“إن التلميذ الذي أنهى التعليم المدرسي يكون قد تعود على التعلم. أما الآن فهو يعتقد أنه سيتعلم الفلسفة، في حين أن ذلك أمر مستحيل، إذ ينبغي عليه من الآن أن يتعلم التفلسف” كانـــــط
من “غرائب الفلسفة” التي يذكرها الفيلسوف الفرنسي إتيان صوريو، في آخر كتبه، حادثة طريفة وقعت له عندما كان يدرس الفلسفة بجامعة ليون؛ فقد زاره شخص على وشك التقاعد من عمله العسكري، كمساعد في قوات المشاة، يريد أن يتعلم الفلسفة. ويسأل الأستاذ هذا الطالب الغريب، عن الدراسات التي تلقاها في هذا الميدان. فيجيب: “لقد حفظت كتاب المونادلوجيا”. وفجأة، وبكل تمكن واعتداد، شرع يتلو عليه: “المونادة التي سنتحدث عنها ما هي إلا جسم بسيط، وبسيط تعني بدون أجزاء”… لقد حفظ الرجل عن ظهر قلب، على الأقل، بداية كتاب ليبنتز في المونادلوجيا.
بقدر ما يدعو هذا الموقف إلى الضحك فإنه يدعو كذلك إلى الإشفاق على مثل هذه النفس ذات الإرادة الطيبة والتي ضلت طريقها بدون شك. لكن، وبالمثل، ألا يوجد أولئك الذين حفظوا تواريخ الفلسفة، أي أسماء المؤلفات وسنوات الميلاد والوفاة، هم كذلك على طريق الضلال؟ صحيح أن الوقائع التاريخية يجب معرفتها في الفلسفة وهي تدخل ضمن ما يثير الحماس والانفعال الفلسفي؛ لكن المشكل المطروح هنا لا يتعلق بمعرفة ما يمكن أن يخلق “حمى فلسفية”، بتعبير صوريو، ولكن بمعرفة ما إذا كانت الفلسفة تصلح موضوعا للتعلم؟ أي ما إذا كان يوجد في الفلسفة شيء ينشأ عن امتلاكه نوع من المتعة عندما يرتاح الفكر؟ وبالتالي هل للفيلسوف الحق في الاستنتاج أم أن كلمته الأخيرة ستكون هي: “ابحث، وإبحث دائما، لكن لا تعثر على شيء!”؟
من المؤكد أن أفلاطون يعلمنا شيئا ما عندما يقول: إن العلاقات التي تجعل سيولة الظواهر معقولة، لا تقل بدورها واقعية عن تلك الظواهر ذاتها، كما أن تلك العلاقات تمنح نوعا من الثقة والراحة الفكرية بخصوص الصلابة التي تضفيها على صورتنا عن العالم. كما يعلمنا ليبنتز أن تطابق الفكرة التي لدينا مع البريق الصادر عن نجمة بعيدة أو مع المذابح التي ينفذها الإنسان في الإنسان، لا ينبغي أن يفهم كفعل راهن لأحدهما على الآخر، وإنما كانسجام أو توافق، وهو بذلك يعلمنا كيف ندخل في علاقة توافق هارموني مع أفكار أخرى، وحقب أخرى.
ومع ذلك تبدو مهمة تعليم الفلسفة مهمة صعبة، بل تبدو أحيانا كإرادة غريبة في هذا السياق، إذ حتى لو كان ثمة شيء ما يتعلمه المرء من أفلاطون، فإن ذلك الشيء لا يمكن القبض عليه أو إدراكه إلا بشرط التفلسف مع أفلاطون. ومعنى ذلك أن يكون المرء فيلسوفا بذاته، ولن نستطيع تعليم الفلسفة إلا لفلاسفة(1).
تقتضي هذه المعضلة أو الدور، إعادة النظر في مسألة التعليم الفلسفي من وجهة نظر فلسفية محددة، انطلاقا من الأسئلة التالية: ما الذي يجعل تعليم الفلسفية-اليوم، ممكنا؟ وبأي معنى يمكن الحديث عن تعليم “الـ” فلسفة؟ وكيف يمكن أن نتعلم الفلسفة؟ ومتى يكون تعليم ما تعليما فلسفيا؟
تقود هذه التساؤلات الأولية إلى تناول إشكالية، يمكن اعتبارها أساسية في تفكير كانط، تتمثل في تحول تعليم الفلسفة من مسألة تناقش بيداغوجيا إلى مسألة تناقش فلسفيا، حيث سيصبح وجود الفلسفة مرتبطا بتدريسها، مما سيخلق من جهة توترا بين تعليم الفلسفة والتفكير فلسفيا، ومن جهة أخرى فصل الفلسفة عن العلم أو المعرفة، الأمر الذي سيؤدي إلى وضع التراث الفلسفي بكامله موضع سؤال: هل هذا التراث، من نصوص ومذاهب فلسفية، يقدم مادة علمية، أي معرفة تصلح للتعليم، أم مجرد مادة مصاحبة للتعلم، يتمرن عليها المبتدئ إلى أن يصبح قادرا على التفلسف بذاته؟
ما هي المقدمات، والمبادئ التي أدت إلى بروز هذا الإشكال والاهتمام بمعالجته، خلال القرن الثامن عشر مع كانط؟ ما هي الآثار المترتبة عن انتشار هذا الإشكال في مجال التعليم وعلى ممارسة تدريس الفلسفة؟ كيف حدثت هذه التحولات في علاقة الفلسفة بالتعليم وبالخصوص تعليم الفلسفة؟
I – بيداغوجيا النقد:
من العلامات المميزة والحاسمة في مصير التعليم الفلسفي (في الغرب) بروز النقد كاستراتيجية لنوع من المواجهة الاجتماعية وكمنهج للتفكير في العلوم والدين والميتافيزيقا خلال القرن الثامن عشر. فالحاجة إلى النقد (وتأسيس النقد) ستقود إلى إعطاء الفلسفة وجودا اجتماعيا محددا وتوظيفها في المؤسسة.
لم تدخل الفلسفة إلى الجامعة إلا في القرن الثامن عشر، أما في القرن السابع عشر فلم يكن ديكارت أو ليبنتز أو اسبينوزا جامعيين، اي لم يمارسوا تدريس الفلسفة مباشرة. فتوظيف الفلسفة وإعطاؤها إطارا مؤسسيا إنما يرتبط ببروز الإشكال المذكور في صيغته الفلسفية: هل الميتافيزيقا ممكنة؟ أو كيف تكون المعرفة بالعقل المجرد ممكنة؟ مثل هذه الأسئلة عجلت بإدخال الفلسفة إلى المؤسسات الجامعية وتحويلها إلى مادة تعليمية وموضوع للبحث.
إن بالإمكان تعلم الرياضيات ما دامت البراهين في هذا العلم من البداهة بحيث يمكن لكل واحد أن يصدق بها. أما في الفلسفة فكل مفكر يقيم نتاجه على أنقاض نتاج الغير، هذا بالإضافة إلى أنه لم يقدر لعمل فلسفي ما أن يصبح ثابتا في جميع أجزائه. من هنا استحالة تعلم الفلسفة، لأن هذه الفلسفة الواحدة الثابتة الأجزاء لم توجد بعد.
إن وضعية الانقسام التي بدأت تهيمن على الفلسفة الغربية تستدعي المراجعة والنقد. فالفلسفة من وجهة نظر الوحدة العلمية كانت في حالة تدهور مستمر وظاهر بالقياس إلى العصور الماضية. فقد اختفت الوحدة في كل مكان -كما سيقول هوسرل- سواء في تعيين الهدف كما في وضع المسائل وفي المنهج(2).
والحالة هاته نجد أن أبرز إجراءات النقد تتمثل في التمييز بين الفلسفة والعلم، وإن شئنا الفصل فيما بينهما، وهو إجراء ستكون له آثار حاسمة في مصير التعليم عامة والتعليم الفلسفي بصفة خاصة. إن الفلسفة ليست علما، أو على الأقل لم يعد ينظر إليها كذلك. وما فشلها إلا لكونها أرادت أن تكون علما -بل لقد توجت نفسها على رأس العلوم.
ومن الواضح أن المعارف في القرن الثامن عشر أصبحت تتشكل خارج نطاق الفلسفة وبمعزل عن الميتافيزيقا. فلم تعد هناك فروع لشجرة جدعها الطبيعة وجذورها الميتافيزيقا -كما كان يقول ديكارت في مبادئه، بل أكثر من ذلك “لم نعد نطلق اسم الفلسفة على كيان عضوي يضم سائر المعارف ولم تعد الفلسفة مرادفا للعلم. إن الشجرة الديكارتية المشهورة، والتي كانت تجمع في نسق واحد مختلف المعارف صارت غابة”(3).
وبالفعل كان ديكارت يقول بتماثل فروع المعرفة وتجانسها، في حين ألح كانط على ضرورة الفصل بين تلك المعارف حتى لا يلتبس العلم اليقيني كالمنطق والرياضيات أو العلم الفيزيائي بالرؤى الناتجة عن استخدام العقل استخداما يتعالى على التجربة.
أدخل كانط الفرق بين الفلسفة والعلم باعتباره شرطا لامكان ممارسة الفكر النقدي بما هو فكر يميز بين معطيات بقيت غامضة حتى عند الفلاسفة المحترفين، يقول كانط:
“… لا بد من الإقرار أن التمييز بين أصلين من أصول معرفتنا، أحدهما قبلي تماما في قوتنا، والآخر لا يمكن استخراجه إلا بعديا من التجربة، (هذا التمييز) بقي باستمرار غامضا حتى عند الفلاسفة المحترفين، وإنه بالتالي لم يتحقق أبدا تعيين الحدود لنمط خاص من المعرفة، ولا تحققت. فيما بعد الفكرة الصحيحة للعلم الذي طالما انشغل به العقل البشري”(4).
يمثل النقد عند كانط استراتيجية بيداغوجية محددة لمواجهة فشل الميتافيزيقا أمام نجاح العلم. إن الميتافيزيقا لم يحالفها الحظ كي تتمكن من انتهاج الدرب الآمنة للعلم. فمنهجها كان إلى ذلك الحين مجرد تخبط عشوائي بين المفاهيم.
قبل ظهور “النقد” كان التعليم يقوم على مبدأ تدريس الفلسفة من حيث هي نسق شامل من المعارف العقلية بغض النظر عن موضوعاتها. ومن تم لم يكن للتراث السابق من قيمة سوى ما يفيد في إثبات ودعم الفلسفة السائدة؛ أما غير ذلك فيعد من قبيل الأخطاء والأوهام التي ينبغي هدمها للتخلص منها، سواء بالشك فيها أو دحضها وبيان تهافتها. وقد كان ديكارت كثير الشكوى من التراث الفلسفي الذي تلقاه في مرحلة الدراسة، حتى أنه يقول في القسم الأول من المقالة في المنهج: “إني وجدت نفسي في ارتباك من الشكوك والأخطاء وبدا لي معها أنني لم آخذ من محاولتي التعلم إلا الكشف شيئا فشيئا عن جهلي”(5).
يمثل النقد إذن استراتيجية ضد التقليد والتبعية، فهو يسعى باستمرار لفحص معطيات العقل البشري والتساؤل حول إمكانيته وحدوده. وعلى ذلك يبدو النقد سلبيا من جهة وإيجابيا من جهة أخرى. فالنقد سلبي من حيث إنه يضع حدودا للعقل النظري، لكن فائدته في الواقع إيجابية من حيث إنه يلغي عائقا يحد من استعماله العملي أو يهدد حتى بالقضاء عليه. وهذه الفائدة تدرك حالما نقتنتع بأنه يوجد، بضرورة كلية، استعمال عملي للعقل المحض. يقول كانط: “إن هذا النقد هو التمهيد الضروري من أجل تطوير ميتافيزيقا راسخة الأساس بوصفها علما ينبغي أن ينفذ بالضرورة بصورة وثوقية وفي نسق، وفق أكثر المطالب صرامة، أي بحسب المنهج المدرسي”(6).
إن النقد كما فهمه كانط ومارسه في دروسه ليس نقدا لتاريخ الفلسفة وليس نقدا للكتب أو الأنساق والمذاهب وإنما هو نقد العقل ذاته وبذاته، أي مثول العقل أمام محكمة النقد ليكتشف إمكانياته فيستغلها ويعرف حدوده فيلزمها.
بهذا المعنى سيكون النقد متعاليا (ترنسندنتاليا) أي أنه “نقد فلسفي” للشروط القبلية ولإمكانيات التفلسف، وليس نقدا في أو للفلسفة. فالبحث المتعالي هو البحث القبلي في ميدان الممكن أي الشروط التي تكون سابقة على كل معرفة بالأشياء. والمتعالي هو غير المفارق الذي يعني فقط خارج أو فوق المعطى التجريبي. إن الترنسندنتالي كما يقول كانط: “لا يعني أبدا علاقة ما بمعرفتنا بالأشياء، بل فقط بملكة المعرفة”. ويضيف: “أسمي ترنسندنتالي كل معرفة لا تخص بصفة عامة الموضوعات وإنما تخص مفاهيمنا القبلية عن الموضوعات”(7).
لكن ألا يفيد هذا التعالي نوعا من الركون إلى الجهل كضرورة، أي الجهل وقد تم الاعتراف به على مستوى الوعي؟ بالفعل يثبت النقد في البداية نوعا من الجهل الذي لا بد من تأكيده وتأسيسه داخل الممارسة الفلسفية. إلا أن هذا الجهل لا يخص معرفتنا بالأشياء الموجودة، بل هو جهل بطبيعة العقل، أي جهل بحدود وإمكانيات العقل.
ما هي القيمة البيداغوجية لهذا الجهل؟ هل هو نهاية المعرفة الفلسفية؟ هل هو إعلان لنهاية كل بحث ميتافيزيقي؟ أم هل هو حكم لصالح العلوم؟ يقول كانط في الجواب عن ذلك:
“إن الوعي بجهلي بدل أن يضع نهاية لأبحاثي، فإنه على العكس من ذلك، يكون السبب الحقيقي الذي يستحثها. إن أي جهل، هو جهل إما بالأشياء أو جهل بحدود معرفتي. ذلك لأنه عندما يكون الجهل عرضيا، فيجب أن يحملني – في الحالة الأولى على البحث في الأشياء بحثا وثوقيا، وفي الحالة الثانية على البحث بطريقة نقدية، في حدود معرفتي الممكنة”(8).
إن تجربة سقراط لا تنسى، وقد أشار كانط في مقدمة الطبعة الثانية من نقد العقل المحض، إلى طريقة سقراط في البرهنة على جهل الخصوم. ويمكن على سبيل المقارنة بين كانط وسقراط الإشارة إلى أن طريقة النقد في إثبات الجهل تشبه طريقة التهكم السقراطي لكن هذا التشابه في منهج التعليم وفي الغرض العام يخفي اختلافا دقيقا يتمثل في النتيجة، حيث أن الجهل الذي يثبته سقراط هو جهل بطبيعة الأشياء أو ماهيتها، أي أنه يثبت تناقض معرفتنا مع الأشياء الموجودة، في حين أن الجهل الكانطي هو جهل بحدود العقل، أي أنه يثبت إمكانية تناقض العقل مع ذاته بصدد عدد من الموضوعات. وعلى ذلك يمكن التمييز بين نمطين متقابلين من التعليم: التعليم الجدلي والتعليم المتعالي (الترنسندنتالي). الأول موضوعه التناقض الفكري وتجنب هذا التناقض أو حله على مستوى العقل والواقع، والثاني موضوعه بحث الإمكانيات الفكرية أي الشروط التي يعمل وفقها العقل.
ينسجم هذا التمييز الذي وضعه كانط بين الجهل بالأشياء والجهل بحدود المعرفة، مع الفرق الذي أدخله في الفلسفة، عندما فصل بين البحث الميتافيزيقي والبحث العلمي، فالجهل بالأشياء هو جهل عرضي يمكن أن يقهره العلم في اي وقت، “ولكن عندما يكون جهلي ضروريا بصفة مطلقة وبالتالي يعفيني من كل بحث لاحق، فإن هذا لا يمكن إثباته تجريبيا بواسطة الملاحظة، ولكن فقط بطريقة نقدية، عند سبر واستقصاء المنابع الأولى لمعرفتنا. وإن تعيين حدود للعقل لا يمكن أن يتم إلا باتباع مبادئ قبلية، ولكن يمكننا معرفة أنه محدود بعديا، لأنها ليست إلا معرفة غير محدودة بجهل يبقى دائما لا يقهر”(9).
ليس السؤال إذن هو ماذا نتعلم في الفلسفة؟ أو أية فلسفة نتعلم؟ وإنما السؤال هو ما الممكن تعلمه كفلسفة؟
يقول كانط: “إن النقد يلهمنا لأول مرة بالروح الفلسفية الحقيقية”(10) فما هي هذه الروح الفلسفية؟
لا يهتم النقد كاستراتيجية بيداغوجية بتاريخ الفلسفة، كتاريخ أنساق ومذاهب وأعلام. فالمعرفة التاريخية هنا تواجه بنوع من النسيان الخلاق – هذا النسيان الذي نجده بارزا في كتب النقد الثلاثة. ومن هنا نفهم لماذا لم يكتب كانط في تاريخ الفلسفة، بل ولماذا لم يهتم بتحديد الأصول التاريخية للفلسفة النقدية في كتاب “نقد العقل المحض”، الأمر الذي كان وراء أنواع سوء الفهم والإهمال الذي قوبلت به مؤلفاته في البداية من طرفتقليد تعليمي يرى في الفلسفة ركاما من التواريخ لا بد من معرفتها للالتحاق بسلك الفلسفة. وقد اضطر كانط إلى اللجوء للتأريخ لفلسفته فقط في “المقدمة لكل ميتافيزيقا…” وهو كتاب تلخيص وضعه للكشف عن بعض الأصول التاريخية للنقدية، وليعرض مسائل “نقد العقل المحض” بأسلوب واضح ومبسط، حتى يكون بالفعل مقدمات يقرأ على ضوئها “النقد” الأول.
لكن هل يعني هذا النسيان على مستوى “اليقظة الفلسفية” وتجنب “السبات الدغمائي” و”ترويض العقل” وشحذ القريحة الفلسفية”.
يمكن رد النسيان الكانطي لتاريخ الفلسفة إلى عامل تربوي. لأنه إذا لم يكن ممكنا تعليم الفلسفة، ما دامت لا توجد – أو لم توجد بعد، هذه الفلسفة الواحدة؛ وما دامت مهددة دوما بالتناقض، فإن التعليم سيتحول إلى مجال للتكرار والتقليد والخضوع لقوة التشابه. لذلك سيقول كانط: “إن القدرة على التقليد هي غير القدرة على الاكتشاف”(11). فالمقلد لا يحصل على المعرفة انطلاقا من عقله الخاص، فهو مجرد شخص فهم جيدا وحفظ جيدا ما فهمه.
وقد ميز المعارف التي يمكن في نقد العقل المحض أو في الكتابات التي ستنشر فيما بعد تحت عنوان “المنطق”، بين المعارف التي يمكن تعلمها وحفظها والمعارف التي ينبغي الحصول عليها بمجهود خاص، الأولى مصدرها التاريخ أما الثانية فهي عقلية. المعرفة العقلية تشتق من مبادئ في حين تشتق المعرفة التاريخية، كما هو الحال مع المتعلم الذي يتعلم المنتوج العقلي لغيره، فمعرفة ذلك المتعلم هي معرفة تاريخية فحسب.
يقود النقد إذن إعادة تأسيس الميتافيزيقا. وقد استعمل كانط لفظ الميتافيزيقا في البداية بحيث يشمل كل نظم الدراسة التي تتشكل قبليا، لكن بعد النقد أصبحت الميتافيزيقا مادة إعدادية Propédeutique تهتم بتثبيت شروط وحدود المعرفة العقلية المحضة: أي النقد، فالنقد، كما يقول كانط بالمناسبة، هو ميتافيزيقا الميتافيزيقا(12).
نقد الميتافيزيقا سيقود إلى ظهور ميتافيزيقا الميتافيزيقا، أي تحول النقد ذاته إلى النقدية والفلسفة إلى التفلسف. لكن كيف يتم هذا الانتقال من الفراغ إلى امتلاء جديد؟ ما المصدر المغذي لهذا الفعل؟ إنه العمل: فالنقد يعلمنا العمل.
II – العمل الفلسفي:
سيتم إعادة الاعتبار، مع كانط، لفكرة العمل الفلسفي ضد النزعات السرية وفلسفات الإلهام والوحي. فإذا كانت الفلسفة ليست علما من علوم الطبيعة وتختلف عن الهندسة أشد الاختلاف(13)، فإنه لا يقى أمامها سوى العمل كفعل وممارسة بواسطة المفاهيم، لتوضح منطقيا وتعين بنوع من الدقة إمكانيات وحدود التفكير(14).
إن العمل الفلسفي، الذي سيصبح مع كانط مبحثا تحليليا Analytique للعقل وبالتالي فإنه سيتجنب تقديم معرفة إخبارية لصالح إنتاج المعقولية، والتقدم بثبات.
هكذا ستظهر الفلسفة، وفيما بعد تعليمها، كمهنة أو حرفة لها وضع اجتماعي وثقافي مضبوط، ولم يعد فعل التفلسف فعلا تلقائيا يستمد من عبقرية الشخص كيانه أو يستلهم الأسرار والقوى الخفية، بل عملا شاقا له أغراض خاصة وتنظيمات دقيقة، ينجز داخل فضاء تربوي هو: المدرسة.
يقول كانط: “يعتبر جميع الناس أنفسهم أسيادا، لما يعتقدون أنهم معفون من العمل. حسب هذا المبدأ وقع التمادي في ذلك الطريق إلى حد الإعلان، بكيفية مفتوحة وصريحة، عن فلسفة مزعومة لا حاجة فيها بتاتا إلى العمل، بل يكفي الإصغاء إلى النبوءة الصادرة من داخل الذات واستغلالها لضمان الامتلاك التام لكل حكمة منتظرة من الفلسفة. إن هذا الأمر يتم بنبرة تدل على أن هؤلاء (= أصحاب الإلهام) يقصدون من نقد ملكتهم في المعرفةى وصولا إلى معرفة وثقية. في حين أن أصحاب النمط العبقري يجعلون أنفسهم أقدر -بنظرة ثاقبة في دواخلهم- على إنجاز كل ما لا يستطيع أي عمل تطبيقي تحقيقه، وبشكل أحسن كذلك..”(15).
إن الفلسفة عندما تفقد معناها الأصلي الذي هو “فن السلوك العقلاني” أو الحكمة، تتحول إلى مجرد خلية للعقل، يتزين بها أولئك الذين يعتقدون في الأسرار-وفي نفس الوقت يزعمون أن اللغة عاجزة عن التعبير أوتبليغ تلك الأسرار إلى الجمهور.
إن فرضية وجود معرفة تتجاوز المحسوس ليست في حد ذاتها لغزا إلا من الوجهة النظرية، فهذه المعرفة يمكن بكيفية تامة كشفها أمام الفهم الإنساني من وجهة نظر تطبيقية. إلا أن هذه المعرفة التي سببها الفهم، باعتباره ملكة إدراك بواسطة المفاهيم ستكون أدنى مرتبة بالنسبة إلى تلك التي يستطيع الفهم إدراكها مباشرة ملكة الحدس. فحسب الطريقة الأولى لا بد للفهم العقلي أن يعمل ويتعب كثيرا للقيام بتحليل وتركيب مفاهيمه وفق مبادئ، ويرتقي بكثير من العناء عددا من المراتب لكي يتقدم داخل مجال المعرفة، بدل تلك القوة الخارقة لحدس عقلي يدرك ويعرض الموضوع مباشرة ودفعة واحدة(16).
يستند الارتجال في تدريس الفلسفة -صراحة أو ضمنا- على فرضية الحدس. فكل من يزعم امتلاك هذا اللحدس ينظر من على وباحتقار إلى العمل المنظم وينفر من تحليل المفاهيم أو تقديم الحجج، لأنه يرى أن حرية التصرف بالعقل تشكل دافعا قويا للقبول بسلطة الحدس.
انطلاقا من هذه الوضعية سيميز كانط بين موقفين، سيكون لهما أثر حاسم في صيرورة التعليم الفلسفي؛ الأول يرى في الفلسفة عملا مجهدا ومتعبا، حيث لا بد من إعمال الفهم العقلي تحليلا وتركيبا بواسطة المفاهيم. هذا يسميه النمط المدرسي (Mode scolaire)، لأنه يرى في الفلسفة مجهودا تعليميا معمما(17).
أما الموقف الثاني، فيرى في الفلسفة أثرا عبقريا يتوقف على الموهبة، ومن تم فهو يجد في الحدس، كإدراك مباشر يحصل على موضوعه دفعة واحدة، سلطة تجعل أصحابها في درجات عليا. وهذا النمط يسميه كانط النمط العبقري (Mode génial) لكونه يعتقد أن الفلسفة نوع من النبوءة الخاصة بفئة معينة من البشر ولا ييمكن تلقيها إلا حدسا وتلقينها حدسا.
لقد قادتنا بيداغوجيا النقد، لا فقط إلى نقد ملكة الفكر، بل وكذلك إلى نقد عمل الفلسفة، وذلك بالكشف عن أساس الفلسفة من حيث هو “العمل الفلسفي”. فضد الحدس السري الذي يزعم “حاسة الحقيقة”(18) تلك الحاسة التي تقود العبقري داخل الفكر، فتجعله يتلقى الأفكار مستغنيا عن أفعال العقل، يظهر العمل الفلسفي كفعالية عقلية، هذه الفعالية يسميها كانط: التفلسف، إذ لا يكون على المتعلم تلقي الأفكار، بل تعلم التفكير والتوجه بنفسه خلال مسالكه.
III – فعل التفلسف:
أ – “إننا لا نتعلم الفلسفة”:
يلاحظ كانط أنه لكي “تحفظ” الفلسفة وتنطبع في الذاكرة أو الذهن لا بد أن توجد أولا وجودا عينيا وبصورة تجعلنا نستطيع أن نقرر ما يلي: “… إن هذا علم ومعارف يقينية، تدربوا على فهمه واحفظوه ثم ابنوا عليه فيما بعد، وستصبحون فلاسفة”(19).
بمعنى آخر إن “الفلسفة لا تعلم” لأنها ليست علما بعد، كما سيقةل هوسرل؛ فقد “كان يحلو لكانط القول إننا لا نستطيع أن نتعلم الفلسفة وإنما فقط التفلسف. وهذا إن كان يعني شيئا، فهو الإقرار بالطابع اللاعلمي للفلسفة، فبقدر ما يكون العلم علما حقيقيا، بقدر ما نستطييع تعليمه وتعلمه، وهذا ينطبق على جميع المجالات”(20).
لقد كان كانط مدرسا يعرف ما عليه وما ينبغي أن يعمله لتلامذته. لهذا فبدل أن يقدم لهم عقلا جاهزا، كان همه الأول أن يثير لديهم فعالية الروح النقدية.
في قسم الفلسفة لا يتعلم التلاميذ الأفكار، لأن تلك الأفكار تأتي في غير أوانها فتقلص حركة الفكر بدل أن توقظه وتحرره. يقول كانط: “ينبغي أن يذهب التلاميذ إلى المدرسة، لا ليتعلموا الأفكار هناك، ولكن ليتعلموا التفكير والسلوك”(21).
يعتقد التلميذ الذي يلج الجامعة أنه سيتعلم “الفلسفة”، وهذا أمر مستحيل، لأن ما يتوجب تعلمه آنذاك هو التفلسف. وتأكيدات كانط بهذا الشأن متعددة ومتكررة في جميع مؤلفاته النقدية: “لا يمكننا تعلم الفلسفة لأنها لم توجد بعد…”، “ما الفلسفة إلا مجرد فكرة لعلم ممكن..”، “لا يمكن للمرء لحد الآن تعلم أية فلسفة، إذ أين هي؟ ومن يمتلكها وأية علامة تدل عليها؟”(22).
إن من يعتقد في تعليم الفلسفة هو بالتأكيد من لم يفهم ماهيتها؛ لأنه بذلك يعتبرها علما قائما بذاته، في حين أنه من “الادعاء أن يسمي المرء نفسه فيلسوفا وأن يزعم أنه وصل إللا مضاهاة النموذج الذي لا وجود له إلا وجود فكرة”(23).
لا وجود إذن للفلسفة ولا للفيلسوف إلا وجود “فكرة: أو “نموذج”. لكن ماذا يتبقى تحت اسم “الفلسفة” في هذه الحالة؟ ثم ماذا نفعل بركام المعارف المحشورة داخل ما يطلق عليه “تاريخ الفلسفة”؟
من المفيد هنا الرجوع إلى التمييز الذي أحدثه كانط داخل المعرفة، بين المعرفة التاريخية والمعرفة العقلية، من حيث إن الأولى معرفىة بالتواريخ (cognitio ex datis) والثانية معرفة بالمبادئ (cognitio ex principüs)؛ فإذا افترضنا وجود الفلسفة وجودا عيانيا وفعليا، فإنه ما من أحد من الذين يلمون بها يمكنه أن يتسمى فيلسوفا، لأن معرفته بها ستظل ذاتيا تاريخية، ما دام لا يعرف شيئا غير ما سبق أن أعطي له في مكان آخر، سواء كان تحصيله قد تم بواسطة التجربة المباشرة أو عن طريق الحكاية أو حتى بواسطة التعليم. ومعنى ذلك أن عملية التعليم هنا لا تتعدى الإلمام الخارجي بنتاج فكري معطى، لا تغير عملية الاستيعاب من خارجيته شيئا، حيث تظل تلك المعرفة “تاريخية” يتم تلقيها من الخارج بدل أن “تصدر من العقل” ذاته.
يمثل كانط لهذا التقابل بين “التاريخي” و”العقلي”، أي المعرفة كركام من الحقائق تنتشر وتدعم بـ”التقليد”، والعمل الفلسفي كمجهود شاق واكتشاف “اصيل”، بشخص حفظ نسقا فلسفيا، وليكن نسق الفيلسوف فولف Wolf(24). إن مثل هذا الشخص قد ملأ رأسه بكل المبادئ والتعريفات والبراهين إضافة إلى جميع أقسام المذهب، بحيث يكون بمقدوره أن يعد على أصابعه كل الأجزاء. مثل هذا الشخص لا يمتلك مع ذلك سوى معرفة تاريخية شاملة بفلسفة فولف، ولن يعرف إلا ما قدم له ولن يحكم إلا من خلاله؛ فلو عارضته بصدد تعريف من التعريفات، فإنه لن يعرف أين يجد تعريفا آخر؛ إذ أنه تكون من خلال عقل خارجي. لكن القدرة على التقليد هي غير القدرة على الاكتشاف، ومعنى ذلك أن المعرفة لم تحصل لديه عن طريق العقل، فرغم كونها معرفة عقلية موضوعية فإنه مع ذلك لا تعدو أن تكون معرفة تاريخية ذاتيا.
مثل هذا الشخص لم يتعلم الفلسفة، بل أجاد الفهم والحفظ فكان بذلك يجسد الغياب الحقيقي للإنسان الحي(25). إن المعرفة التاريخية قد تصبح -في ظروف معينة- أداة للجريمة في مجال التربية.
ليست الفلسفة إذن حقيقة واقعية قائمة بذاتها، مثلها مثل العلم، حاضرة في مجال معطى مباشرة؛ وإنما هي ممارسة فكرية وعمل متميز يسميه كانط: التفلسف.
ب – “إننا نتعلم التفلسف”:
يؤكد كانط أن التفلسف يمكن تعلمه من خلال ترويض واستخدام عقلنا بأنفسنا. فإذا كنا نجد في الفلسفة. كل مفكر يقيم نتاجه على أنقاض نتاج الغير، بحيث يبدو تاريخ الفلسفة، تاريخ خلاف ومناقضة، فإن التفلسف الذي يسري باستمرار عبر أكثر الفلسفات تعارضا واختلافا، هو الذي يؤسس وحدة وخصوصية الفكر الفلسفي كمادة قابلة للتعلم.
إن من لا يقوى على التفلسف ليس جديرا بأن يسمى فيلسوفا. إذ من الواجب على الفيلسوف أن يقوم بستخدام عقله بصورة حرة وشخصية، بحيث يفكر بذاته فلا يكون مقلدا لغيره بصورة حرفية كما يجب عليه أن يتجنب استخدام عقله بصورة جدلية، فلا يتوخى من معرفته الحقيقة وظاهر الحكمة، وإلا كان مجرد سفسطائي، الأمر الذي لا يليق بكرامة الفيلسوف الذي يعرف الحكمة ويعملها.
إن من يعلم التفلسف لا “يلقن” تلامذته الأفكار المطلقة ولا يقوم مقام الوصي على عقلوهم. بل يرشدهم إلى طرق العمل والتفكير الشخصي، بحيث لا يكون التراث الفلسفي أمامه إلا كتظاهرة من تظاهرات “استخدام العقل، وبمثابة موضوعات لترويض الموهبة الفلسفية”(26).
لكن كيف يمكن ترويض الموهبة الفلسفية؟ ما هو المسار الذي من خلاله يتحقق فعل التفلسف؟ إن التلميذ الذي يدرس التاريخ ينتهي في مرحلة أولى من الدراسة إلى تحصيل جملة من المعارف التاريخية، فيستطيع مثلا أن يقرر تاريخ ثورة من الثورات وأسماء الفاعلين المباشرين فيها وأسبابها الاقتصادية والاجتماعية، لكن ما الذي يتم تحصيله في مادة الفلسفة، تحت اسم التفلسف؟
غالبا ما يقال إن التفلسف هو تعلم التفكير، لكن ما هي -في الواقع- مستويات هذا التفكير؟ وبالتالي أين يتجلى فعل التفلسف؟ يطرح هذا المشكل، على المستوى البيداغوجي، إحراجات متعددة، خاصة بالنسبة للتلميذ المجتهد، الذي يصاب بالخيبة لما يجد نفسه قادر على التباهي بامتلاك معرفة وضعية يمكنه الاعتماد عليها واستثمارها في حالة وقوع مناقشة أو أثناء الاختبار.
يمكن مقاربة الأسئلة أعلاه بالتوقف عند أربع عمليات عقلية تعتبر محايثة لكل تفكير فلسفي، هي استعمال المفاهيم وصياغة الإشكالات وعمليات الحجاج والبناء النسقي.
– استعمال المفاهيم:
للتفلسف لا بد أولا من استعمال المفاهيم. يقول كانط: “ليس التفكير في موضوع ما، ومعرفة ذلك الموضوع شيئا واحدا. إن المعرفة تفترض في الواقع عنصرين: أولهما المفهوم الذي بواسطته يتم التفكير في الموضوع، ثم الحدس الذي بواسطته يقدم الموضوع..”(27).
يميز كانط، في الاستعمال الفلسفي للمفاهيم، بين طريقتين؛ الأولى يسميها تحليلية المفاهيم Analytique des concepts والثانية تحليل المفاهيم ذاتها Analyse des concepts eux-mêmes. وإذا كانت طريقة تحليل المفاهيم منهجا متبعا في البحوث الفلسفية، يعتمد تفكيك المفاهيم حسب مضمونها، طلبا للوضوح، فإن تحليلية المفاهيم، على العكس من ذلك، هي محاولة لتفكيك قدرة الفهم ذاتها لمعرفة إمكانية وجود قبلي للمفاهيم. وهذه الطريقة نادرة، إن لم تكن منعدمة، في تاريخ الفلسفة، حسب راي كانط(28).
لا يكون التفكير إذن ممكنا إلا بالمفاهيم. لكن ينبغي أن ننتبه، مرة أخرى، إلى أن الاهتمام بالمفهوم هو غير الاهتمام بالفكرة أو المثال المجرد. فالأفكار تحيل دوما إلى حقائق أو نماذج ثابتة، فالمثل عند أفلاطون “نماذج للأشياء ذاتها، وليست مجرد مفاتيح لتجارب ممكنة، مثل المقولات”(29).
إن الأفكار تتجاوز المفاهيم التي يشتغل بها العقل أثناء التفكير، لذلك سيميز كانط بين المفهوم والفكرة. فالمفهوم منتوج للفهم، فهو بذلك يمثل معرفة لحدوده، أو لنقل إنه إمكانية للمعرفة، أما الفكرة فتعتبر منتوجا للعقل وتمثل كيانا غير مشروط للمعرفة.
-الصياغة الإشكالية:
ترتبط الصياغة الإشكالية بوضع الأحكام. فالحكم الإشكالي هو الذي يكون مجاله “الإمكان: فقط. يقول كانط: “الأحكام الإشكالية هي تلك التي يكون إثباتها أو نفيها ممكنا فقط”، و”القضية الإشكالية هي إذن تلك التي لا تعبر سوى عن إمكانية منطقية”(30).
وتمثل الصياغة الإشكالية تلك العملية التي من خلالها يتم فتح آفاق متعددة أمام التفكير، أي آفاق “الممكن”، إذ بدون تعدد إمكانيات الحكم يتوقف التفكير ويموت.
يعيش الفكر -حسب كانط- ثلاث لحظات أساسية، تتناسب مع لحظة التفلسف ولحظة العلم التجريبي ولحظة العلم الرياضي. هذه اللحظات هي بالترتيب، كما يلي: اللحظة الإشكالية ثم اللحظة الواقعية فاللحظة الضرورية(31).
بهذا الاعتبار تكون اللحظة الإشكالية هي لحظة التفلسف بامتياز.
-الحجاج:
تختلف الفلسفة عن الرياضيات على مستوى المبادئ، فمبادئ الرياضيات هي “كبادئ حدسية”، في حين أن المبادئ الفلسفية هي “كبادئ نظرية”. وإذا كانت المبادئ الرياضية تستند إلى بديهيات “أي مبادئ تركيبية قبلية ويقينية بشكل مباشر”، الأمر الذي يجعل من الرياضيات علما برهانيا، فإن الفلسفة ليس لها بديهييات، وليس لها الحق في أن تفترض القبلية على نحو مطلق، بل عليها فقط أن تجتهد لحل إشكالاتها عن طريق استنباط عميق.
ليس في الفلسفة إذن براهين، ما دام من غير الممكن وضع تعريفات أو إيجاد بديهيات(32). ولهذا السبب ميز كانط بين الدليل الفلسفي والبرهان الرياضي والحجة التجريبية. فإذا سلمنا بأن “الدليل اليقيني، بما هو حدسي، هو وحده الذي يمكن أن يسمى برهانا” فإن الحجة التجريبية لا تشكل برهانا، لأن المعرفة التجريبية مهما كان نوعها لا تتصف بالضرورة. كما أنه إذا سلمنا بأن اليقين الحدسي لا يمكن أن ينتج عن مفاهيم قبلية مهما كانت ضرورية، ترتب عن ذلك أنه لا برهان إلا برهان الرياضيات، بما هي علم يستنبط معارفه من إنشاء المفاهيم عيانيا، وهو ما لا يمكن القيام به في الفلسفة بحكم أنها معرفة بتوسط تحليل المفاهيم.
وعلى ذلك يؤكد كانط: “أن الدليل اليقيني وحده، بما هو حدس، يمكن تسميته برهانا.. وسأطلق كذلك على الأدلة الفلسفية اسم الحجج السماعية لأنها لا يمكن أن توجد إلا بألفاظ بسيطة، وذلك بدل تسميتها براهين، لأن هذه -وكما تشير العبارة- تدخل في حدس الموضوع”(33).
من هنا تمييزه كذلك بين التعريف، الذي لا يكون إلا في الرياضيات والوصف أو التفسير، الذي نجده في العلوم التجريبية، ثم العرض الفلسفي. مما يجعل بنية الحجاج الفلسفي في تقابل مع بنية البرهان الرياضي.
في الفلسفة إذن لا توجد براهين، وبالتالي لا توجد تعريفات، لكن توجد الحجة والعرض. والحجة ليست دليلا على القضية، بل هي فقط توضحها وتغذيها وتبرز شبكة تطبيقاتها وأوجهها المختلفة.
-النسقية:
للعقل المحض عند كانط معمار؛ ولفظ المعمار يعني فن إنشاء الأنساق. والوحدة النسقية هي ما يجمع ويربط ركام المعارف بحيث تتحول إلى نظرية في العلم، وبذلك تكون النسقية جزءا من الميتودولوجيا.
لكن بأي معنى يكون للفلسفة معمار أو وحدة لمعارف مختلفة؟ كيف يمكن التنسيق بين معارف مختلفة؟ أية قوة هاته التي توحد وتنظم المختلف؟
إن التشتت والتفكك في المعارف أمر لا يليق بالعقل الذي له أفكار وغايات. وحسب كانط تسعى الفلسفة، كمجهود وكفعل نظري إلى تنسيق المعارف المتداولة في إطار وحدة وحدة أو نسق متكامل يكون بمقدوره أن يدعم غايات العقل الأساسية. فوحدة الغاية تشكل القوة التي تربط الأفكار الجزئية وتخضعها لفكرة واحدة هي صورة وغاية الكل: “إن المفهوم العقلي العلمي يتضمن غاية وصورة الكل الذي ينسجم مع الفكرة. إن وحدة الغاية التي ترتبط بها كل الأجزاء، في نفس الوقت الذي ترتبط فيما بينها داخل فكرة هذه الغاية، تجعل من المستبعد أن يغيب عنصر ما دون أن يتم الشعور بغيابه..”(34).
يميز كانط بين مفهومين للفلسفة: المفهوم المدرسي (= السكولاني) والمفهوم الكوني. حسب المفهوم الأول، ليست الفلسفة سوى نسق للمعرفة. وهو نسق مطلوب لذاته، دون هدف آخر غير تلك الوحدة النسقية للعلم، وبالتالي فغايته تحقيق الكمال المنطقي للمعرفة. أما بحسب المفهوم الكوني فالفلسفة هي العلم بالعلاقات بين جميع المعارف والغايات الأساسية للعقل الإنساني؛ والفيلسوف حسب هذا المعنى، ليس فنان العقل بل المشرع له(35).
إن الفلسفة بالمعنى الكوني هي تنظيم نسقي للمبادئ العليا لاستخدام العقل، تلك المبادئ التي يتم بموجبها الاختيار بين غايات مختلفة. وبهذا الاعتبار تكون الفلسفة هي العلم الوحيد الذي نحصل بواسطته على ذلك الرضى الباطن، لأنها تقفل الدائرة العلمية تقريبا، ولأنها تزود العلوم بالنظام والترتيب.
IV – أهداف ترسندنتالية:
– مفهوم ترسندنتالي للفلسفة:
يكشف النقد الكانطي عن مفهوم جديد للفلسفة حسب هذا المفهوم تعتبر الفلسفة تفكيرا في “الممكن”، سواء كان مجال هذا الممكن هو العلم أو الدين أو الميتافيزيقا. وعلى ذلك فالفلسفة ليست هي العمل أو الميتافيزيقا أو الدين، بل هي توجد في المكان الذي يشرط قبليا وجود العلم ذاته وكذا الميتافيزيقا والدين.
والمعرفة تكون ترسندنتالية، عندما يتعلق الأمر بطريقة معرفتنا بالأشياء قبليا. فالمبدأ الترسندنتالي لا يشير إلى العلاقة بين معرفتنا وبين الأشياء ولكن يشير فقط إلى العلاقة بملكة المعرفة.
في مقدمة الطبعة الأولى من “نقد العقل المحض” يقدم كانط التعريف التالي: “أطلق اسم الترسندنتالي على كل معرفة لا تتصل بتاتا بالأشياء عامة، ولكن بمفاهيمنا القبلية للأشياء” وفي الطبعة الثانية سيعدل هذا التعريف مؤكدا على أن الترسندنتالي هو “ما يخص طريقتنا في معرفة الأشياء، قبليا بقدر الإمكان”(36).
يمكن أن تكون الفلسفة قريبة من الدين أو الميتافيزيقا أو العلم، أو قريبة من هذا أكثر من ذاك. لكن المؤكد أنها غير منفصلة عن كل ذلك، بل هي تعمل باستمرار داخل كا هذه المجالات مخترقة إياها بواسطة النقد، جاعلة منها موضوعات للتساؤل الموجه نحو غاية محددة هي الإنسان.
إن الفلسفة باعتبارها تأملا نظريا في “شروط إمكان” المعرفة العلمية والسلوك الأخلاقي والإحكام الدينية والفنية، تكون فلسفة ترسندنتالية بمعنى النقد لا المذهب، ومن حيث إنها تبحث في الشروط “القبلية” -وليس البعدية- لكل ما يتعلق بالإنسان، سواء في معرفته أو سلوكه أو معتقده، أي الإنسان كفكر وضمير وشعور، فهذا النسق من المفاهيم هو الذي سيطلق عليه كانط اسم “فلسفة ترسندنتالية”(37).
– أسئلة الفلسفة الترسندنتالية:
ليست كل الأسئلة التي يطرحها العقل الإنساني في تأمله هي أسئلة يمكن الإجابة عنها إجابة علمية. ذلك أن “للعقل الإنساني مصيرا خاصا، في جانب من معارفة، يتمثل في انشغاله ببعض الأسئلة التي لا مفر منها”(38).
من طبيعة العقل الإنساني أنه لا يقف عند حدود التجربة -وحتى المبادئ ذاتها التي يتسخدمها في المعرفة التجريبية تقوده من حيث لا يدري إلى تجاوز حدود كل تجربة، فيتصور وجود حقائق متعالية مثل: النفس والعالم (الكلي) والله. ومن الواضح أنه في هذا المجال، حيث لا يمكن الاستناد على التجربة، يجد العقل ذاته فيمواجهة قواه الخاصية- وعليه فإن الأجوبة التي يقدمها لمثل هذه الأسئلة لا تكون واقعية ولا ضرورية، بل فقط احتمالية.
في ماذا إذن تبحث الفلسفة؟ ما هي أسئلتها الأساسية؟ يقول كانط: “يرجع مجال الفلسفة إلى الأسئلة التالية:
1 – ما الذي يمكنني معرفته؟
2 – ما الذي يجب علي فعله؟
3 – ما المسموح لي بأن آمله؟
4 – ما هو الإنسان.
على السؤال الأول تجيب الميتافيزيقا، على السؤال الثاني تجيب الأخلاق، وعلى السؤال الثالث يجيب الدين، وعلى السؤال الرابع تجسب الأنتربولوجيا. ولكن يمكن، في العمق، أن يؤول كل ذلك إلى الأنتروبولوجيا ما دامت الأسئلة الثلاثة الأولة تؤول إلى السؤال الأخير”(39).
لا تهتم الفلسفة إذن بالموضوعات المباشرة، وبالتالي فهي لا تنتج حقائق واقعية أو ضرورية، كما هو الشأن في العلوم الطبيعية أو الرياضية، بقدر ما تجعل من تلك الموضوعات المباشرة موضوعات إشكالية، يمكن التفكير فيها نظريا أو الالتزام بها من خلال الممارسة والعمل أو الشعور بها وتذوقها وجدانيا.
إن الأسئلة الثلاثة السابقة تحدد بدقة المجال الإشكالي للفلسفة (الذي هو موضوع التفلسف): إنه شروط المعرفة والعمل والأمل.
بالنسبة للسؤال الأول، ماذا يمكنني أن أعرف؟ يحيل إلى الشروط التي تجعل المعرفة ممكنة، يقول كانط: “يجب على الفيلسوف أن يكون قادرا أولا على تحديد مصدر المعرفة الإنسانية، وثانيا مدى الاستخدام الممكن والنافع لكل معرفة، وأخيرا عليه أن يعين حدود العقل”(40).
أما السؤال الثاني -ما الذي يجب علي فعله؟ فيحيل إلى الشروط التي تجعل العمل واجبا. فمجال ميتافيزيقا الأخلاق هو: “البحث وإنشاء مبدأ أسمى للأخلاقية”(41) فمما يؤكد عليه كانط في هذا الصدد، هو أن العمل لا يكون واجبا، إلا إذا التزمنا بإرادة خيرة، أي بالحرية.
أما بالنسبة للسؤال الثالث، ما المسموح لي بأن آمله؟ فيتعلق بالبحث في شروط خلق وتنمية “شعور وجداني” قادر على الربط بين عالمي الممكن والواجب، ليرقى “بالذات” إلى مستوى ما هو جميل وجليل- أي عالم المسموح به، حيث يلتقي الفهم والعقل، الطبيعة والأخلاق، في صورة دينية أو فنية(42).
– أهداف التفلسف:
هناك ثلاث مهام للتفلسف من أجل تحقيق ثلاثة أهداف ترسندنتالية للدرس الفلسفي. يمكن صياغة هذه الأهداف على ضوء الأسئلة الخاصة بالفلسفة، وبالنظر إلى الغاية المحددة لها وهي الإنسان.
إن هذه الأهداف تجعل من خصائص التفلسف أفعالا فكرية تستمد من “النقد” ديناميتها بحيث يصبح النقد هو عمل الفلسفة الذي يعد ويهيئ من يتلقى التعليم الفلسفي لممارسته:
أ – التفكير الترسندنتالي، الذي يتمثل في استعمال ملكة الفهم للحصول على المعرفة وهو ما لا يتحقق إلا باستعمال المفاهيم وتحليلها، بحيث تحصل المعرفة بالشروط القبلية التي تجعل العلم -أي علم- ممكنا.
إن الفلسفة لا توجد بدون المعرفة، إلا أن هذه المعرفة، ليست هي المعرفة العلمية، أي المعرفة المحدودة بالتجربة أو البرهان، بل هي معرفة ترسندنتالية، أي معرفة بالشروط القبلية لكل معرفة ممكنة.
هذا الهدف لا يتحقق إلا إذا امتلك المتعلم القدرة على القيام بتحليل كامل للإشكاليات التي تعترضه، بحيث يتعالى على الموضوعات المباشرة ليفحص الشروط القبلية التي تجعل معرفة تلك الموضوعات ممكنة. وترتكز عملية التحليل هنا على المفاهيم. فبواسطة العرض الترسندنتالي يتم شرح المفهوم بوصفه مبدأ يمكننا من فهم إمكان معارف تأليفية قبلية أخرى. وهذا يستلزم أمرين، الأول هو أن تصدر مثل هذه المعارف عن المفهوم المعطى وثانيا ألأن لا تكون المعارف الممكنة إلا بافتراض نمط التفسير المعطى لذلك المفهوم.
ب – الالتزام الترسندنتالي، ويتمثل هذا الهدف في استعمال العقل للقيام بعمل أو سلوك أخلاقي في الحياة اليومية، وذلك بتركيب أفكار(43). لا يقدر لا الفهم ولا التجربة على الإحاطة بها. إن هذا الهدف هو كذلك هدف متعال من حيث إنه يقوم على البحث في الشروط القبلية للحياة الأخلاقية، أي “كيف يكون الأمر المطلق ممكنا”(44).
والفلسفة بهذا المعنى لا تضع سلوكا معينا أو تسن قيما ضرورية بالنسبة للأفراد، بل تبحث في الشروط والإمكانيات القبلية التي تجعل من السلوك والعمل الأخلاقيين عملا واجبا. ومع ذلك فإن ّلجميع العلوم جزءا عمليا يتألف من مشكلات تفترض أن غاية ما ممكنة لنا، ويتألف من أوامر تبين كيف يمكن الوصول إلى هذه الغاية، ويمكن إذن أن ندعو هذه الأوامر بوجه عام أوامر المهارة والحذق. وليس ما يعنينا هنا بالمرة كون الغاية معقولة وخيرة، بل يعنينا فقط ما ينبغي عمله للوصول إليها. فالوصفات التي يجب أن يتبعها طبيب ليشفي مرضه شفاء تاما وتلك التي يجب أن يتبعها واضح السم للقضاء عليه قضاء نهائيا، لها نفس القيمة، من حيث صلاحية هذه وتلك لإنجاز ما اعتزمناه، إنجازا كاملا”(45).
إن الالتزام الترسندنتالي لا يقتصر، إذن على تركيب الأفكار العقلية، وفقا لمبدأ الحرية التي هي خاصية للإرادة عند جميع الكائنات العاقلة، بل لا بد من إضافة شرط الحذق أو المهارة. فالمهارة تكون تبصرا عندما يتعلق الأمر باختيار الوسائل التي تقود إلى السعادة والرفاهية.
ج – الشعور الترسندنتالي، هو شعور متعال لكونه يبحث في الشروط القبلية التي تجعل من الذوق أو الإحساس الوجداني أمرا ممكنا، ويتمثل هذا الهدف في استعمال ملكة الحكم للوصول إلى اللذة (المسموح بها) وليتحقق الإحساس بما هو جميل وجليل.
إن تنمية الإحساس بما هو جميل وجليل، وتطويره كهدف بيداغوجي لا بد أن يمر عبر عمليتين هما التحليل والتركيب. والتعليم الفلسفي، بهذا المعنى، يسعى إلى جعل المتعلم قادرا على الانتقال من الخاص إلى العام وإدراك أن الخاص متضمن في العام(46).
في “نقد ملكة الحكم” ميز كانط، بهذا الخصوص، بين نوعين من الحكم: الحكم المحدد (déterminant) الذي ينتقل من الكلي إلى الجزئي، والحكم العاكس (Reflichissant) وهو الذي ينتقل من الجزئي إلى الكلي. وللحكم العاكس صيغتان هما: الحكم الجمالي والحكم الغائي. الأول قد يقوم على الاتفاق بين موضوع الطبيعة وملكاتنا الخاصة، يصاحبه شعور وإحساس باللذة، أو قد يقوم على عدم الاتفاق بينهما فيصاحبه شعور بالألم. أما الحكم الغائي فهو الذي يعبر عن الانسجام في الطبيعة نفسها. والحكم الجمالي مرتبط بالذات بصفة كلية لا بصفة شخصية، وبالتالي فالشعور بالجميل هو شعور بالحياة. والموضوع الجميل يكون حدودا في الطبيعة كموضوع فني لا كموضوع آلي كما يتعين في علم الطبيعة.
لقد أراد كامط التمييز بين الشعور بالجميل والشعور بالجليل، من حيث إن الجلال لا يوجد في أيو صورة محسوسة بل نحن نتمثله بعقلنا، كما أن الفن الجميل يكشف لنا عن نظام الطبيعة، بينما الجليل يكشف عن عدم نظامها، مما يدخل الرهبة في النفوس(47).
إن المبدأ الترسندنتالي المميز لهذه الأهداف هو الذي يسمح بالتفلسف، إذ بدون التعالي سيتم الاستغراب في الموضوعات المباشرة، ويصبح التعليم الفلسفي تعليما لفلسفة ما أو تلقينا لفلسفات كثيرة، لا رابط بينها، أي تحصيلا لمعرفة يعتقد أنها علم من غير أن تكون كذلك، ولمبادئ وقيم تؤخذ باعتبارها أخلاقا سامية ينبغي الرضوخ لمعياريتها مع أنها لا تعبر سوى عن إرادة مشروطة.
خاتمــة:
في خاتمة تصدير الطبعة الثانية من “نقد العقل المحض” كتب كانط يقول: “.. إن الخطر هنا ليس بالفعل أن يناقض المرء، بل أن لا يفهم” وبالفعل تعرض جواب كانط بصدد مسألة التعليم الفلسفي” لضروب مختلفة من سوء الفهم.
اعتقد البعض، بحجة تعليم التفلسف، وليس الفلسفة، أنه يمكن التعالي على تاريخ الفلسفة ذاته والتخلي عن التراث الفلسفي القديم بالتركيز على قضايا ومفاهيم بعينها تكون موضوعا للتفلسف، فالتعليم الفلسفي يريد أن يكون تعليما واقعيا يجد دلالاته في توضيح وتعميق القضايا التي يهتم بها لذاتها أكثر مما يجد تلك الدلالة في تأمل وتبليغ ثقافة وتراث فلسفيين. والحال أن تحليل أي موضوع لا يتخذ شكلا لسفيا إلا عندما يتم إدراجه داخل إشكالية فلسفية.
واعتقد البعض الآخر، بنفس الحجة، أن التعليم الفلسفي لا يقدم أية معرفة، اللهم إلا إذا اعتبرنا قواعد العقل الصورية، نوعا من المعرفة، وأنه إذا كان لهذا التعليم من هدف فهم تعلم التفلسف ذاته. وخطأ هذا الموقف أنه يفصل بين المنهج والموضوع أو ببين النتيجة والمسلك المؤدى إليها. فكما لا توجد طريقة في التفكير معزولة، لا توجد كذلك موضوعات أو مفاهيم معزولة، تكون صالحة للفلسفة، بدون معرفة المصدر الذي تأتي منه. فإذا كان التحليل يفترض وجود التركيب، فإن التحليل سيكون بالضرورة مندمجا في إشكالية فلسفية ما.
وعليه فإن تحليل مفهوم ما لا ينبغي أن يفكر فيه كمنهج مجرد للعقل التحليلي، لأن ما ينتهي إليه تحليل المفهوم، هو دوما تبيان ماهية ما. وليس تقديم أجزاء متناثرة من التفكير(48).
ويرتبط جواب كانط بخصوص مسألة التعليم الفلسفي، وكذا مفهومه عن التفلسف، بجوابه على السؤال: ما هي الأنوار؟ وهو سؤال يطرح لأول مرة، في الفلسفة، مسألة الحاضر. وجواب كانط على هذا السؤال هو الذي سيحدد الإطار البيداغوجي لتدريس الفلسفة، وسيوجه مسار التعليم الفلسفي، بوصفه تعليما يتعلق بالحاضر.
في جواب كانط على السؤال ما هي الأنوار؟ نشاهد الفلسفة تعمل على صياغة إشكالية لآنيتها النظرية. فهي تستنطق هذه الآنية كحدث لا بد من الإفصاح عن معناه وعن قيمته وتفدره الفلسفي، ولا بد من أن تجد فيه تعليلا لوجودها وأساسا لما تقوله. إن تساؤل الفيلسوف عن انتمائه لهذا الحاضر لم يعد إطلاقا تساؤلا حول انتمائه لمذهب ما أو لتراث معين، ولا حول قضية انتائه لمجموعة إنسانية بصفة عامة، بل أصبح السؤال يخص انتماءه لـ”نحن” محددة.
بهذا المعنى سيدخل التعليم الفلسفي إلى المؤسسة لتعميق هذا التساؤل حول الآنية، وليتحول إلى مؤسسة “نقدية”. أو كما يقول فوكو- إلى فكر نقدي يأخذ شكل أنطلوجية لـ”نحن ذاتنا” أي أنطولوجيا الآنية(49).
بهذا المعنى كذلك ينبغي أن يفهم من التفلسف -لا استبعاد الثقافة الفلسفية أو تاريخ الفلسفة- بل تحيين موضوعات الفلسفة وجعل مفاهيمها ذات راهنية، من خلال تحليلها وطرحها ضمن إشكالات تلزم الفكر بأن يتحمل مسؤولياته الكاملة.
وفي الأخير، لا بد من التأكيد مرة ثانية، أن جواب كانط على مسألة التعليم يندرج ضمن التراث النقدي الذي ما فتئ يطرح السؤال: ما هي آنيتنا؟ ما هو المجال الحالي للتجارب الممكنة؟ وماذا يحدث اليوم؟ ماذا يحدث الآن؟ ما هو هذا الآن الذي نوجد نحن وغيرنا فيه؟
هوامــش:
1 – SOURIOU (Etienne), L’avenir de la philosophie, Idées/Gallimard 1982, Livre 2, section II, troisième partie.
2 – Husserl (Edmund), Méditations cartesiènnes, trad. G.Peiffer et E.M Lévinas, J.Vrin, 1980, p.4.
3 – Desanti (J.T), Le philosophe et les pouvoirs, Calmann-Levy, p.54.
4 – Kant (E), Critique de la raison pure, trad. France, A.Tremesaygues et B.Pacaud, PUF, 1968, p.564.
5 – ديكارت (رونيه)، مقالة الطريقة، ترجمة جميل صليبا المكتبة الشرقية بيروت 1970، الطبعة الثانية، ص.76.
6 – Kant (E), Critique de la raison pure, op.cite, p.26.
7 – Ibid, p.46.
8 – Ibid, p.518.
9 – Ibid.
10 – كانط (إمانويل)، مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علما، ترجمة د.مازلي إسماعيل حسين،مراجعة د.عبد الرحمن بدوي، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة 1968، ص.238.
11 – Kant (E), Critique de la raison pure, p.
12 – انظر تعليقات فتكتور دلبوس على “أسس ميتافيزيقا الأخلاق” لكانط، طبعة Delagrave 1969، ص.74.
13 – يؤكد كانط، في نقد العقل المحض: “أن الهندسة والفلسفة شيئان مختلفان أشد الاختلاف” (ص,501)، وعلى الرغم من أنهما معرفتان عقليتان، فإن المعرفة الرياضية هي معرفة عقلية تقوم على بناء المفاهيم، في حين أن المعرفة الفلسفية تقوم استعمال المفاهيم (ص.50-561).
14 – ربما بهذا المعنى سيقول فتغنشتاين Wittgenstein: “ليست الفلسفة علما من علوم الطبيعة. وكلمة فلسفة ينبغي أن تدل على شيء آخر أكثر أو أقل من ذلك، لكنه غير مكابق لعلوم الطبيعة. إن موضوع الفلسفة هو الإضاءة المنطقية للفكر. فالفلسفة ليست عبارة عن نظرية بل هي فعالية”.
15 – Kant, D’un ton gra,d seigneur adopté naguère en philosophie, Trad.Fran. Guillermit, J.Vrin 1987m p.90.
16 – Ibid, p.89.
17 – تكشف أعمال Philonenko حول كانط عن وجود “كوجيطو متعدد” مما يطرح مشكل المشروعية في تعميم الفلسفة. يعتقد كانط في إمكانية هذا التعميم، فهو لم يحتقر الفلسفة الشعبية. ففي تقديره أن كل واحد يملك، في وعيه الساذج، ما هو جوهري من الحقائق الضرورية، للوصول إلى تحقيق وجوده العاقل. انظر بصفة خاصة المقدمة التي وضعها فيلوننكو لكتاب:
Kant, qu’est ce que s’orienter dans la pensée, trad. Fran. A.Philonenko, J.Vrin 1967.
18 – Kant, Qu’est-ce que s’orienter.
19 – Kant, Annonce du programme des leçons, trad.Fran, M.Ficha, J.Vrin 1973, p.69.
20 – Husserl (Edmund) la philisophie comme science rigoureuse, trad. G.Lauer, PUF. 1955, p.52.
21 – Kant, Annonce du programme, op.cité.
22 – Kant, Critique de la raison pure, op.cité, p.561.
23 – Ibid, p.562.
24 – Ibid, p.560.
25 – Ibid, p.560.
26 – Kant, logique, trad. guillermet, Vrin 1970, p.26.
27 – Kant, Critique de la raison pure, op.cité, p.147.
28 –Ibid, p.86.
29 – Ibid, pp.262-263.
30 – Ibid, p.91.
31 – Ibid, pp.91-92.
32 – يقول كانط: “ليس التعريف -وفقا لدلالة اللفظ- ولا يمكن أ، يكون سوى العرض الأصولي لمفهوم واضح، لشيء ما، عرضا عيانيا in concreto” (p.501) وحسب هذا التحديد وشروطه “.. ليس بإمكاننا تعريف أي مفهوم معطى قبليا” (p.502)، وذلك بحكم التفاوت بين الدال والمدلول. لذلك يقرر كانط: “بدل لفظ التعريف أفضل استعمال لفظ العرض، نظرا لتواضعه، ولأن الناقد بمقدوره أن يقبل بالتعريف المعطى فيه إلى درجة معينة، مع احتفاظه بشكوكه حول يقينه (كتعريف)” (p.502).
33 – Ibid, p.505.
34 – Ibid, p.558.
35 – Ibid, pp.561-562.
36 – Ibid, p.46.
37 – Ibid.
38 –Ibid, p.5.
39 – Kant, La logique trad. Guillermet, Vrin 1970, p.25.
انظر كذلك تعليق كانط على الأسئلة الثلاثة التي ينشغل بها العقل؛ ضمن كتاب “نقد العقل المحض”، وذلك بصدد حديثه عن مثال الخير الأسمى بوصفه المبدأ الغاية العقل القصدي، (ص.543-544).
40 – Kant, Critique de la raison pure, op.cite, p.25.
41 – Kant, Fondements de la métaphysique des moeurs, trad. V.Delbos, Delagrave, 1969, p.84.
42 – يلح كانط، في نقد ملكة الحكم، على قسمة الفلسفة إلى نظرية وعملية، موضوع الأولى هو الطبيعة أما موضوع الثانية فهو الحرية. الأولى تختص بالمعرفة، وتقوم على أساس “الفهم” والثانية تختص بالعمل، أو السلوك، وتقوم على أساس العقل، إلا أن هذه القسمة تكشف عن “الهوية” بني المحسوس، كموضوع للمعرفة، وما فوق المحسوس كموضوع للتفكير فحسب، بحيث يبدو أي ارتباط بينهما مستحيلا. إلا أن هذا الربط ضروري ما دام العلم الأخلاقي لا بد أن يدمج في العالم المحسوس. وقد اعتقد كانط أنه وجد في “ملكة الحكم” الوسيط الضروري بين العالمين. فملكة الحكم، كما يتم تعريفها هي: “القدرة على التفكير في الخاص من حيث هو متضمن في العام” (ص.27) والحالة هذه أن “بين ملكة الإدراك وملكة الرغبة يقوم الإحساس باللذة، كما تقوم ملكة الحكم بين الفهم والعقل” (Ibid).
Kant, Critique de la faculté de juger, trad.A.Philonenko, Vri, 1989.
43 – يستعير كانط من أفلاطون كلمة “أفكار” أو مثل، ليدل على تصورات العقل المحضة التي لا يطابقها أبدا أي موضوع من الموضوعات المعطاة في التجربة مطابقة تامة. فالأفكار نماذج أو أنماط، وبالتالي فهي غير قابلة للتمثيل الحسي.
44 – Kant, Fondements de la metaphysique des moeurs, op.cité, p.193.
45 – Ibid, p.126.
46 – Ibid, p.127.
47 – Kant, Critique de la faculté de juger.
48 – Poirier, (Jean-Louis) la notion d’analyse de notion in Revue de l’enseignement philosophique, Paris, Volume 32, n°2, Décembre 1981.
49 – بخصوص هذه النقطة، لا بد من الرجوع إلى الدرس الذي قدمه ميشيل فوكو بالكوليج دوفرانس سنة 1983 في موضوع “كانط والثورة”، وهو قراءة جديدة للنص الذي كتبه كانط بعنوان “ما هو عصر التنوير؟”
انظر ترجمة النصين معا في مجلة الكرمل-مجلة الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، العدد 12/1984.
1 تعليق
ان الفلسفه كمادة تعليمية داخل المؤسسات التربويه تواجه بلا شك صعوبات علي مستوي تبليغها وتدريسها وتقبلها في عصر الرقمنه وهيمنة الصوره وزحف التكنولوجيا