الملخّص
تناول البحث قضية غياب الأب، وقد اشتمل النص على آفاق توقع عدة، لكن البحث تناول النص من وجهة نظر التلقي النقدي، وأرادت الشاعرة المرور بمحطات التوقع الداخلي والإشاعات وابنها المشاغب، ورصد البحث شخصيات الحدث (الغائب، الزوجة، الابن، المحيط عقلاء وجمادات) من خلال حوار قريب وبعيد يوضحه التلقي النقدي.
الزوجة تتوقع عودة الزوج من خلال أنسنة الطبيعة ومبشراتها والرغبة بعودة طير قلبها ولكنها حسمت التوقع بالنفي المتكرر (ما..ما عاد) بكل حزن وفجيعة.
وتوقع الإشاعات بعد اليأس في محطة توقعها تعيد توازن نفسها من خلال حوار الشوق وخروجها للناس في استجابة عملية، ثم متابعة وسائل الإعلام لكن لا جدوى فكل ما حولها لا ينبي بالحياة والأمل فباب الحديقة موصد، ولا نور في البيت، والقلب موحش، وفنجان القهوة تحول إلى جرعات همّ والهاتف أصابه الخرس، فهي تقدم نموذجًا من الفقد والانتظار بين اليأس والرجاء.
توقع الابن وسط ظلمة وحزن يظهر الطفل لتدب الحركة والأمل من خلال إخباره بعودة الأب، في محاولة لإعادة التوازن والصمود مرة تلو مرة، لكن المحاولة التي اصطنعتها باءت بالفشل، وتبين أن هذا كان شقاوة ولعب طفولة لتعود إلى نفق مظلم من الحزن واليأس مرتدية ثوب الخيبة والخذلان.
Abstract
The research dealt with the issue of the absence of the father where the literary text addressed numerous prospects. However, the research approached the text from the viewpoint of literary reception theory, and the poet wanted to go through the various stages of the woman’s innermost expectations and the rumors surrounding that and her ill-disciplined son. Furthermore, the research scrutinized the personas and characters who took part in the events (the absentee, the wife, the son, the surrounding – animates and inanimate) through a close and distant dialogue demonstrated by the reception criticism.
The wife expects the husband to return through the personification and humanization of nature and her missionaries and the desire for the return of her “heart”, but she desperately and miserably resolved the expectation with recurrent negations (not… has NOT returned).
And, at this stage, going through the expectation of rumors after her feeling of hopelessness makes her rebalance her life through the dialogue of yearning and longing and as a practical step, she goes out to meet people and socialize. Then, she follows mass media but to no avail because all around her does not reverberate with life and hope as the gate of the garden is bolted and there is no light in the house, and the heart is gloomy, and the cup of coffee turned into doses of agony and the phone has turned mute. She illustrates a model of loss and wait fluctuating between despair and hope.
Amidst that darkness and sadness, the son turns up to give her hope by telling him about the return of the father, in an attempt to restore balance and resilience again and again, but the attempt she fabricated failed, and it became clear that it was so childish and immature and therefore she returns to a dark tunnel of unhappiness and hopelessness dressed in the attire of disappointment and lethargy.
مقدمة:
لكلِّ نصٍّ أدبيٍّ ثلاثُ جهاتٍ للتَّلقِّي هي:
-التَّلقِّي العاديُّ.
-التلقي الإبداعيُّ.
-التلقي النَّقديُّ.
ولكلِّ جهةٍ طريقتُها الَّتي توصلُها إلى ردَّةِ فعلٍ ما تجاهَ النَّصِّ، فإذا اكتنزَ النَّصُّ بآفاقِ توقُّعٍ مختلفةٍ اختلافَ تصارعٍ أو توازٍ لا سيَّما في بناهُ العميقةِ صارَ مؤهَّلًا للتَّرشُّحِ إلى المستوى الفنِّيِّ الأَوَّلِ، هذا حينَ يُنظَرُ إلى أُفُقِ التَّوقُّع من خارجِ النَّصِّ بوصفِهِ «مجموعةً من المعاييرِ الثَّقافيَّةِ والمقاييسِ الَّتي تُشكِّلُ الطَّريقةَ الَّتي يَفهمُ بها القرَّاءُ، ويحكمونَ من خلالها على عملٍ أدبيٍّ ما، في زمنٍ ما، ويمكنُ أن يتشكَّلَ هذا الأفقُ من عواملَ مثل: الأعرافِ السَّائدةِ، وتعريفات الفنِّ (مثل الذَّوق)، أو الشفرات الأخلاقيَّة السَّائدة»([1]). أمَّا إذا احتوى النَّصُّ في أصلِ بنائِهِ الفنِّيِّ على آفاقِ توقُّعٍ داخليَّةٍ صادرةٍ عن شخصيَّاتِهِ الَّتي تترقَّبُ حدثًا ما، ثمَّ تُفاجَأُ بحدثٍ آخرَ يكسرُ توقُّعَها أو العكس، فإنَّ جهةَ التَّلقِّي المعنيَّةَ هي جهةُ التَّلقِّي النَّقديِّ.
إنَّ هذه الحالةَ الفنِّيَّةَ هي الإشكاليَّةُ الَّتي تُعالجُها هذه الدِّراسةُ لقصيدةٍ تنتمي إليها، للشَّاعرة الكويتيَّة جَنَّة القُرَيْني، وهي قصيدةُ (ما عادَ) الَّتي تتحدَّثُ فيها الشَّاعرةُ على لسانِ كلِّ زوجةٍ كويتيَّةٍ وقعَ زوجُها أسيرًا، واختفتْ أخبارُهُ في ملفَّاتِ الاعتقالِ الغاشم، وتتركُ هذه الزَّوجةَ المنتظِرةَ تسردُ قصَّتَها النَّفسيَّةَ الخاصَّةَ بحدثِ الانتظارِ على جمرِ اليأسِ مرَّاتٍ كثيرةً والأملِ مرَّتين، بذاتيَّةٍ تامَّةٍ، حتَّى تكادَ تندمجُ الذَّاتُ الشَّاعرةُ بها كأنَّهما شخصيَّةٌ واحدةٌ، دونَ أن تتدخَّلَ في بناءِ عاطفتِها، أو ردودِ أفعالِها تجاهَ أيِّ مؤثِّرٍ خارجيٍّ على نفسيَّتِها.
أرادت الشَّاعرةُ لتلك القصَّةِ النَّفسيَّةِ أن تمرَّ بثلاثِ مَحطَّاتٍ هي نفسُها آفاقُ التَّوقُّعِ الدَّاخليَّة:
– أفق توقُّعِ الزَّوجةِ نفسِها.
– أفق توقُّعِ الإشاعةِ الصَّادرةِ عن جهاتٍ مجهولةٍ أحيانًا، ومعلومةٍ أحيانًا كوسائلِ الإعلام.
– أفق توقُّعِ الابنِ الصَّاخب.
وتعملُ هذه الدِّراسةُ على رصدِ هذه الآفاقِ من حيثُ موادُّ بنائِها، ومن حيثُ انعكاساتُ ألوانِها على الشَّخصيَّةِ الرَّئيسةِ في القصيدةِ، وهي الزَّوجةُ المنتظِرةُ. معَ الأَخذِ بعينِ الاعتبارِ أنَّ عتبةَ العنوان (ما عادَ) ليس بالضَّرورةِ أن تكونَ من الزَّوجة، كنتيجةٍ مسبقةِ الصَّنع، وإن كانَ هذا الاحتمالُ واردًا معَ احتمالِ أن تكونَ كالعلامةِ الَّتي وضعتْها الشَّاعرةُ بعدَ تصحيحِ ورقةِ اختبارِ الزَّوجةِ في مادَّةِ انتظارِها الَّتي تطرحُ أسئلةً شتَّى من الدَّاخلِ والخارجِ، وتُراهنُ على مَوقفِها العامِّ والخاصِّ:
– هل توصدُ أبوابَ الأملِ، وتركنُ إلى يأسِها دونَ أن تسعَى وراءَ خيوطِ الأخبارِ الَّتي تتسرَّب من هنا وهناك.
– أم هلْ تنفي أشواقَها إلى صحراءِ اللَّاوعي، وتقبلُ بالواقعِ الَّذي يخلو منها ومن مُستحقِّها؟
– أم هل تُصِمُّ سمعَها عن نداءِ ابنِها الَّذي يُؤكِّدُ لها أنَّ والدَهُ قد عاد، ويطلبُ منها أن يأتيَ لتنظرَ من شبَّاكِ صخبِهِ وضحكِهِ؟!
من الواضحِ أنَّ الزَّوجةَ فَتحتْ حوارًا مع المتلقِّي عبرَ صوتينِ ضمنيَّين:
-صوتٍ بعيدٍ مجهولٍ.
-وصوتٍ قريبٍ معلومٍ؛ لغايةٍ لا يكشفُ عنها إلَّا التَّلقِّي النَّقديِّ.
القصيدة [2]
ما عاد
وعادَ الفجرُ
عادَ البحرُ
عادَ الطَّيرُ
إلَّا طيرَ هذا القلبِ
قالوا: عادَ
قُلتُ: عَسَى!
ورحتُ أسائِلُ الأشواقَ
أبحثُ في وجوهِ العائدينَ
وأَرقبُ التِّلفازَ والصُّحفا
وقالوا: عادَ
قلتُ: كفى!
فبابُ حديقتي مُوصَدْ
وبيتي مُطْفَأُ الألوانْ
وقلبي مُوحِشُ الأَركانْ
وحولِي أصدقاءُ الشِّوقِ:
فنجانٌ من الوهمِ
وديوانٌ من الهمِّ
وقُربي هاتفٌ أَخرسْ
أطالعُهُ بِحنقٍ دونَ أن يَنبِسْ
بأيِّ رنينْ..
وطفلي -صاخبًا- يعدو
هنا وهناكْ
يشُدُّ يدي وَيصحبُني إلى الشُّبَّاكْ
يقولُ ليَ: انْظري.. قدْ عادْ!
فأَنظُرُ، إذْ بهِ يَجْري..
ويُطلِقُ ضِحْكَةَ النَّصْرِ:
ضحِكْتُ عليكِ يا أُمِّي!
أعودُ تَلفُّني الخَيبةْ
تُردِّدُ حوليَ الأَصداءُ:
عادَ الفجرُ
عادَ البحرُ
عادَ الطَّيرُ
إلَّا طيرَ هذا القلبِ ما..
ما عادْ.
1- الأفقُ الأوَّل: توقُّع الزَّوجة بينَ المَطلعِ والقَفْلَة.
بدأَ المطلعُ بالفعلِ (عادَ) مُكرَّرًا ثلاثَ مرَّاتٍ صراحةً قبلَ كلِّ عائدٍ على وجهِ الإثباتِ، ومرَّةً بصورةٍ ضمنيَّةٍ على وجهِ النَّفي المفهومِ من الاستثناءِ:
وعادَ الفجرُ
عادَ البحرُ
عادَ الطَّيرُ
إلَّا طيرَ هذا القلبِ!
إنَّ الرَّقابةَ الخارجيَّةَ والرُّؤيةَ البصريَّة هي الَّتي تقفُ وراءَ استنكارِ عدمِ عودةِ طيرِ القلبِ (الزَّوج)، فليسَ هناكَ أَيُّ استعانةٍ من الزَّوجةِ المنتَظِرةِ بالرُّؤيةِ القلبيَّةِ وسطَ مهرجانِ عودةِ كلِّ شيءٍ إلى حالِهِ السَّابقةِ المَرْضيَّةِ:
– فالفجرُ: اختصارٌ للزَّمانِ، الزَّمانِ الَّذي يبدأُ بالفجر، وهو الزَّمانُ الماضي بصفاتِهِ وأجوائِهِ، أي الزَّمن الجميل الَّذي كانَ قبلَ مجيءِ الغازي.
– والبحرُ: اختصارٌ للمكانِ؛ لأنَّهُ علامةٌ مسجَّلةٌ للكويتِ والخليج، وعودتُهُ تعني حصولَهُ على حرِّيَّتِهِ الَّتي كانَ عليها قبلَ اعتقالِها من قبلِ الغازي.
– والطَّيرُ: اختصارٌ للكائناتِ الحرَّةِ الَّتي تقطنُ الوطنَ، سواء كانتْ بشريَّةً أم غيرَ بشريَّةٍ؛ لذلك صلحَ أنْ يكونَ هنا الجمعَ المستثنَى منه طيرُ قلبِها المفردُ.
وتكرارُ الفعلِ (عادَ) قبلَ كلِّ عائدٍ -على الرَّغمِ من إمكانيَّةِ الاكتفاءِ بواحدٍ، وعطفِ الفواعلِ على بعضِها- يحملُ بُعدًا نفسيًّا، هو إشباعُ الرَّغبةِ المكبوتةِ بتحقُّقِ الفعلِ، ولا أدلَّ على تحقُّقِهِ من كونِهِ ماضيًا، ومن حدوثِهِ ثلاثَ مرَّات.
إنَّ المُتلقِّي إذا نظرَ إلى ثلاثِ العَوداتِ (عودةِ الفجرِ، وعودةِ البحرِ، وعودة الطَّيرِ) على أنَّها مُقدِّماتٌ إشاريَّةٌ ومبشِّراتٌ أكيدةٌ فسيصدمُهُ الاستثناءُ (إلَّا طيرَ هذا القلبِ)، وسيفتحُ أمامَهُ نوافذَ أسئلةٍ: لماذا طيرُ هذا القلبِ بالذَّاتِ لم يعدْ؟ ما الَّذي جَرَى له حتَّى لا يعودَ؟ ما الَّذي مَنَعَ عودتَهُ، وقد عادَ كلُّ شيءٍ إلى ما كانَ عليه؟ وهذه هي الأسئلةُ نفسُها الَّتي رُسِمتْ في أُفُق توقُّعِ الزَّوجةِ كذلك، إذْ ربَّما تُقدِّمُ هذه العَوداتِ الَّتي تعني الشُّمولَ والكُلِّيَّة؛ لتستنكرَ عدمَ عودةِ طيرِ قلبِها. لكنَّ هذا لا يمنعُ أن يكونَ اختيارُها للطَّيرِ مستثنى منه طيرُ قلبِها داخلًا في دائرةِ الطَّيرةِ والتَّشاؤم، وتأكيدِ الإحساسِ بعدمِ عودةِ الغائبِ المنتَظَر؛ لأنَّ هذه الصُّورةَ تُحيلُ إلى اللَّاشعورِ الجمعيِّ -حسب (يونغ)- الَّذي يحتفظُ بمعتقداتٍ متوارثةٍ، واختيارُ الطَّيرِ يرجعُ إلى الهاجسِ والقلقِ الوجوديِّ المرتبطِ بهذا الجزءِ من الإيديولوجيا؛ لأنَّهُ يعني استدعاءَ فكرةِ التَّطيُّرِ والتَّشاؤُم من خزَّانِ اللَّاوعي الجمعيِّ، هذا من جانبٍ، ومن جانبٍ آخرَ يحملُ الاستثناءُ (إلَّا طير هذا القلبِ) تكثيفًا لمنسوبِ التَّطيُّر والتَّشاؤُمِ في نفس الزَّوجةِ المنتَظرِة والمترقِّبة على جمرِ اليأس. يضافُ إلى ذلك أنَّ وصفَ الغائبِ المنتَظَر بـ (طير القلب)، حتَّى لو لم يكن غائبًا يحملُ معنى المفارَقَةِ والتَّشاؤم؛ لأنَّ الطَّيرَ دائمُ التَّرحالِ والسَّفرِ والغدوِّ والرَّواحِ، ولأنَّه يضعُ صاحبَه أمامَ خِيارين، ما يجعلُ نسبةَ بقائِهِ متساويةً مع نسبةِ رحيلِهِ. وعليه فإنَّ (عودةَ الطَّير) الَّتي تُعَدُّ نافذةً من العامِّ إلى الخاصِّ لا تعني أنَّه عادَ يقينًا، وأنَّه لن يرحَلَ مرَّة أُخرى.
إنَّ القلقَ والتَّشاؤُمَ اللَّذين تمكَّنا من الزَّوجةِ الَّتي شهدتْ عودةَ كلِّ شيءٍ إلى حالِهِ الجماليَّةِ السَّابقة، يقفانِ -من وجهةِ نظرٍ نفسيَّةٍ- وراءَ تكرارِ الفعلِ (عادَ) في المطلعِ، كأنَّها تصنعُ من هذا التَّكرارِ حيلةً دفاعيَّة تَقِيْها من الآثارِ المَرَضيَّة لتوقُّعِها.
ثمَّ فُتِحتْ أمامَ الزَّوجةِ نافذتانِ للأملِ، وأفقانِ لتوقُّعٍ مضادٍّ لتوقُّعِها، (أفق إشاعةِ عودتِهِ، وأفق طفلِها الَّذي ناداها لتنظرَ عودتَهُ من الشُّبَّاكِ)، فجَرَتْ تِجاهَهُما وفي كلِّ مرَّةٍ كانتْ تعودُ بخفَّي خيبةٍ، الأمر الَّذي تسبَّبَ بعودةِ الأُفقِ المظلِم الَّذي كانَ في المطلع، في قفلةِ النَّص، لكنَّهُ مزيدٌ بتأكيدٍ قاطعٍ لعدمِ العودةِ:
تُردِّدُ حوليَ الأَصداءُ:
عادَ الفجرُ
عادَ البحرُ
عادَ الطَّيرُ
إلَّا طيرَ هذا القلبِ ما..
ما عادْ.
إنَّ الزَّوجةَ لم تُمْهِلْ نفسَها لتلقِّي أُفُقٍ ثالثٍ، وحسمتِ المسألةَ بتكرارِ نفيِها للعودةِ (ما.. ما عادْ)، وبنهايةٍ ساكنةٍ هي بمثابةِ إعلانِ استسلامٍ وانتهاءٍ تَامَّينِ، وإغلاقٍ لبابِ التَّوقُّعاتِ من أيِّ جهةٍ كانتْ.
لقد حوَّلتِ الزَّوجةُ المطلعَ في القفلةِ إلى لازمةٍ دراميَّةٍ، كما حوَّلتْها من أصواتٍ إلى أصداءِ أغنيَّةٍ حزينةٍ تتردَّدُ حولَها، كأنَّها تستخرجُ بإيقاعِها الوافر مكبوتَ الدَّمعِ والحسرةِ، وتُفرِّغُ جَعبةَ الانتظارِ الموجِعِ؛ لتخفِّفَ عن نفسِها آلامَهُ.
2- الأفق الثَّاني: توقُّع الإشاعة.
جرتِ العادةُ أنَّ الإشاعةَ الَّتي يُطلقُها النَّاسُ غالبًا ما تكونُ خلافَ المأمولِ لدى المُشاعِ عنه، وغالبًا ما تكونُ سلبيَّةً وهدَّامةً وذاتَ أغراضٍ غيرِ نبيلةٍ، لكنَّ الزَّوجةَ بعدَ الأُفقِ الأوَّلِ المظلِم في نظرِها ونظرِ المُتلقِّي الحالي، تلقَّتِ الإشاعةَ كثوبِ البشيرِ:
قالوا: عادَ
قُلتُ: عَسَى!
ورحتُ أسائِلُ الأشواقَ
أبحثُ في وجوهِ العائدينَ
وأَرقبُ التِّلفازَ والصُّحفا
لقد قدَّمَ أصحابُ الإشاعةِ توقُّعَهم على جهةِ اليقينِ لا الظَّنِّ، فجاؤوا بالفعلِ نفسِهِ (عادَ) الَّذي شهدتْهُ الزَّوجةُ واقعًا حتميًّا على غيرِ غائبِها المنتَظَر، الفعل الَّذي شهدتْهُ عيانًا معَ الفجرِ والبحرِ والطَّيرِ، فأحدثَ هذا التَّقديمُ خلخلةً في اليقينِ الَّذي ثبَّتَتْهُ الرُّؤيةُ البصريَّةُ في التَّوقُّعِ السَّابقِ، وثَقَبَ ثُقبًا في خزَّانِ التَّشاؤُمِ والتَّطيُّر السَّابق، نتجَ عنه ردَّةُ فعلٍ مبدئيَّةٍ تُعَدُّ بدايةً للتَّوازنِ النَّفسيِّ، واستعادةِ القدرةِ للبقاءِ على قيدِ الأملِ، ردَّةُ فعلٍ ثنائيَّةٌ:
– بالقولِ: حين أجابتْ عن الإشاعةِ بـ (عسى) الرَّجائيَّة الطَّامعة المُشفِقة، وإن فاحتْ منها رائحةٌ خفيفةٌ للشَّكِّ.
– وبالفعل: الفعلِ الَّذي يُعدُّ عملًا بمقتضياتِ الرَّجاءِ القوليِّ، وتقديمًا لبراهينِهِ، عبرَ ثلاثِ قنواتٍ متنوِّعةٍ: (أسائلُ، أبحثُ، أرقبُ)، ومفتوحةٍ على احتمالاتٍ متنوِّعةٍ أيضًا جرَّاءَ تفعيلِها الاستمراريِّ والتَّكراريِّ الَّذي يحقِّقُ لها الرِّضا عن النَّفسِ أولًا، ويدفعُ عنها لومَ أصحابِ الإشاعةِ ثانيًا.
– أَمَّا القناةُ الأُولى فقد بدأتْها من داخلِ النَّفس، حيثُ عقدتْ حوارًا بينَها وبينَ الأشواقِ الَّتي تعتملُ داخلَها تجاهَ الغائبِ، لثقتِها بصدقِها أكثرَ من أيِّ إشاعةٍ خارجيَّةٍ، والمساءلةُ فيها تفاعلٌ ومشاركةٌ، فالأشواقُ صارت كائنًا حيًّا، يُدرِكُ، ويسمعُ، ويتكلَّمُ، ويستطيعُ الحلولَ مكانَ أيِّ عاقلٍ يملكُ الإجابةَ عن تساؤُلٍ من هذا النَّوعِ الخاصِّ، كما يملكُ كذلك أسئلةً يطرحُها عليها، فإذا سألتها: ما حالُهُ؟ ماذا يأكلُ؟ ما وضعُهُ؟ أهو معذَّبٌ؟ أم ماذا؟ ردَّت الأشواقُ بأسئلة تمثل بعض الإجابة، مثل: ما مكانتُهُ عندَك؟ كم تحبِّينَه؟ ألهذه الدَّرجة تُحبِّينه؟
-وأمَّا القناةُ الثَّانيةُ فقد خرجتْ بها إلى الشَّوارعِ والمداخِلِ، فيما يُعدُّ استجابةً حركيَّةً خارجيَّةً أو امتدادًا خارجيًّا للقناةِ الأُولى، الَّتي تبثُّ نداءَ الأشواقِ، فضيَّقتْ دائرةَ البحثِ والمراقبةِ الَّتي كانتْ للفجرِ والبحرِ والطَّير، لتحصرَها في وجوهِ العائدين الَّذين ينتمي الغائبُ المنتَظَرُ إلى معجمهم، تدفعها الأشواقُ.
-وأمَّا القناةُ الثَّالثةُ فهي استقصاءٌ دقيقٌ، ومتابعةٌ حثيثةٌ لوسائلِ الإعلامِ المرئيَّة والمسموعةِ والمقروءةِ، كأنَّها تريدُ أن تحيطَ بكلِّ الوسائلِ؛ لتبقى على قيدِ الرَّجاء، فلا تلامَ بعد ذلك.
ثمَّ لم تذكرْ نتيجةَ هذه الأفعالِ الثَّلاثة (المساءلة، والبحث، والمراقبة)؛ لأنَّها لم تصلْ إلى نتيجةٍ على ما يبدو، أو لأنَّها فعلتْ ذلك من قبيلِ المُسايرةِ الَّتي تَعني «تغييرَ السُّلوكِ أو الاتِّجاهِ أو الاعتقادِ نتيجةً للضَّغطِ الاجتماعيِّ» ([3])، ولأجلِ ذلكَ لم تُسايرْ مرَّةً أُخرى عندما استمرَّتِ الإشاعةُ بالبثِّ والتَّكرار، حتَّى بعدَ هذه المحاولاتِ والاستجاباتِ الَّتي قامتْ بها مَشيًا وراءَ رجائِها بتحقُّقِ الإشاعةِ أوَّلَ مرَّةً، ومسايرةً لها:
وقالوا: عادَ
قُلْتُ: كَفَى!
فبابُ حديقتي مُوصَدْ
وبيتي مُطْفَأُ الألوانْ
وقلبي مُوحِشُ الأَركانْ
وحولِي أصدقاءُ الشِّوقِ:
فنجانٌ من الوهمِ
وديوانٌ من الهمِّ
وقُربي هاتفٌ أَخرسْ
أطالعُهُ بِحنقٍ دونَ أن يَنبِسْ
بأيِّ رنينْ..
هنا يبرزُ الصِّراعُ بينَ أُفق توقُّعِ الإشاعةِ وأفقِ توقُّعِ الذَّاتِ الشَّاعرة، يدلُّ على ذلك الجوابُ عن (عادَ) بـ (كَفَى)، وهذا إعلانُ يأسٍ، وبترٌ للرَّجاءِ، ووضعُ حدٍّ لتوقُّعِ الإشاعةِ، ذلك أنَّ (كَفَى) تعني (لن أقولَ: عسى؛ لأنِّي لم أقصرْ في تتبُّعِ أيِّ بصيصِ أملٍ حينَ لاحَ)؛ لذا بدأتْ تُقدِّمُ مقتضياتِ (كَفَى)، عبرَ جملٍ اسميَّةٍ تشي بالثَّباتِ والجمودِ، وتَعَذُّرِ الحركةِ الدَّالَّةِ على الحياةِ:
1- بابُ حديقتي موصَدْ، في إشارةٍ إلى أنَّه لم يكنْ يُغلَقُ بوجودِ الزَّوج، وأنَّ الزَّوجَ كانَ يملأُ البيتَ حركةً وحيويَّةً وحياةً وأمنًا لدرجةِ أنَّ بابَ الحديقةِ يبقى مفتوحًا، وهذا يعني أنَّ إيصادَهُ المجهولَ هذا ينفي كلَّ ما كان يحقِّقُهُ حضورُهُ ووجودُهُ، سواء على الصَّعيدِ الحسِّيِّ الملموسِ أمْ على الصَّعيدِ النَّفسيِّ المحسوسِ.
2- بيتي مُطفَأُ الألوانْ، إنَّ انطفاءَ الألوانِ في ثقافةِ المجتمعِ -لا سيَّما أصحابُ المهنةِ- يقفُ عندَ حدودِ عدمِ وجودِ لمعانٍ في أصلِ الصِّبْغ، وهو نوعٌ مطلوبٌ حسب الذَّوق، لكنَّه في نظرِ الزَّوجةِ يتجاوزُ حدودَ العتمةِ المادِّيَّةِ إلى الإحساسِ الدَّاخليِّ بالعتمةِ، ذلك أنَّ الانطفاءَ المادِّيَّ يمكن تدارُكُهُ بسهولةٍ عن طريقِ تغييرِهِ، لكنْ كيفَ يَجري تدارُكُهُ في النَّفسِ؟!
3- قلبي مُوحِشُ الأركانْ، هذه الوحشةُ تُمثِّلُ توقُّعاتِ القلبِ الدَّليل، بعدَ الاستعانةِ بدليلينِ خارجيَّيْنِ: (باب الحديقة الموصَد، والبيت المطفَأ الألوان)، وعلى الرَّغم من ذلك لم تُخضعْها لفاعلٍ خارجيٍّ مجهولٍ كما في إيصادِ بابِ الحديقةِ، وإطفاءِ ألوانِ البيتِ، ما يعني أنَّ جزءًا كبيرًا من هذه الوَحشةِ من صُنعِ نفسِها المستسلمةِ للفقدِ وآثارِهِ.
وقد انتهتْ هذه المقتضياتُ الثَّلاثةُ بالسُّكونِ؛ إمعانًا بتوقُّفِ كلِّ الإشاراتِ الَّتي يمكنُ أن يشي بوجودِ حركةٍ لقادِمٍ منتَظَرٍ.
4- حولي أصدقاء الشَّوقِ:
– فنجانٌ من الوهمِ، لا من القهوةِ كما هو متداول في السياقات الرومانسية التي تجسد غياب الحبيب، فهو فنجان واحد لا اثنان، وهو مملوء بسائلٍ غرائبيٍّ لا يُعرَفُ طعمُهُ أو لونُهُ أو تأثيرُهُ.
– ديوانٌ من الهمِّ، لا من الشِّعرِ؛ لأنَّ قراءةَ الشِّعرِ في حالةِ الانتظارِ هذه تبرزُ من جانبٍ معيَّنٍ وجهًا آخرَ للزَّوجةِ لا تريدُهُ أن يتجلَّى، أمَّا حينَ حوَّلتِ الشِّعرَ إلى همٍّ لا يُدرَكُ بالحواسِّ، ولا يقرأُ كالشِّعرِ، وإنَّما يُحسُّ كالمشاعر، فقد رضيتْ عن ألوانِ رسمِها للوحةِ نفسِها الَّتي تُحبُّ.
إنَّ أصدقاءَ الشَّوقِ مسكِّناتٌ خاصَّةٌ من حيثُ هُيولاها من جهةٍ، ومادَّةٌ لرفعِ مستوى التَّشاؤُمِ والسَّوداويَّةِ واليأسِ والكآبةِ في النَّفسِ من جهةٍ ثانيةٍ، أمَّا انتهاؤُها بالكسرةِ لا بالسُّكونِ فلأنَّ أثرَها فعَّالٌ، فعَّالٌ جدًّا، حدَّ أن ينتهيَ كلُّ شوقٍ وكلُّ رشفةٍ وكلُّ قراءةٍ بحركةِ انكسارٍ كاملةٍ مصحوبةٍ بأصواتِها المعبِّرة.
إنَّ الحالةَ السَّوداويَّة الَّتي تُحيطُ بالزَّوجةِ من خارجِها وداخلِها تقفُ وراء الوقوفِ عند صديقينِ من أصدقاء الشَّوق: الفنجان والدِّيوان، على الرَّغم من أنَّها أوحتْ بقولها: (وحولي أصدقاء الشَّوق) أنَّها ستحدِّثنا عن مجموعةٍ منهم، لا عن اثنينِ فقطْ.
5- قربي هاتفٌ أخرسْ، لم يدخلْ ضمنَ قائمةِ أصدقاءِ الشَّوقِ؛ لأنَّه لم يتحقَّقْ معَه الاشتراكُ العاطفيُّ في التَّجربةِ الخاصَّةِ للزَّوجة مع زوجها، بينَما قد يكون لدى غيرِها من أصدقاءِ الشَّوقِ إنْ جرتِ العادةُ بينَ المشوقَيْنِ أن يتهاتَفا كثيرًا، وأن يحملَ الهاتفُ رسائلَهما الحارَّةَ إلى بعضهما، لذلك وصفته بالخَرَسِ، والخَرَسُ عيبٌ خلقيٌّ، وعلى الرَّغم من ذلك تُحمِّلُهُ تبعةَ عدمِ إبلاغِها بعودةِ غائبها، وتُلقي عليه مسؤوليَّةَ ذلك، بدليلِ أنَّها تُطالُعُه بغضبٍ، وهذا سلوكٌ مَرضيٌّ يُعرفُ بالإسقاطِ، وهو عند النَّفسانيينَ آليَّةٌ دفاعيَّةٌ تَعني «النِّسبةَ أو العزوَ اللَّاشعوريَّ للاتِّجاهاتِ والدَّوافعِ أو السُّلوكِ إلى شخصٍ ما أو عنصرٍ ما في البيئةِ»([4]). وهي تعلمُ أنَّه لن يفهمَ نظرتَها الحانقة، ولن يستجيبَ لهذه النَّظرة.
وإذا جرى تمثيلُ هذه الأنساقِ في مشهدٍ تصويريٍّ مُنسَجِمٍ مع موسيقاهُ فسوفَ يخرجُ بطقوسٍ غرائبيَّةٍ مثيرةٍ للتَّرقُّبِ والمتابعةِ، لا لمعرفةِ إمكانيَّةِ خَرقِها بقدومِ الزَّوجِ مصدرِ الأمانِ وماحي الغرابةِ والغربةِ، بل لمعرفةِ مصيرِ الزَّوجةِ الَّتي تعيشُ هذه الطُّقوسَ من حولِها وترصُدُها بعينِها، وبعدساتِ نفسِها، فبابُ الحديقةِ من الخارج موصَدٌ دون الكشف عن هويَّة الموصِد، والبيتُ من الدَّاخلِ مُطفَأُ الألوان (أي الأنوار المادية والمعنوية)، دون الكشفِ عن هُويَّة المُطفِئ، ما جعلَ قلبَ الزَّوجةِ موحِشًا وحشةً تسحَبُ الطُّقوسَ الغرائبيَّة هذه من الخارجِ إلى الدَّاخل.
ويمكنُ أن يكونَ هذا المشهدُ كلُّهُ في الدَّاخلِ فقطْ، الدَّاخلِ السَّوداويِّ الَّذي بلغَ حدًّا يجعلُ النَّفسَ ترى كلَّ شيءٍ بعينِ الكآبة، وتعملُ على إحزانِ الطَّبيعة وتجميدِ الأشياءِ من حولِها، وتدفعُها الحزنِ والقهرِ اللَّذين جعلاها حانقةً مختنقةً لا تقدر إلَّا على قول: (كَفَى) كما يفعلُ المخنوقُ بدموعه، فلم تعدْ ترى الحديقةَ غنَّاء كعهدِها، ولا بابَها مُشرعًا، ولا ألوانَ البيتِ لامعةً زاهيةً، ولم تعدْ ترى فنجانَ القهوةِ قادرًا على ضبطِ مِزاجها، ولا ديوانَ الشِّعرِ ممتعًا، وهي بذلك السُّلوكِ تُقدِّمُ نموذجًا للزَّوجة الَّتي تعاني من أعراضِ عقدةِ الفقدِ والانتظارِ وسطَ تضارُبِ الأخبارِ بينَ الرَّجاءِ بالعودةِ، واليأسِ منها، وتعكسُ البيئةَ الاجتماعيَّة، وما اصطبغتْ به من ألمٍ وحزنٍ ومرارةٍ على الأسرى والمفقودين.
3- الأفق الثَّالث: توقُّع الابن.
وسط هذا الأفقِ المُظلم للمرَّةِ الثَّانية يظهرُ طفلُها في مشهدٍ يضجُّ بالحركةِ والنَّشاطِ، وينجحُ في تغييرِ أُفقِ توقُّعِها، ويقلبُهُ، ويوسِّعُ الثُّقبَ الَّذي أحدثَهُ توقُّعُ الإشاعةِ من قبلُ، حينَ يأتي بصيغةٍ أكثرَ تأكيدًا من صيغةِ توقُّع الإشاعة: (قد عادَ)، وهو بهذا ينقلُ الخبرَ من الابتدائيَّةِ إلى الطَّلبيَّةِ الَّتي تقتضي هزَّةً أقوى وتنبيهًا أعنفَ:
وطفلي – صاخبًا- يعدو
هنا وهناكْ
يشُدُّ يدي وَيصحبُني إلى الشُّبَّاكْ
يقولُ ليَ: انْظري.. قدْ عادْ!
فأَنظُرُ، إذْ بهِ يَجْري..
ويُطلِقُ ضِحْكَةَ النَّصْرِ:
ضحِكْتُ عليكِ يا أُمِّي!
أعودُ تَلفُّني الخَيبةْ
ثمَّ يظهرُ أنَّ هذا الأفقَ الَّذي فتحَهُ طفلُها كانَ مَزْحًا مُعدًّا، بدأَ بتمثيلِ الصَّخب والعدْوِ المبعثَرِ الَّذي يُمثِّلُ الحالةَ الحركيَّةَ لفرحٍ طارئٍ بشيءٍ غيرِ متوقَّعٍ، ثمَّ بشدِّ يدِ الأُمِّ واصطحابِها إلى الشُّبَّاكِ، ودعوتِها إلى النَّظر من خلاله، ثمَّ بإخبارِهِ المؤكَّدِ بعودةِ أبيه، بصيغةٍ ليس فيها اسمُهُ ولا صفتُهُ، حتَّى إذا نظرتْ أنهَى مزحَهُ بالجري وإطلاقِ ضحكةِ النَّصر على حالِ أمِّهِ لا عليها، كأنَّه كان يريدُ أن يخرجَها بهذا المُزاحِ من تلك الحالة؛ لأنَّه يرى تأثيرها السَّلبيَّ عليها وعليه بصورة يوميَّةٍ، وقد يكونُ هذا الأفقُ مختَرَعًا من قبلها، محاولةً منها لإعادةِ التَّوازن، مقابلَ الشُّعورِ الأوَّلِ والثَّالث، شعورِ التَّشاؤم والحزن، بالاستعانةِ بطفلِها كونُهُ المشتَرَكَ الحيَّ الوحيدَ بينَها وبينَ الغائب، وكون الطَّفولة مرحلةَ البدايةِ لحياةٍ مأمولةٍ أن تكونَ حافلةً بالإنجازاتِ والنَّجاحاتِ الَّتي تبثُّ السَّعادةَ والحضورَ، لا البؤسَ والغيابَ.
إنَّ هذه المحاولةَ (فتح أفق توقع من خلال الابن) تعكسُ الحاجةَ إلى الصُّمودِ والتَّغلُّبِ على الضَّعف الَّذي سيطرَ عليها بعدَ الإخفاقِ، لكنْ يبدو أنَّها محاولةٌ يائسةٌ كذلك، كانتْ نتيجتُها عودةً إلى الحالةِ السَّوداويَّةِ معَ مزيدٍ من الخيبةِ، لتدخلَ فيما يسمَّى في علم النَّفسِ الانطفاءَ الكامنَ، الَّذي يعني: «توقُّفَ الكائنِ الحيِّ عن إصدارِ استجاباتٍ نحوَ موقفٍ كانَ في الماضي موضوعَ إثابةٍ»([5])، يدلُّ على ذلك أنَّها لم تذكرْ أيَّ استجابةٍ على مُزاحِ ابنِها، لا سيَّما تجاهَه، كعادةِ الأُمَّهاتِ في مثل هذه المواقفِ، واكتفتْ بالعودةِ إلى ما كانتْ تعملُهُ أو إلى حالِها الأُولى مُتلحِّفَةً بثوبِ الخيبةِ.
– الخاتمة:
في النِّهايةِ جاءت النَّتيجةُ (ما عادَ) مطابقةً لعتبة العنوان (ما عادَ)، وهذا يعني أنَّ المسافةَ بينَ النَّصِّ والأفقِ النَّقديِّ صفرٌ، والانحرافَ عن معيارِ التَّوقُّع كذلك عادَ إلى درجةِ الصِّفرِ، وبهذا لم يَجْرِ اختراقُ التَّوقُّعِ النَّقديِّ، ولا انتهاكُهُ، لنقلِ النَّصِّ إلى مستوى التَّلقِّي الأوَّل، وعلى الرَّغم من ذلك فإنَّ قراءةَ آفاقِ توقُّعِ العودةِ المستحيلةِ الَّتي رسمتها شخصيَّات النَّصِّ لا مُتلقِّيه خرجت بالنَّتائج المُرْضية الآتية -وفقَ قراءةِ التَّلقِّي النَّقديِّ لها-:
– وضعتِ الشَّاعرةُ نتيجةَ الصِّراعِ بينَ آفاقِ توقُّع عودةِ الزَّوج عنوانًا للقصيدة، فألغتِ المسافةَ الجماليَّةَ الَّتي يُحدثها عنوانٌ يتمتَّعُ بكسرِ التَّوقُّع العاديِّ.
– اصطدمَ أفقُ توقُّعِ الزَّوجةِ بأفقِ توقُّعِ الإشاعةِ مرَّتين، فاستجابتْ للأُولى، ولم تستجبْ للثَّانية، بل انشغلتْ بتقديمِ أدلَّتِها على صحَّةِ توقُّعِها.
– اصطدمَ أفقُ توقُّعِ الزَّوجة بأفقِ توقُّع الابنِ الممازِح، بصورةٍ مختلفةٍ عن اصطدامِها بأفقِ توقُّعِ الإشاعةِ، فاستجابتْ لها بسرعةٍ تتناسبُ معَ سرعةِ انطفائِها الكامن.
– قدَّمت الزَّوجةُ أعذارَها لاستسلامِها وشدَّةِ يأسِها، كما قدَّمتْ أدلَّتَها الَّتي تعزِّزُ بقاءَها على حالِها السَّوداويَّة، لا لتقنِعَ نفسَها، بل لتقنعَ الآخرين.
– لم تمشِ وراءَ قلبِها كما تكشفُ العاطفةُ المكشوفةُ في أبنيتها الذَّاتية للوصولِ إلى النَّتيجةِ، وإن بدت ضعيفةً ضعفًا لم يفارقْها منذُ عتبةِ العنوانِ إلى قفلةِ النَّصِّ.
– نجحَ أفقُ توقُّعِها المظلمُ في تحويلِ حياتِها إلى طقوسٍ حزينةٍ وقلْبِ كلِّ مظاهرِ الجمالِ والأمانِ النَّفسيِّ إلى مظاهرِ قبحٍ وخوفٍ وقلقٍ وتشاؤُمٍ.
– يكشفُ التَّلقِّي النَّقديُّ عن قصديَّةٍ واعيةٍ للزَّوجةِ في فتحِ آفاقِ توقُّعٍ غيرِ أفقِها، كما يكشفُ عن تدرُّجِها في هذه العمليَّةِ الواعية من إلقاءِ الخبرِ بصورتِهِ الابتدائيَّة أولًا، ثمَّ بصورتِهِ الطَّلبيَّةِ ثانيًا، وهي بهذا العملِ تعملُ على إشراكِ القارئ الضِّمنيِّ لنفسيَّتها (مروِّجو الإشاعة، وابنها) في صنعِ المعنى النِّهائيِّ للنَّصِّ.
[1]– حسن البنا عز الدين : قراءة الآخر/قراءة الأنا – نظرية التلقي وتطبيقاتها في النقد الأدبي العربي المعاصر، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ط1، 2008م، ص28.
[2]– أُخذت القصيدة بهذه الصورة من الشَّاعرة، وهي غيرُ منشورةٍ في ديوان أو مجلَّة، لكنَّها موجودةٌ في منهج اللغة العربية للصف العاشر في دولة الكويت، مع اختلافٍ في بعضِ المواضع، وبعنوانٍ مختلف.
[3]– مجمع اللغة العربية: معجم علم النفس والتربية، الإدارة العامة للمعجمات، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، ط1، 1984م، ج1، ص32.
[4]– باربرا إنجلر: مدخل إلى نظريات الشخصية، ترجمة: د. فهد بن عبد الله بن دليم، دار الحارثي للطباعة والنشر، الطائف، ط1، 1991م، ص466.
[5]– مجمع اللغة العربية: معجم علم النفس والتربية، ج1، ص59.
مراجع الدراسة
- باربرا إنجلر: مدخل إلى نظريات الشخصية، ترجمة: د. فهد بن عبد الله بن دليم، دار الحارثي للطباعة والنشر، الطائف، ط1، 1991م.
- حسن البنا عز الدين: قراءة الآخر/قراءة الأنا – نظرية التلقي وتطبيقاتها في النقد الأدبي العربي المعاصر، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ط1، 2008م.
- مجمع اللغة العربية: معجم علم النفس والتربية، الإدارة العامة للمعجمات، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، ط1، 1984م.