ذهب الفيلسوف الفرنسي المعاصر ” ميشيل فوكوه ” Michel Foucault) (1926 – 1984) في كتاباته ، وبالأخص كتابه ” حفريات المعرفة” ، إلى أن المادة النصية والمتضمنة في الموروث ، سواء كان هذا الموروث كتب أو سلسلة أفلام، والتي يبحث فيها المنهج الأركيولوجي الحفري ، هي بمثابة أفكار، ومفاهيم ، وقيم مندرسة ، اندثرت في أعماق طبقات التاريخ ، فيقوم هذا المنهج بمقارنتها ، بالتنقيب عنها ، وتعريتها بالحفر المعرفي المعمق والدقيق ، في الطبقات النصية ، وإزالة ما رسب عليها ، وتراكم مع الزمن ، من مدركات غير مستقرئة، بغرض إظهارها ثانية ، على صورتها الأولي الحقيقية ، وعليه إنتاج للفكر ، والقيم ، والرؤئ المعرفية ، والثقافية ، المندرسة في الموروث التراثي ، وليس إنتاج جديد مولد للنص ، وللمضامين التي يجملها ، لأن ذلك خارج مهمة المنهج الأركيولوجي، وخارج مهمة البحث التاريخي عموماً ؛ علاوة علي أن المنهج الأركيولوجي الحفري ، في كشفه للتراث الثقافي ، وإحيائه للفكر والمعرفة في خزانة التاريخي ، إنما هو يتصفح الوقائع والأحداث والمشاهد التي تفصح عنها ، ويعيد قراءته لها بعمق ، وفق رؤية تحليلية – تفكيكية – تحليلية ، ليبين الكيفية التي نجحت فيها المعارف ، والقيم التنويرية والثقافية ، في فترة تاريخية معينة ، أن تجد فرصتها في الإنتاج المعرفي والتقييم الثقافي، ثم القبول في المدركات الاجتماعية (1).
وفي هذه الورقة أقوم بقراءة فلسفية قائمة على الحفر الأركيولوجي لسلسلة أعمال جيمس بوند مستخدما في الوقت نفسه “نصل” أو “شفرة” “وليم أوكام” William of Ockham (ولد 1288 – توفي 1348) والتي أقتطع بها الزوائد من خلال قراءة فلسفية معاصرة ، وفي هذا أقول : لقد قدمت السينما الإنجليزية العديد من الأفلام التي تحمل قضايا وموضوعات سياسية مهمة تهم الجمهور ، حيث لم تكن السينما الإنجليزية محل اهتمام الجمهور الإنجليزي فقط ، بل كان ينتظر العالم ماذا ستقدم السينما الإنجليزية ، خاصة وأنه كان يطلق عليها قبل بروز السينما الأمريكية “هوليوود الغرب” ، نظرا لما كانت تقدمه لنا عن أفلام الجاسوسية ، والتي كانت تتناول قضية الجاسوسية ، وذلك لتسليط الضوء على الحرب الباردة التي كانت بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، حيث وفرت الحرب الباردة خلفية مناسبة لروايات الجاسوسية، علاوة علي تجسيد دور الماسونية تلك المنظمة السريّة الرهيبة التي تسعى للهيمنة على العالم، وتختزل كل الشرور، ومن ثم يسود النظام الخاص بهذه المنظمة السرية، بينما الجماهير مخدوعة ومغيبة ، مع الاهتمام كذلك بقضية نهاية التاريخ (2).
وعند الحديث عن أفلام الجاسوسية في السينما العالمية ، يتبادر إلى الأذهان ودون أي تردد أفلام جيمس بوند James Bond، “أشهر عميل سري على وجه الأرض”، فجيمس بوند، يمثل بالفعل ظاهرة فريدة في عالم الأبطال الخياليين، وأحد أبرز الشخصيات الأسطورية في السينما العالمية، التي جمعت بين خيال الأدب وسحر الشاشة الكبيرة، وإغراء الموضة، وروح الإبداع، وقد اشتهر هذا “البطل الذي لا يموت” بالمركبات والمعدات العجيبة التي كانت مهمة لإتمام مهمته بنجاح (3).
وتلك الشخصية الخيالية أبدعها الصحفي والروائي البريطاني “إيان فليمنج” في عام 1953 عبر أول رواية “كازينو رويال”، وقد كتب “فليمنغ” إثني عشر رواية ومجموعتين قصصيتين قصيرتين، مما جعل سلسلة أفلام “بوند” تستمر على مدار نحو 60 عاماً عصية علي الغياب ، فأين تكمن قوة بقاء هذه السلسلة في الصدارة حتى اليوم ؟.
تعد سلسلة أفلام “جيمس بوند” هي سلسلة أفلام تجسس تستند إلى الشخصية الخيالية لعميل “إم آي 6” جيمس بوند “007”، الذي ظهر في الأصل في سلسلة من الكتب كتبها إيان فلمنغ. تعتبر السلسلة واحدة من أطول سلاسل الأفلام مستمرة في التاريخ، إذ استمر إنتاجها من عام 1962 إلى الوقت الحاضر (مع توقف لمدة ست سنوات بين 1989 و1995). في ذلك الوقت أنتجت أيون للإنتاج 24 فيلماً، معظمها في استوديوهات باينوود. مع تحقيق مجموع إجمالي للإيرادات أكثر من 7 مليارات دولار حتى الآن، تشكل الأفلام التي تنتجها ايون سادس أعلى سلسلة أفلام ربحًا. لعب ستة ممثلين دور العميل 007 في سلسلة ايون وآخرهم دانيال كريغ؛ وقد أنتج “ألبرت آر. بروكولي وهاري سالتزمان” معظم أفلام شركة “أيون” حتى عام 1975، وأصبح “بروكولي” المنتج الوحيد بعد ذلك. كان الاستثناء الوحيد خلال هذه الفترة هو فلم كرة الرعد، الذي أصبح فيه بروكولي وسالتزمان منتجين تنفيذيين بينما أنتج كيفين مكلوري الفلم. من عام 1984 انضم إلى بروكولي ربيبه ميخائيل جي ويلسون كمنتج وفي عام 1995 ترك بروكولي شركة أيون وحلت محله ابنته باربرا التي شاركت في الإنتاج مع ويلسون منذ ذلك الحين. امتلكت شركة عائلة بروكولي دانجاب (وحتى عام 1975، شركة سالتزمان أيضًا)، السلسلة من خلال ايون، وحافظت على الملكية المشتركة مع شركة يونايتد أرتيست منذ منتصف السبعينيات في القرن العشرين. شهدت سلسلة ايون استمرارية في كل من الممثلين الرئيسيين وفي أطقم الإنتاج، مع استمرارية في المخرجين والكتاب والملحنين ومصممي الإنتاج وغيرهم ممن عملوا خلال عدد من أفلام السلسلة زالت تجسد شخصية “جيمس بوند” (4).
و”جيمس بوند” يُعد أشهر ضابط مخابرات في العالم، وهو خيالي ولا يمكن أن يتواجد في الحياة العادية، وهو الشهير والنشيط والمليء بالحيوية، وبالإضافة إلى أن ضابط المخابرات لا ينتهي أمره بحضن امرأة أو شرب كأس، إنما الشخصية في الواقع مختلفة تماماً؛ حيث يمكننا قياس نجاح أفلام “جيمس بوند” بنجاح مؤدي دور الشرير فيها، وهو معيار خفي غاب عن أذهان كثير ممن شُغِفُوا بفتيات بوند أكثر من أشراره. تميّز فيلم “سكاي فول” (2012) لمخرج “سبكتر” نفسه “سام منديس” بسبب أداء الإسباني “خافيير باردوم” دور شرير غريب الأطوار. هنا، تصدّى الممثل النمساوي القدير “كريستوف وولتز” لدور رئيس منظمة سبكتر، وأضفى حضوره رهبة وإثارة مشابهين (5).
كان جيمس بوند رجل مخابرات، أي جاسوسا، يخدم المخططات الاستعمارية البريطانية والأمريكية، وكان الأشرار في أفلامه من سكان العالم الثالث أو من عملاء المخابرات السوفيتية.. الشريرة.. التي تريد منع الغرب من نشر قيم “التحضر” والرقي والحريات، وكان بوند رمزاً استعمارياً، لكنه كان محبوباً، فقد كان وسيماً ورشيقاً وشجاعاً وجذاباً، وكان يمتلك قدرة خاصة على إغواء الحسناوات، فهو يجيد اللعب في أندية القمار، يرتدي ملابس السهرة ويغشى تلك الأندية دون وجل، متحديا شرير الفيلم، الثري، الخارج عن القانون، الذي يحصن نفسه عادة داخل قلعة يحيطها بالحراسة المشددة، ويجهزها بأحدث الأجهزة الإلكترونية، ويوظف الشرير في خدمته عادة عددا من أعتى الحراس وأكثرهم بشاعة وقوة وقدرة على الفتك بأعداء الشرير صاحب المخطط الجهنمي للسيطرة على العالم، لضرب أقوى قوة في الأرض أي الولايات المتحدة، وربما التسبب في حرب عالمية بين أميركا والاتحاد السوفيتي (6).
لم يلتفت “جيمس بوند” أبدا إلى الضعفاء من شعوب بلدان العالم الثالث لكي يساهم، ولو بقدر ضئيل، حتى على سبيل “الشفقة”، في مساعدتهم على التخلص من حكامهم الدكتاتوريين الذين يحكمونهم، بل على العكس، كان دائماً يسخر من هذه الشعوب “المستضعفة”، وأثناء مشاجرة عنيفة بالأيدي بينه وبين شرير محلي في منطقة أهرامات الجيزة في أحد الأفلام التي كان يقوم ببطولتها روجر مور، يتغلب بوند على خصمه بالطبع، ثم يهز مجموعة من الحوامل الخشبية (السقالات) القريبة من “أبي الهول”، للقيام ببعض أعمال الترميم هناك، فتنهار جميعها مخلفة غبارا كثيفا، فيعلق بوند في سخرية: بناة الأهرامات، أي أنظر كيف أن بناة الأهرامات لا يستطيعون إنشاء هيكل بسيط من الأخشاب! (7).
ورغم ذلك كان بوند محبوباً، والأسباب كثيرة، كانت شخصية جيمس بوند تحقق المتعة والإثارة وتجسد الشجاعة الفردية في عالم مليء بالإحباطات، وكانت الحبكة في أفلام بوند تدور عادة حول الصراع البدائي بين الخير والشر، الخير يتمثل في إنقاذ العالم من شرور الشرير، والشر يكمن في التآمر لإحداث أكبر قدر من الضرر.. هكذا على هذا المستوى الأولي البسيط الذي لا يقتضي وجود ثقافة وفهم ومعرفة بأحوال العالم السياسية وعملية الاستقطاب والحرب الباردة التي كانت قائمة بين المعسكرين، الإشتراكي والرأسمالي (8).
ولا شك في أن جيمس بوند أضحى في أذهان كثير شخصية حقيقية عاشت في الواقع فعلاً، مثله في ذلك مثل أساطير عديدة في تاريخ الأدب والفنّ السينمائي، مثل: دون كيشوت، شرلوك هولمز، طرزان، زورو، رامبو، هركول بوارو، إنديانا جونز، ومؤخراً روبرت لانغدون بطل “شيفرة دافنشي”. أول من جسّد شخصية بوند على الشاشة الفضية وأفضلهم في نظر كثير هو النجم الاسكتلندي شون كونري، أول من جسد شخصية “جيمس بوند” في 6 + 1 من الأفلام، (إذ إن فيلمه الأخير والمتأخر “لا تقل أبداً مرّة أخرى” (1983) أُنتج بصورة غير رسمية).
كان شون كونري إحدى أيقونات النصف الثاني من القرن العشرين بكلّ ما شهده من أحداث مثيرة في ظلّ الحرب الباردة التي استمرت ما بين 1945، عندما انتهت الحرب العالمية الثانية، وخريف العام 1989 لدى سقوط جدران برلين كمقدمة لسقوط الاتحاد السوفياتي، رسميّاً، مطلع العام 1992، وانتصرت الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب الباردة مستخدمة أسلحة مختلفة، كان من بينها أفلام “جيمس بوند” التي سبقت بعشرين سنة كلام الرئيس الأمريكي السابق “رونالد ريجان” عن “إمبراطورية الشر” والإعلان عن برنامج “حرب النجوم”. ما كان لهذه الأفلام أن تنجح لولا “شون كونري” الذي تصدّى لكل نوع من “الأشرار”، بدءاً بـ”الدكتور نو” الساعي إلى السيطرة على العالم والعميلة السوفيتية التي حاولت اغتياله خلال رحلة في أحد القطارات.
كانت أفلام بوند تعرض في مصر عروضا عامة وتلقى إقبالا كبيرا في وقت كانت قبضة الرقابة مشدّدة على كل ما يروّج للقيم “الرأسمالية” الغربية، وكانت البارانويا الناصرية وقتذاك تشك في أن كل أجنبي قادم إلى مصر من الممكن أن يكون جاسوساً، فما بالك بأفلام سيد الجواسيس، لماذا كانت تنتشر وتروّج حتى بعد عام 1967، وما جرى فيه من نكبة كبرى لا تزال الأمة تدفع ثمنها غاليا؟.. كانت هناك على ما يبدو رغبة في جعل الناس ينسون الهزيمة المرة، ولذلك فشلت الدعوة التي أطلقها البعض وقتها لمقاطعة الأفلام الأمريكية بدعوى أن أفلام هوليوود “تخدم المخطط الإمبريالي” وهي أفكار لا تزال تجد لها بكل أسف، صدى حتى يومنا في بعض وسائل الإعلام، خاصة تلك التي تتبنى خطابا “إسلامويا” ؛ وقد منعت الرقابة في مصر الفيلم الثاني في سلسلة أفلام بوند “من روسيا مع حبي”، بدعوى “الإساءة لدولة صديقة” وكان المقصود بالطبع “الاتحاد السوفيتي” فقد كان الفيلم يدور حول محاولة بوند التسلل إلى روسيا لكي يأتي بعميلة للمخابرات السوفيتية (حسناء جدا بالطبع) تريد أن تهرب إلى الغرب، ومعها جهاز لفك الرسائل والشفرة ثمين للغاية (9).
وهنا يظهر جليّاً أنّ أفلام جيمس بوند كانت تمهيداً باكراً للانتصار في الحرب التي خاضها الغرب مع “إمبراطورية الشر”، أي الاتحاد السوفيتي، بحسب وصف الرئيس الأمريكي “رونالد ريجان في خطاب ألقاه عام 1983. لم يكن ريجان نفسه سوى ممثّل سينمائي استطاع إسقاط الاتحاد السوفيتي بعدما أجبره على خوض “حرب النجوم”. إلى الآن، ليس ما يثبت هل برنامج “حرب النجوم” كان حقيقة… أم مجرّد فيلم على طريقة أفلام جيمس بوند. كشف برنامج “حرب النجوم”، الذي يعني بين ما يعنيه نشر منظومة صاروخية في الفضاء، ضعف الاتحاد السوفيتي، تكنولوجياً واقتصادياً، وعجزه عن خوض سباق تسلّح مع الولايات المتحدة (10).
وفي سياق مشاركته في الحرب الباردة، حجز “جيمس بوند” دوراً للاستخبارات البريطانية. من خلاله أعطى هذه المؤسسة دوراً في تلك الحرب في وقت كانت “بريطانيا العظمى” تدخل مرحلة التحوّل الى قوّة أقلّ من عادية على الصعيد العالمي، بعدما كانت إمبراطورية “لا تغيب عنها الشمس”. بدأ الانحدار البريطاني بعد فشل حملة السويس عام 1956 التي سبقها التخلي عن “درّة التاج” التي اسمها الهند. لعب جيمس بوند، أي “شون كونري” (العميل الرقم 007)، دوراً في إبقاء الأسطورة البريطانية حيّة. ساهم في تحويل الوهم الى حقيقة في انتظار وصول “مارجريت تاتشر” الى موقع رئيس الوزراء عام 1979. أوجدت تاتشر لبريطانيا، بتصالحها مع الحقائق الدولية، دوراً في النظام العالمي القائم. كان ذلك لفترة محدودة، في عالم يلعب فيه الأشخاص دوراً في صناعة الصورة التي يرى العالم من خلالها موقع دولة معيّنة وحجمها ودورها… وهي صورة قد تكون حقيقية وقد لا تكون، تماماً مثل صورة “جيمس بوند” التي صنعها ممثل اسمه “شون كونري” (11).
ولهذا يعد شون كونري الممثل الذي صنع نفسه بنفسه انطلاقاً من لا شيء بفضل ذكائه الحاد الذي مكّنه من أن يصبح رجلاً على علم بكل ما هو جميل في هذا العالم. من الفنادق إلى المطاعم الفخمة، الى طريقة اختيار الملابس والسيارات، إلى الشراب الذي يتناوله (فودكا مارتيني)… إلى الخبرة في النبيذ والنساء الجميلات. من رجل عمل سائقاً لشاحنة، إلى رجل ذي ذوق رفيع يقود سيارة “استون مارتن”، قطع شون كونري طريقاً طويلة في أقصر وقت ممكن. وهذا ما لا يستطيع عمله غير الأذكياء، أي أولئك الذين يمتلكون حسّاً مرهفاً، فضلاً، في طبيعة الحال، عن حاسّة اسمها الذوق.
كما يعد شون كونري البطل الأسطوري الذي لا يقهر ويخرج من كل معركة أقوى مما كان قبلها، والذي اشتهر في العالم من شرقه إلى غربه بشخصية العميل السري جيمس بوند، أغمض عينيه مرة أخيرة، وكاد أن ينسى كل شيء أنجزه، لكن جمهوره لن ينسى. وعلى الأرجح ستغذي أفلامه الباقية إلى الأبد ذاكرته السينمائية. وعلى الرغم من الشيخوخة ظلّ كونري محاطاً بشيء من السحر والغموض، بذقنه الأبيض وصلعته المميزة، إذ كان الأكثر بريقاً بين أقرانه، حتى بعد سنوات طويلة قضاها في التمثيل الذي وضعه على عرش النجومية.
وشون كونري بوسامته وشخصيته الكارزمية تمكن من إبهار الجمهور وسلب عقولهم وقلوبهم ، فقد كان في شخصية “العميل 007” ما يوقظ، ولو بقدر، أطياف “البطل الشعبي”، الممتد من حكايات الفروسية والكونت دومونت كريستو، وصولاً إلى سوبرمان؛ وإذا كان في حكايات الفارس المغامر ما يستدعي صورة “البطل المخلّص”، الذي يشعل النار بقلعة الظلام في اللحظة الأخيرة، فقد كان في ملامح سوبرمان، الذي أوكل إلى ذاته هزيمة الشر، ما يقول برسالة إلهية واجبة الانتصار. ساعد على تفعيل الصورة، في شكليها، حرب أيديولوجية بين الشيوعية والرأسمالية أخذت شكل معتقد ديني. خالط البطل الشعبي الحديث، الذي ارتدى حلّة أنيقة، حنين إنجليزي مخذول، ذلك أنّ بريطانيا، ما بعد الحرب العالمية الثانية، لم تعد إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، كما كان يقال، كانت مستعمراتها تتأهّب للاستقلال، تاركة الأسد البريطاني يجتر ذكريات سعيدة ماضية، مثلما ألمح أمبرتو إيكو ذات مرّة. ولعلّ هذا الحنين المخذول هو الذي جعل فليمنغ يرسل ببطله الأثير، أكثر من مرّة، إلى مستعمرات بلاده السابقة، مثل مصر وهونغ كونغ وجامايكا والشرق الأوسط وجبل طارق، وأملى على ذاكرته أن تستعيد “الشرق”، كما رأته، دائماً، غامضاً وغريباً ولا يحسن النطق بلغة رشيدة (12).
إضافة إلى فارس نجيب لا يُحبط عزيمتَه حنين مخذول، عمل “فليمنغ” على صوغ شخصية متفرّدة، لا تلتبس بغيرها، لها من الغموض الفاتن ما يكفيها، ولها من العادات ما يبرهن أنّها ليست شخصية عادية. فلجيمس بوند كحوله المفضّل، الذي لا يقبل به غيره بالضرورة، وله نوع من السجائر يلازمه، وله ولاّعة خاصة وفطور في مكان خاص، قبل أن يقع على خيّاط يؤمن له أناقة ساحرة. وإذا كان في هذه الخصائص ما يفصل البطل عن غيره، فإنّ فيها ما يحوّله إلى “ماركة شهيرة”، طالما أنّه يختلف عن الآخرين ويعطي اختلافه المثير للفضول صفات الثبات والديمومة. فالسيد بوند ماثل في مشيته وأناقته وطريقة كلامه، التي تجمع بين الدقة والدعابة، وماثل أكثر في هوامشه، التي تجعل شرابه المفضّل يغاير ما يشربه الآخرون. ومع أنّ الرجل يكاد ينحصر في شخصية مسيّجة إلى حدود العزلة، فإنّ مجاله المكاني، وهو الإنسان الخيّر الذي يطارد الشر، منفتح على العالم كلّه، براً وبحراً وماءً، يطارد الأشرار في الفنادق الضخمة ويقتفي آثارهم في قاع المحيطات. وواقع الأمر أنّ بوند منتصر، دائماً، مرّتين: منصور هو بالخير الذي ينصره، فلا مكان في هذا العالم إلاّ لخير وحيد، ومنصور هو بكفاءته الذاتية، التي تلغي معنى الصدفة والمفاجأة، لأنّ المفاجأة لا معنى لها لدى عقل يقظ شديد الحسبان، مؤمن برسالة مقدّسة (13).
وفي عام 1962 كانت الفرصة الحقيقية للممثل الاسكتلندي بأن يكون أول من يجسد أشهر عميل سري على الشاشة الفضية هو “جيمس بوند”، في فيلم “Doctor No”.، وأدى النجاح الهائل للفيلم وأجزائه المتتالية “From Russia with Love” و”Goldfinger” إلى جعل أفلام “جيمس بوند” ظاهرة عالمية وكونري كشخصية عالمية (14).
وبخلاف شخصية “جيمس بوند” التي ميّزته بين جمهوره ومحبيه، فإن لشون كونري العديد من الأدوار الخالدة على شاشة السينما، منها تجسيده لدور شرطي من مدينة شيكاغو الأمريكية في فيلم “The Untouchables” إنتاج 1987، والذي كان السبب في فوزه بجائزة أوسكار الوحيدة في حياته، وخلال سنواته الأخيرة انتشرت له صور عدة عبر وسائط التواصل الاجتماعي، ترينا إياه كهلاً ثمانينياً يمشي متكئاً على عصاه، عابراً الشارع مع مرافقه. هذه الصور لوحدها كفيلة بإنعاش ذاكرة أجيال عدة من محبي السينما وعشاقها، الذين ارتبط بهم “كونري” ارتباطاً زمنياً، فهو للبعض منهم بمثابة الأيقونة التي ما استطاع أحد من بعده ارتداء سموكينغ “جيمس بوند” من دون أن يقارن به، أما للبعض الآخر فكان الممثل اللافت الذي جسد أدواراً في أفلام مثل “الرجل الذي أراد أن يكون ملكاً” لـــ”جون هيوستن” (15).
وبين اتجاهين أحدهما فني خالص والثاني جماهيري، شق شون كونري طريقه وصولاً إلى ذروة المجد، وعرف كيف يكون صلة الوصل بين الأجيال والأنواع السينمائية المختلفة. لم تكن له موهبة مارلون براندو ولا إدوار دانيال داي لويس المركبة، لكنه كان ممثلاً ممتازاً خدم كل دور تقمصه إلى أبعد حد. هو ابن مدبرة منزل وعامل بسيط، تحدر من بيئة متواضعة، وترك المدرسة باكراً ليعمل في مهن متفرقة قبل أن ينضم إلى البحرية لثلاث سنوات. كان بارعاً في الرياضة، فاشتغل طويلاً على لياقته البدنية التي أسهمت مع وسامته في دفعه إلى الواجهة، فأصبح رمزاً للرجل الأنيق الذي يتشبه به الرجال وترغبه النساء. لا نكرهه حتى عندما يشهر مسدسه. وقف كغاو كبير في وجه نساء، مثل “جينا لولوبريجيدا”، و”بريجيت باردو”، و”جوان وودوارد “، و”كاثرين زيتا جونز”.. وغيرهم (16).
وتعد أفلام شون كونري “من روسيا مع حبي” (1963)، “الإصبع الذهبية” (1964)، “أنت تعيش مرّتين فقط” (1967) أفضل أفلامه في دور العميل 007، وقد غطّى حضوره الذكوري الآسر على بطلات أفلامه العديدات من مختلف الأجناس والأعراق، فنسيهم الجمهور وتذكره وحده (17).
ولعل أفضل أفلام بوند هي تلك التي ظهرت إبان الحرب الباردة، لأنها كانت على نحو ما “أفلاما واقعية”
، أي تحاول أن تقنعك بأنها تعكس تلك المنافسة الحقيقية التي كانت دائرة في الواقع، بين المخابرات السوفيتية والبريطانية والغربية عموما، وكان سلاح الجنس دون شك، يستخدم في تلك المنافسة، غير أن أفلام بوند لم تنته بنهاية الحرب الباردة، بل استمرت وجدّدت جلدها بممثلين جدد، وبحبكات جديدة، ومخرجين جدد أحدثهم، هو كما أشرت داني بويل، صاحب “مليونير العشوائيات” (19).
ثم أسند دور “جيمس بوند” بعده إلى ممثل يُدعى “جورج ليزنبي”- George Lazenby في فيلم وحيد عنوانه “في الخدمة السريّة لصاحبة الجلالة” (On Her Majesty’s Secret Service) (1969)، وهو الفيلم الوحيد له في سلسلة أفلام “جيمس بوند”، وهذا الفيلم حقق الفيلم نجاحا كبيرا في شباك التذاكر وعلقت عليه آمال كبيرة لخلافة شون كونري.
لكن النجاح لم يحالفه وذلك بعد أن انسحب من توقيع عقد لأداء دور جيمس بوند لـ 6 مرات أخرى لأسباب شخصية ولعدم أتباعه لبعض البروتوكولات والشروط الواجب اتباعها خارج الاستديوهات.مما جعله عرضة النسيان والتهميش في هذا الجزء من سيرته؛ ومن ثم أضحي يمثل مرحلة لم تلق النجاح المرجو منها ، حيث نظر إليه النقاد والجمهور بأنه كانت مرحلته سلبية جداً وذلك بمقارنة أدائه بـ” شون كونري” ، وظل السؤال الذي يراود الجميع : ” لماذا تم إسناد ” جورج لازينبي” شخصية “جيمس بوند” ، وهو عارض أزياء في الأصل وليس ممثلاً (20).
بيد أن شخصية “جيمس” تستعيد ألقها من خلال المثل ” روجر مور”، والذي جسد شخصية ” جيمس بوند ” في 7 أفلام تبدأ من ( 1973-1985) بدمجه بوصفه مستكشف الغابات والسيجار الكوبي ، ويصبح أكثر النجوم تجسيداً لشخصية جيمس بوند من ناحية الكم؛ علاوة على أنه أضفي علي شخصية ” جيمس بوند” لمسة فريدة من نوعها ، وروجرز مور ظل الممثل الوحيد الذي استطاع أن يقترب كثيراً من أداء “شون كونري” بلمسته الكوميدية المميزة، ومتساويا معه في عدد المرات والتي لعب فيها دور” جيمس بوند” .
وروجر مور الذي يعد أحد أهم النجوم الذين لعبوا بطولة سلسلة أفلام جيمس بوند غير كثيراً بوسامته في شكل البطل الذي يلعب أفلام الأكشن بسبب وسامته وصوته المميز الذي دوماً ما تميز به وقامته مما جعله يحظى بقطاع كبير من المعجبات بفترة السبعينات من القرن الماضي تحديداً الذي لعب فيها بطولة جيمس بوند (22).
وقد جسد “روجر مور” شخصية العميل السري “007” لأطول فترة مع أن القيمين على السلسلة اعتبروا في البداية أنه “وسيم جدا” ليؤدي الدور ولم يختاروه للمشاركة في الجزء الأول منها وكان بعنوان “دكتور نو” (1962)؛ واضطر إلى انتظار أن يمل شون كونوري من الدور ليحل مكانه، وحل عليه النجاح فجأة. وقد حمل مور إلى الدور السحر والأناقة فضلا عن الخفة والفكاهة..إضافة إلى حاجبه المرفوع الذي أصبح علامة فارقة.
ولا شك في أن روجر مور طوَّر سمات بوند باتجاه أكثر مرحاً وخفة من كونري وصل إلى حَدّ الإضحاك، بحيث إن دعاباته طالت مارغريت تاتشر نفسها. لَعلّ أفضل أفلامه هي “عش ودع غيرك يموت” (1973) مع جين سيمور، “الجاسوسة التي أحبتني” (1977) مع باربارا باخ، “من أجل عينيك فقط» (1981) مع الفرنسية كارول بوكيت، و”أكتوبوسي” (1983) مع مود آدمز، التي ضربت رقماً قياسياً بأدائها دورين مختلفين في فيلمين من أفلام بوند. بدت علائم تقدُّم العمر على كل من مور وكونري معا (23).
فجيء بالممثل البريطاني الجاد تيموثي دالتون ليلعب دور بوند في فيلمين لتجسيد شخصية ” جيمس بوند وذلك خلال أعوام ( 1987-1989) ، أولهما “نجوم النهار” (1987) مع الممثلة ميريام دابو، وأتبعه بفيلم “رخصة للقتل” في 1989، قبل أن يُزاح عن الدور لصالح بيرس بروسنان، الذي رشحه روجر مور نفسه بعد أن وجده الأشبه بمقاربته المرحة لبوند عبر مسلسله “رمنغتون ستيل”. مثل الأيرلندي بيرس بروسنان شخصية بوند في أربعة أفلام، أقواها فيلمه الأول “العين الذهبية” (1995) مع إيزابيللا سكوربوكو وشون بين، وإن كانت الثلاثة الباقية ممتعة أيضاً. ثم أعفي فجأة بعد فيلم “مت في يوم آخر”، (24) ؛ وانتهي به المطاف بالنسيان ، وذلك راجع إلي كون الطريقة التي قدم بها شخصية العميل السري 007 كانت مبالغا فيها أكثر من اللازم في نظر الجمهور .
وعلي غرار زميله “تيموثي دالتون” وجدنا الممثل ” بيرس بروسنان ” والذي انتظر سنوات لتشخيص دور ” جيمس بوند ” ، إلى أن اتسم الحظ له في تسعينات القرن الماضي ، ليكمل مشوار زملائه في تسجيد شخصية ” جيمس بوند” ، ويفتتح مرحلة جديدة لاقي فيها نجاحا كاسحاً آنذاك بإضافته لشخصية ” جيمس بوند ” ، لمسة من شخصيته الحقيقية ، بروية ” جيمس بوند ” لأول مرة لا يدخن ، ولمسة من الكوميديا ، حتي أذهل الجمهور ، مما حفز المنتجون علي إنتاج 4 أفلام من متفاوتة الجودات ، كان ” بيرس بروسنان ” بطلها.
وقد أثار الممثل الأيرلندي بيرس بروسنان جدلاً كبيراً، حول نوعية أبطال سلسلة جيمس بوند في المستقبل، قائلا: “إن الوقت قد حان ليتقمص دور البطولة في هذه الأفلام شخص أسود أو مثلي الجنس”.؛ ونقلت وكالة الأنباء الفرنسية رد بروسنان، على أسئلة مجلة “ديتايلز”، حول إمكانية أن يكون البطل مثلياً، فأجاب: “بالطبع لم لا؟”، لكن بروسنان قال إنه يشك فى أن تسمح منتجة السلسلة باربرا بروكولي بأن يكون كذلك. وأضاف: “لنبدأ بممثل أسود يتولى دور جيمس بوندمثل إدريس إلبا، الذي يمتلك كل الصفات الجسدية والكاريزما لأداء الدور”، لكن إدريس إلبا من أب سيراليوني وأم غانية، بينما ترسم روايات جيمس بوند الأصلية ملامح أخرى للعميل السري بوند، إذ تفترض فيه أنه من والد إسكتلندي وأم سويسرية، بالإضافة الى أنه أمضى جزءاً كبيراً من طفولته خارج بريطانيا.
وقبل أن يستلم ” دانيال كريغ” الشعلة لمواصلة سلسلة أفلام جيمس بوند ، إلا أن المفاجأة كانت خارج التوقعات ، حيث ضاق صدر شخصية ” جيمس بوند ” ذرعا عندما عرف أن ” دانيال كريغ” هو ” جيمس بوند ” الجديد، فملامحه لا تطابق وصف الشخصية بالرواية الأصلية ولا ما اعتاد عليه الجمهور ، بيد أن ” دانيال كريغ” ورغم الانتقادات أثبت العكس تماماً ، وقدم أداءً جديداً ، ورائعاً لشخصية ” جيمس بوند”، فيلم “كازينو رويال” (2006) من إخراج مارتن كامبل، ويغير جذرياً من معالم الشخصية عن جميع من سبقه، فيجعلها أكثر عنفاً وغير مُنزّهة عن الأخطاء، بحيث صدم الجمهور حين تَمّ خداعه، وحين ألقى بجثة صديق قتيل في حاوية قمامة، وحين لم يأبه لخلطة شراب بوند المفضلة، وحين لم يتردّد لحظة في إطلاق النار على غريمته التي لعبت دورها الحسناء الفرنسية صوفي مارسو (25).
وللأسف يُؤخذ على سلسلة أفلام جيمس بوند بشكلٍ عام أنها – رغم زعم براءتها من الغرض السياسي وتبريرها للإثارة الخالصة – فإنها تضمر نظرة لا تخلو من عنصرية تصوّر أغلب الأشرار والشريرات على أنهم من أغراب من أجناس غير العرق الأنغلوساكسوني النقي، فمنهم الروسي، والألماني، والإسباني، والياباني، والجنوب- أمريكي، والإفريقي، والصيني، والتركي، والمغربي، والمصري، والكوري. بينما بالكاد نجد عبر 42 فيلماً مجرماً أمريكياً أو بريطانياً إلّا في حالات نادرة (26).
علاوة علي أنه ربما تكون شخصية “جيمس بوند” عميل الاستخبارات البريطانية، التي اخترعها الكاتب الصحافي إيان فليمنغ، إحدى أساطير النصف الثاني من القرن العشرين. وقوّة هذه الأسطورة حفظت الشخصية المتوالدة، بعد رحيل السياق الذي فرض ولادتها. فقد بدا بوند، ذات مرّة، بطل محاربة الشيوعية، الذي يواجه الشر منتصراً، ويعود إلى منزله مغتبطاً كامل الأناقة. ومع أنّ الحرب الباردة أغلقت دفاترها، وخيّم “الخير” على العالم كلّه، فإنّ روح بوند السعيدة لا تزال تتنقل من مكان إلى آخر، كما لو كانت “نهاية التاريخ” لا تتخلّى عن صنّاعها. تطرح هذه الشخصية، في مآلها الغريب، سؤالاً واسعاً: هل تصدر الأسطورة عن الشخص الذي تنسب إليه، أم عن عناصر خارجية صنعت منه أسطورة؟ (27).
وسلسلة أفلام “جيمس بوند” هي ابتكر الروائي البريطاني ايان فليمنج شخصية “بوند” أوائل خمسينات القرن الماضي. يجسد فيلم “سبيكتر”، وهو آخر أفلام الشخصية دور عميل يطارد الأِشرار في مختلف أنحاء العالم. يلعب هذه الدور الممثل البريطاني “دانيال كريغ”، مثّل دور بوند عدد من الممثلين منهم جورج لازينبي، وروجر مور، وتيموثي دالتون.
ولد ايان فليمنج فى 28 مايو عام 1908، وهو مؤلف وضابطٌ فى المخابرات البحرية، ثم حاول استكمال دراساته العليا في أكثر من جامعة، إلى أن قرّر أن يعمل صحافياً في وكالة رويتر، وأن يكون مراسلها في موسكو. وبعد أن طرد منها متهماً بالجاسوسية في نهاية 1933، عاد إليها بعد ست سنوات مراسلاً لمجلة “التايمز” هذه المرّة. كان الرجل، في الحالين، صحافياً، وكان في الحالين جاسوساً مثابراً أيضاً، الأمر الذي أعطاه وظيفة مرموقة في جهاز استخبارات البحرية البريطانية، التابع للأميرال جون غودفري، الذي استقى منه فليمنج ملامح اختراعه القادم: جيمس بوند. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 انسحب الرجل من عالم الجاسوسية، واستقر في مسكن جميل في جامايكا، حيث عاش حياة مريحة، تزخر بالكحول والنساء وتدخـــين الســكائر وكتــابة الروايــات، إلى أن مات في حادث صيد عام 1971. وواقع الأمر أنّ بوند، الذي صالح بين المغامرة والمتعة، مرآة لحياة مؤلفه الشخصية، ولعمل ذلك الأميرال الحسوب «غودفري»، الذي رأى في محاربة الشيوعية عملاً مقدّساً (28).
كتب فلمنغ العديد من الروايات والقصص القصيرة، من بطولة جيمس بوند خلال حياته حتى مماته عام 1964. ثم تابع التأليف الأدبي لروايات ومغامرات بوند كلا من كينغسلي أميس، جون بيرسون، جون غاردنر، ريموند بينسن، تشارلي هيغسون، كريستوفر وود وغيرهم؛ إلا أن شهرة جيمس بوند الحقيقية تحققت بشكل أساسي عن طريق السينما، من خلال 24 فيلما من إنتاج “EON Productions”، بالإضافة لإنتاجين سينمائيين مستقلين ومسلسل أميركي، مستمد من روايات فلمنغ؛ ويُذكر أن الجزء 25 والأخير من السلسلة، سيعرض في شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 2020، من بطولة دانيال كريغ وزين مالك (29).
وكان ايان فليمنج مشهورٌ بكتابة سلسلة روايات التجسس التى ابتكر فيها شخصية جيمس بوند، وكانت رواية جيمس بوند مليئة بالمغامرات المثيرة والسيارات السريعة والنساء الجميلات، ولم يستطع القراء الاكتفاء منها ومن حكاياتها الرائعة، وهذا ما جعل جيمس بوند واحدًا من أنجح أبطال الرواية الشعبية فى القرن العشرين، وبعد تجربته المثيرة للغاية فى الحرب، كانت دافعا لكتابة روايات فى مجال التجسس، حيث نشر رواية “Casino Royale” عام 1953 والتى تدور حول عميل سرى بريطانى هو جيمس بوند، والمعروف أيضًا برقم كوده 007 والذى كان قائدًا فى المحمية البحرية الملكية، وقد أثبتت الرواية نجاحها.
وظهر العميل البريطانى 007 على الشاشة الفضية فى عام 1962 عندما لعب الممثل شون كونرى دور الشخصية فى فيلم “دكتور نو”، مما دفع البعض للاشتباه فى أن الجواسيس البريطانيين ربما كانوا يطلقون نكتة على نظرائهم البولنديين، ولطالما أكد الكاتب إيان فليمينج مؤلف السلسلة، وهو نفسه عميل سرى بريطانى سابق، أنه استوحى اسم بطل قصته من عالم الطيور الأمريكى جيمس بوند الذى كان يملك كتابا عن طيور الكاريبي، لكن هناك عميلا بريطانيا يحمل اسم “جيمس بوند” حقا؟، كشفت وثائق سرية أن بولندا كانت أول بلد ظهر العميل السرى الفعلى جيميس بوند على أراضيها، وأظهرت وثائق نشرها مؤخرا المعهد البولندى للذاكرة الوطنية، أن عميل سرى بريطانى يحمل اسم جيمس بوند أرسل إلى ماوراء الستار الحديدى بعد سنتين على طرح أول أفلام العميل 007، وقد وصل جيمس ألبرت بوند فى 18 فبراير 1964 إلى وارسو ليشغل رسميا منصب حافظ أرشيف فى السفارة البريطانية، على ما أظهرت وثائق صادرة عن الجهاز الشيوعى للتجسس المضاد وذلك حسب قول الأستاذ محمد عبد الرحمن في مقاله بعنوان إيان فليمنج… من أين استوحى شخصية جيمس بوند؟
وبحسب “الهيئات الشيوعية”، كما يقول الأستاذ محمد عبد الرحمن لم يكن بوند المولود في 1928 يشبه نظيره المتخيل الذى يحمل الاسم عينه على الشاشة الكبيرة والمعروف خصوصا بنزواته النسائية ونمط حياته الباذخ، وأشار المعهد البولندى إلى أن جيمس بوند الفعلى “كان مهتما بالنساء” لكنه كان “شديد الحذر” ولم يتواصل البتة مع مواطنين بولنديين، وفق ما ورد فى الوثائق المنشورة هذا الأسبوع عبر وسائل التواصل الاجتماعى.
والسؤال الان : هل جيمس بوند بطل حُلُميٌّ، جاءت به ذاكرة صحافي يعاقر الخمر سعيداً في جزيرة جامايكا، أم إنّه بطل واقعي واضح الملامح والهدف؟ إنّه بطل حُلُميّ وواقعي في آن. فهو البطل – الحلم الذي ينشدّ إليه جمهور واسع من مختلف الجنسيات وفي جميع الأمكنة، لا يهبط من طائرة إلاّ ليركب طائرة أخرى، كأنّ العالم بيته، ولا ينتصر على عدو إلاّ ليهزم عدواً جديداً، فلا وقت للضجر والساعات الخاملة، ولا يفارق أنثى جميلة شقراء إلاّ ليكون في صحبة سمراء أكثر جمالاً، ولا يقابل أنثى عدوة له إلاّ وتؤمن بقضيته بعد قليل، كما لو كان ترويض نساء الأعداء إعلاناً مبكّراً عن ترويض الصعوبات اللاحقة. بيد أنّ البهاء كلّه يصدر عن ضمان الانتصار، الذي يحوّل المخاطر جميعاً إلى لعبة لذيذة لا مخاطر فيها. ولهذا يذوق بوند المتع جميعاً ويظل في بيته، طالما أنّ الطمأنينة موزّعة على المغامرة والبيت معاً. ومع أنّ بوند يبدو بطلاً – حلماً تنجذب إليه «الجماهير» كلّها، من مواقع الأرض المختلفة، فإنّه بطل غربي وبطل من الغرب، وبطل للغرب وحده، لا بسبب شراب يستهلكه، بل بسبب الموضوع الذي يخاطر من أجله والوسائل التي يركن إليها وهو في قلب المغامرة. فهو في قلب المعركة لفك شيفرة ذات صلة باكتشاف علمي، أو لتدمير قاعدة عسكرية – علمية تديرها دوائر الشر، أو لمنع الأشرار من امتلاك سلاح جديد لا يجوز لغير الغرب امتلاكه… وهو في حركته الواسعة، الممتدة من كوريا إلى كوبا، يتوسّل الطائرة والسفينة والغوّاصة والصاروخ… وهو في الحالات جميعاً يمثّل الغرب الذي يترجم القوّة إلى معرفة والمعرفة إلى قوّة، مؤكداً أنّ معرفة الغرب فضيلة، وأنّ امتلاك “الآخر” للمعرفة يعارض الفضيلة ويهدّد قوانين الطبيعة. ولهذا يكون بوند تعبيراً نموذجياً عن الغربي النموذجي، المؤمن بإمبراطورية، تسهر على حمايتها الدوائر البريطانية القديمة والمراجع الأمريكية الممثلة بوكالة الاستخبارات المركزية (30).
وهنا يجيبنا فبصل دراج فيقول يتكشّف الغرب في شخصية بوند إرادةً وقوّة ومعرفة وتنظيماً، وتاريخاً كونياً مسيطراً، منذ القرن الثامن عشر حتّى اليوم. بيد أنّ أسطورة بوند لا تأتي من المقولات المتراصفة، فقد امتلك الاتحاد السوفياتي السابق هذه الصفات، أو معظمها ذات مرّة، إنّما تأتي من صورة “العميل السري” الفاتنة، التي صاغتها أجهزة الإعلام وأحسنت صوغها. صورة جذّابة غاوية جميلة، تكاد في جمالها الطاغي أن تمسح الفروق السياسية والأيديولوجية والدينية، حتّى يبدو بوند بطلاً للإنسانية جميعها أو يكاد. فمع أنّ الرئيس الأمريكي الراحل جون كندي أعلن عن إعجابه بروايات إيان فليمنغ، كما نُشر بعضها في مجلة “بلاي بوي” الذائعة الانتشار، فإنّ أسطورة بوند جاءت من السينما، ابتداء من عام 1962، أي منذ خمس وأربعين سنة. بل إنّ هذه الأسطورة لم تكن ممكنة من دون الفن السابع، الذي يبيع الأحلام ويجذب البسطاء الحالمين. حشدت السينما، وهي تصنع بطلاً جماهيرياً كونياً، أكثر الرجال رشاقة وأكثر النساء فتنة، وجعلت من الجنس امتداداً للمغامرة، ومن الشبق جسراً إلى الفضيلة. جاءت أسطورة بوند من قوّة الصورة، وجاءت قوّة الصورة من «ذكاء السوق»، التي حوّلت البطل إلى سلعة جميلة عالمية، وعيّنته بطلاً من أبطال المجتمع الاستهلاكي في الغرب (31).
وسلسلة أفلام جيمس بوند ناجحة تجاريا بشكل فريد ، حيث تحمل أبعاداً سياسية تخدم أمريكا رغم أن جنسية “بوند” الأصلية هى البريطانية، فقد بدأت السلسلة أفلامها بمحاربة الشر “الخفى”، الذى تمثل فى الاتحاد السوفييتى الند القوى للولايات المتحدة أثناء فترة الحرب الباردة، لينتقل “بوند” بعد ذلك فى أجزاء لاحقة لمحاربة كل قوى تظهر فى العالم وتهدد الكيان الأمريكى، ومنها الصين ، ثم كوبا، كما تناول جزء شخصية الشرير الذى يحاربه «بوند» من دولة فى أمريكا الجنوبية، وذلك فى فترة إعلان عداء واشنطن لدولة كوبا وحاكمها كاسترو.. ورغم ثوابت السلسلة، سواء فى شخصية الشرير ، أو الفتاة الحسناء التى تحبه، فإن السلسلة ناجحة فى كل أجزاءها، وهذا ضد طبيعة النجاح التجارى، الذى يحتاج إلى التجديد دائماً، وحتى اختيار الممثل الذى يلعب دور “بوند” كان يخضع لمواصفات خاصة جسمانية وشكلية ونفسية، فقد بدأ السلسلة الممثل شون كونرى، ثم جورج لازنبى، ثم روجور مور، ثم تيموثى دالتون، ثم بيرس بروسنان ثم دانيال كريج (32).
وقد أثارت سلسلة أفلام بوند إعجاب محبي أفلام الجاسوسية و”الأكشن” والمغامرات، حيث يتضمن كل فيلم قصة مثيرة تخطف الأنفاس منذ المشهد الأول، بطل يتمتع بالجاذبية والإثارة، ولا تخلو شخصيته من حس الدعابة حتى عند خوض غمار أشد المعارك مع أعدائه. السحر التكنولوجي المتمثل في أشهر المعدات التي تظهر في الأفلام كالمسدسات والسيارات والقوارب المبتكرة التي من الصعب مقاومتها، وأخيرا حسناوات بوند اللواتي يتم اختيارهن بعناية من بين نجمات العالم الأكثر إثارة حيث ينتزعن إعجاب النقاد والجمهور؛ وقد ساهمت كل هذه العوامل في زيادة شعبية أفلام العميل السري، إذ حققت أرقاما فلكية في شباك التذاكر بمجموع ما يفوق 7 مليارات دولار وفق أرقام “فوربس”، خاصة فيلم “سقوط السماء” (Skyfall) الذي حقق لوحده مليار دولار وحاز على أوسكار «أحسن أغنية» أدتها الفنانة الأمريكية «أديل»، وهو ما يجعله من أكثر الأفلام تحقيقا للإيرادات في “البوكس أوفيس” العالمي في تاريخ السلسلة، حيث أصبحت من المشاريع السينمائية التجارية التي تُذر على استوديوهات وشركات الإنتاج مداخيل ضخمة (33).
ومن إصدار فلم دكتور نو (1962) وحتى إصدار فلم من أجل عينيك فقط (1981)، وُزعت الأفلام فقط من قبل يونايتد آرتيست. عندما امتصت شركة مترو غولدوين ماير شركة يونايتد آرتيست في عام 1981، شُكلت شركة إم جي إم/ يو إيه إنترتينمت ووزعت الأفلام حتى عام 1995. وزعت إم جي إم لوحدها ثلاثة أفلام من عام 1997 إلى عام 2002 بعد توقف عمل يونايتد أرتيستس كاستوديو عام. من عام 2006 ، وإلى عام 2015، تشاركت “إم جي إم وكولومبيا بيكتشرز” في توزيع سلسلة الأفلام، بعد استحواذ 2004 على “إم جي إم” من قبل اتحاد بقيادة “سوني بيكتشرز” الشركة الأم لكولومبيا. في نوفمبر 2010، أشهرت “إم جي إم” إفلاسها. أصبحت كولومبيا بعد خروجها من الإعسار شريكًا في الإنتاج للسلسة مع ايون. انتهت صلاحية حقوق توزيع سوني للسلسلة في أواخر عام 2015 مع إصدار فلم طيف. في عام 2017، عرضت “إم جي إم” و”أيون” عقدًا لفيلم واحد من أجل المشاركة في تمويل وتوزيع الفيلم الخامس والعشرين القادم في جميع أنحاء العالم، وأُعلن في 25 مايو 2018 فوز يونيفرسال بيكشرز به. سيكون الفيلم الخامس والعشرون القادم، وعنوانه الرسمي نو تايم تو داي، هو أول فيلم في السلسلة يُوزع من قبل يونايتد أرتيستس منذ فلم الغد لا يموت؛ وكان هناك ثلاث إنتاجات إضافية تحتوي شخصية جيمس بوند بصورة مستقلة عن سلسلة ايون: العرض التلفزيوني الأمريكي المقتبس عن الرواية، كازينو رويال (1954)، وأنتجته سي بي سي، الفيلم الساخر، كازينو رويال (1967)، من إنتاج تشارلز ك. فيلدمان، وإعادة صنع لفيلم كرة الرعد بعنوان لا تقل أبدًا مرة اخرى (1983)، من إنتاج جاك شوارتزمان، الذي حصل على حقوق الفيلم من مكلوري (34).
وأرجو أن أكون قدمت عرضا وافيا لفكرة الحفر الأركيولوجي والإبستمولوجي لسلسلة أعمال جيمس بوند ، تلك السلسلة التي كشفت لنا، أنها تحمل بريقاً بريقاً حتي اليوم، وذلك لكونها تحمل الدهشة، والإثارة لكل المشاهدين في الشرق والغرب .
الهوامش
(1) شرف الدين شكري : المنهج الأركيولوجي والرؤية الفنية ، دراسة اجتماعية سيوسيولوجية للأديب الجزائري مالك حداد ، الجزائر ، 1997، ص 12-16.
(2) رامي عبد الرازق: جيمس بوند» 22 فيلماً فى 46 عاماً والنجاح مستمر.. الأربعاء 12-11-2008 00:00.
(3) زكرياء بلعباس: جيمس بوند.. بطل وُجد ليبقى ويستمر,, 06 نوفمبر 2020.
(4) جيمس بوند في الأفلام: من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة.
(5) د. رياض عصمت: جيمس بوند أسطورة الشرّ من جديد، مجلة الدوحة: وزارة الإعلام س9, ج99 (2016): 151.
(6) أمير العمري: جيمس بوند: قصة حب قديم يتجدد باستمرار.. مجلة العرب.. الجمعة 2018/06/01
(7) المرجع نفسه.
(8) المرجع نفسه.
(9) زكرياء بلعباس: المرجع نفسه.
(10) خيرالله خيرالله: وفاة جيمس بوند… أحد أسلحة الحرب الباردة.. نشر في: 06 نوفمبر ,2020: 05:44 ص GST
(11) المرجع نفسه.
(12) فيصل درّاج: أسطورة جيمس بوند… بطل الغرب الذي بدا بطلاً للجميع، نقلاً عن ” الحياة” 17/04/07//
(13) المرجع نفسه.
(14) المرجع نفسه.
(15) شيماء عبد المنعم: أعماله لا تنسي .. تعرف على أبرز أدوار الراحل شون كونري .. فيديو .. الأحد، 01 نوفمبر 2020 11:30 ص
(16) ريهام عاطف: وداعا شون كونري.. من النوم في درج الدولاب إلى أسطورة السينما.. 01 نوفمبر 2020 01:18 م.
(17) د. رياض عصمت: المرجع نفسه.
(18) أمير العمري : المرجع نفسه.
(19) المرجع نفسه.
(20) هوفيك حبشيان: شون كونري الخارق أكبر من جيمس بوند.. الثلاثاء 3 نوفمبر 2020 13:05
(21) المرجع نفسه.
(23) د. رياض عصمت: المرجع نفسه.
(24) المرجع نفسه.
(25) المرجع نفسه.
(26) المرجع نفسه.
(27) فيصل درّاج: المرجع نفسه.
(28) المرجع نفسه.
(29) بالم سبرينغز: رحيل شون كونري العميل الأول بين ممثلي جيمس بوند، ترجمة محمد رُضا.. الأحد – 15 شهر ربيع الأول 1442 هـ – 01 نوفمبر 2020 مـ رقم العدد [ 15314].
(30) فيصل درّاج: المرجع نفسه.
(31) المرجع نفسه.
(32) رامي عبد الرازق: جيمس بوند» 22 فيلماً فى 46 عاماً والنجاح مستمر.. الأربعاء 12-11-2008 00:00.
(33) زكرياء بلعباس: المرجع نفسه.
(34) جيمس بوند في الأفلام: من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة.. المرجع نفسه.