الملخّص:
تروم هذه الدراسة الكشف عن بعض المتغيرات الماكروسوسيولوجية الوازنة التي أصبحت، منذ حوالي عقدين، تهيكل الفعل الهجروي الراهن وتحدد بقوة خصائصه ومآلاته؛ إذ لا تؤثر فقط سلباً على اندماج المهاجرين بدول الاستقبال، بل تسهم أيضاً في نسف كيمياء التعايش السلمي المشترك بين الشعوب والأمم. يتعلق الأمر بتضخم الخطاب حول سؤال الهوية، وتنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا، وتصاعد حدة الأزمات الاقتصادية بمعظم بلدان الاستقبال، وتزايد نفوذ الحركات القومية الشعبوية اليمينية، وانتشار نظرية “الاستبدال العظيم”.
كلمات مفاتيح: سوسيولوجيا الهجرات-الهوية-الإسلاموفوبيا-الشعبوية-الاستبدال العظيم.
Abstract:
The article aims to reveal some of the heavy macro-sociological variables that have become, about two decades ago, structuring the current migration act and strongly determine its characteristics and consequences today. It not only negatively affects the integration of immigrants in the receiving countries, but also contributes to destroying the chemistry of peaceful coexistence between peoples and nations. This is related to the inflated discourse around the question of identity, the growing phenomenon of Islamophobia, the escalation of economic crises in most of the receiving countries, the growing influence of right-wing populist nationalist parties, and the spread of the theory of the “Great Replacement”.
Key words: Sociology of Immigration, Identity, Islamophobia, Populism, the “Great Remplacement”.
1- مقدمة:
لا شك في أن متتبع الإنتاجات السوسيولوجية في مجال الهجرة، إبان العقود الأخيرة، سيلاحظ انتقالاً متزايداً من التركيز على الإكراهات الماكروسوسيولوجية البنيوية خلال محاولة الإمساك بعوامل الطرد والجذب، إلى التشديد على السياقات والسيرورات الميكروسوسيولوجية الخاصة باعتبارها وحدات أساسية للملاحظة والتحليل؛ وسيسجل انزياحاً متنامياً من الاهتمام بالهجرة الوافدة -وخاصة بإشكالية الاندماج داخل بلدان الاستقبال- إلى الاهتمام بالهجرات العابرة للحدود، وتحديداً بالشبكات الهجروية وبأشكال الجولان (Circulation) الهجروي واقتصاده .[1]
في المقابل، يبدو أن هذه التطورات النظرية والابستمولوجية المهمة التي يعرفها اليوم هذا الحقل الفرعي التخصصي لن تسعفنا، على الرغم من قيمتها الكشفية المهمة، في فهم وتفسير الديناميات الهجروية الراهنة، ورصد سياقاتها العامة، واستجلاء أنماطها المتنوعة، وتشخيص مساراتها ومنافذها المختلفة، ووجهاته النهائية، وتعقب آثارها على بلدان المغادرة والاستقرار؛ إذا لم تستحضر بعض المتغيرات السوسيو-تاريخية الجديدة، المتداخلة فيما بينها بشكل وثيق، التي أصبحت تجثم بكل ثقلها على الفعل الهجروي الدولي الراهن، وتلقي بظلالها على كيفيات تمثله وطبيعة مآلاته. إذ لا تؤثر فقط سلباً على سيرورة اندماج[2] المهاجرين ببلدان الاستقبال، بل تعمق أيضاً واقع التحاجز والتباغض بين الأمم والشعوب، وتنسف كيمياء التعايش السلمي المشترك بينها، الذي يعد أحد أهم التحديات المجتمعية الكونية في الفترة الراهنة.
2- خصائص المشهد الهجروي العالمي:
لا شك أن هناك العديد من التحولات العميقة التي طالت المشهد الهجروي العالمي في العقدين الأخيرين، يمكن حصر أهمها فيما يلي:
أولاً: كثافة الحركية المجالية الدولية؛ إذ أن كل الإحصائيات تشير إلى التزايد السريع، خلال العقود الأخيرة، في عدد المهاجرين الدوليين، بالرغم من الارتفاع البطيء على مستوى حجم نسبتهم من إجمالي ساكنة العالم.
جدول رقم (1): نسبة المهاجرين الدوليين من إجمالي سكان العالم[3]
السنة | المهاجرون الدوليون (بالملايين) | النسبة المئوية للمهاجرين من إجمالي سكان العالم |
2000 | 173 | 2.8% |
2005 | 191 | 2.95% |
2010 | 220 | 3.22% |
2015 | 248 | 3.35% |
2017 | 258 | 3.4% |
2020 | 281 | 3.6% |
ثانياً: لم تعد بعض الدول، كالمغرب والمكسيك وتركيا، بلداناً مصدرة للهجرة فقط، بل أصبحت أيضاً بلدان عبور واستقبال. فالمغرب، على سبيل المثال، تحول إلى بلد استقرار العديد من المهاجرين المنحدرين من بلدان الساحل الافريقي وجنوب الصحراء؛ والمكسيك أصبح بلد استقبال العديد من المهاجرين المنحدرين من أمريكا الجنوبية والوسطى، وبشكل خاص من غواتيمالا، والسلفادور، والهندوراس ونيكاراغوا؛ وبدورها أصبحت تركيا مقصد عدد مهم من المهاجرين السوريين، والعراقيين، والأفغانيين، والأذربيجانيين والتركمانستانيين.
ثالثاً: لم تعد التدفقات الهجروية تتم داخل بلدان “الشمال” أو انطلاقاً منها في اتجاه دول “الجنوب” فقط، بل أصبحت تتجه أيضاً من بلدان “ الشمال“ صوب بلدان “الجنوب“. وبالأخص، خلال العقدين الأخيرين، بعدما تعمقت الأزمات الاقتصادية ببلدان “الشمال” –وخاصة أزمة 2008-وارتفعت معدلات البطالة والفقر في صفوف شبابها، وانسدت كل الآفاق أمامه، مما دفعه إلى حزم حقائبه بحثاً عن فرصة عمل، متوجها نحو بعض بلدان “الجنوب“ مثل أنغولا، والموزمبيق، والبرازيل، والأرجنتين، والاكوادور والفيتنام[4].
أكثر من ذلك، فالأمر لم ينحصر فقط في هؤلاء الشباب الذين لُقِّبوا إعلامياً بـ “الفقراء الجدد“، وبـ “الجيل المُضحَّى به“[5]، بل امتد أيضاً ليشمل بعض المتقاعدين الذين يهاجرون إلى بعض بلدان “الجنوب“– كالمغرب- سعياً منهم إما للاستفادة من تكلفتها المعيشية المنخفضة في حالة محدودية دخلهم الشهري، أو للتمتع ببعض الامتيازات الضريبية، أو للاستمتاع بطقسها الدافئ.
في هذا السياق، لابد من الإشارة إلى أنه لا يمكن اعتبار هؤلاء المواطنين الأوروبيين، سواء كانوا متقاعدين أو مقاولين أو أجراء…الخ، يقطنون في مقطورات سكنية أو في منازل اسمنتية قارة، مجرد “سيَّاح“ أو مغتربين (Expatriés)، إذا كانت مدة إقامتهم ببلدان الجنوب تساوي أو تتجاوز سنة، بل هم مهاجرون. خاصة إذا استحضرنا أن المهاجر، كما تُعَرِّفُهُ “شعبة السكان في الأمم المتحدة“، هو ذلك الشخص الذي يقطن ببلد لم يولد فيه لمدة عام واحد كحد أدنى. وللإشارة، فرغم الحد الأدنى من الإجماع الذي يحظى به هذا التعريف، سواء داخل المنظمات الدولية، أو “الجماعة العلمية“، فهو يظل إشكالياً من الزاوية السوسيولوجية. مثله في ذلك مثل كل التعاريف الأخرى، كتلك التي تعتبر المهاجر هو ذلك الشخص الذي يقضي أكثر من ثلاثة أشهر في السنة خارج بلده؛ أو تلك التي تعتبره شخصاً ينتقل للعيش ببلد ليس ببلد إقامته لمدة تساوي أو تتجاوز ثلاثة أشهر لأسباب لا تتعلق بالترفيه أو الزيارة عائلية أو الحج أو الأعمال (Affaires)؛ أو تلك التي تعتبره شخصاً يغادر مجالاً يعتبره هشاً (Précaire) للالتحاق بمجال آخر يعتقد أنه أكثر أماناً من المكان الذي غادره…. الخ. فكل هذه التعاريف لا تخلو، رغم أهميتها، من عيوب ومثالب لا يتسع هذا المقال لمناقشتها.
رابعاً: ارتفاع منسوب التدفقات الهجروية من دول “الجنوب“ وإليها. فعلى سبيل المثال، وخلافاً للاعتقاد السائد، تؤكد بعض الاحصائيات[6] على أن حجم التدفقات الهجروية التي تتم داخل القارة الافريقية -أي بين الدول الافريقية- تفوق بأربع مرات حجم التدفقات التي تنطلق منها في اتجاه أوروبا، إذ تصل إلى حوالي 80% من الحجم الإجمالي للهجرات التي تنطلق منها. للإشارة، فهذا النوع من الهجرة غالباً ما يتجه من الأرياف وإليها، ويقتصر على المناطق الحدودية المتاخمة[7]، ويتمحور، في نظر الباحثة سيلفي بريدلوب (Sylvie Bredeloup)، حول ستة أقطاب رئيسية تتوزع بين افريقيا الغربية، وافريقيا الوسطى، وشمال افريقيا، وجنوب افريقيا، بالشكل التالي[8]:
القطب الأول: يتمحور حول ساحل العاج الذي يستطيع، في ظل قلة سكانه نسبياً وحاجته الماسة الى يد عاملة للاشتغال بمزارع القهوة والكاكاو بشكل خاص، استقطاب عدد كبير من المهاجرين المنحدرين من مالي، وبوركينا فاسو، وغينيا والسنغال.
القطب الثاني: يتمحور حول نيجيريا التي تستطيع، بفضل الموارد النفطية الضخمة ومناجم الأحجار شبه الكريمة التي تتوفر عليها، جذب عدداً كبيراً من المهاجرين المنحدرين، بشكل خاص، من غانا وبنين.
القطب الثالث: يتمحور حول السنغال الذي يستقطب، لاعتبارات تاريخية معينة، مواطني البلدان المجاورة مثل غينيا والرأس الأخضر.
القطب الرابع: يتمحور حول الغابون الذي يستقطب، في ظل قلة سكانه وتوفره على ثروات نفطية هائلة وأوراش بناء كثيرة، العديد من مهاجري البلدان المجاورة، مثل الكاميرون، والكونغو، وغينيا الاستوائية.
القطب الخامس: يتمحور حول جنوب افريقيا، لما يتوفر عليه هذا البلد من مناجم للذهب والماس، حيث يستقطب عدداً كبيراً من المهاجرين المنحدرين من الزمبابوي، والموزمبيق، وافريقيا الوسطى والكونغو.
القطب السادس: يتمحور حول ليبيا التي تستقطب، بفضل ثرواتها النفطية، العديد من مهاجري البلدان المجاورة، مثل مصر، والسودان، وتونس والمغرب.
خامساً: تعدد الطرق والممرات التي يسلكها المهاجرون غير النظاميين لولوج أوروبا بعد ظهور مسارات ومعابر جديدة- وتحديداً منذ دخول اتفاقية شنغن حيز التنفيذ في بداية التسعينات من القرن الماضي- وتزايد استخدام بعضها بكثافة مقارنة بالمنافذ والمعابر الأخرى. تلك حالة ممر شرق المتوسط الذي أصبح في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد تواتر النزاعات المسلحة بمنطقة الشرق الأوسط، من أهم المسارات الهجروية المفضلة لدى المهاجرين غير النظاميين للتسلل إلى أوروبا؛ أي ذلك الطريق الذي يمر عبر تركيا والبلقان (وتحديداً من البوسنة والهرسك، وكرواتيا وألبانيا). للإشارة، فإضافة إلى هذا المنفذ، يستخدم المهاجرون غير النظاميين مسارات أخرى لولوج أوروبا، مثل:
- طريق وسط البحر الأبيض المتوسط الذي يربط الشواطئ التونسية والليبية بجزيرة لامبيدوزا الإيطالية؛
- طريق غرب البحر الأبيض المتوسط التي يتم من خلالها العبور إلى أوروبا عبر مضيق جبل طارق أو سبتة ومليلية؛
- طريق غرب افريقيا حيث ينطلق المهاجرون من المغرب (وبشكل خاص من مناطقه الصحراوية) وموريتانيا والسنغال وغامبيا، في اتجاه جزر الكناري.
سادساً: لم تعد صورة المهاجر الشاب، الفقير، العامل ذو المؤهلات المهنية الضعيفة والمستوى التعليمي المنخفض، الذي ينتقل من بلدان “الجنوب” إلى بلدان “الشمال”، تنطبق على الواقع الحالي المركب للهجرة؛ بعد أن تعددت وتنوعت، منذ بداية الألفية الثالثة، بروفيلات المهاجرين الدوليين بشكل غير مسبوق. وهو ما انتهت إليه الباحثة كاثرين ويتول دي ويندين (Catherine Wihtol de Wenden) التي حاولت نمذجة هذه البروفيلات الجديدة والمتنوعة للمهاجرين الدوليين، بناء على خصائصهم السوسيو-ديموغرافية، والمناطق التي ينحدرون منها، وشكل حركيتهم المجالية، والعوامل التي تقف ورائها، بالشكل التالي[9]:
- شباب ذكور، حاصلون على شهادات عليا، ينحدرون من طبقات متوسطة حضرية، يحملون مشروعاً هجروياً محكوماً بعدة اعتبارات، من بينها جاذبية الميتروبولات الكبرى، والحرص الشديد على العيش في ظل أنظمة تحترم حقوق الانسان الأساسية، والفرار من أنظمة سياسية استبدادية.
- نساء متعلمات يهاجرن خارج إطار التجمع العائلي، ويطمحن إلى تحقيق الاستقلالية الاقتصادية والشخصية، والتمتع بالحرية السياسية؛ لذلك يسارعن للفرار من مجتمعاتهن التي يعتقدن أنها غير قادرة على تلبية هذه المطامح والرغبات.
- أطفال قصَّر غير مصحوبين بذويهم، إما منخرطون في شبكات الاتجار بالبشر أو يقطنون بمراكز الايواء أو يعيشون وسط أسر تطوعت لاحتضانهم، يصعب التعرف بدقة على المتغيرات المستقلة الوازنة الثاوية وراء هجرتهم أو تحديد طبيعة انتظاراتهم.
- نخب ذات كفاءة عالية، يمكن إدراج هجرتها ضمن ما يعرف بـ “هجرة الأدمغة“، لأن بلدانها الأصلية تفتقر أحيانًا إلى القدرة على أن توفر لها مناصب شغل تستجيب لطموحاتها وتناسب مهاراتها، وبالأخص على مستوى الراتب الشهري. تتطلع هذه النخب أيضاً إلى تحقيق ذاتها، وهي مهمة تبدو لها سهلة التحقق بأوروبا مقارنة ببلدانها الأصلية.
- شباب ذكور، ذوو مهارات مهنية ضعيفة، يكابدون رحلة الهجرة هرباً من مستقبل مجهول وبحثاً عن فرصة عمل تضمن لهم حياة كريمة وغد أفضل، بعدما استنفدوا كل آمالهم في تحسين شروط حياتهم ببلدانهم الأصلية.
- جماعات أخرى، منظمة أحياناً بشكل جماعاتي (Communautaire)، اتخذت التنقل والحركية كنمط عيش بين “الهنا“ و“الهناك“؛ مثل حالة التجار السنغاليين المنتمون للطريقة المريدية، الذين يعيشون ويتنقلون بين مجالات جغرافية مختلفة، تمتد من غرب افريقيا إلى فرنسا، ومن إيطاليا إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
- هجرة قسرية لطالبي اللجوء واللاجئين كنتيجة موضوعية للاضطرابات السياسية والنزاعات المسلحة التي عرفتها مجموعة من المناطق الجغرافية بمختلق بقاع الكون. فإمكانية التوفر على شبكات عائلية وطبيعة “خيالهم الهجروي“ هما اللذان يتحكمان في انتقاء البلد الذي يعتزمون الاستقرار به، وتحديداً بعض العوامل الأساسية مثل مدى تمكنهم من لغة بلد المقصد، وحجم العلاقات التي يتوفرون عليها داخله، ومدى احترام هذا البلد لحقوق الإنسان…الخ[10].
لعل من نافلة القول أن من بين الدروس الأساسية التي يمكن استخلاصها من هذه البروفيلات المتنوعة التي رسمتها كاثرين ويتول دي ويندين لصورة المهاجر الدولي حالياً، هو أن الارتباط بين الفقر والهجرة هو ارتباط غير ميكانيكي. لذلك، فتعدد وتنوع هذه البروفيلات يحثنا بالضرورة على الاعتقاد بأن الطريق الملكي لفهم ظاهرة مركبة كالهجرة وتفسيرها، يقتضي بالضرورة عدم الاستسلام السريع لإغواء القراءة أو التفسير السوسيو-اقتصادي البؤسوي، أي تجنب الوقوع في أسر الجبرية الاقتصادوية الضيقة التي تعتبر أن ضغط الضرورة الاقتصادية هو المتغير التفسيري الثقيل والعامل المُحَدِّد بصورة تظافرية للفعل الهجروي. ذلك أن هناك أشكال هجروية متعددة ومختلفة لا يتحكم في صناعتها الشرط الاقتصادي، أي الفقر؛ بل متغيرات أخرى، مثل الرغبة في تنفس هواء الديموقراطية وتنسم عبق الحرية وحقوق الانسان، والاستفادة من المكتسبات والامتيازات التي تمنحها الدولة الراعية، والبحث عن تحقيق الذات…الخ.
ولا مشاحة في أن التركيز والتشديد على متغير التهميش الاقتصادي-الاجتماعي واعتباره المحرك الرئيس، والمدخل الوحيد لقراءة ظاهرة الهجرة دون الالتفات للعوامل الأخرى، يعتبر منزلقاً نظرياً ومنهجياً يقود بالضرورة إلى تصور اختزالي لها. ومن ثمة، فلا يمكن تجنب مثالب هذه النزعة الاختزالية إلا بتنويع زوايا النظر، وتعديد مستويات التحليل، بعدم الاعتماد كلياً على نظرية واحدة لتفسير الفعل الهجروي.
سابعاً: بالقدر الذي تتعمق فيه حركية ورخاوة وانفتاح المجتمعات والدول على بعضها البعض، حيث تتنقل البضائع والرساميل والأفكار والصور بينها بحرية مطلقة بفعل انخراطها في سيرورة العولمة؛ بالقدر نفسه الذي تعمقت فيه الرقابة على الحدود، لمنع تنقل المهاجرين الدوليين عن طريق مجموعة من الإجراءات التقييدية، كبناء الجدران، ووضع الأسيجة والأسلاك المُشوَّكة، وفرض رسوم تأشيرات الدخول، والتوقيع على بعض الاتفاقيات الثنائية والإقليمية والدولية المتعلقة بإعادة قبول المهاجرين، وبالإعادة القسرية…. الخ، من جهة. ومن جهة أخرى، بالقدر الذي تعمق فيه مسلسل التضييق على حرية تنقل المهاجرين والمرشحين للهجرة؛ بالقدر نفسه سيتعمق ضغط “المخيال الهجروي“، بشكل غير مسبوق، مؤججاً بذلك الرغبة في الالتفاف والتحايل على هذه الإجراءات التقييدية، أملاً في تحقيق مستقبل أفضل[11]. وللإشارة، فالمخيال الهجري الذي نشير من خلاله إلى «مجموع التمثلات التي تعطي معنى للفعل الهجروي»[12]، غالباً ما يتعمق منسوبه بفضل وسائل الإعلام التي تغذيه بقوة، من خلال الصورة الفردوسية التي تنسجها عن بلدان الشمال[13]، فتنمي، بذلك، شغف مواطني بلدان الجنوب بالهجرة، وتؤجج، بالاستتباع، تعلقهم الوجداني والعاطفي بدول الاستقبال.
3- مظلات تغطي سماء الفعل الهجروي:
إذا كنا قد حاولنا، فيما سبق، استجلاء أبرز التحولات العميقة التي اعتملت في صلب المشهد الهجروي العالمي خلال العقدين الأخيرين، فأسهمت، بالتبعيّة، في تنويع “بروفيلات” المهاجر الدولي حالياً؛ فيبدو مفيداً، فيما يلي، تشخيص أهم المتغيرات الماكروسوسيولوجية الجديدة التي أصبحت تؤطر هذه التحولات وتوجه مآلاتها الواقعية الممكنة بشكل غير مسبوق.
3- 1- تضخم الخطاب حول سؤال الهوية أو »عودة المكبوت«:
لا شك أن المتتبع اليقظ لمجريات ووقائع التاريخ الكوني الحالية في علاقتها بالمشهد الهجروي العالمي وبسياقاته العامة، سيخلص إلى جملة من الاستنتاجات المتداخلة والمتشابكة فيما بينها، لعل أهمها:
أولاً: بالقدر الذي استطاع تيار العولمة الجارف، بمختلف أشكاله الاقتصادية والتكنلوجية والتواصلية والمالية، توحيد وتنميط المجتمعات البشرية على مستوى أنماط العيش والتفكير والسلوك بعد “انضغاط“ (Compression) الزمان والمكان –بلغة دافيد هارفي (David Harvey) -؛ بالقدر نفسه الذي أدى الى تفكيكها، وانشطارها وبلقنتها. فمنذ نهاية ثمانينات القرن الماضي، ونحن نعاين مظاهر هذه المفارقة/الازدواجية الغريبة والمثيرة للانتباه التي تميز ظاهرة العولمة.
فمتغيرات جديدة مثل تقلص دور الدولة الوطنية في المراقبة والتوجيه، وقيام الشركات متعددة الجنسيات العملاقة، وتأسيس “المنظمة العالمية للتجارة”، ورفع القيود والحواجز الحمائية التي كانت مفروضة على حركة السلع والخدمات والرساميل، وتعمق مظاهر التكامل والاندماج الاقتصادي، وتواتر سيرورات الاحتكاك الثقافي بين الدول والمجتمعات بفعل الثورة الرقمية، وتطور تكنولوجيا الاتصال، والتدفقات الهجروية الضخمة، والسياحة الجماهيرية…الخ، لم تلغ، بشكل مفارقي وتناقضي، الحدود السيادية، بمعناها المادي والرمزي، بين المجتمعات والدول. خاصة بعد أن عجز هذا المد العولمي عن القضاء على الهويات الترابية والجماعاتية بمختلق أشكالها الإثنية، واللسنية، والدينية، والقومية، والجهوية، والإقليمية، والعشائرية، والقبلية، والمناطقية…الخ بعد أن أصبحت مرجعاً أساسياً في تعريف الذات وتصنيف الآخر. والدليل على ذلك، هو تشرذم العديد من المجتمعات الوطنية بعد أن عجزت عن التدبير السلمي لتنوعها وتعددها باستيعاب وإدماج كل مكوناتها، ومن ثمة الحفاظ على وحدتها. وبالأخص، بعد أن تصاعد، بشكل غير مسبوق، مد الحركات الهوياتية والأقليات الترابية والاثنية التي تطالب إما بالاعتراف بخصوصياتها الثقافية -الواقعية أو المفترضة- أو بالتعامل معها بنوع من “التمييز الإيجابي“ في الحصول على الموارد المادية والرمزية أو تسعى للتمتع بالحكم الذاتي أو تحقيق الانفصال؛ وذلك على غرار تلك الحركات التي تطالب باستقلال إقليم الكيبيك عن كندا، والباسك وكاتالونيا وغاليسيا عن إسبانيا، وجزيرة كورسيكا عن فرنسا، واسكتلندا عن المملكة المتحدة، والإقليم الفلامندي عن بلجيكا، وكردستان عن العراق، والقبائل عن الجزائر…الخ. وعلاوة على تفكك أوصال العديد من المجتمعات الوطنية، نلاحظ أيضاً تزايد عدد الجدران العازلة، والحواجز الكهربائية، والأسلاك الشائكة، وتناسل المتاريس والأسيجة المزودة بمختلف أنظمة الرصد الإلكترونية وأجهزة الرؤية الليلية بين العديد من الدول.
فإضافة إلى الجدارين الأكثر شهرة في العالم، لما أثاره تشييدهما من ردود فعل سياسية وإعلامية دولية صاخبة، أي اللذان يفصلان بين “إسرائيل“ والضفة الغربية، وبين الولايات المتحدة الامريكية والمكسيك؛ تناسلت في صمت، إبان العقود الثلاثة الأخيرة، عدة جدران وأسيجة، بين الدول[14]. في هذا السياق، يمكن استحضار تلك الجدران (الحديدية أو الفولاذية أو الصخرية أو الكهربائية) والأسلاك الشائكة التي تفصل المغرب عن الاتحاد الأوروبي؛ وجنوب افريقيا عن الزيمبابوي؛ والسعودية عن اليمن؛ والهند عن جيرانها الثلاث (الباكستان وبانغلاديش وبيرمانيا)؛ واوزبكستان عن قرغيزستان وأفغانستان؛ وتركمنستان عن أوزبكستان؛ وبوتسوانا عن الزيمبابوي؛ وتايلاند عن ماليزيا؛ وإيران عن باكستان؛ والصين عن كوريا الشمالية[15]؛ ومصر عن فلسطين. إضافة الى هذه الجدران المشيدة، هناك جدران أخرى إما قيد التشييد أو يتم التفكير بجدية في بنائها، مثل تلك التي ستفصل البرازيل عن البارغواي؛ والإمارات العربية عن سلطنة عمان؛ والكويت عن العراق؛ والولايات المتحدة عن كندا[16]؛ وانجلترا عن فرنسا (عند مدخل ميناء كاليه (Calais…الخ.
كخلاصة عامة، يمكن القول أن تناسل الجدران العازلة بين الدول وانشطار وتفتت العديد منها، في ظل الزحف العولمي الكاسح، يؤكد أن الانكفاء الهوياتي هو ربيب العولمة وباكوراتها. يتعلق الأمر بنزعتين متلازمتين تسيران جنباً إلى جنب بشكل تزامني وتساوقي وتناقضي في الآن نفسه. لذلك، فبطاقة الائتمان، يقول ريجيس دوبري، لا تلغي البطاقة الوطنية، بل تخلق، بشكل غريب وعكسي، الحاجة الماسة إليها، ما دام الوطن، «مثله مثل الفرد، يمكنه أن يموت بطريقتين: داخل مَخْنَق أو في قلب التيارات الهوائية[17]. خاصة، إذا استحضرنا، يضيف ريجيس دوبري، استحالة وجود كائن حي بدون غشاء حيوي «أو حشرة بدون كيراتين، أو شجرة بدون لِحاء، أو بذرة بدون غلاف داخلي، أو بويضة بدون غشاء، أو ساق بدون بَشَرَة[18]. فالتحديث، يردف دوبري، ينفخ، بشكل مفارقي وتناقضي، في روح كل بائد وكل عتيق، ويجعل الحي أكثر تمسكاً بتلابيب الميت وأكثر مداعبة لأشباح الماضي، خاصة أن الجديد/الحديث يكون هشاً، بينما العتيق/البائد يكون صلباً. وهو ما يفسر كيف أن التقدم التقني والاقتصادي غالباً ما يؤدي إلى البَلْقَنَة السياسية والثقافية، وإلى الانكفاء الهوياتي كتعبير موضوعي عن الإحساس بعُصاب سيادي وَسْواسي وبأزمة عقدة حصارية[19].
ثانياً: ضعف النجاعة التفسيرية لمسلمات ودعائم باراديغم الدنيوة[20] (Sécularisation)، الذي يفترض أن الدين، مثله مثل السحر، والشعوذة، والجماعة (Communauté) وعقيدة المُنقذ المنتظر، لا يمكنه أن يصمد أمام هَبَّة التصنيع، وزمهرير التحضر، وجرافة التقنية؛ ولا يمكنه أن يتعايش مع صقيع العلم، ونور شمس المدرسة العصرية، وعصا الطب السحرية؛ ممّا يجعله آيِلاً بالضرورة للزوال النهائي، وللخسوف الكامل، أو منذوراً، على الأقل، للتراجع، والانتكاس، والارتخاء[21]. وذلك بحجة أن «التقدم التقني-العلمي يخلق بالضرورة فهماً متمركزاً حول الإنسان لعالم “منزوع السحر“، لأنه يصبح خاضعاً للتفسير السببي. في حين، أن الوعي المتنور بالعلم، لا يمكنه أن يتصالح مع النظرة الكهنوتية والميتافيزيقية للعالم»[22]. والحال، وكما يقول ريجيس دوبري، أن مجريات الوقائع التاريخية أثبتت بالملموس أنه «كلما ازداد ضخ منسوب مشروب الكوكاكولا في بلد ما، كلما تضخم عدد رجالات الدين داخله»[23]؛ لأننا «نحتاج للسَّطْو كما نحتاج للانكفاء، لجاذبية الواسع مثلما للمنطقة الآمنة، وللشجرة مثلما للزورق، وللمقدس مثلما للمدنس».[24]
فإدراك هذه الحقيقة السوسيو-تاريخية الساطعة سيسعفنا، دون شك، ليس فقط في الاقتناع بضعف القيمة الكشفية لباراديكم الدنيوة، بل سيساعدنا أيضاً على استجلاء أسباب هذا الجنوح الكوني العارم نحو الاعتصام بشوكة الانتماءات القبيلة والعشائرية والعرقية والطائفية والدينية- في ظل الثورة التكنلوجية الهائلة والعولمة الكاسحة- وفهم حيثيات هذا الميل المتزايد نحو التشكيك في سرديات التنوير الكبرى، وضمور الإحداثيات المدنية كالدولة-الامة والطبقة والحزب، وتراجع منسوب التشبع بمبادئ المواطنة الكونية باعتبارها بوتقة صهر كبرى للأجناس والأعراق والأديان، وتناسل مظاهر الجنوح نحو الانغلاق والتعصب الأعمى والشوفينية الضيقة، وتصدع إمكانات التعايش السلمي بين مختلف الجماعات الاجتماعية.
ثالثاً: ضعف القيمة الكشفية للنظرة التاريخانية الغائية والمهدوية التي تعتبر «أن التغيير الاجتماعي، أو التطور التاريخي يخضع لقوانين مطلقة تتعاقب لتعطي التاريخ وجهة معينة أو معنى محدداً»[25]؛ فتمثلت بذلك التاريخ كمجرى مائي ينساب في مجراه، هادئا أو مسرعاً، وفق حتمية تاريخية محددة (أو بفضل يد خفية)، ليصل إلى مصبه الطبيعي، أي إلى محطته الأخيرة، وغايته النهائية المحددة باعتبارها اللحظة المثلى لتحقيق الخلاص البشري العظيم. تلك حالة بعض المدارس التي تبنت هاته النظرة مثل الوضعية (قانون المراحل الثلاثة)، والماركسية (اللوحة الخماسية) والتطورية[26]…الخ.
فلقد بينت مجريات التاريخ الكوني، باستمرار، تهافت هذه الرؤية التي تنظر للتاريخ، كصيرورة مُبَوْصَلة وحتمية ومتواصلة وخطية، وتراكمية وتصاعدية، وكزمنية غير قابلة للتوقف والنكوص والانعطاف والتذبذب؛ إذ لا مكان فيها للصدفة، وللنكوص، وللرجوع الى الخلف، وللانعطاف ولللايقين، ولللامتوقع، ولما يسميه رايمون بودون بـــ“المفاعيل المنبثقة” (Effets émergents)، غير مبحوث عنها، و“غير مرغوب فيها” (Effets pervers)[27]…الخ.
ولعل من المفيد الإشارة إلى أن تزايد التخندق وراء التحصينات الماضوية بعد يقظة الرواسب العتيقة والغابرة والآسنة، في ظل الثورة العلمية والتكنولوجية الحالية التي شملت آثارها كل بقاع المعمور، أشر بالملموس على أن هذه الرؤية التاريخانية الغائية الخلاصية لم تلتفت لذلك التمييز الدقيق الذي شدد ريجيس دوبري على أهمية الانتباه إليه. يتعلق الأمر بضرورة عدم الخلط بين طبيعة علاقة الإنسان بالأشياء من جهة، وطبيعة علاقة الانسان بالإنسان من جهة أخرى؛ أي بين ما يسميه بـ “الزمن التراكمي“(Temps Cumulatif) – الخطي، وغير القابل للعودة إلى الوراء، والمتجدد بشكل دائم -الذي يطبع التطور العلمي والتقني، من جهة؛ وبين ما يسميه بـ “الزمن التكراري” (Répétitif) الذي يميز المجال السياسي والرمزي من جهة أخرى[28]. فلقد لاحظنا في العديد من المرات، يقول ريجيس دوبري، أن «الجماعات الإنسانية تستعير لغة أقل سلاسة ومرونة، أو تعتنق ديانة أقل نضجاً واكتمالاً، أو تنتقل من الديموقراطية إلى الديكتاتورية؛ ولكننا لم نراها يوماً تُبادِلُ المحراث بالمعزقة، أو العجلة بالزانة، أو الطائرة بالمنطاد. فبالقدر الذي لا يوجد شيء اسمه تقهقر الكائن الحي، مادامت التركيبات الجينية تسير من الأقل إلى الأكثر تعقيداً؛ لا يمكن، بالقدر نفسه، الحديث عن وجود اٍرتداد أو نكوص تقني على المستوى المتوسط والبعيد. فالأشياء تسير نحو اكتمالها، ودينامية الآلة (Outil)، مثلها مثل المعرفة، تتجه دائماً نحو التحسن. إنه توجه كوني يخترق التاريخ والجغرافيا ويتسامى على الحتميات الإثنية»[29]. لذلك، يردف ريجيس دوبري، فإذا كانت العلاقة بالأشياء محكومة بمنطق التقدم الذي يمكن التنبؤ به، «فعلاقة الاٍنسان بالإنسان تخضع لقوانين أخرى. ذلك أن الفرق بين ”المتوحشين” و ”المتحضرين”، الذي يمكن تشخيص مظاهره داخل التاريخ التقني، ليس له أي معنى في تاريخ الفن، والديانات، واللغات، وأشكال السلطة. يمكننا القول أن تَحَكُّمَنا في الطاقة قد تطور بألف مرة منذ بداية العصر الحديث، ولكننا لا يمكننا القول أن الشخصية المعنوية لمارتن لوتر كينغ تفوق بألف مرة شخصية عيسى المسيح. فالحاسوب يشكل تقدماً مهماً بالنسبة للمِعداد[…] ولكن لا يمكنا القول بأن هوسْرل هو فيلسوف أكثر “عمقاً” من أفلاطون»[30]. باختصار، يرى ريجيس دوبري أن المعرفة تتراكم وتتقدم في مجال الأدوات التقنية والعلمية التي تسعى إلى التحكم في الأشياء، حيث الما قَبْل (Un Avant) والما بَعْد (Un Après) موضوعيان، يمكن التحقق منهما؛ أما على مستوى أشكال سيطرة الإنسان على الإنسان، أي المجال السياسي والرمزي، فيظل الما قبل والما بعد ذاتيان، وقابلان للتراجع للخلف[31].
لا شك أن من مزايا وفضائل هذا التمييز الدقيق الذي ينبه إليه ريجيس دوبري هو المساعدة على فهم المنطق الثاوي وراء هذه العودة لتمجيد الماضي وحيثيات يقظة طبقاته المترسبة، بعد أن تعمق ميل الناس لرؤية الوجود الاجتماعي من خلال مرآة الرؤية الخلفية وليس عبر الزجاج الأمامي. فهو لا يدعونا فقط إلى ضرورة الوعي بتعقد الصيرورة التاريخية وانفتاحها على كل الاحتمالات باعتبارها غير محكومة بمآل حتمي مسبق أو بغاية قصوى أو بخاتمة ظافرة، بل يشدد أيضاً على ضرورة استحضار إمكانية الانعطاف والتذبذب والنكوص عند محاولة استشراف مآلات تطور المجال السياسي الرمزي واستشفاف آفاقه وسيناريوهاته المستقبلية؛ وينبه، بالاستتباع، إلى كون الترابط بين التقدم العملي-التقني من جهة، والتقدم السياسي والثقافي والفني والأخلاقي والاجتماعي من جهة أخرى، ليس حتمياً أو آلياً.
رابعاً: خفوت جاذبية التصور التقدمي والتنويري والتفاؤلي لطبيعة حركة التاريخ الإنساني ومآلاته الذي شكل إحدى أهم العقائد الأساسية لمشروع الحداثة؛ أي ذلك التصور الخطي والتصاعدي المنتظم عن فكرة التقدم في التاريخ باعتباره نظرة للكون، ومحاولة لرسم معالم الكيفية التي تتحقق بها الصيرورة التاريخية للمجتمعات الإنسانية. فالتقدم، من هذا المنظور، «يتجه بالوعي ضرورة إلى المستقبل بوصفه مجالاً لتحقق الأحسن والأرقى والأفضل»[32]، على اعتبار أن «التطور الذي عرفته أوروبا في ميدان العلم والصناعة والاقتصاد خلال القرن الثامن عشر قد غير من حياة الناس أفراداً وجماعات وجعل تفكيرهم يتجه الى المستقبل وينظر إلى التاريخ بوصفه عبارة عن مراحل من التطور والتقدم، كل مرحلة لاحقة أعلى من السابقة عليها. فالآتي أعلى وأفضل من الماضي»[33].
فإذا كان واقع مشروع الحداثة يظل، منذ انطلاقه في القرن السادس عشر، مشروعاً غير مكتمل-كما يقول هابرماس- على الرغم من إنجازاته التقنية والعلمية الهائلة، ليظل بذلك قابلاً للتصحيح والتعديل والتوجيه باستمرار؛ فالعودة الكثيفة للهياكل والوشائج الاجتماعية العتيقة والمؤسسات الإدماجية التقليدية للتفيؤ تحت ظلالها الوارفة، باعتبارها فضاء للتساند والتعاضد والكرامة والكبرياء، أشرت بالملموس على تعثر هذا المشروع الذي كان محملا بالآمال، ومشحوناً بالوعود، ومعبقاً بالانتظارات. إذ لم يكن متوقعاً أن يستعيد التاريخ ذاكرته، وتطفو على السطح الروافد الغابرة والصدوع الباطنية، ويتزايد التشبث بالولاءات الماضوية العتيقة مثل القبيلة والعشيرة والطائفة الدينية والجماعة اللسنية والعرقية -كوعي جماعي أو كمؤسسات اجتماعية وسياسية- باعتباره درعاً واقياً ضد اهتزاز الثوابت واضطراب نقاط الاستدلال، وشكلاً من أشكال الممانعة ضد الإحساس بالتهميش الاقتصادي أو الإقصاء الاجتماعي أو الاغتراب الثقافي، أو الاضطهاد الديني أو الهيمنة السياسية. ولعل من المفيد التذكير بأن هذا المشروع، الذي تحطم على تضاريس تضخم الاحتماء بالهويات المغلقة، بشَّرَ، باسم حتمية التقدم البشري، بـــ “انفكاك السحر عن العالم“ بعد تراجع النظرة السحرية والميثولوجية للعالم، وبإخراج الانسان من دياجي الظلام وتخليصه من جثوم وأشباح الماضي التليد وقيود الاحكام المسبقة، ووعد بتحريره من شرنقة التعصب الطائفي والعرقي والديني.
لذلك، فمن نافلة القول أن الارتداد الكثيف إلى الوراء والجنوح نحو والانكماش والتعصب الأعمى والشوفينية الضيقة يسائل مشروعية الإيمان المطلق بالغد المشرق والخلاق والمحرر وبالزمن الإيجابي والمسرف في الامتلاء، ويضع على المحك مصداقية الاعتقاد الواثق والحاسم بالاكتمال (Perfectibilité) اللانهائي للكائن البشري[34]– عن طريق المعرفة والعقل والحرية- الذي بشر به هذا المشروع منذ القرن الثامن عشر، عبر العديد من رجالات الفكر والأدب والفلسفة مثل برنارد لو بوفييه دي فونتنيل (Bernard Le Bouyer de Fontenelle) ، وفولتير، وآن روبير جاك تيرجو (Anne Robert Jacques Turgo)، وغوتهولد إفرايم ليسينغ (Gotthold Ephraim Lessing) ، ونيكولا دي كوندرسيه، وفيكتور هيكو[35]…إلخ.
على سبيل المثال، فكوندورسيه الذي كان يتوخى من النوع البشري أن يعمل على تحقيق ثلاث أهداف، هي «القضاء على التفاوت بين الأمم، وتعميق فكرة المساواة بين أفراد الشعب الواحد، وأخيراً التحسن (Perfectionnement) الملموس للإنسان»[36]، أكد أن الطبيعة « لم تضع أي حد نهائي لتحسين الملكات البشرية، وأن قابلية الانسان للاكتمال (Perfectionnabilité) هي بحق غير محددة، وأن تقدم هذه القابلية، بعد أن أصبحت متحررة من كل قوة ترنو إلى فرملتها، لا تخضع إلا لمتغير مدة استمرار الحياة فوق هذه الكرة الأرضية التي قدفت بنا الطبيعة فوقها. بدون شك، فمظاهر التقدم هاته يمكنها أن تسير بإيقاع سريع إلى حد ما، ولكن لا يمكنها أن تعود إلى الوراء»[37].
وفي نفس الأفق، يقول فيكتور هيكو في روايته “البؤساء“، بلسان الطالب الثوري أنجلوراس (Enjolras): «أيها المواطنون هل تتصورون المستقبل؟ شوارع المدن مغمورة بالأضواء، وأغصان خضراء على عتبات المنازل، والأمم متآخية، والناس عادلون، والشيوخ يباركون الأطفال، والماضي محباً للحاضر، والمفكرون يتمتعون بحرية مطلقة، والمؤمنون ينعمون بالمساواة الكاملة (…) والعمل للجميع، والقانون في خدمة الجميع، والسلم فوق الجميع، ولا دماء مسفوحة، ولا حروب، والأمهات سعيدات! إن ترويض المادة هو الخطوة الاولى، وتحقيق المثل الأعلى l’idéal)) هو الخطوة الثانية»[38]. ويضيف قائلاً: «أيها المواطنون، إن القرن التاسع عشر عظيم، ولكن القرن العشرين سوف يكون سعيداً. وعندئذ سينتفي كل ما يشبه التاريخ القديم، وسيتوقف إحساسنا بالخوف، كما هو الحال اليوم، من الاستيلاء، والغزو، والاغتصاب، والصراع المسلح بين الأمم (…) يمكننا المجازفة بالقول: ستختفي المآسي. سنكون سعداء».[39]
لذلك، فهذا الجنوح نحو التشرنق على الذات والتكبيل بأصفاد الماضي وأغلال أمجاده واقعية كانت أم متخيلة، لابد له أن يسائل مصداقية هذا التصور التنويري التفاؤلي لفكرة التقدم المؤكد والحتمي في التاريخ الذي هيمن بشكل شبه مطلق على التصورات الأخرى لمنطق السيرورة التاريخية ولطبيعة مآلاتها، حتى أصبح مثل “دين مدني“[40] يعتنقه أغلب الناس؛ والدليل في ذلك أن معظم الأيديولوجيات التحديثية (مثل الليبيرالية والاشتراكية والشيوعية والوطنية والقومية…) شيدت معمارها النظري على هذا التصور، واستظلت بمعظم مسلماته الأساسية.
وللإشارة، فإلى جانب هذا التصور التطوري التنويري التفاؤلي للتاريخ، هناك ثلاث تصورات أخرى حاولت بدورها أن ترسم معالم ومنطق وغايات سيرورة التاريخ البشري بعيداً عن الايمان بفكرة “الغد الأفضل”، كثف بيير أندريه تاغييف أهمها في ثلاثة، هي[41]:
-التصورات الارتدادية (Décadentielles) التي آمنت بفكرة التقهقر فصادرت بحتمية الارتداد إلى الوراء. من بين أهم روادها نجد لويس دي بونالد (Louis de Bonald) وجوزيف أرثر دي غوبينو (Joseph Arthur de Gobineau).
-التصورات التشاؤمية (بما فيها العدمية/النيهيلية) التي آمنت بفكرة التكرار، فصادرت بحتمية التكرار العبثي أو ببداهة العدم الثابثة (Évidence récurrente du néant). من بين أهم روادها نجد أرثور شوبنهاور وجاكومو ليوباردي (Giacomo Leopardi).
-التصورات التراجيدية التي آمنت بفكرة التعارض الذي لا يمكن تجاوزه، وصادرت بحتمية “حرب الآلهة”. من بين روادها نجد فريدريك نيتشه وماكس فيبر[42].
بالطبع، ليس في مشمولات حديثنا البحث في الأسباب التي أدت إلى التشكيك في مصداقية وراهنية التصور التطوري لفكرة التقدم في التاريخ، ومن خلاله خفوت بريق ما كان يسميه فرانسوا ليوتار بـ “السرديات الكبرى للحداثة“، بل نتأدى من السياق السابق إلى التشديد على خلاصة مركزية هي أن تضخم الخطاب حول سؤال الهوية مع ما رافقه من تزايد في منسوب الاعتصام بالمرجعيات الماضوية الغائرة، وجنوح نحو الانغلاق على الذات بكل بقاع العالم، لابد له أن ينعكس سلباً على اندماج المهاجرين بدول الاستقبال. فلتكثيف مسار هذه التحولات التي استطاع من خلالها الخطاب الهوياتي الجوهراني، بأبعاده العرقية واللسنية والدينية، أن يزيح من طريقه الخطاب الطبقي ذو النفس الكوني والأممي، وإبراز آثارها السلبية على المهاجرين، وتداعياتها التدميرية على كيمياء “العيش المشترك”، يكفي، على سبيل المثال، استحضار كيف انتقل الفاعل السياسي-الإعلامي الفرنسي من الحديث عن “العمال المهاجرين“ خلال سنوات الستينات والسبعينات، إلى الحديث عن ”المغاربيين“ والعرب (Arabes/Beurs) والسود (Blacks) مع بداية الثمانينات، وبعدها- أي مع بداية التسعينات-عن المسلمين.
عموماً، فقد انتقلنا، خلال العقود الاخيرة، من استخدام ثنائيات تركز على الوضع الطبقي للفرد وموقعه في مسلسل الإنتاج، فتستحضر، بأثر من ذلك، مسلسل توزيع الثروة والسلطة- مثل مالكو وسائل الإنتاج/بائعو قوة العمل، بروليتاريا/برجوازية، مستغِلون/مستغَلون، حاكمون/محكومون…الخ-؛ إلى ثنائيات أخرى، مانوية بديلة، تميل في تمثلها لمفاصل ومستويات البناء الهوياتي للآخر إلى التشديد على بعده الإثني، مثل ثنائية عرب/أمازيغ، وعرب/أكراد، وعرب/فرس، وعرب/أقباط، وموارنة/دروز، وأتراك/أرمن، وفلامانيين/ فرانكفونيين، وكاتالونيين/باسكيين…الخ، أو تركز على بعده الديني، فتستدعي في خطابها وممارساتها ثنائية مسلم/مسيحي، ومسلم/يهودي، ومسلم/بوذي، وسني/شيعي، وكاثوليكي/بروتستاني، وأورثودكسي /بروتستاني،…الخ. ولا مِراءَ أن اللجوء إلى هذه الثنائيات كشبكة لقراءة العلاقة بين الأفراد والجماعات الاجتماعية تعكس تصاعد وتيرة الاحتراب الهوياتي، وتشي بتفجر الأحقاد والضغائن الاثنية والدينية، وبزحف النرجسيات الدوغمائية، وبتفشي النزعات الاستئصالية الماضوية الفتاكة، وباستئساد الهويات التوتاليتارية القاتلة، بلغة أمين معلوف.
صفوة القول، أن هذا الواقع الجديد الذي تشي كل مؤشراته بتضخم الخطاب حول سؤال الهوية و”عودة المكبوت” خلال العقود الأخيرة، أصبح يساهم بقوة، إلى جانب متغيرات أخرى، في عرقلة إدماج المهاجرين ببلدان الاستقبال، وفي تناسل سياسات السد والصد التي تستهدفهم.
3- 2- تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا:
يبدو أن أهم ما ميز مطلع الألفية الثالثة، تأجج مشاعر الاشمئزاز والاحتقار والازدراء والاستياء والنفور والعداء والانتقاص من الإسلام كعقيدة ونصوص وطقوس ورموز، ومن المسلمين كجماعة دينية، بمعظم دول استقبال المهاجرين. فالخطاب الإسلاموفوبي الذي ظل كامناً ومحتشماً، ولو بعد الثورة الإيرانية سنة 1979 وبروز الاسلام كواقع ديني جماعي بأوروبا مع بداية الثمانينات، وفتوى هدر دم الروائي سلمان رشدي سنة 1988؛ سيتحرر لينفلت من عقاله، ويتضخم بشكل غير مسبوق بعد هجمات الحادي عشر من شتنبر 2001.
فالتمثلات السلبية المضمرة والمكتنزة بكل معاني التوجس وسوء الثقة إزاء الجاليات المسلمة لم تعد، بعد هذه الأحداث التراجيدية، تسكن الجوانح وتتلفلف في الأعماق في شكل أحكام نمطية مسبقة صامتة؛ بل ستطفو على السطح، كغول خارج للتو من قمقمه، لتتحول إلى ممارسة يومية تعبر عن نفسها بشكل صريح. وذلك من خلال التمييز المكشوف الذي أصبح يستهدف المسلمين داخل مختلف الحقول الاجتماعية، كالمؤسسة الإعلامية، والسياسية، والقضائية، والصحية، والتربوية، والأمنية، والسجنية، والاقصاء العلني الذي يتعرضون إليه من طرف المؤسسات المكلفة بتدبير السكن الاجتماعي، والوكالات العقارية، ووكالات التشغيل، وأرباب المقاولات…الخ. وهو ما تؤكده كل التقارير التي تنجزها بعض الهيئات الدولية مثل “وكالة الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية”[43] أو الوطنية مثل “المرصد الوطني لمكافحة الإسلاموفوبيا“ بفرنسا أو جمعية “حقوق المسلم البلجيكية“[44]. إذ كلها تسجل تزايد منسوب تنامي هذه الظاهرة العنصرية سواء اتخذت شكل ايديولوجيا أو أحكام مسبقة أو ممارسات[45]، وتشدد على تناسل وتواتر حالات الاعتداء على المحجبات، وتدنيس المقابر الإسلامية، ووضع الزجاجات الحارقة في ردهات وأبهاء المساجد أو وضع رسومات عنصرية على جدرانها الخارجية، وإرسال رسائل تهديدية أو طرود مفخخة إلى ممثلي الجمعيات الإسلامية…الخ. وهو ما يؤشر بالملموس على الانتصار الإيديولوجي لــ “مقاولي الإسلاموفوبيا“ بعد أن تضخم حجمهم ونفوذهم فاستطاعوا، بالتبعة، بناء وصناعة ما يسمى بـــ“المعضلة الإسلامية“[46] (أو الخطر الإسلامي) والترويج لها بالفضاء الإعلامي والسياسي داخل معظم دول استقبال المهاجرين.
فعلى الرغم من اختلاف مظاهرها ومسوغاتها باختلاف السياقات التاريخية والخصوصيات الاجتماعية الوطنية التي تندرج في إطارها، فإن اللافت هو أن الإسلاموفوبيا سواء كانت فردية أو مؤسساتية، عالمة[47] أو شعبية، أمنية (Sécuritaire) أو إيديولوجية[48]، هي ظاهرة تشترك فيها معظم بلدان استقبال المهاجرين، رغم أن الإسلام أصبح، في الغالب، الديانة الثانية في “سوقها الديني“. إذ يظل القاسم المشترك بين هذه “الإسلاموفوبيات“ المتعددة هو الطعن في مشروعية وجود المسلمين بهذه المجتمعات، والنظر إليهم كطابور خامس، وككائنات تختزن كل مكونات الضدية والغيرية المطلقة، باعتبارهم غير قادرين، بحكم طبيعة عقيدتهم الدينية، على استيعاب حقائق العصر الحديث وانجازاته أو التكيف مع تطوراته.
ويبدو أن هذه القناعة تظل محكومة بالرؤية الاستشراقية المسكونة بهاجس « التمييز الوجودي والمعرفي بين ما يسمى الشرق، وبين ما يسمى (في معظم الأحيان) الغرب»[49]، ومتشبعة بمسلمات ما سماه صادق جلال العظم بـ“ميتافيزيقا الاستشراق“ التي تؤمن بأسطورة الطبائع الثابتة والمتمايزة جوهرياً « فتفسر الفوارق بين المجتمعات والشعوب والثقافات بردها إلى طبائع ثابتة وليس إلى صيرورات تاريخية متبدلة»[50]، وتسلم، بالتبعة، « بوجود فارق أساسي وجذري بين الجوهر المزعوم لكل من الطبيعة الشرقية من ناحية؛ والطبيعة الغربية من ناحية ثانية لصالح التفوق الكامل للطبيعة الغربية المزعومة»[51]. بلغة أخرى، فميتافيزيقا الاستشراق ترى ضمناً (أو صراحة) أن الخصائص التي تميز المجتمعات الغربية ولغاتها وثقافاتها…الخ هي على ما هي عليه لأنها، في التحليل الأخير، تنساب من طبيعة “غربية“ معينة متفوقة في جوهرها على باقي الطبائع وبخاصة على الطبيعة “الشرقية“[52].
لذلك، فالانطلاق من هذه القناعة[53]، الاختزالية والعنصرية في آن واحد، غالباً ما يؤدي إلى اتهام المسلمين بالنزوع الطائفي بما يحمله من انعزال وانطوائية وتقوقع على الذات، وبعدم اعترافهم بالاطار الدستوري والقانوني الذي يحكم المجتمعات التي يعيشون فيها، وبرفضهم لمبدأ الفصل بين الدين والسياسة، وبعدم ولائهم للأوطان التي تستضيفهم وتأويهم، وبضعف منسوب تسامحهم مع “الآخر” المختلف دينياً واجتماعياً وثقافياً وفكرياً وسياسياً-ومن ثمة فبذور الديموقراطية أو العقلانية أو الحرية لا يمكن أن تنبث في “أرضهم القاحلة”- وبتجريمهم للحق في تغيير المعتقد الديني، وبرفضهم المطلق للمساواة بين الرجل والمرأة ونزوعهم نحو اخضاعها واستعبادها ومصادرة حقوقها، وبارتفاع معدل خصوبة نسائهم، وبممارستهم للزواج المتعدد والمُدَبَّر(Arrangé) والمبكر والقسري…الخ.
من اللافت أن هذه الأحكام السلبية حول المسلمين أصبحت، خاصة بُعَيْد الحادي عشر من شتنبر 2011، وفي ظل سطوة الخطابات القومية الشعبوية العنصرية، تتخذ صيغة الحقائق الثابتة، والقضايا التقريرية الصادقة المسلم بها بالعديد من مجتمعات الاستقبال. لهذا، ستصبح هذه الأحكام النمطية التي تسلم بغيرية المسلمين المطلقة، فتشيطنهم بذلك، وتبرر العداء اٍتجاههم، باعتبارهم غير قابلين للاندماج والانصهار في النسيج الاجتماعي لمجتمعات الاستقبال ومحيطها الثقافي، فيعرضون بذلك هويتها لمخاطر التصدع والتشظي، قطعة جاهزة في البلاغة الخطابية لكل ”مقاولي الإسلاموفوبيا” يستثمرونها في معاركهم الانتخابية.
من المؤكد أنه لا يمكن قراءة هذه الأحكام السلبية حول الاسلام وفهمها دون استحضار الأوعية التاريخية والدينية والحضارية التي تغديها باستمرار. فالتاريخ، يقول بول فاليري، «يهيج الأحلام، ويُثمِل الشعوب، ويخلق لديها ذكريات خاطئة، ويعمق من حدة ردود أفعالها، ويغذي جروحها القديمة، ويعكر صفو راحتها، ويقودها إلى جنون العظمة أو جنون الاضطهاد، ويجعل الأمم تشعر بالمرارة والعجرفة، فتصبح بذلك مزعجة وتافهة«[54]. فالإسلام، يؤكد إدوارد سعيد، لم يصبح «رمزاً للرعب والخراب وجحافل الهمجيين الشيطانية الكريهة بلا سبب، فلقد كان يمثل لأوروبا صدمة نفسية متصلة الحلقات، إذ كان “الخطر العثماني” يكمن حتى نهاية القرن السابع عشر بجوار أوروبا ويمثل خطراً دائماً على الحضارة المسيحية بأسرها. وعلى مر الزمن، تمكنت أوروبا من أن تدرج هذا الخطر ومأثوراته التقليدية، وأحداثه العظمى وشخصياته البارزة ومناقبه ومثالبه في صلب حياتها»[55].
لذلك، فإذا كانت ذاكرة المسلمين، يقول سيمون جارجي[56]، تحتفظ باسم صلاح الدين الأيوبي “سيف الله“ الذي استطاع بفروسيته وشجاعته استعادة الأراضي المقدسة التي استولت عليها الجيوش المسيحية في أواخر القرن الحادي عشر؛ فالذاكرة المسيحية لا زالت تحيط بهالة من القداسة كل من شارل مارتيل “أداة الله ضد الكفار“، الذي أوقف المد الاسلامي بأوروبا الغربية في معركة ”بلاط الشهداء“ (أو بواتييه Poitiers) سنة 732، وكذا يوحنا الثالث سوبييسكي Jean III Sobieski (1629-1696) ملك بولونيا، الذي منع جيوش الامبراطورية العثمانية- بعد أن استطاعت إخضاع أوروبا الشرقية والوسطى لسيطرتها- من احتلال فيينا سنة 1683[57].
ولإبراز ثقل هذا المتغير التاريخي في تغذية المد الإسلاموفوبي ورفد شرايينه، يكفي أن نستحضر كيف كان يشهر في وجه تركيا، عندما كانت ترغب في الانضمام للاتحاد الأوروبي، سيف الماضي العسكري للإمبراطورية العثمانية التي كانت تحتل أجزاء واسعة من آسيا الوسطى والقوقاز والبلقان وشرق أوروبا ووسطها[58]؛ إذ أن «تركيا التي كانت عدوا لأوروبا لا تستطيع أن تصبح صديقاً وحليفاً إما بسبب ذلك الماضي بالذات، أو لأن أوروبا مسيحية والأتراك مسلمون في غالبيتهم»[59]. لذلك، يبدو أن بعض المؤرخين لا يجانبون الصواب عندما ينبهون إلى وجود نوع من الاستمرارية، التي تتسربل بملابس مختلفة وبأعذار جديدة، بين الإسلاموفوبيا الحديثة والنزعة المسيحية المضادة للمحمدية[60]، ويؤكدون على أن هذه الصور السلبية عن الإسلام والمسلمين، التي تجثم بكل ثقلها على الحاضر، ليست وليدة اللحظة، بل تبلورت عبر فترة زمنية طويلة.
فالمؤرخ البريطاني نورمان دانييل، مثلاً، يشدد على أن «أولى ردود الفعل المسيحية تجاه الاسلام تشبه إلى حد كبير ردود الفعل الحديثة إزاءه. فالتقليد (la tradition) لم يختف قط، وظل دائماً حياً […] فالغرب الأوروبي لازال يحتفظ بنظرته الخاصة للإسلام التي تشكلت منذ القدم، وتحديداً بين سنة 1100 و1300م، والتي لم تتغير إلا ببطء شديد منذ ذلك التاريخ»[61]. هكذا، يضيف نورمان دانييل، فالمواقف الحديثة من الإسلام تستمد حيويتها بشكل كبير من رومانسيات (Romantiques) العصر الوسيط، وعصر الأنوار. وفي نفس الأفق، يؤكد مؤرخ العصر الوسيط ريتشارد سوذرن (Richard Southern) أن الاقتناع بافتقار الإسلام إلى الأخلاقية، ورفضه للنقاش الفكري، وتبلد المسلمين العقلي، باعتبارهم لا يقبلون على استخدام عقولهم حتى لا يفقدوا ايمانهم، ترسخت في الأذهان كأفكار ثابتة منذ العصور الوسطى الأوروبية[62]. وغني عن الذكر، أن متن هذه الصورة السلبية التي استطاعت أن تهيج الغرائز العدوانية تجاه المسلمين، وترسخ مشاعر الكراهية ضدهم، تشكل تاريخياً عبر الرواية، والقصة، والنصوص التاريخية، والخطاب الديني الذي ينتجه رجال الكنيسة الرهبان والكهان، وكُتب الرحلات، والتقارير الحكومية التي حررها السفراء، والشعر والغناء…الخ.
ولاستجلاء ملامح الصورة الأوروبية الوسيطة للإسلام التي لازالت تغدي المخيلة الغربية عن الإسلام[63]– باعتباره آخر الغرب- يكفي استحضار إحدى قمم وصروح الأدب العالمي الشامخة التي يمكن اعتبارها شهادة حية عن حضارة أوروبا العصور الوسطى وعن تمثلاتها للحضارات الأخرى. يتعلق الأمر بالملحمة الشعرية «الكوميديا الإلهية» التي كتبت ما بين 1307 و1321 من طرف الشاعر الايطالي اليغييري دانتي (1265م-1321م)، والتي يصف من خلالها رحلته الخيالية في الجحيم، والمطهر، والفردوس رفقة المرشدين فرجيليو وبياتريس. هذه الملحمة الشعرية رسمت صورة مقيتة عن الإسلام، وبشكل خاص عن نبيه محمد الذي تم وضعه، إلى جانب علي ابن أبي طالب، في الخندق التاسع ضمن دائرة الجحيم الثامنة، سبق لإدوارد سعيد أن توقف في كتابه «الاستشراق» عن مراميها البعيدة، حيث اعتبرها مثالاً حياً يعبر عن رغبة الغرب في ممارسة سيطرته السياسية والثقافية على الشرق وبالتالي على العالم الإسلامي[64]. للإشارة إلى أهمية هذه الملحمة يكفي أن نذكر أنها لازالت تدرس في المؤسسات التعليمية الغربية، وقد وصل عدد مبيعاتها في العالم إلى حوالي 12 مليون نسخة[65]. في المقابل، فشعبية هذه الملحمة والافتتان الرسمي والشعبي الشديد بها، لم يمنع منظمة “غيروش 92” الحقوقية، التي تقدم استشارتها للمجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة، من الدعوة إلى حذف تدريسها من المقررات الدراسية الإيطالية، لكونها تتضمن أحكاماً تمييزية جارحة ضد اليهود والمسلمين والمثليين[66].
علاوة على هذا، يمكن أن نذكر أيضاً، على سبيل المثال، ببعض الأناشيد التي تستعيد لحظات الصراع العنيف مع المسلمين، فتصف بعض وقائع الحروب الصليبية، وتحتفي ببطولات الفرسان المسيحيين في القرون الوسطى[67]، مثل أنشودة رولاند (Roland)التي تتغنى بتضحيات رولاند حفيد شارلمان وقائد جيشه في معركة “ممر رونسفال” (Bataille Roncevaux) سنة 778، وأنشودة كيوم (Giullaume) التي تحتفي ببطولة وشجاعة وليام دي جيلون (Guillaume de Gellone) في معركة “أوربيو” (Orbieu) ضد المسلمين سنة 793، وأنشودة أنطاكيا (Antioche) التي تتغنى ببطولات الصليبيين أثناء حصارهم لأنطاكيا أثناء الحملة الصليبية الأولى ما بين1097 و1098، وأنشودة القدس التي تشيد ببطولة جودفري دي بويون (Godefroy de Bouillon) أثناء الزحف الصليبي على القدس سنة 1099[68]…الخ.
اللافت للانتباه، أن ملامح هذه الصورة النمطية حول المسلمين لن ينجو أحد من تشربها واستبطانها بما في ذلك رموز العقلانية الغربية، مثل فولتير (1694-1778) أحد رواد التنوير وأحد أشد المدافعين عن قيم الحرية والتسامح في القرن الثامن عشر، خاصة من خلال كتابه «رسالة حول أخلاق الأمم وروحها»[69] الصادر سنة 1756، أو من خلال مسرحيته «التعصب، أو النبي محمد» [70]التي ألفها سنة 1742. أكثر من هذا، فكلود ليفي ستراوس بدوره، وهو المعروف بتصديه للأطروحات العرقية، وبنبذه للنزعات العنصرية، وبدعوته للتحرر من المركزية الثقافية الأوروبية، وبدفاعه المستميث عن وحدة العقل البشري، وعن التعدد والتنوع الثقافي الإنساني، سيعيد إنتاج هذه الصور النمطية حول المسلمين. فقد رسم، بلغة تقريرية مباشرة، صورة قاتمة عن الإسلام كدين، وكحضارة، وكثقافة، بعد التقاءه بمسلمي شبه القارة الهندية في بداية الخمسينات من القرن الماضي؛ بعد أن جعله هذا اللقاء يحس بالامتعاض والتضايق، ويستشعر، بالاستتباع، المخاطر التي تحدق بالفكر الفرنسي على حد تعبيره. من بين ملامح هذه الصورة القاتمة التي بلورها في كتابه «مداريات حزينة»[71]، والتي يستشف منها عداء واضحاً وصريحاً للمسلمين، اتهامهم بالانغلاق، والتعصب، والنزعة الذكورية التمييزية، والاقصاء الديني والعنف. فبعد مقارنته بين حكيم الهندوس بوذا، ونبي الإسلام محمد، سيستنتج أنهما رمزان للضدية في كل شيء، لأن القاسم المشترك الوحيد والأوحد بينهما، في نظره، هو أن كلاهما معاً ليسا من الآلهة[72]. هكذا، وبلغة جازمة، يصف بودا بكونه عفيفاً، وخنثوياً، ومسالماً، وقدوة؛ أما محمد، في نظره، فهو فحلاً بزوجاته الأربع، وملتحياً، ومحباً للحرب، ومبشراً[73] (Messianique).
في المقابل، فالخلفية التاريخية والحضارية لهذه العلاقة العدائية بالمسلمين، لا يمكنها طمس أهدافها الجيو-السياسية ورهاناتها الاقتصادية الحيوية، على الرغم من تدثرها، أحياناً، بالوشاح الديني-الحضاري. إذ يكفي أن نستحضر هنا كيف حاول الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن إقناع نظيره الفرنسي جاك شيراك بدعمه في حربه ضد العراق، التي لم تكن تهدف سوى إلى نهب موارده وثرواته الاقتصادية، بكونه تلقى وحياً من السماء يدعوه إلى خوض حرب إيمانية مقدسة ضد أعداء الغرب المسيحي الذين يريدون تدميره. فقد كشف جاك شيراك في مقابلة مع الصحفي جون كلود موريس[74] ما يلي: «تلقيت من الرئيس بوش مكالمة هاتفية في مطلع عام 2003، فوجئت فيها بالرئيس بوش وهو يطلب مني الموافقة على ضم الجيش الفرنسي للقوات المتحالفة ضد العراق، مبرراً ذلك بتدمير آخر أوكار “يأجوج ومأجوج”، مدعياً إنهما مختبئان الآن في الشرق الأوسط، قرب مدينة بابل القديمة، وأصر على الاشتراك معه في حملته الحربية، التي وصفها بالحملة الإيمانية المباركة، ومؤازرته في تنفيذ هذا الواجب الإلهي المقدس، الذي أكدت عليه نبوءات التوراة والإنجيل»[75].
فجلي أن الموقع الاستراتيجي الدقيق للعالم العربي- ذو الأغلبية المسلمة- في الخريطة العالمية بمحاذاة أوربا قلب العالم الحديث الذي يثير حفيظة الأوروبيين ويجعلهم حساسين تجاه تحول العرب إلى قوة تهدد أمنهم واستقرارهم، وكذا مخزونه النفطي الضخم الذي يشكل ثروة اقتصادية استراتيجية في العصر الصناعي الثاني، هي إحدى أسباب معاداة الغرب المتميزة للعرب[76]. فالمعطيات التاريخية، يردف محمد سبيلا، تؤكد أن الحضارة العربية الإسلامية كانت إحدى أكثر القلاع الثقافية صموداً ومقاومة لمشروع الهيمنة الكوني للغرب كقوة كونية أخذت تبسط نفوذها التقني والعلمي والفكري وهيمنتها السياسية على كل أرجاء المعمورة ابتداء من القرن الخامس الميلادي[77]. يكفي التذكير فقط أن العالم العربي، باعتباره قلب العالم الاسلامي، شكل بالنسبة للغرب نقطة مقاومة لم يكن من السهل تلافيها، وقلعة حضارية حصينة، تشكلت حول نواة روحية مركزها الإسلام، عصية على التطويع أو الاستلحاق أو الإبادة[78]. فإذا كانت البداية الفعلية للاستعمار الغربي، يضيف محمد سبيلا، انطلقت منذ الربع الأول من القرن الخامس عشر (مثلاً بدأ الاستعمار البرتغالي للبرازيل منذ سنة 1521) فالأرض العربية كانت عسيرة الابتلاع، حيث كانت هي آخر الأراضي التي احتلها الاستعمار الأوربي؛ إذ لم يداهمها الاستعمار رسمياً الا مع نهاية ربع القرن 19، كما أن مدة الاستعمار لم تتجاوز في أقصى الحالات قرناً وربع (1830-1960)[79].
ولعله من المهم أن نشير إلى أن التنبيه إلى دور تضخم الخطاب حول سؤال الهوية في ضخ شحنات هائلة من الحيوية في شرايين الإسلاموفوبيا، والتشديد على دور السرديات التاريخية والمتخيلة في النفخ في روحها وتأجيجها، واستحضار الرهانات الاقتصادية والجيو-سياسية الحيوية التي ترفدها وتغذيها، لا يجب أن ينسينا ضرورة الالتفات لمتغيرات أخرى تصب مزيداً من الزيت والحطب في نارها فتذكيها وتسهم في الرفع من منسوبها. تلك حالة مضاعفات الأعمال الإرهابية التي تقوم بها، باسم الإسلام، بعض الجماعات الدينية-السياسية المتطرفة، وكذا الوضعية السوسيو-اقتصادية الصعبة التي يعيش فيها المسلمون، خاصة في أوروبا حيث ترتفع نسبة البطالة في صفوفهم بشكل مهول مقارنة بباقي الأقليات الدينية؛ إلى الحد الذي أصبح الاسلام في المخيال الجماعي للأوروبيين لا يرمز فقط للعنف والإرهاب، بل وللفقر والبؤس والهشاشة أيضاً.
4- تصاعد حدة الأزمات الاقتصادية بمعظم دول الاستقبال:
لا شك أن هناك تضارباً بين الباحثين في علم الاقتصاد حول معايير ومؤشرات قياس درجة حيوية الدينامية الاقتصادية لبلد معين، وتقييم مدى قوته وعلو كعبه التنموي. في المقابل، يبدو أن أغلبهم يشدد على أهمية المؤشرات الأربعة التالية: حجم المديونية العمومية، والعجز أو الفائض في الموازنة العامة، ومعدل نمو الناتج المحلي الاجمالي، ومعدل البطالة.[80]
إذا كان الأمر كذلك، فيبدو أن الاعتماد على هذه المؤشرات لقياس وتقييم النشاط الاقتصادي لعدد كبير من دول استقبال المهاجرين، مثل الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي التي تستقبل إلى حدود شهر يناير 2020 حوالي 22.2 مليون مهاجر غير أوروبي[81]، سيجعلنا نستنتج بسهولة أنها تعيش أزمة اقتصادية حادة منذ أكثر من عقد ونصف.
ففيما يخص المديونية العمومية لدول الاتحاد الأوروبي، تشير كل الإحصاءات والتقارير الرسمية إلى تفاقم حجمها بشكل مهول. فقد وصلت خلال الثلاثي الثالث لسنة 2020 إلى 12036166مليون يورو، أي بنسبة 89.8 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي[82] .للإشارة فهذه النسبة -أي نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي- تصل في حالة اليونان إلى 199.9 في المئة، وفي حالة إيطاليا إلى 154.2 في المئة، وإلى 130.8 في المئة في حالة البرتغال، و116.5 في المئة في حالة فرنسا، و114.1 في المئة في حالة إسبانيا، و113.2 في المئة في حالة بلجيكا[83].
وإذا كان المادة 140 معاهدة مايستريخت، الموقعة في 7 فبراير 1992، تلزم كل الدول الأعضاء في منطقة العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) بأن لا يتجاوز عجزها العام السنوي 3 في المئة من إجمالي ناتجها الداخلي الخام، فالملاحظ أن جلها لا يستطيع احترام هذه “القاعدة الذهبية”. إذ تضطر معظم دول الاتحاد، بما فيها تلك التي تستقطب أكبر عدد من المهاجرين، إلى تجاوز هذا السقف المرجعي بكثير، منتهكة بذلك قواعد ميثاق الاستقرار النقدي والاقتصادي، كما هو مبين في الجدول أدناه.
الجدول (2): نسبة العجز العام السنوي من الناتج الداخلي الخام ببعض دول الاستقبال[84]
الدول السنة | فرنسا | اسبانيا | البرتغال | المملكة المتحدة |
2008 | 3.3% | %4.6 | 3.7% | %5.1 |
2009 | %7.2 | %11.3 | 9.9% | %10 |
2010 | %6.9 | %9.5 | 11.4% | %9.2 |
2011 | %5.2 | %9.7 | 7.7% | %7.5 |
2012 | %5 | %10.7 | 6.2% | %8.1 |
2013 | %4.1 | %7 | 5.1% | %5.5 |
2014 | %3.9 | %5.9 | 7.4% | %5.5 |
2015 | %3.6 | %5.2 | 4.4% | %4.5 |
2020 | %9.2 | %11 | 5.7% | %12.3 |
علاوة على هذا، يبدو أن ضعف معدل نمو الناتج المحلي الاجمالي لجل بلدان الاستقبال وتباطؤ اقتصاداتها خلال العقد الأخير يؤشر بدوره على أزمتها الاقتصادية الحادة. فالإحصاءات تشير إلى أن أعلى نسبة نمو استطاع تحقيقها الاتحاد الأوروبي، منذ 2009 إلى اليوم، لم تتجاوز 2.8 في المئة[85]. وهو رقم متواضع إذا قارناه بالصين والهند اللتان لم يقل معدل نمو اقتصادهما منذ سنوات عديدة- باستثناء سنة 2020- عن 4.2 في المئة. أكثر من ذلك فهناك العديد من دول الاتحاد التي تستقطب عدداً هائلاً من المهاجرين ظلت نسبة نموها سالبة لعدة سنوات (على غرار إيطاليا)، كما هو مبين في الجدول أدناه:
الجدول (3): نسبة نمو الناتج المحلي الاجمالي لبعض دول الاتحاد الاوروبي (%)[86]
السنة الدول | 2009 | 2012 | 2015 | 2019 | 2020 |
إيطاليا | -5.3% | -3.0% | 0.8% | 0.3% | -8.9% |
فرنسا | -2.9% | 0.3% | 1.1% | 1.8% | -7.9% |
اسبانيا | -3.8% | -3.0% | 3.8% | 2.0% | -10.8% |
هولندا | -3.7% | -1.0% | 2.0% | 2.0% | -3.8% |
بلجيكا | -2.0% | 0.7% | 2.0% | 1.8% | -6.3% |
البرتغال | 3.1% | -4.1% | 1.8% | 2.5% | -7.6% |
كما تزكي الإحصاءات الرسمية المتعلقة بمعدلات البطالة بدول الاتحاد الأوروبي بدورها الحديث عن الأزمة الاقتصادية الحادة؛ إذ تؤشر على ارتفاع معدلاتها بشكل واضح خلال العقدين الماضيين. فلقد وصلت، على سبيل المثال، خلال دجنبر 2019، الى 13.7 في المئة بإسبانيا، و9.6 في المئة بإيطاليا، و8.2 في المئة بفرنسا، و7.1 في المئة بالسويد[87].
الجدول (4): معدلات البطالة بدول الاتحاد الاوروبي (2005-2020)[88]
السنة | معدل البطالة |
2005 | 9.30% |
2008 | 7.90% |
2011 | 11.40% |
2014 | 10.50% |
2017 | 7.70% |
2019 | 7.40% |
2020 | 7.40% |
عموماً، وعلى ضوء كل ما سبق، يبدو أن كل المؤشرات السالفة الذكر تؤكد أن دول استقبال المهاجرين تعيش أزمة اقتصادية خانقة منذ ما ينيف على عقد ونصف من الزمن. وبدهي أن المهاجرين هم أول من يكتوي بنار مضاعفاتها، إذ تسهم بالضرورة في صد الحدود في وجههم، وتدهور بنيات استقبالهم، وتناسل القوانين ذات النفس العنصري التي تستهدفهم، وتصاعد حدة كراهيتهم من طرف المواطنين المحليين، ونذرة فرص ادماجهم السوسيو-مهني التي تؤجج فيهم الرغبة في الاصطبار على أشق الاشغال، والرضى بأدنى شروط العمل- في حالة توفره طبعاً- للتمكن من مصاولة طواحين القوت اليومي.
5- تزايد نفوذ الحركات القومية الشعبوية اليمينية:
لا شك أن كل حديث عن ملامح المشهد الهجروي الراهن لا بد أن يستحضر، ليس فقط عودة الهويات المحلية والإثنية بشكل قوي، وتصاعد وتيرة المد الإسلاموفوبي، وتواتر الأزمات الاقتصادية التي عصفت بمعظم بلدان استقبال المهاجرين خلال العقود الاخيرة؛ بل وأيضاً تنامي موجة الشعبويات القومية اليمينية وتزايد قوتها السياسية والثقافية داخل جل هذه البلدان.
فقد أسهم تصاعد المد السياسي والثقافي لهذه الحركات القومية الشعبوية اليمينية في تناسل سياسيات التمييز والعنصرية التي تستهدف المهاجرين-وبالأخص المسلمون منهم-بعدما نجحت في تغذية وتضخيم المخاوف منهم، بِعدِّهم أشراراً بالفطرة ومجرمون بالسليقة؛ فتحولت بذلك إلى أشواك مزروعة في طريقهم نحو الاندماج، يسيرون عليها، أحياناً، بأقدام عارية.
لكن قبل أن نعطي بعض الأرقام التي تبين تصاعد مد هذه الحركات القومية الشعبوية اليمينية، لابد من تحديد ما نعنيه تحديداً بـمفهوم”الشعبوية”؟
5-1- ما الشعبوية؟
رغم التباين الشديد والتنوع الكبير الذي يطبع الحركات الشعبوية القومية اليمينية، فمن الممكن رصد بعض القواسم السياسية والايديلوجية المشتركة بينها، أي تلك التقاطعات التي تبدو واضحة في أدبيات معظم اطيافها، وناصعة في خطابات جل زعمائها. من بين هذه التقاطعات يمكن أن نذكر ما يلي[89]:
- تعتبر الشعب كتلة واحدة منسجمة، تتمتع بنقاء السريرة وحسن الطوية والعصمة من الخطأ، وتسلم بكونها هي الوحيدة التي تعبر عن فضائله ومزاياه الفطرية، فتتهم كل منافسيها على السلطة بالفساد والخيانة والتآمر عليه. وهي حالة ذهنية وموقف إيديو-سياسي يسميه الباحث الألماني يان-فيرنير مولر (Jan-Werner Müller) في كتابه ”ما الشعبوية؟” بـــ”الاحتكار الأخلاقي للتمثيلية”[90].
- ترفض كل أشكال التعدد الإثني والديني وتحاربه لأنه يطمس- في نظرها- حقيقة الشعب في جوهره ووحدته وصفائه وانسجامه[91]. وبما أنها تعتبر المهاجرين بمثابة نفايات بشرية لا تعمل إلا على تلويث بيئة مجتمعات الاستقبال النقية، ومن ثمة شوائب لهذا الانسجام وخطراً على استمراره، فهي تطالب باستصدار القوانين والتدابير الإدارية التي تقيد حريتهم في التنقل، وتقنن طقوس العبادات وعادات اللباس والأكل والعلاقات الجنسية لدرء مخاطر التعددية الثقافية على فكرة الشعب المنسجم[92].
- تؤمن بأن مستقبل شعوبها مهدداً باستمرار تدفق المهاجرين المنحدرين في الغالب من بلدان غير ديمقراطية، وبتزايد نموهم الديمغرافي، مما سيحول هذه الشعوب “الأصلية”، على المدى البعيد، إلى أقلية في بلدانها.
- تعادي النخبة القائمة سواء كانت منتخَبة أو غير منتخَبة، كما هو الأمر بالنسبة للتقنوقراطيين أو القضاة، وتسعى إلى تتفيهها باستمرار بِعدِّها جماعة متحكِّمة في آليات السياسة والاقتصاد، وفاسدة، ومنفصلة عن الشعب في حقيقته، وفاقدة لمشروعية تمثيله[93]. إذ تعتبر هذه النخب إحدى أهم أسباب التفاوتات الاجتماعية الصارخة، وانعدام الأمن، وتفشي البطالة، واتساع وتيرة “الزحف الهجروي الكاسح” من خلال دفاعها المستمر عن استبدال حق الدم (Jus Sangus) بحق التراب (Jus Solis) الذي يخول لكل من ولد وترعرع ببلد الاستقبال التمتع بجنسيتها حتى لو كان أبويه أجنبيان.
- ترى أن الاتحاد الأوروبي يظل، ببنيته البيروقراطية-التقنوقراطية الحالية، مجرد تكتل إيديولوجي وآلية سياسية لشرعنة مصادرة قرارات الشعوب، وانتهاك سيادتها القومية، ومحو تاريخها الأصيل، وتلويث ثقافتها العريقة؛ ولذلك فهي غالباً ما تطالب بتفكيك هذه البنية أو تدعو للانسحاب منها. فهي لا تنتقد فقط بنيته البيروقراطية غير المنتخبة، بل أيضاً نزعته الليبرالية في السياسة والاقتصاد كما تبدو من خلال سعيه للدفاع عن الحريات الفردية وحرصه على حماية حقوق الأقليات والمهاجرين، أو في ذوده المستميث عن قواعد السوق الحرة حتى لو تعارضت مع الحقوق الاجتماعية. لذلك فهذه غالباً ما تعتبر أن تفكيك الاتحاد الأوروبي أو الانسحاب منه هو الطريق الملكي لصد ما تسميه بـ “الغزو الثقافي” (وبالأخص ما تسميه بـ “أسلمة أوروبا”)، والشرط الأساسي لكبح جماح التبادل الحر، والعودة إلى الحمائية الاقتصادية. ومن خلال كل هذا، البدء في استعادة الشعوب الأوروبية لسيادتها ولاستقلالية قرارها السياسي، بحمايتها من تغول الكارتيلات الاقتصادية، واستئساد الأوليغارشيات المالية، وتحصينها من نخب سياسية فاسدة تنحصر وظيفتها- في نظر هذه الحركات الشعبوية- في مهمة المناولة لفائدة مصالح هذه اللوبيات المتغولة.
- التوفر على زعماء كارزماتيين قادرين على تجييش المخزون الانفعالي والغرائزي للناس حيث يمتلكون قدرة كبيرة على دغدغة عواطفهم ومشاعرهم، وينزعون نحو تسفيه المؤسسات، والتمرد على البروتوكولات الرسمية، وعدم احترام قواعد الكياسة الأخلاقية ومعايير الصوابية السياسية (Politiquement Correct).
- 2. مؤشرات تمدد الحركات الشعبوية القومية اليمينية
لا شك أن إحدى أهم مؤشرات نجاح هذه الحركات الشعبوية القومية اليمينية التي ترسخ تقدمها في المشهد السياسي بخطى حثيثة في السنوات الأخيرة، بعد أن استطاعت أن تقدم نفسها كحارسة وحيدة على مصالح شعوبها، لا يكمن فقط في قدرتها على الوصول إلى مقاليد السلطة في بعض بلدان الاستقبال، أو في اكتساحها الانتخابي للعديد من المؤسسات المنتخبة خلال العديد من الاستحقاقات المحلية والوطنية. بل وأيضاً، وبشكل خاص، في أن تحول موضوع الهجرة- ومن خلالها الإسلام- إلى إحدى القضايا المركزية التي تُؤَثِّث الزمن الانتخابي بقوة في كل بلدان الاستقبال، وأن تجعله تيمة جوهرية في التجاذبات المجتمعية بفضائها العمومي، ومتغير ثقيل يهيكل اصطفافاتها الانتخابية، ومحوراً أساسياً للتقاطبات السياسية والايديلوجية الحادة التي يشهدها حقلها السياسي.
لإعطاء فكرة واضحة ومختصرة عن تزايد نفوذ هذه الحركات الشعبوية القومية اليمينية التي تعتبر أن ممارسة التمييز والعنصرية ضد المهاجرين- وخاصة المسلمين منهم- واجباً مقدساً تفرضه الضرورة الاقتصادية، وتمليه الوطنية الصادقة، ويستلزمه الوفاء لتاريخ الأجداد، وتستدعيه مستلزمات “صدام الحضارات”؛ يكفي فقط أن نذكر أن 74 مليون مواطن أمريكياً قد صوتوا في الانتخابات الرئاسية الامريكية الأخيرة لأحد أهم رموز النزعة الشعبوية الشوفينية الضيقة في العالم، أي دونالد ترامب. ناهيك، طبعاً، عن زعماء آخرين من طينته، لازالوا لحدون الآن يديرون دفة الحكم ببلدانهم، مثل فيكتور أوربان في المجر، وجايير بولسونارو في البرازيل، وناريندرا مودي في الهند، ورودريغو دوتيرتي في الفلبين…الخ.
ويبدو أن النزوع نحو اختيار هذا النوع من القادة السياسيين، خلال الاستحقاقات الانتخابية، تتقاسمه العديد من بلدان استقبال المهاجرين الأخرى، كما يبين الجدول أدناه.
الجدول (5): مؤشرات تنامي نفوذ الحركات الشعبوية القومية اليمينية
بلد استقبال المهاجرين | أهم الحركات الشعبوية اليمينية | مؤشرات تنامي النفوذ السياسي |
فرنسا | حزب التجمع الوطني | – تمكنت زعيمته مارين لوبان من المرور الى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية التي أجريت سنة 2017 بعد أن حصدت، في الدور الأول، 21.3% من أصوات الناخبين؛ – تمكن من الحصول على 32.3% من الأصوات المعبر عنها اثناء انتخابات البرلمان الاوروبي التي أجريت شهر ماي 2019. |
إيطاليا | حزب العصبة | – تمكن من الحصول على 6 حقائب وزارية في حكومة جوزيبي كونتي الأولى (Giuseppe Conte) ما بين فاتح يونيو 2018 و5 شتنبر 2019، كما تحمل زعيمه ماتيو سالفيني (Matteo Salvini) خلال هذه الولاية الحكومية مسؤولية نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية في الآن نفسه؛ – حصل إبان انتخابات البرلمان الأوروبي، التي أجريت شهر ماي 2019، على 34.26% من أصوات الناخبين. |
أمريكا | جماعة كوكلوكس كلان (KKK)؛ حركة اليمين البديل (Alt-Right)؛ حركة حليقو الرؤوس (Skinheads حركة النازيون الجدد (Neo-Nazi)؛ جماعة براود بويز (أي الأولاد الفخورون (Proud Boys؛ جماعة كيو أنون) (QAnon يسمون أيضاً بـ “أنصار نظرية المؤامرة”(. | – لا تتميز هذه الحركات فقط بخطابها العدائي ضد المهاجرين، سواء كانوا نظاميين أو غير نظاميين؛ بل تؤمن أيضاً بتفوق العرق الأبيض على باقي الاعراق؛ – كل هذه الحركات تدعم المرشحون الجمهوريون، حيث ساهمت بشكل خاص في وصول دونالد ترامب الى البيت الأبيض؛ – اقتحم أنصار بعض هذه الجماعات الكونغريس الأمريكي للتعبير عن رفضهم لنتائج الانتخابات الرئاسية التي انهزم فيها دونالد ترامب أمام جون بايدن. |
هولندا | حزب الحرية (PVV) | – ثالث قوة سياسية في هولندا، إذ حصل، إبان الانتخابات التشريعية التي أجريت ما بين 15 و17 مارس 2021، على 11.33% من الأصوات المعبر عنها. |
بلجيكا | حزب الفلامز بلانغ (Vlaams Belang) | – حصل إبان الانتخابات التشريعية الفدرالية، التي أجريت يوم 26 ماي 2019، على 11.95% من أصوات الناخبين. |
ألمانيا | البديل من أجل المانيا | – رابع قوة سياسية بألمانيا؛ إذ حصل في انتخابات البرلمان الأوروبي، التي أجريت شهر ماي 2019، على 10.8% من أصوات الناخبين. |
النمسا | حزب الحرية النمساوي (FPÖ) | – سبق لهذا الحزب، إبان حكومة سيباستيان كورتس Bundesregierung Kurz)) التي تقلدت مسؤولية التدبير الحكومي ما بين 18 دجنبر 2017 و28 ماي 2018، أن تولى ثلاث وزارات سيادية هي الدفاع والداخلية والخارجية؛ كما حصل خلالها أيضاً زعيم الحزب أنذاك هاينز-كريستيان شتراخهStrache (Heinz-(Christian على منصب نائب مستشار النمسا؛ – حصل هذا الحزب في الانتخابات التشريعية الأخيرة، التي أجريت يوم 29 شتنبر سنة 2019، على 16.2 %من أصوات الناخبين النمساويين. |
سويسرا | حزب اتحاد الوسط الديموقراطي UDC (يسمى أيضاً بـ”حزب الشعب السويسري”) | – إبان الانتخابات البرلمانية التي شهدتها سويسرا يوم 20 أكتوبر 2019، تمكن الحزب من الحصول على 25.6% من مقاعد مجلس النواب (المسمى بـ “المجلس الوطني” Conseil national)؛ – يعتبر هذا الحزب أحد مهندسي قانون “منع بناء المآذن على المساجد” الذي تم التصويت عليه، في استفتاء شعبي، يوم 29 نونبر 2009. |
هنغاريا | حزب فيدس-الاتحاد المدني الهنغاري (Fidesz) | – أول حزب سياسي في هنغاريا؛ – يتزعمه فيكتور أوربان الذي يترأس ائتلافاً حكوميا منذ 2010 الى الآن، أي لثلاث ولايات متتابعة؛ – تصدر انتخابات البرلمان الأوروبي التي أجريت شهر ماي 2019، بعد أن حصل الحزب على 52.6% من أصوات الناخبين، متقدماً على الحزب الذي يليه، أي “التكتل الديموقراطي” -الذي لم يحصل سوى على – %16بحوالي 46 نقطة. |
6- انتشار نظرية “الاستبدال العظيم”:
لقد عرفت هذه النظرية التي نحتها رونو كامو[94] انتشاراً واسعاً، في العقد الأخير، بمعظم دول الاستقبال؛ والدليل في ذلك أن استقصاء للرأي، أجري ما بين 21 و23 دجنبر 2018، أظهر أن %25 من الفرنسيين مقتنعين حتى الثمالة بكل مسلماتها[95] . وهو ما يوضح بدقة الشروط السياسية والثقافية الصعبة التي أصبحت تؤطر الفعل الهجروي الدولي، ويبرز أن الطريق نحو الاندماج ببلدان الاستقبال أصبح مليئاً بالأشواك، خاصة بالنسبة للجاليات المسلمة.
فالاستبدال العظيم، في نظر رونو كامو، هو أن يكون هناك شعب، وفي لحظة سريعة، أي خلال جيل واحد، يحل مكانه شعب آخر أو شعوب أخرى. بهذا المعنى فهو، في نظر كامو، نوع من الاستبدال الديموغرافي، والتطهير العرقي، والاستئصال الإثني، والاقتلاع الثقافي، والاستعمار المباشر، بل والإبادة الحضارية. ولقد أصبحت هذه السيرورة الاستبدالية، يردف رونو كامو، تستهدف بشكل واضح الشعب الفرنسي، ومن خلاله كل الشعوب الأوروبية، بفعل التدفق الهجروي الكاسح الذي عرفته مجتمعاتها في العقود الأخيرة، والمنحدر من مجالات جغرافية تختزن، إثنياً وثقافياً ودينياً وسياسياً، كل معاني الضدية وتختزل كل مؤشرات الغيرية المطلقة. وفي نظره، فالنخب الفكرية والسياسية والإعلامية السياسية، هي التي تشرف على هذا “الاستبدال العظيم”، لغايات اقتصادية وايديلوجية، وتنظمه بطريقة محكمة وبدهاء ثعلبي عن طريق آليتي “صناعة الغباء” (L’industrie de l’hébétude) و”تعلم النسيان” اللذان تلقنهما المدرسة والإعلام، علماً أن الشعب الذي لا يعرف جذوره، يردف رونو كامو، من السهل الرمي به في مزبلة التاريخ.
فالشعب الفرنسي “الأصيل” (de souche) مثلاً، يتم استبداله تدريجياً، في نظر رونو كامو، بشعوب أخرى غير أوروبية تنحدر، بشكل خاص، من دول المغرب الكبير (Maghreb) والساحل والصحراء، التي تتميز بمعدلاتها التكاثرية المرتفعة وبثقافتها الهيمنية. ودليله في ذلك أن نسبة السكان الأصليين (Indigène) حتى وإن كانت لاتزال مرتفعة بين المسنين، فإنها تنخفض تدريجياً، بشكل مهول، كلما نزلنا في سلم الأعمار. إذ أن الرضع هم غالباً إما عرب أو سود، ومسرورون بإسلامهم. لذلك، فسلاح الهجرة، ومن خلاله السلاح الديموغرافي- بالنظر لخصوبة المسلمين المرتفعة-يعتبر إحدى أهم الأسلحة، في نظر رونو كامو، التي تستعملها النخب الفكرية والإعلامية والسياسية الأوروبية- التي يسميها بـ“الكتلة المُستبدِلة” (Bloc remplaciste) – في تفعيل هذه المؤامرة السرية التي تسعى، باسم الدفاع عن كونية مبادئ حقوق الانسان (مثل الحق في حرية الحركة والتنقل)، وبدعوى التعددية الثقافية المنتجة، والخلاسية (Métissage) المبدعة، إلى استئصال الشعوب الأوروبية، وأسلمة مجتمعاتها، ومن ثمة القضاء على “العرق” الأبيض.
زبدة القول، أن هذا الواقع الموضوعي الذي حددنا آنفاً أهم متغيراته السوسيو-تاريخية الجديدة، أصبح يؤطر الفعل الهجروي الدولي بقوة، خلال العقود الأخيرة، ويحتضن كل تفاعلاته الميكروسوسيولوجية اليومية، فتحول، بالاستتباع، إلى صخرة صلبة تتهشم عليها رغبة المهاجرين في الاندماج ببلدان الاستقبال.
7- خاتمة:
إذا كانت سوسيولوجيا الهجرة تشهد اليوم انتقالاً من مقاربة «تنظر للمهاجرين باعتبارهم جماعة مسيطَر عليها داخل المجال الحضري، إلى أخرى تعتبرهم جماعة مسيطِرة داخل مجال عابر للأوطان«[96] (Transnational)، فلا شك أن هذا الانزياح النظري والمنهجي لا يمكنه المساعدة في فهم وتفسير الديناميات الهجروية الحالية، بمدها وجزرها، إذا لم يستحضر بشكل دائم بعض المتغيرات الماكرو-بنيوية التي أصبحت تهيكل الفعل الهجروي، في العقود الأخيرة، وتحدد بشكل كبير مآلاته الواقعية الممكنة. يتعلق الأمر ببعض المتغيرات السوسيو-تاريخية الجديدة، التي يمكن اعتبارها مداخل ضرورية لفهم ديناميات المشهد الهجروي الحالي وتفسير بعض خصائصها، مثل تضخم الخطاب الهوياتي الجوهراني، وتصاعد المد الإسلاموفوبي، والأزمات الاقتصادية العنيفة التي عصفت بجل مجتمعات الاستقبال، وتزايد نفوذ الحركات السياسية ذات النزوع القومي الشوفيني والشعبوي اليميني، وانتشار نظرية “الاستبدال العظيم” على رحاب واسع. ناهيك، طبعاً، عن طبيعة التحولات الهيكلية الجديدة التي اعتملت في صلب النظام الرأسمالي بعد جنوحه المتزايد نحو الاعتماد على ما يسمى بــ “اقتصاد المعرفة”، الشيء الذي جعل حاجته الماسة إلى العاملة غير المؤهلة تتضاءل بالتدريج. وهو ما يفسر لجوء معظم دول الاستقبال إلى ما يسمى بـــ ‘الهجرة الانتقائية”، التي تسعى من خلالها إلى استقطاب ذوي المهارات العالية، واستبعاد ذوي المهارات الضعيفة.
فكل المحددات الآنفة الذكر أسهمت بشكل فعال في تجريم الفعل الهجروي خلال العقود الأخيرة، لتتحول بذلك إلى أشواك حقيقية في طريق اندماج المهاجرين بدول الاحتضان، بعدما أججت مشاعر الكراهية والتوجس تجاههم، وغذت المتخيل الجمعي المعادي لهم بشكل غير مسبوق.
[1] – للمزيد من التفصيل، انظر على سبيل المثال:
– Yann Scioldo-Zürcher& Marie-Antoinette Hily & Emmanuel Ma Mung (Dir), Etudier les migrations internationales, Tours, Presses universitaires François-Rabelais, 2019.
– Alain Tarrius, La Mondialisation par le bas : Les nouveaux nomades de l’économie souterraine, Paris, Balland, 2002.
[2]– للاطلاع حول أهم الإشكالات التي يطرحها استخدام مفهوم الاندماج في السوسيولوجيا، انظر:
Khalid Chahbar, « Le processus de construction de concepts en sociologie : le cas du concept d’intégration », Al Azmina Al Hadita, Numéro 14, Printemps, 2017, pp.38-50.
[3]– أُعِدَّ هذا الجدول بالاعتماد على: البنك الدولي،» عدد المهاجرين الدوليين (% من السكان) «، 2008.
–Portails sur les données migratoires, « Statistiques sur l’émigration et l’immigration », 5 février 2021.
[4] -Sylvie Bredeloup, «De l’Europe vers les Suds: nouvelles itinérances ou migrations à rebours ?», Autrepart, vol. 77, no. 1, 2016, pp. 3-15.
[5] -Sylvie Bredeloup, op-cit, pp.3-15.
[6]– انظر على سبيل المثال:
– Sylvie Bredeloup, « 80% de la migration sur le continent est intra-africaine », La Tribune Afrique, 17
Avril 2017. Disponible sur : https://afrique.latribune.fr/politique.
– Sylvie Bredeloup, « Les routes de la migration africaine mènent rarement à l’Europe », 01 Mars 2021. https://www.rfi.fr/.
[7]– Ibid.
[8] -Bredeloup Sylvie (2017), op-cit.
[9] -Wihtol de Wenden Catherine (2002), «Motivations et attentes de migrants», Revue Projet, vol. 272, no. 4, pp.50-54.
[10]– Ibid, pp.50-52.
[11]– Wihtol de Wenden Catherine, op-cit, p.49.
[12] -Thomas Lacroix, «L’imaginaire migratoire: Jeunes Marocains de France», dans Françoise Lorcerie (dir), Pratiquer les frontières: Jeunes migrants et descendants de migrants dans l’espace franco-maghrébin, Paris, CNRS Éditions, 2010, pp.121-122.
[13] -Wihtol de Wenden Catherine, op-cit, p.49.
[14] -Wendy Brown, «Vingt ans plus tard, les murs-frontières prolifèrent», Libération, 9 Novembre, 2009.
[15]– Ibid.
[16]– Ibid.
[17] -Régis Debray, Eloges des frontières, Paris, Gallimard, Coll «Folio», 2010, p.181.
[18]– Ibid, p.37.
[19]– Debray Régis, «Un mythe occidental», Le Courrier de l’Unesco, n°46, Décembre 1993, p.10.
[20]– خالد شهبار، “مفارقات المشهد الديني المغربي: الملامح والمآلات”، إضافات، العددان 47-48، صيف– خريف، 2019، ص. 148-149.
[21]– خالد شهبار، عالم ما بعد كوفيد-19: الحمل الكاذب، الرباط، رباط نت، 2020، ص.60-61.
[22]– Jürgen Habermas, « Qu’est-ce qu’une société “post-séculière” ? », Le Débat, n°152, (2008/5), p.4.
[23]– Régis Debray, « L’islam politique : fin ou début d’un monde », Partie 3, Conférence organisée par l’Institut du Monde Arabe à Paris le 09 Avril 2015. https://www.youtube.com.
[24] -Régis Debray, Les diagonales du médiologue: transmission, influence, mobilité, Paris, Bibliothèque nationale de France, 2001, p.9.
[25]– Raymond Boudon., François Bourricaud, Dictionnaire critique de la sociologie, Paris, PUF, Coll., Quadrige, 2000, pp.287-288.
[26]– من أهم روادها كوستاف كليم (Gustave Klemm) الذي قسم تاريخ البشرية الى ثلاث مراحل تطورية كبرى هي التوحش والخضوع والحرية؛ ولويس هنري مورغان الذي أكد أن المجتمعات الانسانية تنتقل بالضرورة من التوحش الى الحضارة مروراً بالبربرية؛ وإدوارد تايلور الذي سلم بانتقالها من الديانات الأرواحية (Animisme) إلى الديانات التوحيدية مروراً بالفتيشية (Fétichisme) وتعدد الالهة؛ وهربرت سبنسر الذي كان يصادر بانتقالها من الانسجام والبساطة إلى التخصص والتمايز والتمازج والتعقد الاجتماعي؛ وجيمس جورج فريزر الذي رأى أنها تنتقل من السحر إلى العلم مروراً بالدين…الخ.
[27]– Raymond Boudon, Effets pervers et ordre social, Paris, PUF, 1977.
[28] -Régis Debray, «Un mythe occidental», Le Courrier de l’Unesco, n°46, Décembre, 1993, p.9.
[29] -Ibid, pp.9-10.
[30]– Régis Debray, « Un mythe occidental », op-cit, p.10.
[31]– Ibid.
[32]– محمد عابد الجابري، المشروع النهضوي العربي: مراجعة نقدية، الطبعة الثانية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2000، ص. 118.
[33]– المرجع السابق.
[34]– Pierre-André Taguieff, «L’idée de progrès. Une approche historique et philosophique. Suivi de : Éléments d’une bibliographie », Les Cahiers du CEVIPOF, Centre de recherche de Sciences Po, Septembre, 2002, p.17.
[35]– Ibid.
[36] -Marie Jean-Antoine-Nicolas de Caritat Marquis de Condorcet, Esquisse d’un tableau historique des progrès de l’esprit humain, 1793-1794, p.194. Une édition électronique qui a été réalisée par Jean-Marie Tremblay, dans le cadre de la collection : “Les classiques des sciences sociales”. http://classiques.uqac.ca.
[37] -Ibid, p.40.
[38] -Victor Hugo, Les misérables, Bibebook, 1862, p.1537. Une édition électronique réalisée par « Association de Promotion de l’Ecriture et de la Lecture ». http://www.bibebook.com.
[39] -Victor Hugo, Les misérables, op-cit, p.1539.
[40]– Pierre-André Taguieff, «L’idée de progrès, op-cit, p.15.
[41] Ibid, p.13.
[42] – Ibid., p.13.
[43] -Agence des droits fondamentaux de l’Union européenne, «Deuxième enquête de l’Union européenne sur les minorités et la discrimination Les musulmans – Sélection de résultat» , 2018. https://fra.europa.eu.
[44]– Muslims’ Rights Belgium, «Rapport annuel sur l’islamophobie en Belgique – Rapport 2013», Bruxelles, Février 2014. https://ec.europa.eu.
[45]– Abdellali Hajjat, Marwan Mohammed., Islamophobie: comment les élites françaises fabriquent le « problème musulman », Paris, La Découverte/Poche, 2016, p.16.
[46]– على سبيل المثال، للاطلاع بتفصيل على كيف استطاعت النخب الإدارية والسياسية والإعلامية والعلمية بناء وصناعة “المعضلة الإسلامية“ بفرنسا، يُنظر: Abdellali Hajjat, Marwan Mohammed, op-cit, pp.101-160.
[47]– للاطلاع على بعض الكتابات التي انتقدت بشدة هذا النوع من الإسلاموفوبيا، انظر على سبيل المثال:
Büttgen Philippe, De Libera Alain, Rashed Marwan, Rosier-Catach Irène, Les Grecs, les Arabes et nous : enquête sur l’islamophobie savante, Paris, Fayard, 2009.
[48]– يبدو أن الاٍسلاموفوبيا الأمنية هي نتاج طبيعي لآثار ومضاعفات الهجمات الارهابية التي تقوم بها الحركات الجهادية؛ أما الإسلاموفوبيا الإيديلوجية فهي محكومة بخلفيات تاريخية وحضارية خاصة، أي هي نتاج تجربة مريرة عاشتها جماعة اجتماعية معينة في فترة تاريخية محددة مع الاسلام والمسلمين، فظلت منحوتة في ذاكرتها الجمعية إلى حدود اليوم، توجه تمثلاتها وسلوكاتها اليومية. انظر بهذا الصدد:
Geisser Vincent, « L’islamophobie en France au regard du débat européen », dans Rémy Leveau et Khadija Mohsen-Finan (Dir), Musulmans de France et d’Europe, Paris, CNRS Editions, 2005, p.66.
[49]– إدوارد سعيد، الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق. ترجمة: محمد عناني. القاهرة، رؤية للنشر والتوزيع، 2006، ص.45.
[50]– صادق جلال العظم، ذهنية التحريم: سلمان رشدي وحقيقة الأدب، الطبعة الثانية، دمشق، دار المدى للثقافة والنشر، 2004، ص.15.
[51]– المرجع السابق، ص.15.
[52]– المرجع السابق، ص.15.
[53]– من بين أبرز الكتابات المشبعة حتى الثمالة بمسلمات “ميتافيزيقا الاستشراق“، والتي خلفت سجالاً صاخباً في الفضاء الإعلامي والفكري الفرنسي، يمكن الإشارة إلى كتاب “ارسطو في جبل سان ميشيل: الجذور اليونانية لأوروبا المسيحية” الذي أصدره المؤرخ الفرنسي سيلفان غوغنهايم سنة 2008، حيث حاول من خلاله تبخيس الدور المهم الذي قام به العلماء المسلمين، مثل الفارابي وابن سينا وابن رشد، في نقل الإرث الثقافي اليوناني لغرب أوروبا في العصر الوسيط. انظر:
Sylvain Gouguenheim, Aristote au Mont-Saint-Michel : Les racines grecques de l’Europe chrétienne, Paris, Seuil, coll. « L’univers historique », 2008.
[54] -Paul Valery, Regard sur le monde actuel, Paris, Gallimard, 1966, p.40.
[55] – إدوارد سعيد، الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق، مرجع سابق، ص. 124.
[56] -Jargy Simon (1969), « Les fondements théologiques et historiques du dialogue islamo-chrétien », Revue de théologie et de philosophie, Lausanne, Volume 6, 1969, pp.362-363.
[57]– Ibid, pp.362.363.
[58]– سوذرن ريتشارد، صورة الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى، ترجمة وتقديم رضوان السيد، بيروت، دار المدار الإسلامي، 2006، ص.7.
[59]– المرجع السابق، ص.7.
[60] -Geisser Vincent, « L’islamophobie en France au regard du débat européen », dans Rémy Leveau et Khadija Mohsen-Finan (Dir), Musulmans de France et d’Europe, Paris, CNRS Editions, 2005, pp.40-51.
[61]– Norman Daniel, Islam et Occident, Traduit de l’anglais par Alain Spiess, Paris, Le Cerf, Collection Patrimoines-Islam, 1993, p.13.
[62] – ريتشارد سوذرن، صورة الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى، مرجع سابق، ص.14.
[63]– أفاية محمد نور الدين، «الشرق المتخيل: نقد النظرة السياسية الغربية لشرق المتوسط»، الوحدة، السنة الخامسة، العدد 54، آذار (مارس)، 1989، ص. 225-235.
[64]– إدوارد سعيد، الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق، مرجع سابق، ص. 135-138.
[65] -Marco Frassinelli, «I 20 libri più venduti di sempre», ILBLOGGER.IT, 23 Aprile 2015. https://ilblogger.it.
[66]-Caterina Moniaci, «Dante “razzista”, follia Onu: bandire Divina Comedia», 13 Marzo 2012. www.liberoquotidiano.it.
[67] -Jean Subrenat, «la conquête de Jérusalem, reflet d’une mystique de pèlerinage», dans Evelyne Berriot-Salvador, Le mythe de Jérusalem : Du moyen âge à la renaissance, Publications de l’université de saint Etienne, 1995, p.22.
[68]– Jean Subrenat, Ibid, p.22.
[69] -Voltaire, Essai sur les Mœurs et l’esprit des nations, Tome I, 1829, pp.245-247. Un document produit en version numérique par Jean-Marc Simonet. http://classiques.uqac.ca.
[70] -Voltaire (1817), Œuvres complètes, Paris, l’imprimerie de Crapelet, 1817, pp.381-457. https://books.googleusercontent.com.
[71]– Claude Lévi-Strauss, Tristes Tropiques, Paris, Librairie Plon, 1955, pp.482-488.
[72]– Ibid, 488.
[73] -Ibid, 488.
[74] -Maurice Jean-Claude, Si vous le répétez, je démentirai: Chirac, Villepin, Sarkozy, Plon, 2009.
[75]– خليفة الدهان ناجي، “يأجوج ومأجوج واحتلال العراق”، مركز أمية للبحوث والدراسات الاستراتيجية، 26 يناير 2021.
http://www.umayya.org
[76] – محمد سبيلا، النزعات الاصولية والحداثة، سلسلة المعرفة للجميع، العدد 13، منشورات رمسيس، فبراير-مارس 2000، ص.90-91.
[77]– المرجع السابق، ص.85.
[78]– المرجع السابق، ص.83.
[79]– المرجع السابق، ص.85.
[80]-Jean-Paul Bord, «La ‘’crise’’ dans l’Union européenne vue par les cartes », Mappemonde, No 107, 2012. http://mappemonde archive.mgm.fr.
[81]– Lequeux Vincent, «Asile et migrations dans l’Union européenne», Tuteleurope.eu, 28 Juin 2021. https://www.touteleurope.eu.
[82]– Eurostat, «Troisième trimestre 2020: la dette publique en hausse à 97,3% du PIB dans la zone euro», 2021. https://ec.europa.eu/eurostat/documents.
[83] -Ibid.
[84]– OCDE, «Déficit des administrations publiques, Total, % du PIB, 2000 – 2020» , 2021.
[85] -Eurostat, «Taux de croissance du PIB réel en volume », 2021. https://ec.europa.eu/eurostat/databrowser.
[86]– Ibid.
[87]– Eurostat, «Communiqué de presse, euroindicateurs », 1février 2021. https://ec.europa.eu/eurostat/documents.
[88]– OCDE, « Taux de chômage, Total, % de la population active, janvier 2005 – mai 2021 »
[89]– يان فيرنير مولر، ما الشعبوية؟ ترجمة رشيد بوطيب، منتدى العلاقات العربية والدولية، الدوحة، قطر، 2017.
– عبد الحي المودن،» مشروع مولر الطموح لصياغة مفهوم الشعبوية «. رباط الكتب، 10 ماي 2018.
– Mesko Yuri, (2018). Compte rendu de [Qu’est-ce que le populisme ? Définir enfin la menace, de Jan-Werner Müller, Paris, Premier Parallèle, 2016, 183 p.] Politique et Sociétés, 37(1), 2018, pp. 170–172. https://doi.org/10.7202/1043583ar.
– Alexandre Dorna, “Avant-propos: Le populisme, une notion peuplée d’histoires particulières en quête d’un paradigme fédérateur”, Amnis [Online], 5 | 2005, Online since 01 September 2005.
[90]– يان فيرنير مولر، ما الشعبوية؟ مرجع سابق الذكر.
[91]– عبد الحي المودن،» مشروع مولر الطموح لصياغة مفهوم الشعبوية «. رباط الكتب، 10 ماي 2018.
[92]– المرجع السابق.
[93]– المرجع السابق.
[94]– Renaud Camus, Le grand remplacement. David Reinharc, Coll « Articles sans C », 2011.
[95]-IFOP, « Enquête sur le complotisme : vague 2 », Janvier 2009, p.14. https://www.ifop.com.
[96] -Sylvie Mazzella, Sociologie des migrations, Paris, PUF, 2014, p.7.
المراجع:
العربية:
- أفاية محمد نور الدين، «الشرق المتخيل: نقد النظرة السياسية الغربية لشرق المتوسط»، الوحدة، السنة الخامسة، العدد 54، آذار (مارس)، 1989.
- الجابري محمد عابد، المشروع النهضوي العربي: مراجعة نقدية، الطبعة الثانية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2000.
- جلال العظم صادق، ذهنية التحريم: سلمان رشدي وحقيقة الأدب، الطبعة الثانية، دمشق، دار المدى للثقافة والنشر، 2004.
- سبيلا محمد، النزعات الاصولية والحداثة، سلسلة المعرفة للجميع، العدد 13، منشورات رمسيس، فبراير-مارس، 2000.
- سعيد إدوارد، الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق. ترجمة: محمد عناني. القاهرة، رؤية للنشر والتوزيع، 2006.
- سوذرن ريتشارد، صورة الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى، ترجمة وتقديم رضوان السيد، بيروت، دار المدار الإسلامي، 2006.
- البنك الدولي،» عدد المهاجرين الدوليين (% من السكان) « https://data.albankaldawli.org.
- الدهان ناجي خليفة، “يأجوج ومأجوج واحتلال العراق”، مركز أمية للبحوث والدراسات الاستراتيجية، 26 يناير 2021. http://www.umayya.org
- المودن عبد الحي، “مشروع مولر الطموح لصياغة مفهوم الشعبوية”، رباط الكتب، 10 ماي 2018.
- شهبار خالد، “مفارقات المشهد الديني المغربي: الملامح والمآلات”، إضافات، العددان 47-48، صيف– خريف 2019.
- شهبار خالد، عالم ما بعد كوفيد-19: الحمل الكاذب، مطابع الرباط نت، 2020.
- مولر يان فيرنير، ما الشعبوية؟ ترجمة رشيد بوطيب، منتدى العلاقات العربية والدولية، الدوحة، قطر، 2017.
الأجنبية:
- Agence des droits fondamentaux de l’Union européenne, «Deuxième enquête de l’Union européenne sur les minorités et la discrimination Les musulmans – Sélection de résulta », 2018. https://fra.europa.eu.
- Bord Jean-Paul, «La ‘’crise’’ dans l’Union européenne vue par les cartes», Mappemonde, No 107, 2012. http://mappemonde archive.mgm.fr.
- Boudon Raymond (1977), Effets pervers et ordre social, Paris, PUF.
- Boudon Raymond., Bourricaud François, Dictionnaire critique de la sociologie, Paris, PUF,, Quadrige, 2000.
- Bredeloup Sylvie (2016), «De l’Europe vers les Suds : nouvelles itinérances ou migrations à rebours ?», Autrepart, vol. 77, no. 1.
- Bredeloup Sylvie, «80% de la migration sur le continent est intra-africaine», La Tribune Afrique, 17 Avril 2017 : https://afrique.latribune.fr/politique.
- Bredeloup Sylvie, «Les routes de la migration africaine mènent rarement à l’Europe», 01 Mars 2021. https://www.rfi.fr/.
- Brown Wendy, «Vingt ans plus tard, les murs-frontières prolifèrent», Libération, 9 Novembre 2009.
- Büttgen Philippe, De Libera Alain, Rashed Marwan, Rosier-Catach Irène, Les Grecs, les Arabes et nous : enquête sur l’islamophobie savante, Paris, Fayard, 2009.
- Camus Renaud, Le grand remplacement, David Reinharc, Coll « Articles sans C », 2011.
- Chahbar Khalid, «Le processus de construction de concepts en sociologie : le cas du concept d’intégration», Al Azmina Al Hadita, Numéro 14, Printemps, 2017.
- Condorcet Jean-Antoine-Nicolas de Caritat Marquis de, Esquisse d’un tableau historique des progrès de l’esprit humain, (1793-1794). Une édition électronique qui a été réalisée par Jean-Marie Tremblay, dans le cadre de la collection : “Les classiques des sciences sociales”. http://classiques.uqac.ca.
- Debray Régis, Les diagonales du médiologue : transmission, influence, mobilité, Paris, Bibliothèque nationale de France, 2001.
- Debray Régis, Eloges des frontières, Paris, Gallimard, Coll « Folio », 2010.
- Debray Régis, «L’islam politique : fin ou début d’un monde», Partie 3, Conférence organisée par l’Institut du Monde Arabe à Paris le 09 Avril 2015. https://www.youtube.com.
- Debray Régis, «Un mythe occidental», Le Courrier de l’Unesco, n°46, Décembre, 1993.
- Dorna Alexandre, «Avant-propos: Le populisme, une notion peuplée d’histoires particulières en quête d’un paradigme fédérateur», Amnis[Online], 5, 2005, Online since 01 September 2005.
- Eurostat, «Troisième trimestre 2020: La dette publique en hausse à 97,3% du PIB dans la zone euro», 2021. https://ec.europa.eu/eurostat/documents.
- Eurostat, «Taux de croissance du PIB réel en volume», 2021. https://ec.europa.eu/eurostat/databrowser.
- Eurostat, « Communiqué de presse, euroindicateurs», 1 février 2021. https://ec.europa.eu/eurostat/documents.
- Frassinelli Marco, « I 20 libri più venduti di sempre», IT, 23 Aprile 2015. https://ilblogger.it.
- -Gouguenheim Sylvain, Aristote au Mont-Saint-Michel : Les racines grecques de l’Europe chrétienne, Paris, Seuil, coll. «L’univers historique», 2008.
- Geisser Vincent, «L’islamophobie en France au regard du débat européen», dans Rémy Leveau et Khadija Mohsen-Finan (Dir), Musulmans de France et d’Europe, Paris, CNRS Editions, 2005.
- Habermas Jürgen, «Qu’est-ce qu’une société “post-séculière” ?», Le Débat, n°152, (2008/5).
- Hajjat Abdellali, Mohammed Marwan, Islamophobie : comment les élites françaises fabriquent le «problème musulman», Paris, La Découverte/Poche, 2016.
- Hugo Victor, Les misérables, Bibebook, 1862. Une édition électronique réalisée par «Association de Promotion de l’Ecriture et de la Lecture». http://www.bibebook.com.
- –IFOP, «Enquête sur le complotisme : vague 2», Janvier 2009. https://www.ifop.com.
- Jargy Simon, « Les fondements théologiques et historiques du dialogue islamo-chrétien », Revue de théologie et de philosophie, Lausanne, Volume 6, 1969.
- Lequeux Vincent, «Asile et migrations dans l’Union européenne», Tuteleurope.eu, 28 Juin 2021. https://www.touteleurope.eu.
- Lévi-Strauss Claude, Tristes Tropiques, Paris, Librairie Plon, 1955.
- Lorcerie Françoise (dir), Pratiquer les frontières: Jeunes migrants et descendants de migrants dans l’espace franco-maghrébin, Paris, CNRS Éditions, 2010.
- Mazzella Sylvie, Sociologie des migrations, Paris, PUF, 2014.
- Maurice Jean-Claude, Si vous le répétez, je démentirai: Chirac, Villepin, Sarkozy, Plon, 2009.
- Mesko Yuri, Compte rendu de [Qu’est-ce que le populisme ? Définir enfin la menace, de Jan-Werner Müller, Paris, Premier Parallèle, 2016] Politique et Sociétés, 37(1), 2018. https://doi.org/10.7202/1043583ar.
- Moniaci Caterina, «Dante “razzista”, follia Onu: bandire Divina Comedia», 13 Marzo 2012. liberoquotidiano.it.
- Muslims’ Rights Belgium, « Rapport annuel sur l’islamophobie en Belgique – Rapport 2013 », Bruxelles, Février 2014. https://ec.europa.eu.
- NormanDaniel, Islam et Occident, Traduit de l’anglais par Alain Spiess, Paris, Le Cerf, Collection Patrimoines-Islam, 1993.
- OCDE, «Déficit des administrations publiques, Total,% du PIB, 2000 – 2020», 2021. https://data.oecd.org/fr.
- OCDE, «Taux de chômage, Total,% de la population active, janvier 2005 – mai 2021», 2021. https://data.oecd.org/fr.
- Portails sur les données migratoires, «Statistiques sur l’émigration et l’immigration», 5 février 2021. https://migrationdataportal.org.
- Ramberg Ingrid (Dir), L’islamophobie et ses conséquences pour les jeunes,Strasbourg, Conseil de l’Europe, « Hors collection », 2005.
- Scioldo-Zürcher Yann& Hily Marie-Antoinette & Ma Mung Emmanuel (Dir), Etudier les migrations internationales, Tours, Presses universitaires François-Rabelais, 2019.
- Subrenat Jean, «la conquête de Jérusalem, reflet d’une mystique de pèlerinage», dans Evelyne Berriot-Salvador, Le mythe de Jérusalem : Du moyen âge à la renaissance, Publications de l’université de saint Etienne, 1995.
- Taguieff Pierre-André, «L’idée de progrès. Une approche historique et philosophique. Suivi de : Éléments d’une bibliographie», Les Cahiers du CEVIPOF, Centre de recherche de Sciences Po, Septembre 2002.
- Tarrius Alain, La Mondialisation par le bas : Les nouveaux nomades de l’économie souterraine, Paris, Balland, 2002.
- Valery Paul, Regard sur le monde actuel, Paris, Gallimard, 1996.
- Voltaire, Essai sur les Mœurs et l’esprit des nations, Tome I, 1829. Un document produit en version numérique par Jean-Marc Simonet. http://classiques.uqac.ca.
- Voltaire, Œuvres complètes, Paris, l’imprimerie de Crapelet, 1817. https://books.googleusercontent.com.
- Wihtol de Wenden Catherine, «Motivations et attentes de migrants», Revue Projet, vol. 272, no. 4, 2002.