الملخّص:
النصّ القصصيّ يستدعي العلامات من عوالمها المعقّدة والمتداخلة ويوجّهها توجيها خاصّا تحدّده مقتضيات الحبك. إنّ الترابط بين العلامات هو ما يصنع عوالم البطل ويحدّد أفق أعماله، إذ لا وجود لأعمال بطوليّة خارج عالم علاميّ أساسه التّسريد الذي يصنع عالما تفاعليّا أو عالما موازيا. وقد اخترنا أن نحلّل عوالم البطل التخييلية من خلال خبرين إثنين حوّل فيهما السّرد شخصيّتين تاريخيّتين إلى شخصيّتين بطوليتين عبر مزيّة الحبك وطرق تنظيمه. هذان الخبران هما: “خبر عمارة بن الوليد والسّبب الذي من أجله أمر النّجاشيّ السّواحر فسحرته”، من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، وخبر بعنوان “مقتل عبد اللّه بن الزّبير”، من كتاب العقد الفريد لابن عبد ربّه. وهنا نطرح السّؤال حول علاقة التخييل بالزّمن في سياق السّرد، فهل أنّ الزّمن هو العامل الّذي يمنح التخييل حياة فيخرجه من مجال الاستعارة الجامدة إلى مجال الاستعارة الحيّة؟ ثمّ إلى أيّ حدّ يمكن للتخييل أن يمنح لوجود الشخصيّة التاريخيّة معنى ثانيا ويشرّعتأويلها والتفكير فيها؟
1- مدخل:
الخيال هو التمثّل الذّهنيّ لشيء ما، أو افتراض وجوده، وهو أيضا التوقّع والحدس والاستشراف، هذا النّشاط الذّهنيّ يختلف من سنّ إلى آخر، ومن ثقافة إلى أخرى، وقد تقوده المعتقدات أو الانفعالات والرّغائب المكبوتة أو حتّى النّوازع المرضيّة. أمّا التّخييل فهو الطّريقة التي يتمّ بها تحقيقُ هذا التمثّل، هذه الطّريقة يحدّدها الآداء اللّغويّ وما يستدعيه من أدوات تضطلع بالتّشكيل البلاغي، عبر طاقة فيّاضة تتهيّأ داخل النّصّ للقيام بالتجديد الدّلاليّ. والمعنيّ هنا ليس وجوه البلاغة في معناها الكلاسيكيّ، وإنّما ما تحدّث عنه “جيرار جينيت”[1] من توسعة تلك الوجوه لتورية المعاني في سياق إنشائيّ يتّصل فيه السّابق باللاحق، فيربط الفعل بأثره، معتمدا التمدّد لإنشاء عوالم تخييليّة نميزها عن عوالم الخيال، لأنّها ليست مجرّد طريقة في تصوّر العالم، وإنّما هي إمكان غير متحقّق وطريقة أخرى في تصوّره وتخيّله تعتمد البيان اللّغويّ وسيطا لها [2].
تصدر هذه الطّريقة عن موقف قضويّ يُعتبر من الطّرق الممكنة للنّظر إلى العالم ووصفه. ولذلك فإنّ تشييد العالم التخييلي لا يكون مفصولا عن العالم المرجعيّ، وإنّما هو “قلب أشياء العالم إلى علامات والعلامات إلى أشياء” على حدّ عبارة العادل خضر. ويفهمها بعض المناطقة على أنّها مجرّد طريقة في تصوّر عالمنا الراهن، بما هو عالم تسكنه نفس الكائنات التي تسكن في عالمنا هذا، إلا أن العالم الممكن ليس نسخة من الواقع، وإنما هو إمكان غير متحقق وطريقة أخرى في تصوّره وتشكيله. ولذلك فإنّ العلامات تُنتج النّصّ وينتجها، إذ تدخل بشكل معيّن إلى عالم النّصّ ثمّ تخرج متّخذةً شكلاً آخر ودلالةَ جديدة أو إضافيّة، ورغم أنّ العلامة تفقد ملكيتها لنفسها داخل الفضاء التّخييليّ، لتضحي مكوّنا من مكوّنات النّظام السّيميائي للنّصّ، الذي يحوّلها من وحدة تعبيريّة إلى وحدة من وحدات المحتوى، إلاّ أنّ هذا التحويل، حسب أمبرتو إيكو، ليس هو الذي يميّز النّظام السّيميائيّ، وإنّما قابليّة هذا النّظام للتّأويل[4]، لأنّ العلامة وإن أضحت أسيرة النّصّ فإنّها تمنحه دلالته الحرّة والخاصّة وتهيّؤه لاكتساب المعنى، بمزيّة التمفصل التركيبيّ، والتعالق والنّظم الذي يستدعي العلامة من عوالمها المعقّدة والمتداخلة ليوجّهها توجيها خاصّا، هذا التوجيه تحدّده في النّصّ القصصيّ مقتضيات الحبك الذي يقوم بصنع عالمه التخييليّ، ونحن إن وجدنا نفس العلامة في نصّ شعريّ مثلا، فإنّ ذلك يسكنها بالضّرورة عوالم أخرى مختلفة عن عوالم السّرد، ولكنها قد تتلاقى معها في أنواع مخصوصة من الشّعر، حين يكون الشّعر ملحميّا مثلا.
إنّ طبيعة التّعالق التّركيبي والتنظيميّ بين العلامات، هو المحدّد لخواصّ الشّبكة العلاميّة المنسجمة انسجاما خاصّا داخل النّصّ، وهو أيضا المسهم في تحديد طبيعة العوالم التخييليّة، لأنّه في إطار السّديم العلاميّ تُرسم شبكة معقّدة من الدّروب، تستدعي في حدّ ذاتها أدوات لمعرفة مسالكها. هذه الشّبكة هي التي تمنح الخطاب هويّته التمييزيّة، بما هو تجسيد مادّي للّغة، إذ يكتسب معناه من الرّوافد اللّفظيّة، في لغة ما، حين تنتظم انتظاما رمزيّا خاصّا داخل السّياق، وبالتّالي فإنّ الخطاب يتحقّق بالضّرورة داخل سياق من السّياقات، والعلامة اللّغويّة ذات الدّلالة المباشرة، تكتسب معناها السيميائيّ غير المباشر بانتمائها إلى خطاب ما[5]، لأنّ المعالجة السّيميائيةّ تكتسب مشروعيّتها من تأويل الرّموز، حين تتحوّل العلامة المباشرة، إلى رمز غير مباشر، يتمّ استدعاؤه من خلال المؤشّرات التركيبيّة والخيارات المعجميّة والاستخدام البلاغيّ في نصّ ما.
فمضمون الملفوظ يتمّ استخلاصه بالاستناد إلى استراتيجيّات التّلفّظ والوضعيّات المقاميّة، لأنّ العلامة اللّغويّة وإن كانت خيارا معجميّا في البدء فإنّها تنخرط في الخطاب وفق استراتيجيّات تلفّظيّة تسهم في تحديدها الوضعيّات المقاميّة، التي يكون لها دور في صناعة العوالم. هذه العوالم تصنعها العلامات التي بدورها تكتسب معناها من انتمائها إلى العوالم، غير أنّ المعنى تولّده القراءة ويحدّده التلقّي وهذا الأمر قد ينفلت في رأينا عن الوضعيّة المقاميّة التي أنتج فيها الخطاب، لانفتاح التلقّي وتجدّد الفعل القرائيّ وامتداده، إذ قد يكون مخلصا للبدايات كما قد يكون منتميا في حدّ ذاته إلى عوالم أخرى.
فالفعل القرائيّ له دور في تشكيل المعنى، وسواء شغل المتلقّي موقع القارئ أم السّامع، فإنّه يتبوّأ منزلة في العمليّة التّلفّظيّة، لأنّ انتاج القول يستدعي ضمنيّا وعيا بالآخر المتلقّي، ولأنّ الملفوظ يفقد معناه في غياب هذا المتلقّي، حتّى إن العرب استوعبوا هذه “البديهة الناصّة على الرغبة في الاستماع” وأضحى بيانهم معبّرا عنها، هذه البديهة التي تنتظم وفق شروط تحدّد نوعا من التّعاقد المبرم بين الرّاوي والمرويّ له[6]، فكل متلفظ مدفوع تلقائيا إلى أن يعقد صلة بينه وبين مخاطب يستمد منها وجوده بصفته كائنا يمارس اللّغة بداهة، وقد جُبل على التواصل مع الآخر شفاهيّا ولهذا تموضع المروي له في موقع مركزيّ في التراث العربي.
ومن رحم هذا التّراث العربيّ اخترنا أن نقوم بدراسة العلامات وعوالمها في “العوالم التّخييليّة للبطل” في إطار الخبر العربيّ باعتباره من الأجناس السّرديّة التراثيّة الرّاسخة في ذاكرة التّلقّي. ونحن نزعم أن لا وجود لأعمال بطل خارج عالم علاميّ يحدّد وجهتها وأفقها، هذا العالم قد يكون متفاعلا مع المرجع وقد يكون موازيا له، وقد تكون أعمال البطل في صلة ما بأهوائه، لأنّ البطل لا يفعل فقط بل يضمّن الفعل شحنة انفعاليّة تحدّد درجة الكثافة والنّجاعة التي يتحقّق من خلالها هذا الفعل [7]، كما أنّ طبيعة العوالم تتحدّد بطبيعة الحبك وما ينتج عنه من أفق دلاليّ للعلامات.
وسعيا منّا لإيضاح هذا الانتظام وتبرير العلاقة بين النّظام العلامي ونظام العوالم، انتقينا من الأخبار خبرين إثنين، أوّلهما خبر “مقتل عبد اللّه بن الزّبير”[8]، وثانيهما خبر “عمارة بن الوليد والسّبب الذي من أجله أمر النّجاشيّ السّواحر فسحرته”[9]. هذان الخبران أرادا إخبارنا عن علمين من أعلام التّراث العربيّ، إلاّ أنّ الحبك حوّلهما من سياق الحقيقة التّاريخيّة إلى عالم العلامات التّخييلي. والسّؤال المطروح هنا: هل يمكن أن نسند صفة البطل لهذين العلمين معتبرين أنّها اسما ثانيا لكّلّ واحد منهما؟ وإلى أيّ حدّ يفصح الحبك عن هذا المعنى ويوحي به؟ وإلى أيّ حدّ يمكن للتّخييل أن يمنح هذا العلم معنى ثانيا يشرّع لتأويل الذّات والتّفكير في وجودها؟ ذلك أنّ رسم عوالم التّخييل هو بمثابة الدعوة إلى التّفكير في الوجود، وهذا ما يدعونا إلى التّفكير في علاقة التّخييل بالزّمن في سياق السّرد، فهل الزّمن هو الذي يمنح التخييل حياة فيخرجه من مجال الآداء البلاغي الجامد إلى الآداء البلاغي الذي يصنع حياة؟ وهل يكفي أن يكون الفرد من الأعلام المشهورين في التّاريخ، حتّى تؤهّله السّرديّة أن يكون بطلا؟
خاصّة وأنّ تزفيتان تودوروف يرى فئة الأسماء الأعلام من أكثر فئات الألفاظ فقرا من حيث المعنى، لأنّها أكثر الأسماء اعتباطيّة، وهذا ما يفسّر حقيقة أنّها تُعطى أهمّية خاصّة في معظم تقاليد التّأويل، أو في جميعها تقريبا. فالأسماء الأعلام هي أقلّ من غيرها قابليّة للفهم، ومن هنا يأتي إعطاء الشخص اسما ثانيا لتليين الفهم [10]والمقصود بالاسم الثّاني هو الصّفة الّتي تلحق بالمسمّى فتجري مجرى الاسم. وفي هذه الحالة نجد أنفسنا أمام خيارين للتّسمية، أوّلهما يقوم على مطابقة الاسم للمسمّى أي مطابقة الدّال للمدلول، فيكون جوهر فاعليّة الاسم في فكرة التّماهي أو التّطابق بينه وبين المسمّى، حين يستجيب المدلول للهويّة الجوهريّة التي يزعمُها الدّالّ، خاصّة وأنّ الثّقافة تحاول بقدر ما تستطيع الاحتفاظ بهويّة الدّوال [11]، فأيّ خطإ فيها يمكن أن يفضي إلى انحراف في المدلولات. وثانيهما أنّ التّسمية يمكن أن تكون على سبيل الاستعارة، التي يقوم تعريفها على عكس ذلك التّطابق، فهي استبدال دالّ بآخر لا يطابقه لإنتاج مدلول جديد. ومن وجهة نظر الأسطورة لا توجد سوى فكرة المطابقة القبليّة، التي توشك أن تكون قدرا مقدورا بين الدّال والمدلول.
ومن هنا يأتي الخوف من مكر الاستعارة التي تجعل هويّة الشّيء لا تكمن فيه، ولا في التّصوّر العقليّ عنه، بل تكمن في اسمه، أي في الكلمة المنطوقة التي تختزله، ويعاضد ذلك الإيمان السّحريّ بقوّة الكلمة على الإقرار بجواهر الأشياء، وهو إيمان بإمكانيّة حدوث التحوّل الذي تكون فيه الكلمة هي الصّانعة للعوالم. ولذلك فإنّ منطوق “بطل” باعتباره دالاّ لا تتحقق دلالته إلاّ في تلك العوالم باعتبارها صناعة تخييليّة، تفتقر إلى حجّية المرجع الواقعي، فالواقع يحوّل الأبطال إلى أفراد، رغم أنّ النّظم الإيديولوجيّة تقع في الخلط بين مفهوم “البطولة” القديم ومفهوم الفردانيّة الحديث، وهكذا تتحدّث النّظم الإيديولوجيّة عن أفرادها التّاريخيّين بوصفهم أبطالا أسطوريّين [12].
والذي يعنينا من هذا المفهوم هو اختلافه كلّيّا عن مفهوم البطل، فالبطل في صورته الأولى ينتمي إلى الفكر الأسطوري منذ أقدم عصوره، وهي صورة تختزل النّموذج القيميّ للمخيال المنتج له سواء تطابق مع النّموذج الاجتماعي أو تجاوزه أو أفصح عن مسكوت عنه. فجسد البطل في صورته التّشكيليّة مثلا يرمز إلى الجسد الاجتماعيّ في بعده القيميّ، إلاّ أنّ صورته تلك غادرت شيئا فشيئا فضاء الفنّ التشكيليّ لتسكن عوالم التّخييل القصصيّ، جاعلة من جسد البطل رمزا للكيان المهدّد في كينونته اضطهادا وعنفا، أو رمزا للتّوق الذي لا يهدأ، وهذا ما يمنحه امتيازا لا مثيل له حين يحظى بمنزلة مختلفة وخاصّة، قد تمنحه إيّاها سلطة المقدّس التي ما فتئت تغذّي الصّراعات السّياسيّة وتذكي نيرانها، وقد تسعى إلى افتكاكها منه حين يدخل في صراع معها لاسترجاع ملكيّته لجسدة خارج المعايير الأخلاقيّة التي حدّدتها له.
2- تخييليّة البطل بين الهوى والعمل:
مفهوم العمل يتميّز نسبيّا عن مفهوم الفعل، فالأوّل يفوق الثّاني شمولا وتجريدا ويقوم على تشخيص مظاهر الانتقال من الكمون إلى الوجود ومن الافتراض إلى التحقق، والسّيميائيّة تستخدم مفهومين متقاربين لوصف التّفاعلات والتّحوّلات التي تقع على وجه الخصوص في المستوى السّيميا-حكائي، وهما العمل acte والفعل faire، وهذا ما يقتضي التّمييز بينهما رغم تداخلهما وتكاملهما وقيامهما تقريبا بالوظيفة نفسها، إذ يلائم الفعل الإنجاز جزئيّا، ويفترض كفاية جهية بوصفها كمونا للفعل، فيُعرّف بأنّه انتقال من الكفاية إلى الإنجاز، ويفسّر هذا الانتقال، من وجهة نظر غريماسيّة، على المستوى التّركيبي بأنّه جهة الفعل[13]. ولكي يتحقّق العمل يُشترط وجود ذات تضطلع بمهمّة الفعل لضمان التّحوّل من حالة إلى أخرى ومن الكفاية إلى الإنجاز، ويتطلّب ذلك أن تكون الذّات محدّدة لهدفها بدقّة وتصميم، ومؤهّلة بشكل كاف من جهتي المعرفة والإمكان، وهذا ما يجعلها قادرة على الإنجاز، فما ينتج عن اكتساب القيمة الجهية للمعرفة هو امتلاك جهة الإمكان. إذن فسيميائيّة العمل تقوم على مبدإ ديناميكيّة العمل المستمدّة من البرامج الحكائية وحالات الاتّصال والانفصال، إذ بمجرّد أن تتشكّل الذات، تتحرّك بحثا عن الموضوع، ولا يتأتّى لها امتلاكه إلاّ بعد أن تتوفّر على المؤهّلات الضّروريّة التي تدعم حظوظها وتقوّيها في إنجاز المهمّة الملقاة على عاتقها، فإنجاز الذّات يشترط أهليّتها، التي تتجلّى في برنامج عمل ديناميكيّ يطلب النّجاعة.
ونحاول في دراستنا هذه ألاّ نقف عند المفهوم الدّيناميّ للبُنى العامليّة بل نتعدّاه إلى ما نفترض أنّه مفهوم نوعيّ للعمل، فالأهليّة والإنجاز قد لا يكونان شرطين كافيين لجعل الذات الفاعلة ذاتا بطوليّة [14]، إذ يشترط أن تكون صاحبة أهليّة نوعيّة وإنجاز فريد، فقد يكون العمل ديناميكيّا ولكنّه ليس نوعيّا أو فريدا. ولذلك، فنحن نفترض أنّ هناك نوعا خاصّا من الأعمال على صلة ما بنوع من الأهواء، تقوم على نوع مخصوص من تجاوز “العتبات”[15] سواء أكانت تلك العتبات من فرض الثّقافة أم من فرض السّياسة، فطبيعة التّجاوز وطريقة تصريفه عبر العمل هي التي تحوّل الذات من فضاء المرجع الواقعيّ إلى فضاء السّرد وعوالمه التّخييليّة.
وتتحدّد الأهواء من جهتين، جهة الرّغبة وجهة الواجب، وهي التي تسهم في إضفاء قيمة النّجاعة على فعل البطل، هذه النّجاعة هي التي تجعل لفعل البطل تداعيات تنتظم ضمن مسار لا ينقطع، وانتظامه هذا هو المشكّل لعمله، لأنّ أهمّ ما يميّز العمل البطوليّ هو قيامه على مبدإ السّعي، الذي هو نوع من مراكمة الأفعال الخاضعة لمبدإ التّرتيب والقائمة على النّجاعة، وإنّ ما يميّز سعي البطل هو ذلك التّوق بمعنى أن لا يخضع فعله لقهر الزّمن، وأن لا تضيّق على حركته في الفضاء حدود وحواجز أو إكراهات من المحيط الاجتماعيّ، فوجود البطل لا ينضبط لمعايير عالمنا المحدود وإنّما يكون العالم الممكن مسكنه، وهو عالم يتكفّل التخييل القصصيّ بتشكيله. ونراه يتواجه، داخل هذا العالم، مع الموت تواجها خاصّا، كما نراه يصل إلى أماكن لا يستطيع غيره الوصول إليها، وقد يدفع ضريبة باهظة الثمن لذلك حين لا تتماهى وجهته مع مسار القيم، تلك القيم التي لا تكون معدودة في أولويات عيشته، بل لعلّها تتعارض مع ما خطّطه لهذه العيشة حتّى يشعر بامتلاء الكيان، مثلما هو الحال مع “عمارة بن الوليد المخزوميّ” الذي سعى إلى كسر حواجز الحضر والمنع مستدرجا الحرائر استدراجا دونجوانيّا، إذ لم يحفظ حرمة لعمرو بن العاص حين راود زوجته عن نفسها، والأكثر من ذلك نوى به الغدر فرماه في البحر من على ظهر السّفينة وهو في غفلة من أمره .
ولئن سعى الأصبهاني أن يذكر عمارة في أخباره لغاية توثيق شعر قيل فيه، فإنّ ذلك لم يمنع الذّاكرة السّرديّة أن تصنع منه بطلا من نوع مختلف، نوع متمرّد مصاب بنزق الشعراء وجنونهم الإباحيّ وميلهم المفرط إلى الخروج عن منظومة القيم المسطورة. هذا الميل جعله يتجرّأ على مخادنة زوجة النّجاشيّ متطاولا على مقامه ملكا للحبشة. وكأنّنا ببطولة الشاعر تقوم على الحق في الاختلاف وعلى الجرأة في التّجاوز، وقد حوّل التخييل تلك الذات المدنّسة أخلاقيّا والغارقة في وحل الخطيئة إلى ذات يرغب المتلقّي في تقليدها، وإن كان ذلك سرّا، أو في تتبّع أخبارها بشغف، لأنّ كلّ ممنوع مرغوب.
غير أنّ هذا المرغوب يظلّ معصية مستترة إلاّ في السّرد، ناهيك أنّ السّارد صرّح بجاهليّة السّياق الذي تمّت فيه الأحداث، معبّرا عن موقفه المتحفّظ بتدخّل صريح في السّرد إذ قال: “وكلاهما مشرك شاعر فاتك وهما في جاهليّتهما”[16]، ويصدر هذا الموقف عن التمثّل السّائد للعلاقات الجنسيّة في الثقافة العربية الإسلاميّة، التي تُرجع مصادرها إلى المشيئة الإلهيّة مثلما يكرّس لها النّصّ الدّينيّ ونموذجه القرآني، وقد جعل السّكن أساسا تقوم عليه العلاقة الجنسيّة بين الرّجل والمرأة، فتعدّ من أقوى روابط الاتصال بين الرجال والنّساء[17]، وعمارة بن الوليد يتصرّف خارج هذه الرابطة القوية. هذا التّصرّف لا يمكن للمتلقّي أن يراه خارج كونه إحداثا لنوع من الخرق داخل منظومة القيم، ففعل عمارة بن الوليد لا يدخل في باب التّسرّي الذي تسمح به المنظومة الدّينيّة، وهو الذي يتيح للرّجال اتّخاذ الجواري لأنفسهم.
والفرق بين المودّة والتّسرّي هو أنّ المودّة غايتها السّكن الذي تنتهي إليه العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، فالمودة كناية عن الجماع، والرحمة كناية عن الولد، أمّا التّسري فلا يقوم على الرحمة، أي ليس غايته الولد. وقد تكون الجارية مصدر التّسرّي في الأصل حرّة من سلالة ملوك تمّ سبيها إثر هزيمة، إلاّ أنّ عمارة تسلّل إلى حرة في خدرها وتسرّى بها دون حدوث مواجهة رجل لرجل تجيز الغنيمة والسّبي، فتمنح الغطاء “الأخلاقي” للفعل.
إذن ففعل عمارة بن الوليد يتعارض مع النّموذج السّلوكيّ المثاليّ للممارسات الجنسية الشرعية، غير أنّ العقاب لم يكن تطبيقا لحدّ وإنّما بالسحر، إذ رغم أنّ أحداث الخبر نُسبت إلى ما قبل الإسلام، فإنّ الموقف من هذه النّوع من العلاقات لا يخرج عمّا تعاقدت عليه الأديان من إضفاء صفة القداسة والطّهر عليها، ونفي صفة الدّناسة والرّجس عنها، فالجماع ليس انتقالا الى عالم الشيطان ولكنه نفاذ الى عالم القوى المبهمة المقدسة، وخصوصا في حالات الإحصان، الّذي هو نوع من السّحر الحلال.
حتّى أنّ إهانة الخصم في خضمّ الصّراعات المذهبيّة كان يمرّ عبر إلحاق صفات جنسيّة تكرّس للرّجس والفحش من قبيل “ابن الفاجرة” و”ابن الزّنا”[18]، فالزّاني ابنه ملعون كما أنّ مصيره ملعون، لا يتماهى مع مصير الإنسان العاديّ، وذلك لأنّ الأهواء التي حاكتها سرديّته، نزعت به نحو أن يكون صاحب نزعة مغامراتيّة، وهي تلك التي كسرت النّمط وتجاوزته. حتّى أنّ هذا النّزق كان يدفعه إلى التّباهي بمغامراته رغم أنّها لا يمكن أن تكون مصدر فخر إذ “جعل إذا رجع مدخله بخبر عمرو بن العاص بما كان من أمره”[19]، الشّيء الذي هيّأ لعمرو أن ينتقم منه وقد كتم في صدره الضغينة منذ أن تجرّأ على إلقائه في البحر من على ظهر السّفينة.
ومثلما فتحت الإمكانات التّخييليّة للبطل فضاءات الممنوع والمحظور اجتماعيّا، فإنّ الإمكانات التخييلية في “خبر مقتل عبد الله بن الزّبير” فتحت أمام البطل فضاءات الماوراء، أي ما وراء الوجود المادّي للجسد، ليتلامس مع عوالم الآلهة ويصير الموت محطّة للانطلاق والابتداء لا محطّة انتهاء وانتفاء، تقوده في ذلك نزعة زعاماتيّة، ساعيا أن يكون رمزا للاقتداء والتغيير والتّحويل والثورة. فعمله يقوم على تفكيك روابط أصابها البلى ليعقد أواصر جديدة، لأنّ روح البطل ليست خلاصة تمثيليّة للمجتمع بل وقودا محرّكا ومثالا يقود، وهو لا يصل إلى هذه المرتبة إلاّ إذا أفلح في اجتياز سلسلة من الاختبارات، قد يكون أقصاها وأقساها التّعرّض للموت، بما يمنحه شرف البطولة التي يتحصّل عليها في ميدان القتال بالتّحديد، وهو ميدان زاخر بما يثير الرّهبة والغرابة وهذا لا يتحقّق إلاّ في عوالم التّعجيب والإدهاش. إذ نرى البطل يتلامس مع الموت من خلال تصعيد القوّة، ساعيا في فورة حماسيّة غاضبة إلى اختراق أسوار هذا العالم المتعالي “ذي الدّلالات العنيفة الهادرة” على حدّ عبارة بهاء نوّار [20]، وكأنّي بهذه الأسوار تنتصب على مشارف ميادين المواجهة والقتال.
ولذلك فإنّ أبرز تجلّيات هذا السّعي لا تكمن في فعل القتال فقط، بل تتجاوزه إلى مزج هذا الفعل بالرّغبة في الشّهادة، فهي غاية الغايات وحلم الأحلام. هذا الحلم الجامح يتواجه مع رؤيا الحجّاج التي استشرفت موت البطل بطريقة شنيعة حين قال: “إنّي رأيت في المنام كأنّي أسلخ بن الزّبير من رأسه إلى قدميه فقال له عبد الملك أنت له”[21]، فالحلمُ يتحدّى الحلمَ، ويدخل في سجال معه فيكون الرّدّ بالإقدام والصّدام والصّمود، وهذا التحدّي ينطوي على ما لا حصر له من معاني الخرق والتّمرد توقا إلى عالم مختلف قد يتمثّله المقبل على السّاح باعتباره عالم العدالة المطلقة. وهذا ما يبرّر خيارات الحبك الذي يراعي في تشكّله، الإيحاء بتمثّلات البطل لكينونته المتميّزة عبر توقه إلى التشكّل النّهائيّ في عوالم الغيب اللاّمرئيّة، بما يقرّب الخبر من أجواء السّرد الملحميّ، على قصره وطول الملاحم وعلى استرساله ونزوعها إلى النّظم.
إذ يصوّر ارتباط الموت بأجواء المعارك والقتال، نازعا إلى الإدهاش، مرتفعا بالموت من دونيّة الحزن والانكسار إلى مراتب الاحتفال والانتصار حين “أسند ظهره إلى الكعبة ومعه نفر يسير فجعل يقاتلهم ويهزمهم وهو يقول: ويله يا له فتحا لو كان رجال..”[22]، فقد جعل الموت خيارا ناتجا عن عزم وإرادة، ذلك أنّ إرادة الحرب هي نوعا ما إرادة الموت. وتبرز الجمجمة أو الرّأس المقطوع، في أجواء الرّعب هذه، لتعلن عن التحدّي ورفض الذّلّ، باعتبارها رمزا مطلقا للموت وللقطع مع الوجود الأرضيّ داخل الجسد، رغم ما صاحب قطع رأس عبد الله بن الزّبير ورأس مرافقيه من تنكيل ومن سخريّة إبليسيّة مريرة حين “بعث الحجّاج برؤوسهم إلى المدينة فنصبوها للنّاس فجعلوا يقرّبون رأس بن صفوان إلى رأس بن الزّبير، كأنّه يسارره ويلعبون بذلك”[23].
ورغم ما في الحبكة من بناء منطقي وسببيّ ينهض عليه الحكي، إلاّ أنّها نطقت في هذا المشهد بكلّ ما يمكن أن ينطوي عليه الوجود من عبثيّة. فالأساس السّببيّ الذي يتعلّق به بناء العقدة مقود بسؤال أساسيّ هو: لماذا يحدث هذا؟ وهل يكفي العداء السّياسي لتبرير مثل هذه الوحشيّة؟ رغم أنّ كلّ وحدة حدثيّة من وحدات الخبر مثّلت نتيجة سببية لما حدث قبلها، فتتالي الأحداث لم يكن عرضيّا أو تحكمه الصّدفة [24]. فالحبك تميّز بخصيصتين، الخصيصة الأولى هي أنّ الوقائع الهامّة رتّبت ترتيبا محكم البناء، وذلك بمراعاة التّرابط السببيّ بين الوحدات الحدثيّة، والخصيصة الثّانية تتمثّل في استعادة هذا البناء بنسب امتداد متفاوتة وذلك باعتماد أسانيد مختلفة منها المعروف ومنها غير المعروف، وأدّت الاستعادة دورا استدلاليّا أراد به المتلفّظ البرهنة على صحّة الرّواية من خلال تطابق الرّوايات.
فالخطّ الزّمنيّ والبناء السّببي لا يختلف من رواية إلى أخرى، إلاّ بتنويع بلاغيّ ملفت يصوّر هول المعركة وقتامتها بطرق مختلفة يعتمد فيها السّرد العجائبيّ للأحداث مرّة، والتّأويل الاستعاري لها مرّة أخرى. إذ جاء في رواية أبي عبيد: “لمّا نصب الحجّاج المجانيق لقتال عبد الله بن الزّبير أظلّتهم سحابة فأرعدت وأبرقت وأرسلت الصّواعق” وكأنّ السّماء تحارب معه وتعاضده، وفي رواية مجهولة السّند ومنسوبة إلى الجمع الغائب صعد عبد الله بن الزبير المنبر “فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: أيّها النّاس إنّ الموت قد تغشّاكم سحابه وأحدق بكم ربابه”[25]، وكأنّي بهذه الاستعارة هي تأويل لما سيأتي من أحداث في يوم مقتله، أو أنّها رؤيا اليقظة واستشعار المصير.
فالحبكات لا تتمايز بنظامها الترتيبي وتفاوت نسبها بين القصر والطّول فقط، بل بمدى اقترابها من الحقيقة التّاريخيّة أو ابتعادها عنها أيضا لملامسة عوالم استعاريّة ممكنة، ولعلّ البطل يسكن في فضاء هذه المراوحة بين النأي والقرب، وهو لعمري فيما اخترناه من نصوص يسكن فضاء بين بين، تبرع السّرديّة في بناء عوالمه، وهي التي تقف على نفس المسافة ممّا هو تاريخيّ وما هوّ ملحميّ، وممّا هو تسجيليّ وما هو تخييليّ. إذ يحوّل الأعلام إلى علامات مرتحلة من فضاء ما وقع فعلا إلى فضاء ما هو في دائرة الإمكان. وقد ميّز أرسطو على هذا الأساس بين نوعين من الكتابة، فالشعرية منها تعبّر عمّا يمكن أن يقع، والتّاريخيّة منها تعبّر عمّا وقع فعلا [26]. والمتلفّظ في خبرينا يزعم أنّه يحاكي ما وقع فعلا، إلاّ أنّ الحبك فيهما يفصح عن محاكاة ممكنات الوقوع، لأنّ الخطاب فيه ينزع إلى التخييل الذي يكسب الأشياء وجودها من خلال تسميتها، وطبيعة هذا الوجود تنتج عن الطّاقة التخييّليّة للّغة التي تضطلع بتوجيه العلامة وتغليفها بغلاف الرّمزيّة الشّافّ، فالعلامة تكون خاضعة لقوّة اللّغة التي تسعى عبر التخييل إلى المطابقة بين الممكن والفعليّ وإلغاء المسافة بينهما.
ولعلّ التّبرير الذي يشرّع لإلغاء المسافة بين الحادث والممكن الحدوث، هو أنّ السّرد التّاريخي والسّرد الأسطوريّ يخضعان، على حدّ سواء، إلى مبدإ التّشكيل الزّمنيّ. وهنا نستدعي نوعا آخر من التّصنيف التمييزيّ بين الفنون اللّغويّة وغير اللّغويّة منها، إذ ظلّ الاختلاف بينها محصورا، حسب رأي “هيثم الحاج علي”، في كونها فنونا مكانيّة أو زمانيّة، ناهيك عن المسرح الذي يصبح جامعا للسّمتين في حالة العرض[27]، والذي يعنينا بصفة خاصّة من هذا الطّرح، هو أنّ فنون اللّغة ومن ضمنها فنّ السّرد القصصيّ هي فنون زمنيّة، من حيث استخدامها لتتابعات صوتيّة أصغرها العلامة اللّغويّة، هذه التّتابعات الصّوتيّة تشغل حيّزا من الزّمان، وهذا ما يجعلنا نقول بزمنيّة العلامة اللّغويّة، لأنّ انتظام أصواتها وتمفصلها يستغرقان وقتا، ويختلف حدّ الوقت باختلاف طبيعة العلامة وطبيعة التّعالق بين العلامة والعلامة الأخرى.
يمكن اعتبار النّصّ السّرديّ خيطا من الحروف، وشريطا من الكلمات المتعاقبة التي تؤطّر فضائها الزّمني الخاصّ وهذا ما يجعل عنصر الزّمن جوهريّا وأساسا حاضنا للحبك. غير أنّ الأفق التخييلي للزّمن لا يتعلّق بزمنيّة الانتاج فقط، وإنّما بالزّمن بوصفه منتوجا لأنّ علاقة القصّة بالزّمن علاقة مزدوجة، فالقصّة تُصاغ داخل الزّمن، والزّمن يُصاغ داخل القصّة، بما يسهم في صناعة عالمها التّخييليّ، إذن فوجود البطل داخل هذا العالم التخييليّ هو وجود زمنيّ بكلّ ما تطرحه مسألة الزّمن من معضلات ([28])، وهو وجود زمنيّ خاصّ إذ يصنع بطولته.
فأشكال التّرتيب الحدثيّ في القصص البطوليّ هي أشكال خاصّة تسمح بصناعة عوالم فريدة، يقودها وعي السّارد الذي لا يظهر في ترتيب الأحداث، بل في سوقه لما ينضح به وجود البطل من مأساويّة تنزاح به عن حدود التّاريخ لتسكنه فضاء الممكن. ولذلك فإنّ الاستعادة في خبر مقتل عبد الله بن الزبير، هي شكل مختلف من أشكال الترتيب، يجسّد وعيا خاصّا بمأساويّة وجود البطل، وهو وجود يتداخل فيه الواقعي بالاستعاري والحقيقي بالأسطوريّ، وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ وعي المؤلف يهيمن على وعي السارد، وهو الذي يصوغ فعليا المتن الحكائي. فهو منذ البداية يمارس وظيفة الإيهام باستقلالية هذا العالم وبالتّالي بإمكانيّة وجوده. ولذلك تعدّ الكتابة عاملا هامّا من عوامل التحكّم في الزّمن السّرديّ حين تخضعه إلى خطّة اللّغة، خاصّة حين يُوهمك الحبك بأنّه يستعيد أحداثا ماضية، بل إنّه يستعيد هذه الاستعادة بما هي رجوع إلى الوراء، رغم أنّ الوقت الذي ينتظم فيه شريط اللّغة يمتدّ إلى الأمام دائما، وهذا ما يجعل التّسريد في حدّ ذاته هو نوع من المخاتلة التي تقوم أساسا على مراوغة الزّمن، هذه المخاتلة غايتها أن يظفر السّرد بزمنه الخاصّ رغم إكراهات الزّمن الكوسمولوجيّ العالميّ والعامّ [29]. والسّرد في سعيه لتشكيل الزّمن الخاص يكون هو المسؤول عن تشكيل خيارات البطل ورسم هويّته، وهي خيارات ترسم على الورق بالخضوع إلى خطّيّة الكتابة لا خطّيّة الزّمن. وقد رسم الحبك خيارات البطل “عبد الله بن الزّبير” في مواجهته للخصم، فهو لا ينتظر أجله بل يسعى إليه، ولا يخشى حتفه بل يطلبه بشوق، إنّه المقبل على الموت والمسرع إليه لا المدبر عنه فرقا. فالتّخييل بوّأه مكانه لا يحتلّها إلاّ ندرة الخواص في الذّاكرة، لأنّه يلتزم بالقتال وفق المنظومة القيميّة التي تميّز الفرسان عن غيرهم من القتلة، ويراعي أصول التّواجه مهما كانت الظروف والأحوال، ذلك أنّه لا يقاتل من أجل ذاته أو مصالحه، وإنّما من أجل غيره، ومن أجل ما يراه أساس لقيام الأمّة، وهو مقتنع أنّه يحمل سيفه للدّفاع عن العدالة والعمل على تحقيقها.
وقوّة البطل ليست قوّة محضة يمكن قياسها أو ملاحظتها، إنّما هي قوّة محكيّة قامت بصياغتها سرديّة قابلة للتّداول، وغلّفتها الذّاكرة أثناء هذا التّداول بالتّقديس وبكثير من الإعجاب، فخلطت بينها وبين ما يجب أن يتوفّر في فعل التأريخ من صدق وحياد، لأنّه ما أن يكون السّرد مسكونا بهاجس التّخليد حتّى يتوقّف عن أن يكون تأريخا. والتّخييل يعمل على منح الذّات المسرّدة شكلا معيّنا للقوة يؤهّلها لاكتساب صفة البطل، فتصبح سرديّتها قابلة للنقل عبر محاكاتها لأفعال متّسقة ومنتظمة انتظاما سببيا، بما يؤهّلها أن تكون أعمالا بطوليّة باهرة، فأعمال البطل تخبر عنه وترسخه في الذاكرة بما يحفظه من النّسيان.
والبطولة في سرديّة عبد الله بن الزّبير، تحقّقت بعد موته بل قل بالطّريقة التي بها مات، فعدم نجاته من الموت هو الأمر الذي أسهم في إدراجه ضمن قائمة الأبطال، كما أنّ طريقة موت عمارة بن الوليد تائها في الصّحراء هي التي رسّمته في قائمة الشّعراء مصاريع الهوى، على عذريّتهم وإباحيّته. لأنّ البطل يحيا ويموت وفق سرديّته التي تقوم الذّاكرة بالوساطة في حفظها عبر سرد حكايات العشق أو الملاحم البطوليّة. وتظهر أهمّية البعد السّردي لقوة البطل، في “مقتل عبد الله بن الزّبير”، في تمثّل علاقته بالموت، لأنّ تقبّل الموت والإقبال عليه ليس هو الذي يمنحه الفرادة والتّميّز، وإنّما الكيفيّة التي أقبل بها عليه، أي الطّريقة التي اختار بها موته، فقد يختار أشرف طرق الموت وأبهرها، الموت الذي سيترسّخ في ذاكرة التّاريخ. أمّا عمارة بن الوليد فتظهر مأساويّة فعله في سعيه إلى الإفلات من الموت، حيث أنّ طريقة الافلات من الموت أو طريقة الإقبال عليه في حدّ ذاتها، إن لم تكن محكيّة فهي غير مثبتة ولا شيء يدلّ عليها أو يمنحها شكلا ومعنى، فالذي يمنح معنى لذات البطل هو الحكي الذي يقوم بتشكيل هذه الذّات بما يُتاح له من إمكانات تخييليّة تمنحها إيّاه اللّغة، فحيويّة اللّغة وما تسمح به من إمكانات فريدة في التّصريف علاميّ، هي التي تقوم بتشكيل حياة بطوليّة فريدة ومختلفة، وتجعل البطل فردا ممتنعا عن التّقليد أو التّكرار، إذ أنّ العالم التّخييلي لبطل من الأبطال لا يتشكّل إلاّ مرّة واحدة، وقد يكون وجود البطل كذبة وعالمه ممتنعا، إلا أنّه يتحقّق بالسّرد ليكون صدقا ممكنا، لأنّه يقوم بصياغة أرقى ما تحلم به الذّات من قيم الشّجاعة والجسارة والمجازفة التي يكمن وراءها غضب للحقّ يدفع البطل إلى المغامرة وملاقاة ما يهابه النّاس، وقد يقوم بصياغة أعمق ما بالذّات من نوازع الرّفض التي تسعى به إلى استعادة ملكيّة الجسد، فيخرج منه غير راض لأنّ الهوى استعبده حيث رام أن يحرّره، فهو البطل المهزوم مقارنة بالبطل الذي خطا إلى الموت بخطو واثق مؤسّسا بطولته على تمثّل خاصّ لقيم الشّجاعة المخلوطة بالتّهوّر والإفراط في ركوب الخطر، إنّها خلطة مثيرة مشوّقة، وهي كلّ ما للخبر من رصيد، إذ يتمّ تداولها وتتناقلها الألسن، والكلّ يقدّم روايته وتأويله لهذه الشّجاعة التي تمثّل قيمة أ أخلاقيّة تبنى عليها سرديّة البطل المحارب، وتمنحه تلك القوّة للتّعالي عن الحياة الجسديّة، صانعا زمنا خارج الزّمن مقرّرا مصيره بعزمه، فعبد الله بن الزّبير يعتقد عدوّه أنّه هو من قرّر مصيره، إلاّ أنّه بثباته ونزعته المتعالية كسر هذا الاعتقاد حين حوّل رمزيّة الحلم من مصير مشؤوم يتهدّده إلى بشارة بالخلاص نالها عبر الشّهادة.
3- رمزيّة العلامة وتخييليّة عوالمها:
3- 1- عالم الرّؤى:
اللّغة المكتوبة أو المنطوقة ملأى بالرّموز التي يتوسّل بها المتكلّم للتعبير عن معنى يودّ نقله، لكنّه غالبا ما يستخدم أيضا الإشارات أو الصّور التي لا تكون وصفيّة تماما، ويتمثّل الرّمز في مصطلح أو اسم أو حتى صورة قد تكون مألوفة في حياتنا اليوميّة، إلاّ أنّها تحمل مضامين خاصّة إضافة إلى معناها المألوف والواضح. ولهذا قد تكون الكلمة أو الصورة رمزية، حين تدلّ على ما هو أكثر من معناها الواضح والمباشر، ويكون لها جانب “باطني” أوسع من أن يُحدّد بدقة أو يفسر تفسيرا تامّا. ومع اكتشاف العقل للرّمز، يجد الإنسان نفسه منقادا إلى أفكار تقع ما وراء قبضة المنطق، ولذلك يرى” كارل غوستاف يونغ” أنّ صناعة الإنسان لرموزه تكون باللاّشعور أيضا، وبصورة عفويّة على شكل الأحلام، لأنّ الجانب اللاّشعوري لأيّة واقعة يتكشّف لنا في الأحلام، فالأحلام هي التّربة التي تنمو فيها معظم الرّموز، وبعضها قد يكون ذا طابع نبوئيّ [30]، إذ قد يحمل نذيرا وكأنّ الحلم يرسم أفق الفعل ويوجهه، فالرّؤيا التي رآها قاتل عبد الله بن الزّبير هي من الرّؤى التي قد توجهها روح القسوة، تلك الرّوح التي تسكن الأساطير والحكايات فتوجّهها توجيها مأساويّا، إنّه الحلم الذي يعادي المجد ويسعى إلى كسر الإرادة. ولذلك فإنّ التّفسير العملي للرّمز يتوقّف على الحالة الذّهنية للحالم، أي على حالة “الأنا” لديه وهي باعث الرّغبة والكامن وراءها. وبعض الأحلام قد تكون صناعة تخييليّة فتتشكّل تشكيلا سرديّا، حين تكون في نوع من النّصوص المغلّفة بغلاف دينيّ، فهي لا تنقاد مثلما يقول العادل خضر إلى “المعرفة التّاريخيّة” ولا تستسلم لها بيسر، لأنّها تمثّل أشكالا متنوّعة من تعبير النّفس، ومن أجل ذلك “لا تتلقّى من الحقائق ما كان من نتاج التّاريخ وإنّما تستقبل ما كان منها صادرا من منابع الدّينيّ Le religieux الحُلميّة onirique”[31] وقد يكون ذلك حال سرديّة الرؤيا التي رآها القاتل وتتمثّل في سلخ جلد عبد الله بن الزّبير، هذا السّلخ هو تعبير عن رغبة دفينة في انتهاك الجسد ونزع كلّ ما هو عليه، هذا النّزع هو قمّة التّنكيل به وتوطئة لحرمانه من التّكفين والدّفن، وإكرام الميّت تكفينه ودفنه، فالسّلخ إذن هو نفي عميق للذّات، بما هي ذات مكرّمة، لأنّ “الأنا بما هي جلد” تكرّس لأعمق ما في الإنسان، ولذلك يرى العادل خضر أنّ الكفن ليس مجرّد إيقونة أو دالاّ يمثّل الميّت، وإنّما هو الجلد الثّاني الذي يحيط بجسد الميّت[32]، إنّه يلغيه ولكن برفق وليس مثل السّلخ الذي يعبّر عن أقسى أنواع التّعامل البارد مع الجثّة، فيكون الكفن هو الجلد الثّاني الذي يستر للانتقال إلى عوالم الموت، كما هو الجلد الأصليّ باعتباره ثوبا داخليّا يغطّي العظام واللحم ويحميها، ويهب الذّات تماسكها وللشّخص كمال جسمه، ويجعله شيئا مثل” الأنا بما هو جلد” « Le moi peau »، فالسّلخ في الرؤيا هو المعلن عن نيّة القتل والنّفي، خارج إطار التّكريم الذي يكفله الكفن حين يهب الميّت علامة موته، معلنا انتقاله للقبر ومن ثمّة إلى عالم الأموات. هذا السّلخ هو بمثابة “كشط الجلد” الذي لا يمكن أن يتحقّق في الواقع بل في عالم تخييليّ ممكن [33]، وهو بمثابة الحرمان من هبات وهدايا يتلقّاها الميّت قبل أن يكرّم بالدّفن لمكافأته على أعماله البطوليّة. إذن فرؤيا السّلخ في الخبر هي نوع من العقاب بنزع صفة البطولة عن عمل عبد الله بن الزّبير، في إطار من الصّراع التراجيدي المكرّس لجدليّة الجدارة والحقارة، فهو صراع مداره استحقاق الجدارة أو إلحاق الحقارة، هو نوع من السّجال الذي يسبق القتال، لأنّ عبد الله بن الزّبير لم يستسلم لهذا العزم الوضيع لمنع الدّفن والتكفين، بإصراره على القتال سائرا قدما لتجسيد حلمه الخاص وهو الشّهادة، ساندا ظهره إلى جدار الكعبة مستمدّا من المكان قداسة تحمي جسده من أن يموت مدنّسا. ولعلّ أبرع ما يكرّس لبيانيّة الرّؤيا في رأينا هو قيامها على ثنائيّة الرّؤيا والرّؤيا المضادّة، فلئن كانت الرؤيا الأولى مغرقة في المادّيّة التي تشدّ الجسد إلى أرضيّته المحدودة، فإنّ رؤيا عبد الله بن الزّبير للشّهادة قد بنيت على تخييليّة الوقوف في منطقة وسطى بين المرئيّ واللاّمرئيّ صانعة عالما ممكنا لا نرى له رسما خارج حدود البيان، بما هو بنيان مرصوص، لأنّ البيان هو الأثر الذي يمنحها انتظاما يقيها من فوضى الكلمات في تداخلها مع الأشياء فالبيان هو ترجمان لما يمكن أن يُرى بالبصر[34]، وأيضا ما يرى بالبصيرة والتّوق أي بفرط القريحة، متجاوزا الحس إلى الحدس والاستشراف. فإذا كانت المعاني في المتصوّر البياني “مستورة خفيّة وبعيدة وحشيّة، ومحجوبة مكنونة”(المرجع) فإنّ إظهار المعنى يكون بكشف قناعه وهتك سبله كالإخبار وحسن استعمال الدّلالات [35]. فالإخبار هو وسيلة لكشف المعنى وإظهاره، بما يتضمّنه في رأينا من شحنة دلاليّة تتجاوز الوظيفة الأولى للإخبار لتفتح باب التّأويل البيانيّ على مصراعيه، لأنّ التلقّي مسؤول عن تأسيس المعنى، والعمليّة التّأويليّة عمليّة بيانيّة ترمي إلى تقليص المسافة بين المعنى والمتقبّل. ولذلك فإنّ تأويليّة الرؤيا لا تقف عند كونها حدثا نفسيا أو تخييليّا، بل تسعى إلى رسم حدودها البيانيّة القصوى التي تتدرّج دلالاتها ممّا يُرى فعلا إلى الممكن رؤيته، ومهما كان نوع الدّلالة فإنّ المعنى يقف على بون منها ويستدعي التّقبّل لتقليص المسافة [36]. ونحن إذا اعتبرنا الرّؤيا هي المرئيّ اللامرئيّ، أو اللامرئيّ الذي يتحوّل إلى مرئيّ عبر التّأويل الذي يقرّب صورته البعيدة من المتلقّي، جاز لنا أن نعتبر العالم الممكن طريقة مختلفة في النّظر والعيان، ومكوّنات العالم الممكن تختلف خواصّها كلّما غيّر الرّائي من موضع رؤياه. والرّؤيا في خبر مقتل عبد اللّه بن الزّبير هي “تشييد ثقافيّ” أسهم في صناعة عالم البطل الذي هو من صنع واضع الحكاية أو ساردها، ولعلّ أخصّ ما في هذه الرّؤيا هو أنّها استشرفت مجدا وخلودا مخالفة هوى رائيها، لأنّها تقاطعت مع الرؤية الإيمانيّة للبطل، إذ رأى بعين الإيمان لا بعين العيان، فالاعتقاد جزء من عالم الحكاية الممكن. فالرّؤية الإيمانيّة للبطل استمدّت قوّتها من التّنزيل باعتباره القاعدة الأساسيّة الأولى من القواعد المؤسسة للخلافة)[1](، التي استلهمت من هذا النّصّ اللّغوي نظامها وأسسها، غير أنّ توظيف النّصّ تمّ بأوجه مختلفة وبطرق متضاربة، تواجه فيها من هو في السّلطة مع من يرى نفسه من المعارضة أحقّ بها. فالتّنازع على السّلطة هو الميزة الأساسيّة لتاريخ الخلافة الحافل بالعنف والدّمويّة، والسّلطة بالمفهوم السّياسي للكلمة هي نطاق الصلاحيات المشروعة التي يتمتع بها مجتمع من المجتمعات الإنسانيّة، وتمنح هذه الصلاحيات من خلال القنوات المعترف بها رسميا، فالتّكليف بالقتل تطبيقا للرّؤيا كان بتفويض من رأس السلطة، التي ترى ابن الزبير غير جدير بشرعيّتها. فهو المتمرّد يطمح إلى تفكيك نسقها الإيديولوجيّ، ساعيا إلى نفي ما يراه ضلالا سائدا وزيفا يجب فكّه، حتى وإن قدّم النفس في سبيل ذلك، ففضح زيف السّلطة وتدليسها قد يذهب بالبطل إلى أن يغامر بوجوده ويضعه أمام خطر الانتفاء، إلاّ أنّ التقاطع بين ما هو سياسيّ وما هو دينيّ يجعل حراك البطل يتجاوز المحدود إلى عالم لا محدود وهو الذي يستمدّ امتداده من السّلطة السّماويّة التي لا تضيّق بها حدود، وبهذا يكون مجال حراك البطل أوسع من مجال السّيادة الأرضيّة، ولا يتأتّى له الحراك إن ظلّ مقيّدا بحدود الجسد، فمن شروط الانتشار السّماوي تقديم الجسد والتخفّف منه، ليصبح انتفاء الجسد انتصارا رمزيا متجلّيا في نيل الشّهادة، ولذلك فإنّ سلخ جسد بن الزّبير، وإن أريد به التنكيل، فإنّه يرمز إلى الانطلاق والتحرّر والخروج من ضيق الجلد، وهو يكشف الزيف ويفضح العنف ويسلخ القناع عن القتلة. وهذا ما يمنح الحرب خلفيّتها الميتافيزيقيّة الأكثر عمقا، ذلك أنّه إذا تظافرت شروط معيّنة تكون بنية الميتافيزيقا سببا في الحرب أو إطارا وجيها لفهمها حين تتأسّس علي “الكلّيّة”[37]، أي على أخلاق الواجب والخضوع للجماعة، وهي دينيا ترتبط بالمعتقد الواحد المكتمل، واجتماعيا تشير إلى الهويّة الجماعيّة التي تحدّد مجال الذات الجمع “نحن” في تعارضها مع الآخر الغائب مختلفا عنها أو مارقا، فالذّات الجمع متميّزة بالتّفّوق على من سواها، لا تسمح بالتّمايز والاختلاف والتباعد والخروج عن دائرتها، فالمتمرّد يُفرض عليه أن يعود إلى الجماعة وإلاّ ينبغي إقصاؤه واستبعاده، لأنّ الكلّية تعني أنّ الكل واحد، ولا ينبغي أن يتمايز أحد على الكل، أو أن يعاند الواحد في واحديّته. فالخروج عن الكلية أو منافستها أو تقديم بديل عنها، يهدّدها تهديدا شديدا لأنه ينهي تناهيها، ويمزق واحديتها، ويزعزع تطابقها ويذكّرها بفراغاتها، لذلك ترفض الكلية أيّ تباعد أو خروج عنها، فالآخر المخالف ينبغي إدماجه، وبالتالي إلغاء اختلافه أو إقصاؤه أي إلغاء وجوده، بالعزل والخلع وذلك كان دأب القبائل العربيّة، أو بالإبادة والسّلخ، سلخ الجسد وكأنّه عقاب عن انسلاخ الفرد عن الجسد الجماعيّ.
وللحرب أشكال عدّة فقد تكون في السّياق القبليّ مبنيّة على المباغتة وإحداث المفاجأة لإرباك العدوّ، وقد تكون صراعا شريفا بين فارسين أو بطلين لا يخشيان الموت أبدا، إنها تلك المواجهات الشّيقة التي خلّدتها الملاحم والذّاكرة الشعبية، إذ تضطلع أشكال عدّة من السّرود بإعادتها ورسم عالمها رسما تتداخل فيه الأسطورة بالتّاريخ، ويتمّ تمثّل البطل الحربيّ باعتباره رمزا إيطيقيّا تختزل صورته معاني المواجهة والنّبل. ونحن حين نبحث في خبر مقتل عبد الله بن الزّبير نطرح السّؤال التّالي: أين تكمن إيطيقا هذه المواجهة؟ وهل يمكن اعتبارها مواجهة أقران وقد تمّ الّتنكيل بالجثة وحرمان أمّه “أسماء بنت أبي بكر” من دفنها؟ فمواجهة رجل لرجل في معناها النّبيل تترجم قيما عقليّة من قبيل البأس والشّجاعة، ولا تنطوي على دوافع نفسيّة أساسها الضّغينة ونوازع الانتقام، فالبطل الفارس لا يحتقر الخصم أو يحطّ من كرامته، خاصّة وأنّه التجأ إلى الكعبة، وبالتّالي فقد تمّ كسر قاعدة من دخل الكعبة فهو آمن. والفارس يعتبر السّيف هو السّلاح الأمثل لأنه هو الذي يسمح بالمواجهة المباشرة والأكثر قربا، تلك التي يقبل فيها الفارس على الموت بفرح منقطع النّظير، وأشيل نموذج غربي مفضّل لتمثيل هذا المشهد [38]، في اختياره لخصمه ومواجهته بشجاعة، وأمانته في عهوده، وإخلاصه في وعوده، وعده حق وعهد ودين.
3- 2- عالم السّحر:
العمل السّحري في خبر عمارة بن الوليد غيّر وجهة عمل البطل، وقد تجلّى علاميّا من خلال وسيلته الفعليّة “النفخ”، ذلك أنّ وسائل السّحر وأدواته تتنوّع من سرديّة إلى أخرى، فقد تكون عصى أو نوعا من الأطعمة أو ما شابه، والنّفخ قريب من النّفث وأقلّ من التّفل، إذ عُرّف في اللّسان بأنّه من عمل السّواحر بدليل الآية التالية: ” ومن شرّ النّفاثات في العقد”، إذ أنّ السّواحر ينفثن في العقد بلا ريق، وقد تغيّر النظرة إلى السّحر والسّحرة بتأثير من الثّقافة والمعتقد، ففي الصّلاة عند المسلم تتم الاستعاذة من الشيطان ونفثه ونفخه، كما أنّ النفخ يدخل في إطار الإعلانات الإلهيّة والأعمال المعجزيّة مثل النّفخ في الصّور أو ما جاء من أمر المسيح في الذّكر الحكيم: “فانفخ فيه فيكون طائرا بإذن اللّه”[39]. فالنّفخ قد يكون بثّا لنسمة الحياة في الجسد إذا كان بأمر ربّانيّ، وقد يكون عقابا للجسد بسلبه الصّحّة ومن ثمّة سلبه الحياة، كما هو الحال مع سواحر النّجاشيّ الذي سلّط عقابه على عمارة بن الوليد جزاء مستحقّا لنزقه المغامراتيّ. إنّه الجزاء الذي صنعه التخييل حين جمع في الخبر بين شخصيّات من عوالم الخيال كالسّواحر، وشخصيّات من عالم التّاريخ كالنّجاشيّ وعمرو بن العاص. فالعناصر التّاريخيّة هي التي وجّهت الفعل السّرديّ نحو الإيهام بأنّ الأحداث قد تمّت وتحقّقت محيلة على الواقع مرجعا، والإيهام بواقعيّة الأحداث يوجّه نحو الاعتقاد في صحّة النّتائج. إذ أنّ تأثير السّحرة قد يُفنّد، وقد يُعتقد في صحته، وبالتّالي فإنّ الاعتقاد يوجه التلقّي، ويحدّد نوع العلاقة بين الباث والمتقبل فهي إمّا أن تكون إنكارا وإمّا أن تكون تصديقا. خاصّة وأنّ للدّين موقفا من السّحر، إذ يعتبره من أعمال الشّياطين ولذلك تمّ اعتبار الشعراء إخوة لهم، ويعرّف الأزهريّ السّحر بأنّه عمل تُقرّب فيه إلى الشّيطان وبمعونة منه، والسّحر هو الأخذة التي تأخذ العين حتّى يُظنّ أنّ الأمر كما يُرى، وهو كلّ ما لطف مأخذه ودقّ، ولذلك عظّم السّاحر قبل الإسلام، بدليل الآية القرآنيّة التّالية: “يا أيّها السّاحر ادع لنا ربّك بما عهد عندك إنّنا لمهتدون” (من سورة الزّخرف، الآية التّاسعة والأربعون). فقد نودي موسى باستخدام أداة النّداء أيها تبعيدا وإجلالا، لأنّ السّاحر كان نعتا محمودا، والسّحر كان علما مرغوبا فيه، فقالوا له يا أيها السّاحر على جهة التّعظيم، إذ جاء بالمعجزات التي لم يعهدوا مثلها [40]. ونحن نرى في الخبر صراعا بين سلطان السّواحر وشيطان الشّاعر، إذن فالمواجهة تمّت بين ساحر البيان، وساحر السّلطان، ولعلّ أهمّ ما في المقدّمة النّقديّة التي وضعها لسان الدّين الخطيب في كتابه “السّحر والشّعر”، ذلك القسم الذي خصّصه للتّفريق بينهما، معتمدا في تفريقه على التّبعيض الذي تفيده “من” في الحديث النّبويّ “إنّ من البيان لسحرا” فسحر البيان هو بعض من السّحر الذي “يخلب النّفوس ويستفزّها ويثني الأعطاف ويهزّها”[41]. وقد جُوبه هذا السّحر ببعض آخر من السّحر، الأوّل يقوم على معسول الكلام الذي يغوي ويغري، والثّاني يقوم على النّفخ أو النّفث الذي يسلّط قوّته على الصدر من الجسد فيتملّكه ويذهله عن نفسه، نازعا ما استقرّ في الصّدر من موهبة الشّعر التي هي سبب البلاء، وخاصّة موهبة ذلك النّوع من الشّعر اللّائط بالقلوب. وقد انتهى هذا الصّراع التراجيدي بين السّاحر والشّاعر، إلى إصحار عمارة بن الوليد، منصرفا عن سحر النّساء وسحر البيان إلى فضاء التّيه مخالطا الوحوش في الخلاء، مأخوذا عن نفسه وعن فحولته المنفلتة، تلك الفحولة التي يصنعها التخييل ويبرمجها إمّا في التحام مع المؤسّسة الاجتماعيّة أو في تعارض معها [42]. ذلك أنّ للفحولة أكثر من خطاب وأكثر من وجه في التّاريخ، مثلما نراها في هذا الخبر وغيره من الأخبار التي حفظتها الأغاني، مصوّرة أنواعا من العنف المادّي ومنها الخصي، والسّحر الذي سُلّط على عمارة بن الوليد صنو تخييلي له صنعه الحبك، وهو خصي يستهدف النّفس قبل الجسد. وينتهي السّحر بالموت راسما مصيرا مشؤوما للبطل، وللموت حضور خاصّ في هذا النّوع من المغامرات الدونجوانيّة، وهو الذي يؤهّلها أن تكون ذات طابع تراجيديّ، فأسطورة دونجوان في مسرحيّته مبنيّة على الموت وعلى الحضور الفاعل للميّت، لذلك التّمثال الذي دبّت فيه الحياة، وهو بطل المسرحيّة الحقيقيّ، والوسيط إلى ما وراء هذه الحياة، وعالم الارتباط بالمقدّس، وهو الذي اقتصّ من الحي الذي أهانه وانتهك عرضه[43]، تماما مثلما اقتصّ النّجاشيّ من عمارة بن الوليد، إنّ هذه البطولة الدنوجوانيّة التي لا تهدأ في تصيّد ضحاياها من النّساء، لها قابليّة أن تولد على الدّوام وأن تُبعث من جديد، فهي ملك مشاع مرن، وقصّة مفتوحة بشكل كامل وقابلة للنّفاذ، بحيث تتقبّل التّحوّل دون أن تفقد هويّتها الأولى، لتتمثّل النموذج المكرّس للخاطيء المجابه للسّماء والمتأنّق زير النّساء. ولعلّه من جهة التّلقّي يقف على بينونة رمزيّة ممّن واجه الموت محتميا بجدار الكعبة، وهو الذي فرّ من الموت هائما بين الوحوش، الأوّل في إطار الشّهادة والثّاني في إطار العقاب الذي ألحقه به الدّهر فألحده.
4- خاتمة:
رأينا في عملنا هذا أنّ الآداء اللّغويّ، بما يستدعيه من علامات، يضطلع بتشكيل العوالم التخييليّة، حيث لم تكن هذه العوالم نسخا من الواقع، وإنما هي إمكان غير متحقق وطريقة أخرى في تصوره وتشكيله، والعلامة تفقد ملكيّتا لنفسها داخل الفضاء التّخييليّ، فتضحي مكوّنا من مكوّنات النّظام السّيميائيّ للنّصّ، إلاّ أنّ العلامة حتّى وإن أضحت أسيرة النّصّ فإنّها تمنحه دلالته الحرّة والخاصّة وتهيّؤه لاكتساب المعنى، بمزيّة التمفصل التركيبيّ، والتعالق والنّظم الذي يستدعي العلامة من عوالمها المعقّدة والمتداخلة ليوجّهها توجيها خاصّا، هذا التوجيه تحدّده، في النّصّ القصصيّ، مقتضيات الحبك الذي يقوم بصنع عالمه التخييليّ، وقد قمنا بدراسة العلامات وعوالمها في إطار الخبر العربيّ الذي يعتبر “أصغر وحدة حكائيّة”، فيتميّز عن الحكاية بكون مركز التّوجيه فيه يتمحور حول “الفعل” الحدث، ففي كلّ خبر رأينا حدثا مركزيّا، يتعلّق الأوّل بمقتل عبد الله بن الزّبير والثّاني بسحر عمارة بن الوليد. والخبر من الأجناس السّرديّة التراثيّة الرّاسخة في ذاكرة التّلقّي، وأكثر الأخبار رسوخا في الذّاكرة، تلك التي مازتها أعمال بطوليّة، وقد افترضنا أنّ هذه الأعمال لا وجود لها خارج السّرديّة بما هي عالم علاميّ يحدّد وجهة العمل ويحدّد أفقه، هذا العالم قد يكون متفاعلا مع المرجع وقد يكون موازيا له. أمّا فيما يتعلّق بالأعمال فقد رأينا أنّها لا تكون بمعزل عن الأهواء. هذا التّفاعل بين الأعمال والأهواء يتكفّل الحبك بتشكيله وبالإيحاء بالأفق الدلاليّ للعلامات التي تفتح أبواب التّأويل والبحث عن المعنى، هذا المعنى يتخلّق من رحم الأعمال التي تنتج عن تجاوز خاصّ للعتبات، سواء أكانت تلك العتبات من فرض الثّقافة أم من فرض السّياسة. فعمارة بن الوليد تعارض سلوكه مع النّموذج المثاليّ للممارسات الجنسية الشرعية، وقد عوقب بالسّحر. ومثلما فتحت الإمكانات التّخييليّة للبطل فضاءات الممنوع والمحظور اجتماعيّا، فإنّها في خبر مقتل عبد الله بن الزّبير فتحت أمام البطل فضاءات الماوراء، ليصير الموت محطّة للانطلاق والابتداء لا محطّة انتهاء وانتفاء، ساعيا أن يكون رمزا للاقتداء، فقد حوّل الرؤيا المشؤومة إلى بشارة شهادة، متحدّيا التّنكيل والحرمان من الدّفن. أمّا في خبر عمارة بن الوليد فنرى أنّه استمات في الصّراع متحدّيا لسّواحر بشيطان الشّاعر.
ونحن إن اهتممنا بدراسة هذا التّراث السّردي فلأنّنا مطالبون” بفهم أحسن له” على حدّ عبارة سعيد يقطين[44] إذ يرى أنّنا لم نتعامل معه بالجدّيّة المطلوبة فيما مضى، باعتباره قطاعا حيويّا لأنّه خزّان الذّاكرة الجماعيّة، وخزّان المتخيّل الجماعيّ، الذي يقرّبنا من فهم طريقة اشتغال هذه الذّاكرة وما راكمته من آمال وخيبات، مشكّلة علاقتنا بالزّمن ونظرتها إلى العالم، إنّه أعمق ما يمكن أن نستقرئ من خلاله ذواتنا، ونستوعب أنّ وجود كلّ واحد منّا إنّما هو سرديّة خاصّة نستضيء في تأويلها بمسار سرديّتنا العامة، عبر التوقّف في مختلف محطّاتها دون الوقوف نهائيا مذهولين تحت وطأة التقديس.
[1]-Gérard Génette, La métalepse, 2004, Seuil, Paris, p17.
[2]– العادل خضر، الجاحظ والبيان الآخر، بحوث سيميائيّة تأويليّة، تونس، دار مسكلياني للنّشر والتّوزيع، الطّبعة الأولى 2017، ص 273-276.
[3]– جاء في كتاب، محمّد عزّام، أدب الخيال العلميّ، سوريا، دار علاء الدّين للطّباعة والنّشر والتّوزيع، الطّبعة الأولى 2003، ص 173، أنّه من ضروب الخيال “التّنبّؤ العلميّ” الذي اسهم في صناعة عوالم التّخييل في قصص الخيال العلميّ، فالتّنبّؤ العلميّ هو أحد خصائص الخيال العلميّ، وهو بمثابة الحلم الذي تعجز البشريّة عن تحقيقه فتتوق إليه في عالم الخيال، وتضع هذا الحلم هدفا أمام الأجيال التي ستسعى حتما إلى تحقيقه، فالإنسان القديم كان يحلم بالطّيران، فأوجد في خياله البساط السّحريّ، ومن اللّحظة التي انبثقت فيها الفكرة سعى إلى تسريدها فأسكنها عوالم التّخييل القصصيّ، وبالتّالي فإنّ التنبّؤ العلميّ هو ضرب من ضروب الخيال المسهمة في صناعة عوالم التّخييل السّرديّة، وهو الذي قد ينتهي أيضا بتحويل عوالم الخيال الافتراضيّة وكذلك الأشياء المتخيّلة إلى واقع، وها أنّ الطّائرة تصبح حقيقة واقعة، بعد أن كانت خيالا حالما ثمّ شكلا من الأشكال المتخيّلة في إطار الحكي.
[4]– Umberto Eco, Les limites de l’interprétation, Trduit de l’Italien par Myriem Bouzaher, 1992, Editions Grasset et Fasquelle, Paris, p 72.
[5]– تزيفان تودوروف، الرّمزيّة والتّأويل، ترجمة إسماعيل الكفريّ، دمشق، دار نينوى، الطّبعة الأولى 2017، ص ص 41-42.
[6]– علي عبيد، مقاربات سرديّة، الرّياض، الانتشار العربيّ، الطّبعة الأولى 2014، ص ص169-170.
[7]– سيميائيّات الأهواء، من حالات الأشياء إلى حالات النّفس، جون غريماس، جاك فونتيني، ترجمة وتقديم وتعليق سعيد بنكراد، بيروت، دار الكتاب الجديدة المتّحدة، الطّبعة الأولى 2010، ص 12.
[8]– ابن عبد ربّه الأندلسيّ، العقد الفريد، بيروت، منشورات دار ومكتبة الهلال، الطّبعة الثّانية 1990، الجزء الرّابع، ص 190.
[9]– أبو الفرج الأصبهاني، الأغاني، القاهرة، مؤسّسة عزّ الدّين للطّباعة والنّشر، المجلّد الثّالث، الجزء السّابع، ص 50.
[10]– تزيفان تودوروف، الرّمزيّة والتّأويل، ترجمة وتقديم إسماعيل الكفري، دمشق، دار نينوى، الطّبعة الأولى 2017، ص ص 139-140.
[11]– سعيد الغانميّ، فاعليّة الخيال الأدبيّ، محاولة في بلاغيّة المعرفة من الأسطورة حتّى العلم الوصفيّ، بيروت، منشورات الجمل، الطّبعة الأولى 2015، ص ص 55-59.
[12]– المرجع السّابق، ص ص 68-69، استخدم سعيد الغامدي مصطلح الفرديّة بدل الفردانيّة ذاكرا أنّه مفهوم حديث لا يعود إلى أبعد من القرن السّابع عشر، وقد شهد تطوّرا مع أبحاث دوركايم ضمن علم الاجتماع الحديث في بداية القرن العشرين. وبالتّالي فإنّ مفهوم الفرد أو الفرديّة ينتمي إلى عصر معرفيّ انتج التّفكير العلميّ والنّقديّ الحديث، لأنّه يقوم على الوصف المحايد الذي لا يحضى فيه الفرد بايّ امتياز خاصّ
[13]– محمّد الدّاهي، سيميائيّة الكلام الرّوائيّ، الدّار البيضاء، شركة النّشر والتّوزيع المدارس، ص ص 10-11.
[14]– François Rastier « Greimas Algidras-Julien » in. Encyclopaedia Universalis et Albin Michel, Paris, p 347.
وفي المقال رصد لمختلف المراحل التي تطوّرت من خلالها نظريّة غريماس والتي تحاورت مع المسار البنيوي البروبيّ.
[15]– سيميائيّات الأهواء، من حالات الأشياء إلى حالات النّفس، جون غريماس، جاك فونتيني، ترجمة وتقديم وتعليق سعيد بنكراد، بيروت، دار الكتاب الجديدة المتّحدة، الطّبعة الأولى 2010، ص 10.
[16]– أبو الفرج الأصبهاني، الأغاني، المجلّد الثّالث، مصر، مؤسّسة عزّ الدّين للطّباعة والنّشر، ص 50.
[17]– هيثم سرحان، الأنظمة السّيميائيّة، دراسة في السّرد العربيّ القديم، بنغازي، دار الكتاب الجديد المتّحدة، الطّبعة الأولى 2008، ص ص 285-286.
[18]– المرجع السّابق، ص 302.
[19]– أبو الفرج الأصبهانيّ، الأغاني، المجلّد الثّالث، مصر، مؤسّسة عزّ الدّين للطّباعة والنّشر، ص 50.
[20]– بهاء نوّار، تجلّيات الموت في شعر المتنبّي، دمشق، دار كنعان، الطّبعة الأولى 2011، ص 99.
[21]– ابن عبد ربّه الأندلسيّ، العقد الفريد، الجزء الرّابع، تقديم خليل شرف الدّين، بيروت، منشورات دار ومكتبة الهلال، الطّبعة الثّانية 1990، ص 190.
[22]– ابن عبد ربّه، العقد الفريد، الجزء الرّابع، بيروت، منشورات مكتبة الهلال، 1990، ص 191
[23]– ابن عبد ربّه، العقد الفريد، ص 192.
[24]– يان مانفريد، عالم السّرد، مدخل إلى نظريّة السّرد، ترجمة أماني أبو رحمة، سوريّة، دار نينوى، الطّبعة الأولى 2011، ص 109.
[25]– ابن عبد ربّه، العقد الفريد، الجزء الرّابع، بيروت، منشورات دار ومكتبة الهلال، 1990، 192.
[26]– أرسطو، فن الشعر، يرى أرسطو أنّ مهمّة الشّاعر ليست رواية ما وقع فعلا بل ما يمكن أن يقع على أن يخضع هذا الممكن إمّا إلى قاعدة الاحتمال أو إلى قاعدة الحتميّة.
[27]– هيثم الحاج علي، الزّمن النّوعيّ وإشكاليّات النّوع السّرديّ، بيروت، دار الانتشار العربيّ، الطّبعة الأولى 2008، ص ص 23-24.
[28] -Paul Ricoeur, Temps et récit, L’intrigue et le récit historique, 1983, Editions du Seuil, Paris, pp21-23.
[29]– تقول، يمنى عيد، تقنيات السّرد الرّوائي في ضوء المنهج البنيويّ، بيروت، دار الفارابي، الطّبعة الأولى 1990، ص 74، “يوهم القصّ أنّ الكلام يتوجّه إلى الوراء في حين أنّ الكتابة تبقى في الحقيقة خطّيّة متقدّمة باتّجاهها على الورق إلى الأمام.”
[30]-كارل غوستاف يونغ، الإنسان ورموزه، سوسيولوجيا العقل الباطن، ترجمة عبد الكريم ناصيف، دمشق، دار التّكوين للتّأليف والتّرجمة والنّشر، الطّبعة الأولى 2012، ص ص 20-57، يذكر غوستاف يونغ أنّه في عالم الحلم لا يظهر هذا الجانب على شكل تفكير عقلانيّ، بل على شكل صورة رمزيّة. وبناء على دليل كهذا يفترض علماء النّفس وجود العقل الباطن، رغم أنّ عددا من علماء النّفس الآخرين والفلاسفة ينكرون وجوده، ويرى غوستاف يونغ أنّ بعض الأحلام تدلّ على اضطرابات مرضيّة، إلاّ أنّ بعضها الآخر قد يمثّل توقا سرّيا لشيء ما، وقد ينذر بخطر ما، وقد يعلن الحلم أحيانا عن مواقف معيّنة قبل أن تحدث بزمن طويل، وهذا ليس من باب المعجزات بالضّرورة، ولا هو شكل من أشكال الإدراك المسبق، لأنّ كثيرا من الأزمات تكون ذات تاريخ لاشعوريّ طويل، حتّى أنّنا نكاد نتحرّك باتّجاه تلك الأزمات، فنسعى لتحقيق الحلم، وبعض الأحلام تعمل كما عملت نبوءة “ولفي” التي أنبأت الملك كروسو أنّه إذا اجتاز مهر هاليس فسيدمّر مملكة واسعة، ولم يعد إلاّ بعد أن اجتاز النهر المذكور وهزم هزيمة ماحقة في المعركة التي خاضها.
[31]– العادل خضر، في الصّورة والوجه والكلمة، مقالات ميديولوجيّة، تونس، الدّار التّونسيّة للكتاب، الطّبعة الأولى 2015، ص 60.
[32]– العادل خضر، القصّ والماليخوليا في الحكايات والمواضيع الضّائعة، تونس، الدّار التّونسيّة للكتاب، الطّبعة الأولى 2017، ص ص 50-52، يصدّر الباحث فصله بقولة لبول فاليري وهي: “أعمق ما في الإنسان الجلد’، ويذكر أنّ فكرة Le moi peau هي ل Didier Anzieu، معرّفا هذا الأنا الجلد بأنّه متصوّر مفتاح في علم النّفس والتّحليل النّفسي.
[33]– المرجع السّابق، ص 51، يقول العادل خضر: “لا يمكن كشط الجلد الأوّل إلاّ بعمل من أعمال الإخراج الفنّي une mise en scene في نوع من الرّسوم التّشريحيّة التي تعود إلى عصر النّهضة تمثّل أجسادا مكشوطة وهي تمسرح عمل السّلخ التّشريحيّ dissection anatomique، لإظهار ما يختفي تحت الجلد.
[34]– العادل خضر، الجاحظ والبيان الآخر، بحوث سيميائيّة تأويليّة، تونس، دار ميسكيلياني للنّشر، الطّبعة الأولى 2017، ص 250، يقول: “البيان بهذا المعنى هو ترجمان العيان بكلّ وسائل البيان الممكنة من لفظ وإشارة وخط..”
[35]– المرجع السّابق، ص 252
[36]– المرجع السّابق، ص 256، يقول العادل خضر: “المرئيّ واللاّمرئيّ يرسمان معا حدود البيان القصوى، ولكن بين هذين القطبين يرتسم فضاء متدرّج من الدّلالات.
[37]– زهير اليعكوبي، الحرب، مقاربة فلسفيّة سياسيّة، الجزائر، منشورات اختلاف، الطّبعة الأولى 2016، ص ص 37-38.
[38]– زهير اليعكوبي، الحرب مقاربة فلسفيّة سياسيّة، الجزائر، منشورات اختلاف، الطّبعة الأولى 2016، ص 237.
[39]– ابن منظور، لسان العرب، بيروت، دار إحياء التّراث العربيّ، 1992، ص ص 223-227.
[40]– ابن منظور، لسان العرب، ص ص 189-190.
[41]– أبو عبد اللّه لسان الدّين بن الخطيب السّلمانيّ، السّحر والشّعر، تحقيق ودراسة خالد جبر وعاطف كنعان، الأردن، دار جرير للنّشر والتّوزيع، 2009، ص ص 18-24.
[42]– العادل خضر، في الصّورة والوجه والكلمة، مقالات ميديولوجيّة، تونس، الدّار التونسيّة للكتاب، الطّبعة الأولى 2015، ص ص121 -124.
[43]– جان روسيه، أسطورة دونجوان، ترجمة زياد العودة، دمشق، الهيئة العامّة السّوريّة للكتاب، 2012، ص ص 5-6.
[44]– سعيد يقطين، السّرد العربيّ، مفاهيم وتجلّيات، الرّباط، الدّار العربيّة للعلوم ناشرون، الطّبعة الأولى 2012، ص 51.
1 تعليق
هذا المقال في حاجة إلى شرح كلماته المفاتيح أكثر..لم أفهم التداخل بين مصطلحات كثيرة ولم أدرك أهداف هذا المقال عن ” البطل” ، لتنتقل الباحثة إلى قضايا التلفظ والحبك والزمن والقارئ ..فجاء المقال ضبابيا غير مفهوم.