيّة السيّئة في بقيّة الحقول الإنسانيّة، إذ هي موجودة، ولكنّها قليلة جدًا وفق رصدي لها، ومن يشكّك في صحة هذا التّوصيف أو دقّته، فما عليه، إلا البحث في قواعد البيانات واضعًا كلمات مفتاحية تتضمن كلمة “مقترح” أو “مقترحة” أو ما يشابهها، ليجد مئات الأبحاث التّربويّة، وعدد قليل من الأبحاث في الحقول الأخرى. وهذا لا يعفي هذه الحقول من قدر من النّقد، فكل بحسب تورّطه في بدعة التصوّر المقترح.
من المعلوم أن المقترحات التّربويّة النّاضجة المفيدة -سواء أ كانت في صورة سياسات أو استراتيجيات أو تصوّرات أو أُطر أو آليات أو برامج أو نحو ذلك- تتكئ على عمل بحثيّ جماعيّ تراكميّ، ينجزه خبراء تربويّون يتوفّرون على معارف معمقة ومهارات فائقة وتطبيقات واسعة في الجوانب التّنظيرية والعمليّة؛ على أن يجري وضع المقترحات التّربويّة وفق إطار منهجيّ محكم، وأهداف تربويّة محدّدة وسياسات وطنيّة محددة. فالتوصيف السّابق للمقترحات التّربويّة الّتي ينجزها طلاب الدّراسات العليا أو أساتذة مبتدئون في المسار البحثيّ، يجعلنا نقرّر بأن الأبحاث المنجزة هي أقرب ما تكون إلى “العصف الذّهنيّ”، مما يضعف من الدّقة والنّجاعة لهذه المقترحات “المسلوقة”. وينضاف إلى ذلك غياب الجانب التّراكمي في هذه التصوّرات والاستراتيجيات والآليات والسّياسات المقترحة، إذ نجد أنّ الجماعة التّربويّة ترص مقترحاتها الواحد تلو الآخر دون تمعّن يُذكر، وقد تلجأ إلى إحالة الكثير منها إلى المخازن النائية، نظرًا لكثرة الإنتاج وسخونة العمل في خطوط الإنتاج في برامج التّربية “المتناسلة”.
ولكي ينضج فهمُنا وتشخيصُنا للموضوع، فإنّ من المهمّ إيراد عيّنة من الأبحاث التّربويّة الّتي تورّطتْ بهذا النّوع من الأبحاث، على أن من اللّافت شموليّة الممارسات البحثيّة لتخصّصات وموضوعات تربويّة متنوّعة كما سيظهر لنا من عينة العناوين. وقبل استعراض العيّنة، تجدر الإشارة إلى أنّني أزلتُ أسماء الجامعات والدّول من العنوان، إذ العبرة في عموم الدّلالة لا بخصوص البيئة المبحوثة، علمًا بأن أكثر هذه الأبحاث هي رسائل ماجستير أو دكتوراه:
- سياسات تربويّة مقترحة لتحقيق الميزة التّنافسيّة المستدامة في الجامعات الحكوميّة.
- سياسات تربويّة مقترحة لتدويل الجامعات.
- سياسات تربويّة مقترحة لتدويل الجامعات (هذا بحث آخر في دولة عربيّة أخرى).
- سياسات تربويّة مقترحة لتفعيل التّعليم المهنيّ المدرسيّ.
- آليات تربويّة مقترحة لتفعيل التّحفيز الإداري في المدارس الثانويّة العامة.
- تصوّر مقترح لتطوير التّربية العمليّة في برنامج الدّبلوم العام في التّربية.
- تصوّر مقترح لتطوير تربية وتعليم ذوي الاحتياجات الخاصة في ضوء الاتّجاهات الحديثة.
- تصوّر مقترح للتّربية الوالديّة بالتّعليم الجامعيّ في ضوء بعض المتغيّرات المجتمعيّة المعاصرة.
- تصوّر مقترح لتضمين التّربية الاعلامية في مراحل التّعليم العام.
- تصوّر مقترح لتطوير أداء رؤساء الأقسام.
- تصوّر مقترح لتطوير أداء مشرفي التّربية العمليّة بكليات التّربية.
- تصوّر مقترح لتطوير البحث العلميّ في التّربية الإسلاميّة.
- تصوّر مقترح لتفعيل الإشراف التّربويّ بمدارس التّعميم ما بعد الأساسيّ.
- إطار مقترح لتطوير أداء القيادات التّربويّة في ضوء متطلّبات التّخطيط الاستراتيجيّ.
- إطار مقترح لمنظومة مقرّرات الإعداد التّربويّ للمعلّم بكلّيات التّربية.
- إطار مفاهيمي مقترح للتطوير المهنيّ لمعلّمي اللّغة العربيّة في مدارس التّعليم العام.
- إطار فكريّ تربويّ مقترح للتّعليم الإلكترونيّ.
- استراتيجيّة مقترحة لتطوير برنامج التّربية العمليّة.
- استراتيجيّة مقترحة لتطوير نظام المتابعة في الوزارة.
- استراتيجيّة مقترحة لتطوير تربية الموهوبين ورعايتهم.
- استراتيجيّة مقترحة لتنمية رأس المال الفكريّ بكلّيات التّربية.
- تطوير السّياسات التّربويّة في ضوء متطلّبات القدرة التّنافسية “استراتيجيّة مقترحة”.
- استراتيجيّة مقترحة لتطوير الأداء التّنظيميّ لمؤسّسات رياض الأطفال.
- استراتيجيّة مقترحة لتوفير متطلّبات التّميز المؤسسيّ.
- استراتيجيّة مقترحة لتطوير الأداء المهنيّ لمعلّمات التّربية الرّياضيّة.
- استراتيجيّة مقترحة للتّربية الوقائيّة لطلّاب التّعليم الثّانويّ لمواجهة بعض سلبيّات الواقع الثّقافيّ والإعلاميّ المعاصر.
- استراتيجيّة مقترحة لتطبيق القيادة المستدامة.
- فاعلية استراتيجيّة مقترحة قائمة على التمثيل المعرفي لتحصيل طالبات الصف الخامس.
- نموذج مقترح لإدارة التّميز لتطوير المدارس.
- نموذج مقترح للارتقاء بالأداء الإداريّ.
3- شيء من الآثار السّلبيّة:
إذا تقرّر ما سبق، أحسب أنّ البحث التّربويّ مُطالب بمراجعة نقديّة جادّة من قبل الجماعة العلميّة التّربويّة للوقوف على أسباب استشراء هذه الممارسة الرّديئة وتوسّعها في جامعات عربيّة عديدة، مع ضرورة السّعي الحثيث لمعالجتها بشكل تشريعيّ مؤسسيّ. فقد تسبّبتْ أبحاث العصف الذّهنيّ (=التّصوّرات التّربويّة المقترحة) في عدد من الآثار السّلبية، ومنها:
- أصابت أبحاثُ العصف الذّهنيّ حركةَ البحث في التّراث العربيّ الإسلامّي بالضّمور، في محاولة لاستلهام بعض المفاهيم والأفكار والشّذرات التأسيسيّة لبناء حقل تربويّ عربي إسلاميّ نهضويّ.
- أدّت هذه الأبحاث إلى إصابة البحث التّربويّ بالضّمور من جهة المنهج، إذْ يفتقر البحث التّربويّ على سبيل المثال إلى تفعيل المنهج التّجريبيّ في قالبه الملائم للعلوم الإنسانيّة، على الرّغم من وجود مئات الموضوعات الّتي نحتاج إلى استكشافها باستخدام هذا المنهج الناجع (سنضرب على ذلك مثالاً تطبيقيًا).
- الممارسة البحثيّة السّابقة جاءت أيضًا على حساب ممارسة البحث النوعيّ والبحث النقديّ المعمقينِ، مع وجود مئات الظّواهر التّربويّة الّتي لا يناسبها سوى هذا النّوع من البحث، في قالب من البحث السّياقيّ التّراكمي، والّذي يمكن أن يكون حينذاك منصّة لتوليد المفاهيم التّربويّة الجديدة، الّتي تنبع من احتياجاتنا نحن، وتستجيب لتحدياتنا نحن، وتتلاءم مع أحلامنا وتفي بتطلعاتنا نحن، في مسيرة نغذّيها لبناء نظريّات تربويّة ونماذج تفسيريّة.
- رسّخت أبحاث العصف الذّهنيّ نسق التكرار في المعالجات والأساليب، الّتي قد تصل إلى ممارسات القص واللصق في أجزاء عديدة من البحث أو الرسالة العلمية، وكأن الممارسة البحثية أضحت قالبًا جاهزًاTemplet يجري توارثه وتناسخه.
- أبحاث العصف الذّهنيّ تصدّ الباحثين والدّارسين عن التّنقيب في التّقارير التّربويّة الدّولية (مثل تقارير: تميز، تالس، بيزا) والتّقارير الوطنيّة الصّادرة من هيئات تقويم التّعليم وما يشابهها، والّتي من شأنها بيان أوجه القوّة والضّعف في نتائج التّعليم العّام والتّعليم العالي والتّعليم التّقني في عالمنا العربيّ. فهذه التقارير وإنْ غلب عليها الجانب الكميّ، إلّا أنها تتأسّس على أدلّة علميّة صلبة، مع اتّصافها بدرجات عالية من الدّقة والمقارنة فيما بين الدّول، مع تعليقات وتوصيفات وتوصيات معمّقة من قبل خبراء تربوييّن كبار، مما يجعلها تحفل بذخائر تحليليّة وتشخيصيّة وتفسيرية لعدد من الظواهر والقضايا والمدخلات والعمليّات والمخرجات التّربويّة.
- في جانب معمق من الممارسة البحثيّة، يمكن القول بأنّ أبحاث العصف الذّهنيّ تُزهِّد الباحث التّربويّ في ممارسة البحث المتداخل أو عابر التخصصات، إذْ يعتاد على لعبة تركيب التّصوّر المقترح، وبخاصة مع تساهل تحكيم مثل هذه النّصوص من قبل المجلّات “المحكمة” أو تقييم رسائل الدّراسات العليا، بدليل أنّنا نقرأ يا للأسف نصوصًا ضعيفة في مثل هذه المجلات أو الرّسائل.
4- نحو المعالجة:
إنّ أبحاث العصف الذّهنيّ (=التصوّرات التّربويّة المقترحة) بوضعها الرّاهن وتناميها المطّرد في عدد كبير من كلّيات التّربية في عالمنا العربيّ، تجعلني أطالب المفكرين التّربويّين والمسؤولين عن السّياسات التّربويّة وعمداء الكلّيات ورؤساء الأقسام واللّجان العلميّة المتخصّصة في عالمنا العربيّ بسرعة معالجة هذا الدّاء الخطير ضمن مقاربة إبستمولوجيّة معمّقة، وسياسة بحثيّة جيدة تتعالى عن “غنائم التّخصص” (البريدي، 2021)، أو مكاسب الجماعة العلميّة وفق ما يوضّحها روبرت ميرتون وغيره (دوبوا، 2008). ولعلني أضع خطاطة أوليّة عامة لبعض مسارات العلاج المتوخى، والّتي يمكن وضعها في مسارين كبيرين، على أن يتولى المتخصّصون إنضاجها وإكمالها.
4- 1- مسار الموضوعات التّربويّة:
يبدو أن من الأسباب الكبيرة الدّافعة إلى التّوسل بأبحاث العصف الذّهنيّ عدم وجود موضوعات تربويّة معمّقة لطلّاب الدّراسات العليا وللباحثين التّربويّين المبتدئين (يدخل في المبتدئين الباحثون الّذين لم يطوّروا تفكيرهم المنهجيّ وإنْ طالتْ بهم السنون). إذا قدّر أنّنا سلّمنا بهذا السّبب، فإنّ ذلك يكرّس أهميّة اقتراح باقة من الموضوعات وفق عدة معايير منهجيّة تضعها الجماعة العلميّة التّربويّة، والّتي يمكن أن يكون من بينها ما يلي:
- عمق الموضوع من الناحية التّنظيرية، بحيث يدفع الموضوعُ الباحثَ إلى اكتساب فهم معمّق للنّظرية التّربويّة وأُطرها المفاهيمية وأدبيّاتها ومقارباتها.
- أشكلة الموضوع من النّاحية المنهجيّة، بحيث يُصار إلى موضوعات تربويّة إشكاليّة، لا نتوفر على إجابات لها قبل البدء بالممارسة البحثيّة بخصوصها.
- حاجة الميدان التّربويّ، بحيث يفيد البحث في تشخيص مشاكل تربويّة واقعة، وفي تقديم توصيات بناءة بناء على نتائج متماسكة ذات طابع تراكميّ، لا مجرد عصف ذهني متسربل بـسياسة أو آلية أو استراتيجيّة مقترحة.
ولعله يكون مفيدًا طرح مثال واحد على موضوع تربوّي أرى أنه يحقّق المعايير السّابقة بشكل جيّد، بحيث يمكن تفعيله في عدد كبير من البحوث في مجالات تربويّة متنوّعة في عالمنا العربيّ. ونظرًا لحداثة هذا الموضوع في المجال التّربويّ، فإنني سأقدم إطارًا مفاهيميًا مختصرًا بغية التّعريف به والإغراء بالاشتغال به، وذلك وفق فقرات متسلسلة.
4- 1-1- مفهوم التّلويح Nudge:
يطرح المنظّرون في العلوم الإنسانيّة مفاهيم عديدة، تُعيننا على فهم الإنسان من جهة طرائق تفكيره، وبواعثه واتجاهاته، وأنماط قراراته وسلوكياته؛ بما يمكّننا من: تحسين الأداء، والظّفر بقرارات أنجع ومخرجات أفضل؛ على نحو يُسهم في تحقيق الغايات والأهداف الاستراتيجيّة. ومن بين تلك المفاهيم، ما طرحه رتشارد ثالر الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2017، إذ إنّه طرح مفهوم التّلويح Nudge أو التّنبيه المضمر أو الكامن أي الإيعاز غير المباشر من أجل توجيه السّلوك أو القرار باتجاه مستهدف أو ما يمكن أن يوصف بأنه “مِعمار الاختيار” Choice Architecture. وبخصوص اقتراح كلمة “التّلويح” لتكون ترجمة لـ Nudge، أشير إلى أن ذلك جاء بعد تفكير في عدد من البدائل، ومن بينها: التنبيه والإيعاز والوكزة ونحوها، وقد انحزتُ إلى هذا البديل لكونه الأكثر دقّة في نقل المعنى الجوهريّ في هذا المفهوم، وذلك أنّه ورد في المعجم العربي: لوَّح بالشَّيء في كلامه: لمَّح؛ أشار إشارات خفيَّة، عرَّض به، وهذا هو جوهر معنى هذا المفهوم، إذْ يحصل التّدخل بطريقة غير مباشرة، وبقالب خفيّ غير ملموس، لتحقيق غاية مقصودة؛ ضمن إطار أخلاقيّ وقانونيّ مقبول.
يصف ثالر وسنشتاين التّلويح بأنه أيّ جانب من جوانب تصميم الخيارات من شأنه تغيير سلوك النّاس بطريقة موجّهة متوقّعة دون ممارسة المنع في الاختيار، “ولكي يُعد التّدخل مجرد تنبيه، يجب أنْ يكون من السّهل وغير المكلف تجنّبه، حتى لا يصل إلى درجة الإلزام، وإلاّ خرج عن إطار التّلويح، فالتّنبيهات ليست إملاءات، وإنّما توجيهات عامّة غير مباشرة. فوضع فاكهة على مستوى العينين يعد تنبيهًا، لكن حظر الأطعمة الخالية من القيمة الغذائيّة لا يعتبر كذلك” (ثالر وسنشتاين، 2016: 14). إذن هو تدخّل غير مباشر مصمم بقالب موجَّه لا لمنع النّاس من التمتّع بالخيارات وإنّما لدفعهم إلى اختيار الأفضل، بما يحقق أهدافًا متوخّاة في جانب أو آخر. وتكمن أهميّة مفهوم التّلويح في جانبين يكمِّل بعضهما البعض الآخر، ويتمثّل الأوّل في ضمان الحرّية في الاختيار، ويتجسّد الثّاني في معاونة الإنسان على حسن الاختيار، لتحقيق مصلحة متوخّاة: تعليميّة، إداريّة، ماليّة، اقتصاديّة، تنمويّة، صحيّة، بيئيّة، جماليّة، وكما يقول ثالر وسنشتاين “إنّنا ندعم المساعي المتعمّدة والواعية الّتي تبذلها المؤسّسات في القطاع الخاصّ والحكومة أيضًا لتوجيه خيارات النّاس في اتجاهات تحسِّن حياتهم”، مشيرين إلى أنّ بعض النّاس وربّما الكثير منهم يتخذون قرارات غير جيّدة، في حال عدموا المعلومات الكافية أو مثل هذا التّوجيه الغائيّ (ثالر وسنشتاين، 2016: 13)، مع تأكيد ثالر وسنشتاين على حتميّة وجود التّنبيهات في حياة النّاس، سواء أ كانت إيجابيّة أم سلبيّة، مع تشديدهما على ضرورة تجويد تلك التّنبيهات وجعلها تصبّ في تحقيق الصّالح العامّ والخاصّ للنّاس.
4- 1 -2- الأبنية المفاهيميّة للتّلويح:
يتكئ مفهوم التّلويح في جانب رئيس منه على مفهوم الاستدلال الخبراتيّ أو الحدس المهنيّ Heuristic، إذْ يميل النّاس عادة إلى تفعيل خبراتهم السّابقة بطريقة غير ملائمة وبشكل مُبالغ فيه. جهِد ثالر وسنشتاين إلى إحكام الأبنية المفاهيميّة لمفهوم التّلويح، فقد طرحا جملة من المفاهيم الفرعيّة الّتي من شأنها: تعميق الفهم للمفهوم الرّئيس من جهة، وتجويد تطبيقه من جهة ثانية، وجعل هذا التّطبيق إجرائيًّا من جهة ثالثة. ومن بين هذه المفاهيم الفرعيّة نشير إلى الآتي (ثالر وسنشتاين، 2016):
- نظاما التّفكير: نظام 1، نظام 2 System، هنالك نظامان للتّفكير، أحدهما تلقائيّ حدسيّ (=التّلقائي، نظام 1)، والآخر تأمليّ عقلانيّ (=التّأملي، نظام 2)، ولكل نظام منهما سمات تخصّه، ومن بينها اتّسام التّلقائيّ بالسّرعة والتّرابطيّة وكونه غير واع وغير مُتحكَّم فيه وغير شعوريّ، في حين يتّصف التّأمليّ بالبطء والاستدلاليّة وكونه واعيًا ومُتحكَّمًا فيه وجاريًا وفق قواعد محدّدة.
- مفهوم الإرساء Anchoring، وهو مأخوذ من إرساء السّفينة حين تتوقّف في المرسى، فتُوثَق بالحبال لتأمين وقوفها. ومفهوم الإرساء هنا يُحيل إلى معنى إتّكاء الذّهن على معلومة يَفترض الإنسانُ صحتَها وكونها صالحة أن تكون منطلقًا في التّفكير أو الاستنتاج حيال قضيّة ما. وهذه معالجة ذهنيّة مفيدة في حالات كثيرة كما نعلم، بيد أنّ الأمر قد لا يكون كذلك في بعض الحالات، إذ قد تكون المعلومة غير صحيحة أو غير مناسبة في السّياق الّذي تُستخدم فيه، مما يؤثر سلبًا على نجاعة التفكير أو دقة الاستنتاج.
- مفهوم الإتاحة Availability، حيث وجد أنّ الأحداث أو المعلومات الّتي تتبادر إلى الذّهن بسهولة ويمكن للذّاكرة أن تستدعيها بسرعة، تكون في العادة أكثر تأثيرًا على سلوكنا وقرارتنا، حتى لو كانت أقل أهمية أو عمقًا.
- مفهوم التّأطير Framing، ويشير إلى الكيفية الّتي نستقبل عبرها المعلومات أو الإحصائيّات وكيف تؤثر علينا، وطرح ثالر وسنشتاين مثالاً عمليًا مختصره، أن مريضًا قال له طبيبه: 90% من الّذين أجروا العمليّة الجراحيّة -المطلوبة لك- ما زالوا على قيد الحياة بعد مضي خمس سنوات. فشَكْل التّفاعل مع هذه الكيفية من قِبل المريض سيختلف فيما لو قال له الطبيب: عشرة من أصل مئة ممن أجروا العملية الجراحيّة ماتوا في غضون خمس سنوات.
- مفهوم الاختيار الغافل Mindless Choosing، وهو يُحيل إلى دَلالة انجذاب الإنسان إلى السّلوك بطريقة مشابهة لما اعتاد عليه في الماضي، دون الانتباه إلى تغيّر الظروف أو السّياقات، وقد أشار ثالر وسنشتاين إلى تجربة قام بها أحد المتخصّصين، حيث طلب من مجموعة من النّاس أن يتناولوا الشوربة وأن يتزودوا منها بقدر ما يريدون، مع أنّه قد وضع آلية تضمن تزويد الإناء بالشّوربة بشكل تلقائيّ، حيث رُبط الإناء بمزوّد في قاعدة الطاولة الّتي يجلسون إليها، وقد انتهت التّجربة إلى أن بعض النّاس استمر في تناول الشوربة، لا لشيء إلا أنه قد تبرمج على عدم وجود فرضيّة امتلاء الإناء مجددًا من تلقاء نفسه، فتناولوا لهذا السّبب كميات كبيرة، مما حدا بصاحب التّجربة إلى أن يوقفها رأفة بهم. وفي هذا الاتجاه، يقرر ثالر وسنشتاين بأن الصحون الكبيرة في المطاعم تعني “مزيداً من الأكل. إنّها شكل من أشكال تصميم الخيارات، وتعمل بمثابة تنبيهات كبرى” (ثالر وسنشتاين، 2016: 57).
- مفهوم اتباع القطيع Following The Herd، وهو يشير إلى ميل الإنسان إلى تقليد أو محاكاة الآخرين في طرائق التّفكير وفي السّلوكيات، ومن ذلك تقليد الأساتذة لبعضهم البعض في طرائق التّدريس والتّقويم ونحو ذلك، ومنه يضأيضًا تقليد طلبة الدّراسات العليا في أبحاث العصف الذّهنيّ، أليس كذلك؟
4- 1- 3- التّلويح “التّربويّ”:
لم يحظَ مفهوم التّلويح بتطبيقات واسعة في التّربية مقارنة بما حفل به في مجالات السّياسات العامة والاقتصاد والصّحة (Szaszi et Al. , 2018; Hummel and Maedche, 2019). وثمّة من يقرّر بأنّ التّلويح يعد تدخلاً سلوكيًا في التّعليم، وهو لا يمثل حلاً سحريًا لكل المشاكل التّربويّة، إلّا أنّه يعد الأسهل والأسرع والأقل كلفة في الفضاء التّعليميّ، مما يؤكد أهميّة التّفكير في مسارات الإفادة منه في المجال التّربويّ (Sulphey and Alkahtani, 2018).
يعدّ المجال التّربويّ مجالا خصبًا جدًا لتطبيق هذا المفهوم لكثرة المسارات الّتي يمكن إحداث التّدخل المستهدف فيها عبر استراتيجيّة التّلويح. وفي هذا الاتّجاه، تفيد دراسات تربويّة تحقيق نجاحات جيدة في عدة مسارات ومن بينها زيادة التّفاعل في حل الواجبات المنزليّة وتحسين الأداء وزيادة الدّرجات عبر إرسال رسائل لأولياء الأمور بطريقة معينة والحديث أمام الطّلاب عن الجهود المضنية الّتي يبذلها العلماء الكبار في سبيل التّزود بالعلم والمعرفة، وعمد البعض لإظهار درجة أحد الطّلاب المخفقين أمام أقرانه لدفعه إلى زيادة درجاته وتحسين عمليّة التّعلم لديه، على أن ذلك قد يتسبّب بوجود ضغوطات على الطالب أو حتى دفعه للغشّ من أجل مواكبة أقرانه، وفي هذا إشارة إلى أنّ المجال التّربويّ ليس خاليًا من التحدّيات التّطبيقيّة، ولعل من أبرزها ما يتعلق بالقدرة على إحداث تغيير دائم أو طويل الأجل مع مراعاة الاعتبارات النّفسيّة والتّربويّة للتّعامل مع الأطفال والمراهقين والبالغين (Weijers et al., 2021). واستخدم التّلويح أيضًا لمعالجة مشاكل تربويّة مثل التّنمر ونحوها (Hargreaves, 2011). ولعله من الجليّ أن تطبيقات التّلويح في التّربية تستلزم تفعيلاً جيدًا لمنهج البحث التّربويّ التّجريبيّ، مما يؤكد أهمية دور كليات التّربية في تشجيع طواقهما ودارسيها على استخدام المنهج التّجريبيّ.
4- 2- مسار القرارات التّربويّة:
توصيفنا السّابق للمشكلة المطروحة يستدعي من عمداء كليّات التّربية ورؤساء الأقسام العلميّة في عالمنا العربيّ التّوجيه العاجل باتخاذ باقة من القرارات لمعالجة سريعة حاسمة لداء أبحاث العصف الذّهنيّ على أن تعامل هذه القرارات بوصفها لبنة لإيجاد سياسات عامة بهذا الخصوص. ولعل من القرارات الّتي تمس الحاجة إلى اتخاذها ما يلي:
- عدم قبول أي خطة بحثية في الدّراسات العليا تتضمّن أي شكل من أشكال “التّصوّرات التّربويّة المقترحة”، وجعل ذلك ضمن سياسة عامة تقرّها الكليات التّربويّة والأقسام العلميّة. ومن الأمور المسلّمة أن لكل قاعدة استثناء، ولذا يمكن وضع باقة من المعايير الّتي يمكن في حال توفرها أن يسمح لطالب الدكتوراه (دون الماجستير) تقديم التّصوّر المقترح، ومن بينها: (أ) وجود طلب من وزارة التّعليم أو الجهة الحكوميّة ذات الاختصاص بوضع تصوّر متوخى في مجال محدّد. (ب) تكليف مشرف قدير، يمتلك دراية جيّدة بمنهج بناء التّصوّر وفق أسس منهجيّة ومنطقيّة واجتماعيّة وثقافيّة وتربويّة متينة. (ج) تميّز طالب الدكتوراه من الناحية المنهجيّة والعلميّة مع اتسامه بالجدية الكافية. ويتعيّن عليّ التأكيد على أن يكون ذلك في حدود الاستثناء، إذ الأصل منع هذه الممارسة عبر السياسات العامة المقرّة.
- تشكيل لجنة علميّة من أجل تحديد باقة من الموضوعات البحثيّة التّربويّة وفق معايير منهجية، بطريقة تفيد مما طرحناه في الجزء السّابق، بحيث نُضعف السبب الّذي يقود مجموعة من الطلّاب إلى اختيار موضوعات سطحيّة أو غير ملائمة من قبيل التّصوّرات المقترحة ونحوها.
- توجيه الأساتذة المشرفين إلى معاونة الطّلاب على حسن اختيار موضوعات تربويّة جيدة، والسّعي لتطوير آليات مؤسسيّة تعين على تحقيق ذلك بشكل منهجيّ وتنظيميّ ملائم.
- إدماج فلسفة العلم أو الإبستمولوجيا بقالب معمق في برامج الدّراسية في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، على أن يتضمن ذلك إطارًا تنظيريًا وتطبيقيًا، حيث من المتوقع أن تُعين فلسفة العلم على تعميق الأطر المنهجيّة لدى طلبة الدّراسات العليا، ومن ثمَّ بلورة إشكاليات بحثيّة جيدة، واختيار التّصميم المنهجي النّاجع.
- إعداد برامج تدريبيّة وتكوينيّة من شأنها تفعيل المناهج التّجريبيّة والنّوعيّة والنّقديّة والتّنقيبيّة في البحث التّربويّ، وجعل ذلك ضمن السياسة البحثيّة في كليات التّربية والأقسام العلميّة، بما يقلل من غلبة البحث الكميّ المسطِّح للممارسة البحثيّة، خاصة مع شيوع لجوء الطلاب إلى مَنْ ينجز لهم بالتّحليل الإحصائيّ، وربما ما هو أكثر من ذلك.
5- خاتمة:
خلصتْ هذه الورقةُ المختصرة إلى تشخيص جانب من جوانب ضعف البحث التّربويّ، والمتمثّل في الممارسات البحثيّة الّتي أضحتْ أقرب ما تكون إلى عصف ذهنيّ؛ يقوم به باحث مبتدئ (طالب دراسات عليا أو أكاديمي مبتدئ) بقالب منهجيّ مرتبك متعجل، بُعيد قيام هذا الباحث أو ذاك بشيء من الجمع والتّحليل لقدر محدود من البيانات الكميّة أو النوعيّة، ليسرع في بلورة “التّصوّر التّربويّ المقترح”، مع شيوع ظاهرة القوالب المكررة وممارسات القصّ واللصق، لينتج لدينا تصوّر لا يؤثر غالبًا في إنضاج سياسة ولا في تحسين قرار ولا في تجويد ممارسة تربويّة.
أخيراً، أعرف قدر حساسية بعض الزملاء التّربويّين من مثل هذا النّقد الصّريح المباشر، وقد يشرِّقون أو يغرِّبون في مرامي هذا النصّ التّشخيصيّ، بيد أنّني أقول بأن هذه شهادة صادقة للتّاريخ، أضعها أمام الجماعة العلميّة التّربويّة من جهة، وأمام وزراء التّربية وعمداء الكليات التّربويّة ورؤساء الأقسام العلميّة من جهة ثانية، وأمام راسمي السّياسات التّربويّة والتنمويّة من جهة ثالثة، لتكون بمثابة خطاطة تشيخصيّة أوليّة لظاهرة أبحاث العصف الذّهنيّ وما يشابهها من ممارسات بحثيّة، ويسعهم التثبّت من مدى وجود هذه الظّاهرة ودرجة تشخيصها، كما يمكنهم تقليب النظر في الإطار العام الأوليّ للمعالجة، والسّعي لتطوير كل ذلك في قوالب تراكميّة، فما أحوجنا إلى إحداث الترّاكمية فيما بيننا، إذ تعد شرطًا أساسيًا في البناء العلميّ المحكم، الّذي يعد بدوره شرطًا محوريًا في البناء الحضاريّ العربيّ الإسلاميّ المنشود. والله الموفّق لكل رشاد.
6- المراجع:
- رتشارد ثالر، كاس سنشتاين (2016)، التنبيه – تحسين القرارات بشأن الصحة والثروة والسعادة، ترجمة: عمر سعيد الأيوبي، الدار العربيّة للعلوم ناشرون، ط1.
- عبد الله البريدي، نداء إبستمولوجي إلى مفكري التّربية: تفحصوا حقلكم، مجلة حكمة، 17-10-2021.
- محمد مجاهد (2013)، أساليب بناء التصوّر المقترح في الرسائل العلمية، محاضرة صوتية في قاعة د. خليل الحدري: https://www.youtube.com/watch?v=j5WtMe3aN2o.
- ميشال دوبوا (2008)، مدخل إلى علم اجتماع العلوم، ترجمة: سعود المولى، بيروت: المنظمة العربيّة للترجمة، ط1.
- Hargreaves, A. (2013). Push, Pull and Nudge: The Future of Teaching and Educational Change. In: Zhu, X., Zeichner, K. (eds) Preparing Teachers for the 21st Century. New Frontiers of Educational Research.
- Hummel, D., & Maedche, A. (2019). How effective is nudging? A quantitative review on the effect sizes and limits of empirical nudging studies. Journal of Behavioral and Experimental Economics, 80, 47–58. https://doi.org/10.1016/j.socec.2019.03.005.
- Sulphey, M.M. and Alkahtani, N.S. (2018). Academic excellences of business graduates through nudging: prospects in Saudi Arabia, Int. J. Innovation and Learning, Vol. 24, 1, pp.98–114.
- Szaszi, B., Palinkas, A., Palfi, B., Szollosi, A., & Aczel, B. (2018). A systematic scoping review of the choice architecture movement: toward understanding when and why nudges work. Journal of Behavioral Decision Making, 31(3), 355–366. https://doi.org/10.1002/bdm.2035.