في لغة المشتهى تنساب البساطة جداول وتنفتح نفحاً يداعب لثغة الندى فترتشف الجداول أريجها وينتثر الضياء فوحاً من عبير معتق في الشفاه .. هي اللغة الحب .. وهي الحب اللغة ولا شيء أصعب من فك عرى البساطة في لحن جميل حينما يتعاظم الشوق وتزدهر الأمنيات في القلب الرحوم حين يحنو على كل كلمة أو حرف يتشكل بعناية الصدق المحنى بلوعة الفراق فكانت فلسطين اللغة والحب معاً والعشق والذوب والاشتياق، هي عدة صفات لموصوف واحد (دمي _ الحب _ بسملة الفجر _ لون الغناء _ حدائق قلبي) وياء المتكلم التي ترافق الصفات تطبع الذات بلحن المشتهى .. بزركشات ملونة متنوعة على ثوب اللهفة ذاك الثوب الطويل …. ولكن ثمة سؤال يحاصر الفكر والقلب (ماذا تبقى) فالحبيبة أخذت كل ما يملكه شاعرنا القدير حاتم قاسم وهذا الدمع المنسكب ليس سوى دمع الحبيبة لأن عينيه عيناها ذلك الدمع الذي ابدلته بالرصاص.
*(اكفكف دمعي على مقلتيك) فقد تشرد عنها بعد أن احتلت فصار بلا وطن لابساً ثوب العراء :
*(إذا ألبستني دموعي رصاصاً
إذا أسكنتني وراء العراء
أموت اشتياقاً أذوب اشتياقا)
جعلته يتيه شوقاً ويذوب في أرضها عشقاً وحنيناً كذوب الماء في التراب لكنه مازال في مضارع الوقت ينثر هذا العشق فوق جفونها الباكية رصاصاً ليتحول هذا الدمع خيوطاً من أمل وضياء ينير عتمة الظلم :
*(وانثر عشقي فوق الجفون
خيوط الضياء)
وينجذب نحوها كي ينهل من مدادها فيزهر بحر الكلمات ويكبر ويشتد تنوعاً وجمالاً وتجدداً فهذا عشقه المخضل أبداً لا ينتهي لأنه يتنسم هواء فلسطين الشذي فكيف ينتهي !!!! لا لن ينتهي فها هو يسرح جدائل الغيم المتكاثف برمزية عالية، فالغيم هو ما يحجب النور عن هذه الأرض وهي الموانع التي تمنع رؤية النور والخلاص لكنه لم يستسلم فهو دائما يتخطى الصعاب والمصائب وينحو نحو الضوء وعلائم البشارة ترتسم فوق الدروب كيف لا!! وعشق الحبيبة دليل الحائر المستظل بنورها واللوز هو الأمل و الظل الذي يتجذر فوق الدروب عشقاً وعنفواناً (هو اللوز ظلي يمشط غيمي أنى يشاء ويبذر ظلي فوق الدروب)*فقد أكد شاعرنا التصاق الظل باللوز بجملة اسمية مشفوعة ب(هو) وهذا دليل على انتفاء المعوقات ودقة اللفظ في تأكيد المعنى المقصود بلاغة لأن (الظل) انعكاس النور على الأرض و(اللوز) هو الأمل والأمل هو عنوان الانا لدي الشاعر مؤكدة بياء المتكلم (ظلي) ترى هل يخبز الحب أرغفة اشتهاء موزعة؟ أم تجبل الأشواق عجينا من قمح ودماء لقلب جائع ؟ ……هو المخيم الذي يقتات في تشرده الشوق والمحبة … محبة الأرض والوطن والانتماء والمحبة مؤونة المعوز المكلوم بخبر الحبيبة (فلسطين) وحضنها، فهي الهوية والانتماء وهي الدواء الشافي *(يرمم جرحي)
لذلك تتسارع الخطا وتعدو (واعدو إليه) ليزجي ريحه أي ثورته كي تأذن بنهضة الورد والورد هو الربيع والانتصار والسلام فهذا الشموخ يبرق مع كل ثورة لربيع قادم مع كل ثورة للقاء فيقول(واطعم ريحي برق النخيل لينهض وردي …وقت اللقاء.
ونهضة الورد لن تكون عبثية بل ستقتاد خيول النصر التي (تصاهل كل الرياح) فهي ند لكل النكبات والقوى والحب هو لون الشاعر الابهى (هو الحب لوني)* يؤكد ذلك بالخبر مع ياء المتكلم كذلك لينسب الحب إليه وهذا الحب المتمرد على كل القوى يصير طائراً يطوف فوق كل المرايا التي تعكس بصورتها هذا الحب، (فالمرايا : مقاييس وألوان وأشخاص الخ) لاشيء يقف أمام هذا الحب بكل مفرداته التي تعجز عنها الرؤى الواقعية والمجازية وبكل أطيافه و ألوانه المادية والمعنوية، كل هذه المفردات لخصها الشاعر ب(المرايا*) والمرايا لها دلالاتها فهي عنصر أساسي من التراث الصوفي.
حيث يرى فيها العارف الحقائق التي تنزاح عنها الحجب و شاعرنا يعكس هذا الحب المجنح بطائر ثوري يربط الشاعر بالسياج الفاصل، هذا السياج الشائك الذي وضعه العدو كي يفصله عن حبيبته وأرضه وموطنه . ومازال شاعرنا خلف هذا السياج يشق رداء الغربة و المنفى *(يمد خيوطي فوق السياج.
(يشق الرداء) وهذا التركيب(يشق الرداء) معروفا منذ الزمن الجاهلي فقد كانت العرب تشق الرداء للتعبير عن شدة الألم والفقد والتفجع لفراق الأحبة.
وقد وفق شاعرنا في الاستعانة به لرفد بلاغة المعنى في وصف حزنه وتأثره في بعده عن وطنه.
ويصافح الشمس المختبئة خلف نعوش الشهداء التي ترسم الأمل بحرارة القلوب في كل مرة و من خلف جنازة كل شهيد، فيتغذى نورها بمداد ساطع يفحم كيد المعتدي وجبروته..*(يصافح شمسك خلف النعوش).
وقلب الشاعر مستمر في الارتحال نحو فلسطين كي يكمل فورة الشوق بكل حركة مضارعة لأن الحزن والألم مازالا قائمين والشعب يوقد مواقد الثورة بالشهادة المستمرة والنزف القائم كالوقود لتأجيج الحق وإكمال النصر واختيار الشاعر لرمز اللوز الذي يومئ بالأمل والنصر والسلام موفق إلى حسن غايته.
وهذا العطر القوي (الريح) والأهازيج والفرح (الأغنيات) ستأتي كلها مع بريد النهار في كل مطلع شمس توزع الوميض على كل شبر من ثرى فلسطين، وميض الجرح التي تصنع من العشق أيقونة الفرح و من الجرح طيفاً (طيف الجراح) يشخصه شاعرنا بهيكل مادي تشبه الإنسان تقوم بأفعاله: (يطل، يوزع) ويغذي عنصر الحركة المتوهجة في النص:
(يطل علينا بريد النهار يوزع فينا وميض الجراح)*
فالجراح هنا مادة يومية يتداولها الضوء بحركة دؤوبة مستمرة في النص فهي تجليات لعاطفة مشبوبة بالشوق واللهفة مترعة بالحنين والشغف فيكرر جملته:
أموت اشتياقا
أذوب اشتياقا
فهو لا يكتفي فقط بالموت حبا وشوقاً والتماهي مع الحبيبة لكنه يندثر ذائبا في ترابها فتعجنه في أنساغها
وقد كان الفعلان بليغين في توصيل العاطفة وتأكيدها بتكرار كلمة (اشتياقا) فالشاعر تماهى في حب محبوبته، فعندما تفيض الروح وتذوب حنينا ترسم خلف معالمها أبجدية هذا الحب، واستخدام الشاعر للفعل (أذوب) هو دلالة حسية لحالة انفعالية، فالذوبان شوقاً يرسم لنا أبعاد هذه الحالة كما رسمها الشاعر بهاء الدين زهير بقوله
أَذوبُ إِذا سَمِعتُ لَهُ حَديثاً تَكادُ حَلاوَةٌ فيهِ تَذوبُ
وبذلك تتكشف لنا الدلالات الكامنة وراء الاستعمال اللغوي .
(أذوب اشتياقا _ يذوب اشتياقا) ومن هنا نرصد الفاظ الشاعر في حقول دلالية تتمثل بشدة الحب والتفاني(أموت اشتياقا)
وهنا يتلاقى في منهجه التعبيري مع كل شعراء القضية الفلسطينية خصوصاً الشاعر الكبير محمود درويش حين قال في قصيدته المستحيل مؤكداً حبه الذي لا ينتهي لفلسطين واستحالة التخلي عنها:
أموت اشتياقاً
أموت احتراقاً
وشنقاً أموت
وذبحاً أموت
ولكنني لا أقول :
مضى حبنا , وانقضى
حبنا لا يموت
فشمس الحياة الفلسطينية تشرق أبدا … وهذا اليمام الهادل يصنع فسحة لا منتهية …سماوية السمات خارجة عن الجهات ترفض القيود والحدود فقد جعل شاعرنا وميض الجراح يمام سلام يصغي الشاعر إلى هديله فيصبح مداد حبره(وفوق الدفاتر… فيضا يسيل) والسيل هوغزارة الماء وتدفقه ودواء الجراح وضمادها، هو اللوز الذي اتخذه الشاعر غطاء أو لحافاً وهنا التقى الضدان (المواقد والثلج) فالمواقد هي النار المستعرة المستمرة التي توقدها الثورة وتلك الجراح النازفة والشهداء هي وقودها والثلج الذي هو اللوز ضماد وتخدير لتلك الآلام المتعاظمة …إنها صورة بديعة قارب فيها الشاعر بين الأضداد ليتفتق المعنى بأبهى صورة مثلما اعترضتنا الصور الجميلة في كل سطر لتنعش قلوبنا بومضة الجمال المدهشة ..مثل: (بسملة الفجر) فالفجر يوحي بالنور والشروق وبسملة الفجر هي مفتاح القلوب التي تبدأ صلاتها على حدود الوطن، لتبذر ظلها فوق الدروب (يبذر ظلي) الظل هو انعكاس شخصية الشاعر لتصبح بذارا ينثرها الشاعر في أرض فلسطين الحبيبة (انثر عشقي) (انثر ويبذر) كلاهما فعلان يقصد بهما الامتداد والاتساع والبذار هو التجدد لمواسم الخصوبة والعطاء، والشاعر يبذر ظلاله فوق الدروب كيما يحصد الغلال، إن كل الوحدات الصورية المتحركة في ثنايا هذا المشهد المتجددة تجعل من عناصرها ابعاداً رمزية موحية (أمد شراعي ليخضر بحري) و الشراع هو الارتحال والجولان والبحث المضني المحفوف بالخطر والاخضرار هنا هو ازدهار اللغة لدى الشاعر و ازدهار المعاني المستقاة من البحر اللغوي المعنوي الشامل (يمد خيوطي) الشاعر هنا تحول إلى مادة نسيجية تمتد لتمسك بالسياج الفاصل لتغدو عرائس الفجر هي دهشة النصر بالنور المنجلي بعد عتمة الليل .هي الالوان البيضاء المحتفلة بزفاف النصر فهذا الجمال المعنوي التركيبي الفيضي النابع من الوجدان الصادق . عاطفة المحتدم حباً وشوقا يتجلى في كل النص الجدير بالإعجاب المعبر عن شفافية صاحبه وانتمائه الكبير لوطنه…ويبقى شراع الامل يبحث عن ضالته في كل آن ولنا نحن أن نصفق لكل انتصار وندعم بقلوبنا وأفعالنا كل أفعال الحب والثورة ضد المعتدي…فهنيئا للقضية الفلسطينية بمدافعيها وسنان حربتها الفدائيين والشعراء لسان حالها وتحية لشاعرنا الفلسطيني المبدع الثوري حاتم قاسم ويبقى لنصه الفضاء الاجمل.
نص الشاعر حاتم قاسم:
هو اللوز ظلي
هو الحب دمي ..
وبسملة الفجر لون الغناء ..
حدائق قلبي ..
ماذا تبقى
إذا ألبستني دموعي رصاصا
إذا أسكنتني …. وراء العراء
أموت اشتياقا..
أذوب اشتياقا …
أكفكف دمعي على مقلتيك
وأنثر عشقي … فوق الجفون
خيوط الضياء
أمد شراعي … ليخضر بحري
و يسري بقلبي طعم الهواء
هو اللوز ظلي …
يمشط غيمي …أنى يشـــــــاء
و يبذر ظلي فوق الدروب
لخبز المخيم وقت الشـــــــتاء
يرمم جرحي و أعدو إليـــه
وأطعم ريحَي برق النخـــيل
لينهض وردي … وقت اللقاء
خيوًلا تصاهل كل الريــــــاح
ويغسل حزني في شفتيها…
يوزع قلبي ألف صــــــلاة
هو الحب لوني …
يطوف … يحلق فوق المرايا
يمد خيوطي فوق السياج
…. يشق الرداء
يذوب اشتياقا …
يصافح شمسك خلف النعوش
و يسري بقلبي .. صوب الفضاء فغطي بجرحك كل المواقد لألتحف الثلج لوزا …
على صهوة الريح و الأغنيات
يطل علينا بريد النهار
يوزع فينا وميض الجراح
على راحتيها يحطُّ اليمام
فضًاء يفتق طيف الجهات
وأصغي … أبعثر كل الحروف
على الدرب لوزا…
ودما …. وورد
وفوق الدفاتر …فيضا يسيل
فراشا لحقلي بكل الشفاه
عرائس فجر تنير النوافذ
لتمشي بصبحي ….ويدنو إليك
ويرمي على شفتيك الغناء.