الملخص:
في رواية “الورم” للرّوائي “إبراهيم الكوني” رؤية معرفية وتحليلية للكائن العربي عبر اجتماعية السلوك الشّاذ للفرد الانهزامي عربيا، واستفادة الحاكم/ الزّعيم من تفوق أطروحات الشّعبويّة ومستخرجات الخطاب الحماسيّ المبتور من الواقعية وتعاظم فوضى الجدل العقيم، لبسط سيطرة مطلقة على العقول. فكان رغبة الرّوائي في تشكيل وعي اجتماعي بديل للقارئ، بغية تحريره من عدسة الحاكم عبر رؤية جديدة لواقع لطالما تكلّس من خلال وضعيات معقدة للتّعتيم، وهذا القارئ منتظر منه الانفلات من خطابات التّرويج والمراوحة للزّعامة إلى تنبؤات النّص المجسدة للخلفية الفكرية، الممتدة من وعي الرّوائي إلى ميلاد الوعي الاجتماعي للقارئ.
الكلمات المفاتيح: سوسيولوجيا القراءة، إنتاجية الدلالة، الوعي الاجتماعي.
Summary:
In The novel “the tumor” a cognitive and analytical view of the Arab being through the social anomalous behavior of the customary oppressed individual, and the ruler’s benefit from the superiority of populist and domesticated theses to extend full control to closed minds, so the novelist’s desire was to shape the features of the reader’s consciousness to free himself from the lens of the ruler/leader in order to generate a social awareness among the recipient.
key words: sociology of reading – productivity of significance- social awareness.
1- المقدمة:
في كل قراءة نقدية بعث جديد ومتجدد للنص، فلا تكتفي بظاهر المعنى، لأنها لا تستثني ماوراء الظاهر بوصفه المستهدف من هذه القراءة.
في نصوص إبراهيم الكوني أكثر من فرصة لتفجير الواجهة النّصية باقتفاء الوضعيات اللّغوية والأسلوبيّة الملتّوية للوصول إلى أقرب نقطة لإدراك واحتواء المعنى المضمر الذي تعتريه الشّكوك الدّلالية دوما، لأنّه دائم الاحتمال، فالممارسة القرائية علميّة نسبيّة تستنطق النّص بلغة الاحتمال لا اليقين، وهذا ما فعلناه في هذه الدّراسة التي تستقرئ الدّلالة الاجتماعية لسانيا ونسقيا، فكان منطلق مشروع النّص من الإشكالات التّالية: ما هي المعابر اللّفظية والجمليّة التي وظّفها الرّوائي في تكوين رؤيته للواقع الاجتماعي والسّياسي؟ وهل النّص نشاط لغوي معزول عن الواقع أم أنّه فعل مضاد للرّاهن الاجتماعي والسّياسي القائم؟ وما هي الآليات المناسبة لمثل هذه النّصوص المعقدة فنيا؟
2- النّص كمظهر لساني ودلالة اجتماعية:
تشكّل رواية “الورم” للرّوائي الليبي “إبراهيم الكوني” إنتاجيةّ لغوية ذات فاعلية وحيوية عبر ظاهرة التّكرار، “فهي نص في صراع ومواجهة مع حدود العرف والمقروئية…لأنّه يتجاوز الهرميّة العرفية للنوع الأدبي”[1]، فكان الاستثناء اللغوي عبر الإشباع التّكراري، وهذا التّناسل الّلفظي والجمليّ في أكثر من حقل دلالي “les champs sémantiques” يتعارض ومقوله الإيجاز وهي طبيعة القول العربيّ الذي يؤكد على ضرورة “أن يفوق الدلول حجم الدال”[2]، فكان الإطناب عبر التكرار عنصرا اندماجيا في الرّواية يلح على وجوده بكثافة.
ويعتبر السّرد الروائي فعل المعرفة بما يقدمه من أحداث وإبداع [3]. وفي تحليلنا للكتابة الروائية نجد ميلا إلى التّكرار، سواء أتعلق الأمر بالفعل السرديّ أم بالشّخصيات أم بتفاصيل الوصف [4]، فهو بمثابة قانون سّردي أو وصفي مسائلا القارئ في مدى استجابة وعيه الاجتماعي، وفي رواية” الورم” فقد كان الرّسم اللغوي ظاهرة بارزة عبر هذا التّدفق اللفظي للتعبير عن اجتماعية مضمرة، وليس مجرد حشد ملفوظاتي غايته التّرقيع النّصي.
ولا يمكن أن نفهم الإنتاجية اللّغوية دون استحضار القراءة السّوسيولوجية للأثر الرّوائي للوصول إلى طبيعة الدّلالة المتجاوزة للأطر الملفوظاتية، فالنّاقد “أمبرتو إيكو” يؤكد على ضرورة اهتمام القارئ بالنّص عبر مظهره اللساني من خلال سلسلة من الزّخارف التّعبيرية، فكلّ جملة أو لفظة غير مرتبطة بالكيان النسقي تظل جافة ومحنّطة في معناها القاموسيّ، لا تحقق المراد الاجتماعي المنتظرة منها، لأنّ اللفظة غير تامة بذاتها [5].
في الروّاية مساحات نصيّة تقوم على النشاط التكراري بالمعنى الصّريح، وهذا التّكرار لا ينم عن العجز في القدرة التّعبيرية، كما لا يمكن أن نضعه في دائرة الحشو المبتذل، ومن ثمة نفترض قارئا من طبيعة اجتماعية وسياسية، لعلاقة الرّواية بموضوع السلطة في المنطقة العربية، وكيفية تعامل النّاس معها. وبما أن القراءة فعل اجتماعي[6]، فإنّ القارئ الاجتماعي المنتظر هو الذي يتجاوز المعنى الحرفي إلى المعنى الضمني، لأن الرّوائي ينخرط في “نسقية خاصة يتوحّد فيها اللساني بالسّياقي والاجتماعي”[7] لبلورة تلك الأطروحة القائلة بأنّ اللّغة الأدبيّة كون اجتماعي لا تحيا إلا ّخارج الإطار المعجميّ الضيق، ولهذا ألغى “لوسيان غولدمان” ثنائية المبدع والقارئ عبر مقولة “رؤية العالم” التي يعرفها بأنّها مركب كلّي من الأفكار والمشاعر والتّطلعات التي تربط أفراد مجموعة اجتماعية معينة[8]،و يحيل هذا الكلام على وجود حقل مشترك بين المبدع والقارئ ويكون فيه كل منهما منتجا اجتماعيا وإيديولوجيا، ولكنّ الفعل الإبداعي خلق جديد للحياة، ولعب باللّغة والمعنى، ومن ثمّة لابد أن يسعى القارئ إلى تهشيم النص، يعيد إنتاجه اجتماعيا وإيديولوجيا من خلال قوة التّأويل لتكتمل الشّعرية فيها.
في الرّواية مقاطع يشكل التّكرار اللفظي فيها ظاهرة لأبنية، نقف عند بعضها: “…في الطريق إلى هناك لم يعرف غير التّصميم، التصميم في نيل الخلاص أيقظ فيه إحساسا غريبا باللذة، لذة لم يعرفها يوما، لذة سرت في الدّم واستولت كالخدر على كلّ طرف من أطراف البدن. لذة كانتشاء الوجد. لذة أنه يدب على قدمين ويعبر الجداول المغمورة بالماء…لذة المسير في العراء، لذة الغروب وهو يطرح في الأفق غلالة بلون الدم، لذة الصّحراء التي تطوق الأسوار من أركانها الأربع وتفيض في عريها بالإغواء…لذة الأنفاس وهي تتردد في قفص الصّدر، لذّة كانت تتمادى في سطوتها وتسميت لتمتلكه…”[9]. وفي مقطع آخر: “…تخيل نفسه طريدا، ضائعا…ومنبوذا وهو الذي آمن دوما بأن رسالة الصّياد ليست أن يقتنص إذا خرج في رحلة الصّيد، ولكن رسالة الصّياد أن يطارد، لأنّ الصّياد لا يحيا أن لم يمارس الصيد في رحلة الصّيد، الصّياد يموت كمدا إذا غنم في رحلة الصيد، لأن الفوز هنا هو إيذان بانتهاء رحلة الصيد!”[10].
إنّ قارئ المقطعين أمام معطى لساني يتمثل في تكرار لفظة “لذّة” تسع مرات ولفظة “الصّيد” خمس مرات، والّلفظتان حسب طبيعتهما الّلسانية تدلان على حالة اجتماعية للكائن المتعالي، الذي يعيش على أعتاب إيذاء الآخر؛ فهو الصّياد والآخر، أي الشّعب/الطّريدة، وفي رحلة الصّيد تتحقق اللذة في إخضاع الورى، حيث تصبح الممارسة السّياسية سلوكا اجتماعيا شاذا بالنسبة للكائن الواعي، وعاديا بالنّسبة للكائن غير الاجتماعيّ.
إنّ القراءة التي نمارسها تدحض فكرة التّواري عن المضّمر، فتأويل القارئ العربي لدلالة اللّفظتين قائم على أساس انتمائه إلى منطقة عانت من ويلات القمع الاجتماعيّ، في حين يكون تأويل القارئ الفرنسي مثلا للمقطعين مختلفا في الجوهر، حيث إنّه لم يعش ذلك القمع الاجتماعي وجدانيا وفعليا، ممّا سيفرز قراءة مبتورة دلاليا، تكتفي بظاهر اللّغة /الواجهة، لأنّها بعيدة عن الطّرح الإيديولوجي، ومن ثمّة نطرح فكرة الجغرافية العقليّة والنفسيّة للانتماء وتأثيرها على فهم المدلولات المضمرة في النّص الأدبيّ.
إنّ القارئ العربي متأثر بالقوى الاجتماعيّة التي تحدد طبيعة قراءاته عند تعاطيه مع هذا الأثر، في حين أنّ القارئ غير العربي متأثر بالقوى السّحرية والجمالية للرّواية، ومن ثمة سيركز على عالم الأمكنة والمواقع أكثر من تركيزه على الطابع التّكراري للألفاظ والجمل التي هي مفاتيح فهم الأثر، وهذا ما ذهب إليه الباحث “جاك لينهاردت” الذي دعا إلى إحالة القراءة إلى المجتمع الذي ينتمي إليه القارئ،، حيث تكون العلاقة بين النّص والقارئ المحلي علاقة اجتماعية، التي تستوجب تأسيس علم اجتماع القراءة، لأنّ عملية انبثاق المعنى هي التي تعطي الموضوع الثقافي في كل حالة سماته المميزة”[11]، فيحقق المبدع مبتغاه، لأنّ القارئ المتخيل سيتجاوز النّزعة الكرنفالية أو الوعظية التي حفلت بها الرّواية إلى استبطان خطاب التّنديد بضمور الوعي الاجتماعي والسّياسي في الوطن العربي في حضرة الزّعيم أو حكم الفرد وانعدام الحوكمة.
وفي مقاطع أخرى يتكرر اللفظ كقوله: “الناموس لم يكن يوما هراء، ولكن جعلتكم المشؤومة هي التي حولت النّاموس إلى هراء، هل تدري لماذا؟ لأنّ النّاموس لم يخلقه الزعيم من وراء حجابه، ولكن أمّنا الصحراء هي التي خلقت النّاموس الذي لم يخذل من لم يخنه أبدا”[12]. وفي مقطع آخر: “الضّحية تموت مرة بفضل الجلاد، لأنّ ميتة المرة هي التي تحرر من الموت ألف مرة، أمّا الجلاّد فيموت كل يوم مرارا، لأنّ الخوف من الموت هو الموت”[13].
وردت لفظة “النّاموس” خمس مرات، ولفظة “الموت” ثلاث مرات، فالنّاموس أو الشّريعة ثابتة، والموت كذلك، فمتى استبد الإنسان، وحاول الاستهتار بالنّاموس يلقى حتفه حقا أو مجازا، خوف الانتقام من ضحاياه فالظّلم ليس ناموسا وإنّما ممارسة للسّلطة بطريقة عير طبيعية والموت حق أبدي، والقصاص واجب أخلاقيّ في جميع نواميس الشّعوب.
3- في دلالة تكرارية الملفوظ وقرائيّة الدّلالة:
يتكرر الفعل التّكراري في الجمل أو في الملفوظات السّردية ويراد منه امتداد الأنموذج الجملي إلى أبعاد ثقافية وسوسيولوجية مهمة في تنشئة وعي الممانعة وترسيخه في ذهن القارئ المحايد واعتباره أولوية، ضمن دينامية الدّلالة، فيتم خلق حلقة “boucles” تنافس السّيولة السّردية ومن أمثلة ذلك قوله: “…يلتفت نحو الأسير ليسأل:
- ما معنى “لا يبدو مثله شيء”؟!
- أجاب الأسير بالنبرة الغنائية ذاتها:
- لا يبدو مثله شيء يعني لا يبدو مثله شيء!
حاججه آساناي:
- ليس هناك في هذه الصّحراء أي شيء لا يبدو مثله شيء!
قال الأسير بعناد طفولي:
- ولكن الزّعيم الذي رأيته لا يبدو مثله شيء”[14].
وفي مقطع آخر نجد: “أراد أن أتبعه إلى دياره. أراد أن أتبعه إلى أسواقه. أراد أن أتبعه إلى تجارته. أراد أن أتبعه إلى أفران حديده. أراد أن أتبعه إلى دنياكم ودنياه بعد أن أتخلّى عن رسالة طوقني بها الزّعيم!”[15].
إنّ في تكرار “لا يبدو مثله شيء” و”أراد أن أتبعه” أشبه بتعويذة “Credo” مع متغيّرات حتمية “variantes” خفيفة. فالجملتان تحملان معنى اجتماعيا، متعلقا بوهم الزعامة، فالمستبد يراهن على الكفاية العقائدية لفرض هيمنة كليّة على الّناس، فتتأسس مقاربة التّبجيل أو حتى التّأليه “diviniser”، وتنهار مكتنزات الرّفض والصّمود، ويكون الخضوع قدرا محتوما: “…ما ذنب إنسان هذه الصّحراء إذا كان قد وجد نفسه بلا معنى إلى حد لا يجد ما يفعله بنفسه غير أن يتخلى عن نفسه …ما ذنب الإنسان إذا فتش عن طريدة، وهو الذي وجد نفسه طريدا في هذه الصّحراء؟”[16].
في الجملة ترسيم لسقوط الإنسان العربي في الوهم كبديل للهزيمة، فتترسخ ثقافة الكبت متأصلة في الشّعور الجمعي: “…يعترف أنّ البلية في الانتظار…البلية في الإحساس بالانتظار حتى لو لم ينتظر المخلوق شيئا سوى الانتظار نفسه، ربّما لأنّ الانتظار يخفي أملا كاذبا بخلاص كاذب، ربّما لأن الانتظار جنس من أجناس الوسوسة…انتظار الحرية هاجس الإنسان هاجس كل إنسان”[17].
يمكن أن نجد تفاعلا بين المعنى الظّاهر وإنتاجية الدّلالة اجتماعيا، فالتّبجيل يفضي إلى استيعاب خطاب الهزيمة الذي يقوم بعملية تضليل للمتلقي الضّمني، باستثمار خلفيته التّكوينيّة والإرثيّة، ومن ثمّة يصبح “الانتظار” قيمة مضافة لمنتج الخطاب التّبجيلي، لا لمنتج خطاب التّنديد والرفض، لأنّ كل مرحلة تاريخية لها فعلها السّياسي والاجتماعي غير المتوقع.
لا ريب أنّ الرّوائي شكّل صورا لغوية تقوم على التّكرارية”récurrence”من خلال إعادة الّلفظ أو العبارة التي تتجاوز المحمول البلاغي المحصور في تأكيد المعنى أو الّترديد أو التكرار المطرّز أو المشاكلة، وقد لجأ الرّوائي إلى هذا النّمط السرديّ التكراري معيارا دلاليا “sémantique” لا معيارا إقناعيا، فعبر الوحدات الّلغوية المكرّرة يستهدف المعيار التيمي “thématique”، حيث تتحوّل الصّورة اللغوية إلى عامل “Actant” ينجز وظيفة ويؤدي أدوارا تتوزع كالآتي:
- دور نفسي عبر مقولة الانتظار التي تعزز حالة نفسية غير مستقرة، وقلق وترقب إلى ما لا نهاية.
- دور اجتماعي، فجملة “أراد أن أتبعه” تحمل ذلك الطّرح الذي يقصي وعي الفرد، باعتبار السّلطة القائمة هي منتجة وعيه حصريا، ومن ثمّة أصبح وعي الشّعب مرتهنا، ومؤطرا في منظومة تعادي كلّ فعالية أو مبادرة خارجة دائرة المؤسسة الحاكمة المغلقة، ومن شأنها إرباكها، وإذا أحّس الحاكم بأنّ هناك ثغرة في منظومة حكمه كمخلص للشّرور، يغيّر من استراتيجيته، ليتكيف مع الأوضاع المستجدة: “مهلا! مهلا! إنكاري لكي قديما كان سليقة أخرى غير إنكاري لك في المجلس. وأنكرتك في الزمن القديم دفاعا عن النفس، وأنكرتك في المجلس لأنّي لابدّ أن أفعل ما دمت قد جاهرت بإنكار الزّعيم، وإنكار رسول الزّعيم “[18].
إنّ عبارة “أراد أن أتبعه “توصيف لحالة الإنسان العربي الخاضع لميراث الانقياد وراء استباحة جميع القوانين، وتبرير جميع الهزائم والإخفاقات باسم الزّعامة وهي إرث التّخلف والكولونيالية في سوسيولوجية التّعامل مع الآخر، وبطلها إنسان فاقد للضّمير الإنساني، يرى الآخر قاصرا، ويحتاج من يكفله، لأنّه لم ينضج وعيا سياسيا واجتماعيا؛ لتبدأ العلاقة بين الحاكم والمحكوم أبويّه وتنتهي تراجيدية، ذلك أنّ وعي النّاس لا يستقر على قناعات غير مؤسسة عقلا ومنطقا، وكل مشروع حكم مستبد ينتهي بموته التّراجيدي في أغلب الأحيان: “… ساعتها فقط استيقظ من الحلم . استيقظ من الكابوس ليحيا الشطر الثاني من الكابوس، ولكن العزاء هذه المرّة في أنّه لم يعد كابوس منام، ولكنّه انقلب كابوس يقظة، وأن يحيا الإنسان الكابوس جاحظ العينين أهون من أن يحيا الكابوس مغمض العينين…”[19].
لقد مارس الرّوائي التّكراريّة كسلطة خطاب مستنفر لذهن القارئ، فعبر المسح الاستقرائي للملفوظات المكرّرة في الرّواية نجد أنّ “الإلحاحيّة l’urgence” في المواقف والأشكال التّعبيرية، تنم عن إصرار الرّوائي على تقديم الموضوعة (التّيمة) بإلحاح، يجعل القارئ يستقبل خطابه باهتمام أكثر، ووعي أكبر.
يمارس الرّوائي دور الزّعيم في تقديم نفسه للقارئ، من خلال ضبط نصّه على ملفوظيّة التكرار، فيحاكي مجازا الزّعيم الحقيقي الذي أسس مشروعه السياسي القائم على حضور دائم وأبدي عبر الخطابات السياسية في المنابر المختلفة، وأوامره اليوميّة، وشعاراته البّراقة المخدرة للوعي ؛ إذ نجد الرّوائي في مشروعه المضاد ينسف مقولاته بإدانة الواقع، وتغييب الوعي، فكان الطّابع التّكراري فاتحة لنّهوض الوعي وخطابا مضادا بالآليات نفسها ولكنّ بأهداف مختلفة، يحض المتلقي على صنع شرعيته الاجتماعية، والتّأمل فيما يدور حوله، في ظل الاستمرار في التّنازل عن حريته السياسية والاجتماعية.
إنّ لجوء الرّوائي إلى التّكرار النّمطي من خلال عنصر التّوازن اللفظي، جعل نصه يأخذ صورة الطّابع الإيقاعي، رغبة في كسب القارئ، وبالمقابل يحوي هذا التّكرار فائضا لغويا يمكن حذفه، دون أن يعطل عملية الفهم والتأثر[20] ومن أمثلة ذلك قوله:” توقف هاجمته بوادر النّوبة الجنونية التي تستولي عليه…أغمض عينيه وتنفس بعمق قال مغمض العينين…”[21]، ففي المقطع ما يمكن حذفه فنقول: “توقف هاجمته بوادر النوبة الجنونية التي تستولي عليه…تنفس بعمق، ثم قال وهو مغمض العينين…”.
ليس هدف الرّوائي في عمله مراعاة الإحساس اللّغوي لدى القارئ، لهذا وظّف الأسلوب كقوة للإقناع وضاغطة سلطها على القارئ ليسلب حرية التّصرف إزاء هذه القوة [22]، كما يفعل الحاكم/الزّعيم في معاملته للرّعية، فإذا كان هذا الأخير قائدا سياسيا فإنّ الرّوائي قد أصبح قائدا اجتماعيا ولفظيا أو أسلوبيا للمتلقي.
وقد تمثلت هذه القوة الضاغطة في التّكرار النّمطي الذي من خلاله “يسلم للمتلقي قيادة الفكرة الموجهة إليه”[23]، وبما أنّ ذهنية القارئ المعاصر لا تقبل الإفاضة والإطناب المجسد في شكله التّكراري، لأنه يبحث عن “إنتاجية غنية لنص مقتضب”[24]، فقد تمثّل الرّوائي دور الزّعيم في منطلق فرض رؤيته عبر الإغراء الصّوتي، والإشارات اللغوية المنبثقة عن آلية التكرار “automatisme de répétition” وإقصاء كل التّصورات التي يمكن للقارئ أن يتصورها، وأغلق بذلك مجال نصه الدلالي في “معنى محدد يرتضيه قارئ فردي ما”[25]، وهذا ينطبق أيضا على الحاكم/الزعيم. وفي هذه الخطاطة توضيح لذلك:
الرّوائي/السّارد | الحاكم/الزّعيم |
الإغراء الصّوتي | الإغراء الاجتماعي وشراء الذمم |
المجال الدّلالي مغلق | المجال السّياسي مغلق |
المعنى النّصي الأوحد | الخطاب السّياسي الأوحد |
تأكيد الحضور اللّفظي والجمليّ عبر آلية التّكرار | تأكيد الحضور الجماهيري والإعلامي عبر آلية الدّعاية |
إنّ الفرق بين الرّوائي المثقف والحاكم/الزّعيم قائم على أنّ التكرارية الممارسة في النّص تجعل القارئ يفكر في إنتاجية الدّلالة من خلال تراكمية العناصر التّعبيرية ليخرج بموقف استنكاري للوضع القائم، في حين تكرارية الدّعاية وخطاب الاجترار للحاكم ليست إلّا تأجيلا لانهيار عالمه الزّائف، لأنّ كل ما فيه وقتي وشاذ.
4- خاتمة:
كانت رواية “الورم” مشروعا سرديا مضادا لمشروع الزّعامة، فعلى الرّغم من أنّ هذه الرّواية ليست نصا تواصليا عاديا، بوصفه يستدعي معرفة إبستمولوجية حيث التّأمل وإدراك الأبعاد عنصران مهمّان في فهم المحتوى وتقدير جماليته، إلّا أنّ القارئ النّبيه قادر على التّركيز في العناصر غير المبددة للانتباه كظاهرة التّكرار، والإمعان في تسلسل الأحداث لانتزاع المعنى الحرفي أولا، ثم البحث عن إنتاجية الدّلالة اجتماعيا، باعتبار الرّواية مجمعا للسلوك الاجتماعي السلبي، والخاضع لسلطة الخرافي والاحتيالي، وموقف الروائي غير المشخّص الذي يسخر من الجميع لأدائهم المخزي والمحبط، وعبرهم يحاكم الرّوائي ما آل إليه المجتمع العربي من غياب للوعي، وانعدام التّدبر في معالجة أوضاعه السياسية المتدهورة بحكمة بسبب سلطة الفرد الأوحد.
[1]– ميجان الرويلي وسعد البازعي، 2000، دليل الناقد الأدبي، ص 182
[2]-إدريس قصوري،2008، أسلوبية الرواية، ص 165
[3]– بول آرون وآخرون، 2012، معجم المصطلحات الأدبية، تر: محمد حمود، ص 594.
[4]– تزفيتان تودوروف وآخرون، 1992، طرائق تحليل السّرد الرّوائي، تر: الحسين سحبان وفؤاد صفا، ص 42.
[5]-تزفيتان تودوروف، المرجع نفسه، ص 157.
[6]– بول آرون وآخرون، ص 856.
[7]– سعيد جبار، 2013، من السّردية إلى التّخييلية، ص 26.
[8]– سوزان روبين سليمان وإنجيكروسمان، 2007، القارئ في النّص، تر: حسن ناظم وعلي حاكم صالح، ص 240.
[9]-إبراهيم الكوني،2008، الورم، ص 82.
[10]– المصدر نفسه، ص 89.
[11]-سوزان روبين سليمان وأنجي كروسمان، القارئ في النّص، ص 259.
[12]-الرّواية، ص 111.
[13]– المصدر نفسه، ص 134.
[14]– الرواية، ص 120.
[15]– المصدر نفسه، ص 122.
[16]– المصدر نفسه، ص 134.
[17]– المصدر نفسه، ص 139.
[18]– المصدر نفسه، ص 143.
[19]– المصدر نفسه، ص 169.
[20]– محمد عبد المطلب، 1999، البلاغة الأسلوبية، ص 296.
[21]– الرواية، ص 40.
[22]– محمد عبد المطلب، البلاغة الأسلوبية، ص 235.
[23]– المرجع نفسه، ص 235.
[24]-حميد لحمداني،2003، القراءة وتوليد الدّلالة، ص 14.
[25]– المرجع نفسه، ص 114.
المراجع:
- إبراهيم الكوني، 2008، الورم، المؤسسة العربية للدراسات والنّشر، ط1، لبنان.
- إدريس قصوري، 2008، أسلوبية الرواية، عالم الكتب الحديث، ط1، أربد، الأردن.
- بول آرون وآخرون، 2012، معجم المصطلحات الأدبية، تر: محمد حمود، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ط1، بيروت، لبنان.
- تزفيتان تودوروف وآخرون،1992، طرائق تحليل السّرد الأدبي، تر: الحسين سحبان وفؤاد صفا، منشورات اتحاد الكتاب ط1، المغرب.
- حميد لحمداني،2003، القراءة وتوليد الدلالة، المركز الثقافي العربي، ط1، الدار البيضاء، المغرب.
- سعيد جبار،2013، من السّردية إلى التخييلية، منشورات الاختلاف، الجزائر، منشورات ضفاف، ط1، بيروت، لبنان.
- سوزان روبين سليمان وإنجيكروسمان،2007، القارئ في النص، تر: حسن ناظم وعلي حاكم صالح، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، بيروت، لبنان.
- محمد عبد المطلب، 1999، البلاغة الأسلوبية، مكتبة لبنان، ناشرون، الشركة المصرية العالمية للنشر، ط1 القاهرة، مصر.
- ميجان الرويلي وسعد البازعي،2000، دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، ط2، الدّار البيضاء، المغرب.