التقديم
عن دار مسكلياني للنشر والتوزيع بتونس صدر للأستاذ والباحث في التاريخ الثقافي لطفي عيسى سنة 2019 كتاب أخبار التونسيين: مراجعات في سرديات الانتماء والأصول. وللكاتب إصدارات وبحوث ودراسات تاريخية عديدة باللغتين العربية والفرنسية، علاوة على نشاط صحفي منتظم حول قضايا ومواضيع متصلة بالواقع التونسي والإقليمي. نال المُؤلف موضع الدرس في معرض الكتاب الدولي بتونس في دورته الخامسة وثلاثين جائزة الطاهر الحدّاد للبحوث في الإنسانيّات، اعترافا بتوفّق صاحبه في دراسة جوانب من حياة التونسيين في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن الموالي من خلال مقاربة تاريخية أنتروبولوجية، باحثا في مدوّنات لم توضع بالضرورة لأغراض تاريخية، مُستخلصا منها بعض ما في الشخصيّة التونسيّة من تمثّلات ومعايير في النظر ووعي بأهمّ مجالات الانتماء إلى تونس. يدعونا هذا الاستحقاق بالإضافة إلى معرفتنا بنبوغ صاحبه في كتاباته التاريخية المتخصصة في التاريخ الثقافي في بعديها النظري والميداني، واجتهاده في تضمين بحوثه بمضامين نظرية جديدة ومبتكرة في تخصصات إنسانية مختلفة، إلى تسليط الضوء على تقاسيم منجزه ومعانيه.
ونستهل هذا التقديم بالتذكير بالإشكالية العامة التي تناولها الكاتب وتعمّق فيها، والتي دارت حول كيفية نشوء مشاعر متآلفة بين عناصر مجموعة بشرية وقبولها بالعيش المشترك، على رقعة ترابية مُعلّمة بأمارات تضاريسية وثقافية معلومة، وجعلتهم يتوافقون حول انتماء واحد. وغنّي عن البيان أن هذه الإشكالية ليست مستحدثة أو وليدة الساعة، وإنما هي مشغل بحثي يحيل على حيرة فكرية تقاسمها عدد من المؤرخين والباحثين التونسيين ومن غير التونسيين منذ سنوات. وهو ما يدفع إلى اعتبار دور السياقات في إثارة مثل تلك الإشكاليات ومعاودة ظهورها أو بروزها كلما حصل أمر مستجد، يحير الساكن ويعيد صياغة التوافقات والمواضعات. ومهما يكن من أمر فإنه من الثابت أن قائمة الكتّاب التونسيين والباحثين الذين أثاروا موضوع “التونسة” وحاولوا البت في مميزات الشخصية التونسية طويلة، نستحضر من بينها البشير بن سلامة[1]وسعد غراب[2] وهشام جعيط[3]، والمنصف وناس[4] والهادي التيمومي[5] وغيرهم من الباحثين والباحثات الذين تعرضوا جزئيا أو تفصيليا إلى المسألة نفسها.
على أنه من الثابت لدينا أن لطفي عيسى كان على دراية بمحاور تلك السرديّات، مما جعله يتخذ لنفسه في مقاربته لنفس الإشكالية مسلكا فريدا، تجنبا للسقوط في الاجترار، مسائلا ذات المسائل وفقا لعروض راوحت بين الطرافة أحيانا والعمق أحيانا أخرى، محاولا مراجعة محتويات جملة من المصادر لم تكن مثار أهل الباحثين في الحقل التاريخي من قبل. فقد اعتمد المنهج التأويلي في دراسة عينات من تلك المصادر[6] وأعاد تركيب مضامينها ومعانيها ضمن إشكالية كبرى متصلة بمقومات بناء الهويّة التونسية، على غرار الخرافات الشعبية والأحاجي والأمثال الواردة في كتاب سالم ونيس “الحكايات الخرافية والشعبية[7]“، والتدقيق في بعض المؤلفات المغمورة التي لم يجر تداولها كثيرا مثل كتاب “مفتاح التاريخ” لمحمد البشير صفر[8]، و”الرزنامة التونسية” لمحمد بن الخوجة[9]، و”العادات والتقاليد التونسية” لمحمد بن عثمان الحشايشي[10]، وثلاث مقالات للأب أندري ديميرسمين (1901 – 1993) André Demeerseman نشرت بين سنوات 1958 و1961 وهي: “تأملات في دراسة الشخصية التونسية”، و”في البحث عن الشخصية القاعدية التونسية” و”مساهمة في دراسة علاقة اللغة العربية والشخصية التونسية”[11].
ومن نافلة القول إن الباحث لطفي عيسى قد اختار بدوره الاشتغال على قضية “التونسة” دون إطلاق أو تعميم، مركزا جهوده على فترة زمنية محددة شكلت مفصلة زمنية دقيقة في تاريخ التونسيين وبخاصة مراقبة ذلك المرور المتأني في مستوى تمثلات التونسيين لذواتهم ولآخرهم القريب أو البعيد. فقد غطت المدة الزمنية المقترحة العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، وامتدت إلى العقدين الأولين من القرن الموالي. ففي تلك الفترة عايش التونسيون انتقالا سلسا بين زمنين: زمن الاحتلال وما قبله، وما رافقه من تحوّلات ملحوظة في مستوى الحياة الفكرية والعلمية وانعكاساتها البيّنة على الذهنيات وبخاصة لدى النخب المتعلّمة التي أقبلت على التعامل بشغف مع الصحف (مثلما يوحي بذلك غلاف الكتاب)، باعتبارها وسيلة إخبارية محدثة سحرت ألباب المثقفين التونسيين بعد أن ثبتت جدارتها في إطلاع قرائها على حقائق الأمور في الساحتين الوطنية والدولية.
طُبع الكتاب في مجلد واحد متضمنا لثلاثمائة وخمسين صفحة من القطع المتوسط. قسّمه صاحبه إلى مقدمة عامة عنونها بـ “زمن للخرافة، زمن للسرد”، وأربعة فصول واتّبعها بخاتمة عامة. وتضمنت الصفحات الأخيرة قائمة ثرية ومتنوعة من المصادر والمراجع باللغتين العربية والفرنسية، التي كان قد استند إليها الباحث، ومن شأنها أيضا إنارة سبيل الباحثين المنشغلين بدراسة مواضيع متصلة بمحتويات الكتاب. ولمزيد تقريب مضامين المدونة موضع الدرس إلى القرّاء، ارتأينا التوقف بشيء من التفصيل والاقتباس من بعض ما ورد في كل فصل، عسى أن نلمّ بمضامينه وتحليلات كتابه.
عمل لطفي عيسى في مقدمة أثره على معالجة مسألة دقيقة وذات أهمية قصوى في مجال البحث، تتعلق بشروط المعرفة التاريخية والعلاقة الوطيدة بين ذكر الخبر وبناء السردية، بمعنى هل يقتصر دور الإخباري أو المؤرخ على ذكر الخبر أم يتعيّن عليه تمّلك أساليب أدبية وفنية رفيعةـ، ورصيد ثري من المفردات والمعاني حتى يقدر على شدّ المتابع أو القارئ؟ وفي سعيه للإجابة عن هذا السؤال، مال الكاتب إلى تغليب الفرضية الثانية، مستشهدا بجملة من الشهادات والأمثلة لعدد من المؤرخين الذين تم الإجماع حول أدوارهم الريّادية في التأريخ لأزمنة أوروبا والعالم بدءا من شيشرون (106 ق.م- 43 ق.م) Cicéron وتاسيت (56م – 120م) Tacite وفرواسار (1337 – 1410) Froissart وجيل ميشلي (1798 – 1874) Jules Michelet. وخلص إلى ضرورة القطع مع التقليد السائد الذي يفصل بين الخبر والرواية، داعيا إلى إدماج المعطيات الوثائقية أو المصدرية والتحاليل المتصلة بها في ثنايا الرواية، فلم يعد من المنطقي وفق تصوره أن يقوم المؤرخ بتفضيل الرواية على رسم الوقائع أو الاعتبار بعكس ذلك[12]، فكتابة التاريخ وفق منظور الكاتب صناعة، والصناعة عند المؤرخ تشترط توفر موارد أساسية كالخبر وأدوات الإبلاغ والسرد.
قامت الإشكالية العامة لكتاب “أخبار التونسيين” على مسألة مثيرة ومربكة معا، تتمثل في طرق إدراك التونسيين لمسألة الزمن التاريخي ولأساطير تأسيس مجالهم وتكوّن شخصيتهم القاعدية. ففي محاولة لاسترجاع “ذاكرة ضائع الأزمنة” على حدّ تعبير لطفي عيسى، وضع الكاتب تصوره الخاص للأزمنة التونسية وفق نوعية المصادر المتعامل معها، فقسّمها إلى أربعة أزمنة كبرى، لا تتخذ ضرورة نسقا تطوّريا وفق خط كرونولوجي أفقي كما اعتاد المؤرخون تداوله، بل هي أزمنة متداخلة تقبل بتقابل زمنين أو أكثر، استجابة لحاجيات التونسيين في خلق وشائج وصلات تضمن تآلفهم واجتماعهم، وهذه الأزمنة هي: “زمن الحكاية” و”زمن المجال” و”زمن الرزنامة” ثم “زمن الذات أو الوجدان”.
سعى الكاتب في الفصل الأول الذي سمّاه ب “ديوان الخرافات الشعبية التونسية”، إلى مساءلة جانب من رصيد التونسيين من الحكايات والأمثلة الشعبية والأحاجي، والتعامل معها كمصادر تاريخية لها حبكتها الخاصة من حيث الخطاب واللغة والبناء والسرد. وهي مرويّات تكفلت بتغطية مجزية لجوانب مهمة متصلة بالحياة اليومية للتونسيين داخل المسورات وخارجها، ووثّقت للذاكرة المشتركة وكشفت مواطن الشخصية الجماعية. وقد نجحت هذه الخرافات حسب ما أورده المؤلف في نقل تمثل التونسيين العميق لخصوصيات الوسط الذي عاشوا ضمنه، دون أن ننسى عرضها للقيم والطباع التي حكمت حياتاهم. ورغم أهمية المتون الإخبارية الواردة في هذا الصنف من المصادر، إلاّ أنه تم التعامل معها بكثير من التجاهل نتيجة وثوقية المدارس التاريخية المفرطة وتمسكها الصارم بشروط صناعة المعارف التاريخية. وهو ما حدا بالكاتب بالدعوة إلى ضرورة مراجعة إبستومولوجيا المعرفة التاريخية وفلسفتها، والاعتراف بالقيمة الإخبارية لما حفظته الذاكرة الجماعية للشعوب من حكايات وأمثال تم تداولها بين الناس، طالما أن مرآتها المحدبة قادرة على عكس مراحل مهمة من معيش المجتمعات قبل التمكن من وضع ضوابط المعرفة التاريخية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وهو ما أحال تلك النوعية من المصادر إلى أسفل سلم اهتمام الباحثين اعتبارا لعدم توافقها مع شروط القراءة السياقية الصارمة والدقيقة[13]. وتتطلب دراسة الحكايات الشعبية والأمثال والأحاجي وفق رؤية الباحث جهدا مضنيا وتركيزا كبيرا لبلوغ معانيها ودقيق تحليلاتها، مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة الإلمام بفرادة كلمها وصياغاتها المخصوصة واتخاذ جميعها من العجائبي والخارق ركنا رئيسا في بناء السرد. الأمر الذي “نستكشف بفضله مضامين تحيل على الطبيعة البشرية، وذلك حال التعويل على استعارات لها صلات وثيقة بمدرك سلوك التونسيين الواقعي، وأشكال توصلهم إلى تجاوز معيقات التعبير والإبلاغ العادية، وبلوغ المعاني السامية دونما نسيان لحاجات التسلية وتزجية الوقت على حدّ تعبير الكاتب”[14].
انشدّ الفصل الثاني الموسوم ب “سردية الإنتماء في مفتاح التاريخ” إلى منجز محمد البشير صفر (1865- 1917) باعتباره مؤلفا قليل التداول بين معشر المؤرخين والباحثين التونسيين، رغم نظرته الفريدة المجدّدة للسردية التاريخية التونسية. فـ”مفتاح التاريخ” هو في الأصل جملة من المحاضرات في التاريخ ألقاها في المدرسة الخلدونية على مسامع طلبة الجمعية الخلدونية بين سنوات 1897 – 1908، إبّان خضوع البلاد لمعاهدة الحماية، وفقدان التونسيين لاستقلال قرارهم السياسي. فقد عمد الكاتب إلى إعادة صياغة انتماءات التونسيين وتوثيق صلاتهم بجملة من الغيريات راوحت بين توسيع آفاقهم الزمانية، عبر التذكّير بمختلف الحضارات الكبرى التي وسمت تاريخ التونسيين القديم، وفتح أعينهم على تعدّد انتماءاتهم المكانية من خلال ربطها بقديم تاريخ المغرب والمسلمين ووسيطه، وحديثه ومعاصره، مع الحرص في جميع ذلك على اطلاعهم على حقيقة اتصال ماضيهم كما حاضرهم بالبحيرة المتوسطية، والتشديد على ذلك التداخل بين تاريخ التونسيين وتاريخ أمم أوروبا بما في ذلك تاريخ “الأمة الفرنسية الحامية” والجارة المتوسطية الإيطالية والمملكة البريطانية[15]. فقد تبيّنت للطفي عيسى بعد مراجعة منجز محمد البشير صفر تلك النقلة النوعية التي حدثت في فكر صاحبه والتي قامت على إعادة تأسيس فكرة الإنتماء على قاعدة الإنفتاح على الآخر الجغرافي والزمني، “الأليف” منه و”الغريب”، وذلك بغية الحدّ من الإحساس بالدونية المزدوجة – المشرقية والغربية -، والتركيز المرضي على محور حضاري واحد، وإقناع المتلقي بتوفّر مشترك تاريخي وثقافي بين التونسيين، مع حضور عناصر تهجين أبانت عن قدرات تركيبية سمحت بالانفتاح على العديد من الغيريات الحضارية والثقافية الحاملة لبذور القبول بالمثاقفة والاختلاط، تكيّفا مع توفر التونسيين على وطن يخصّهم وتشكيلهم لأمة، عاشت على مجال اعتباري تحوّل بالتقادم إلى حيّز للإنتماء، وتشوّفت ساكنته إلى التعافي من جميع مظاهر الانطواء التي لازمتها لقرون[16].
تطرق لطفي عيسى في الفصل الثالث من مؤلفه، وهو فصل وسمه بـ”زمن الاستطلاع وحب المعرفة الجذلى”، إلى دراسة مضامين “الرزنامة التونسية”، التي أشرف على تحريرها الجنرال محمد بن الخوجة (1869 – 1943) وبلغ عددها 16 عددا صدرت بدون انقطاع من سنة 1901 إلى موفى سنة 1917. وتضمنت تلك الدوريات معارف مستحدثة عملت على توسيع الاهتمام بالأخبار الفلكية والجغرافية والتاريخية والأدبية والإدارية والسياسية والجمالية والفنية وغيرها من المواضيع المستطرفة من قبل النخب الجديدة المندرجة ضمن التقاليد الوليدة للتونسي الجديد، وعزوفا عن دواعي الركون إلى الاجترار والتقليد والجمود، مع الدفع باتجاه الانخراط في نبض الكون. وضمن تقييمه لمنجز محمد بن الخوجة تبيّن للمؤلف أن ما أنجزه ضمن مغامرة “الرزنامة التونسية” قد شكّل إسهاما معرفيا تجميعيا غير غريب عن مثقف تونسي عُرف بنشاطه العلمي الغزير ضمن الصحف والمجلات التونسية الثقافية والعلمية، والتي كشفت عن سعة اطلاع صاحبها على المصادر والمراجع شرق وغربا، وقدرة استثنائية على ربط مضامينها بالثقافة المحليّة التونسية. كما اعتبر لطفي عيسى أن مضامين الدورية كانت متممة للأغراض التوعوية والإخبارية التي من أجلها بعثت مجلة “الحاضرة” وللأفكار الحداثية التي بشّر بها عدد من محرريها من بين النابهين من التونسيين.
لقد نوّه الكاتب بمجهودات مْحمد بن الخوجة في عنايته بـ “زمن الرزنامةTemps calendaire ” والتقيّد بزمنية جديدة تحقق حولها إجماع كبير بين الشعوب المتحضرة من دون غيرها من الأزمنة الدينية أو الروحية الأخرى، والتخلّي التدريجي عن جميع التقويمات الموروثة، كالدائرية أو الزراعية أو الطقسية، مُحيلا على ترسّخ الوعي بوحدة المصير البشري. وهي فكرة جديدة عمل المؤرخون والإخباريون بشكل لافت على تقريبها من الأذهان عبر ربطها بقوائم تحويل ومقابلة قرّبت بين التقويمين الشمسي المسيحي والقمري اليهودي، فشكّلت جهودهم لبنة أساسية على طريق إكساب الزمن التاريخي طابعا منفصلا عن التصوّرات الدينية التعبّدية[17].
كما عاين الكاتب نفس المضامين الحداثية تقريبا في موسوعة ” الأدب التونسي في القرن الرابع عشر” لزين العابدين السنوسي (1898 – 1965)، في أواخر عشرينيات القرن الماضي. فقد راهن هذا المؤلف بدوره على التجديدات الحاصلة في أشكال المعالجة الأدبية التونسية شكلا ومحتوى، وذلك بغرض إثبات حقيقة النقلة الفكرية التي عاشتها نخب الأدب والفن من خلال التركيز على شواغل مـُحدثة أخذ ضمنها الإحساس بالانتماء الوطني، والرغبة في التحرّر والانعتاق ومقاومة الظواهر الاجتماعية والثقافية البالية المفرطة في الحسيّة[18] موقع الصدارة. فقد تضمنت تلك السردية تراجم لأدباء الثلث الأول من القرن العشرين، ومختارات من أعمالهم الفنية وذلك في إطار خطة الكاتب لإعادة استكشاف ماضي التونسيين ونفض الغبار عنه، وليكتسب مدلولا محدثا يسمح بالانفتاح على دواعي التجديد وحب المعرفة الجذلى. ومن تلك الشخصيات التي تم الاحتفاء بها في الموسوعة وعدت من أعلام الأدب التونسي في ذلك الحين نذكر: محمد الشاذلي خزندار وحسين الجزيري وسعيد أبو بكر وصالح النيفر ومحمد الفائز والهادي المدني وأبو القاسم الشابي وأحمد خير الدين ومحمد مناشو وسالم الأكودي، وجميعهم أدباء وشعراء تونسيون كتبوا في الأدب وفق رهانات السياقات الوطنية واستجابة للذائقة المحلية[19].
وقد أبرز لطفي عيسى النظرة التجديدية التي حملها كتاب السنوسي حول المعرفة التاريخية الجديدة، إذ استنتج “أن عقلية الأمم لم تعد تكتفي بمعرفة الأسباب النفسية للانقلابات التاريخية، بل لابد للمؤرخ اليوم من الجداول الواضحة والخرائط لمختلف الأعصر، ولا يكون كتابه مستوفى إذا كان خلوا من الرسوم والمناظر الصريحة. على أن تجدّد التواريخ وسبكها على العقلية العصرية ليس من الأعمال الهينة البسيطة، بل يمكن أن ينسبك قبل بضع عشرات سنين يمضيها المجدّدون في الملاحظة والنقد والتعبير”[20].
وأما الفصل الرابع من كتابه فقد خصّصه المؤلف لما سمّاه ب “مراجعات حول شخصية التونسيين”، مستعرضا عينات أدبية مختارة حاز خطابها من وجهة نظره قدرا كبيرا من الطرافة، لأنها اختارت الإشتغال على مقومات الشخصية التونسية من خلال بعض البحوث الميدانية، المعرّفة بسكان البلاد التونسية: عرقا ولغة وتراثا وسلوكا وأعمالا وأياما[21]. ومن تلك المنتقيات اختار الكاتب التوقّف عند مؤلف “الهدية أو الفوائد العلمية في العادات والتقاليد التونسية” لمحمد بن عثمان الحشايشي، الذي عُدّ جرد ميداني مفصل لتقاليد التونسيين وعاداتهم، وقد عرض فيه جملة من المعطيات أحالت على مضمون الثقافة المادية ومختلف المعارف والقيم والمعايير التي طبعت تصرفات التونسيين وسلوكياتهم، محاولا من خلال ذلك توسيع اطلاع أعوان الإدارة الحامية على ما شكّل الشخصية القاعدية للتونسيين[22].
وفي ذات الغرض استجلب لطفي عيسى المقالات الثلاث للأب أندري ديميرسيمن (تمت الاشارة إليها سابقا) والتي تعرضت بالدراسة إلى تاريخ التونسيين وماضيهم اللاتيني الروماني دونما نسيان للجذور العربية الإسلامية وفق قراءة مشوبة بنفس استشراقي على حدّ الكاتب[23]. وقد تضمنت تلك المقالات أسس نظرته للشخصية التونسية، معوّلا في تحديد معالمها الكبرى على الجهد الميداني الذي بذله بغية التعرّف على طباع ساكنة البلاد ومزيد فهم واقعهم المعيش، وفق قراءات متواشجة مع عروض الحشايشي[24]. وخلص لطفي عيسى في نهاية عروضه إلى تحديد الخطوط العريضة للشخصية التونسية، تلك التي اختزلها في أربعة وهي: وحدتها، وتنوعها، وامتدادها وتواصلها، مع بعض من التفصيل في كل ركن منها.
ما يمكن استنتاجه بعد الاطّلاع على تضاعيف كتاب” أخبار التونسيين، مراجعات في سرديّات الانتماء والأصول” أنّه مؤلّف فريد اكتسب فرادته من جانبين أساسيين. فمن وجهة نظر إخبارية فقد نجح الكاتب في جانب كبير من كتابه في استحضار ثراء معرفي وفير حول معاش التونسيين وحياتهم الثقافية في شقيها المادي واللامادي، والمسار التطوّري للوعي التونسي وخاصة لدى فئة المتعلمين الذين أقبلوا على قيم الحداثة الغربية وعبروا عن رغبتهم في الانصهار ضمن المشترك الإنساني، مقتنعين بزوال عهد الانطواء والانغلاق على الذات، في زمن أخذ فيه النفوذ الاستعماري الفرنسي في التمدّد داخل هياكل الدولة التونسية ومؤسساتها، وداخل نسيج سكان البلاد الثقافي والاجتماعي. كما اتضحت في نفس ذلك السياق مؤشرات بليغة عن بداية تفكير التونسيين بخصوص ملامح شخصيتهم القاعدية المستندة إلى مشترك حضاري أثيل يعود إلى عهود ما قبل الإسلام، لـمّـا أشعت قرطاج ومن بعدها إفريقيا Africa على المتوسط وجانب من الصحراء الإفريقية.
كما تنم فرادة ما أنجزه لطفي عيسى في جانب آخر عن جرأة على اقتحام مجالات مجددة منهجا وتصوّرا وتركيبا، حتى وإن لم يسلم ارتياد تلك المغامرة من مخاطر عدة ومنزلقات شتى، هذا فضلا عن تمسك جانب غير قليل من الباحثين بأساليب ومناهج في البحث والتمحيص يكاد حاضر المعارف الإنسانية والاجتماعية أن يعفو عنها تماما. ولكن سعة اطلاع المؤلِف على منجز المدارس التاريخية والإنسانية غربا وشرقا، ورصيده المعرفي الثري والمتجدّد، وكذلك تملّكه لأدوات السرد التاريخي وفصاحة بيّانه، قد أسعفه جميعها في خوض مثل تلك المراوحة المنتجة لغزير الدلالة باقتدار وأناة، بحيث بدا لنا أن مثل هذا الأثر البديع في جنسه يمكن الاعتبار بمحصلته معرفيا وتحويله إلى أنموذج يمكن الاستفادة منه في مساءلة موضوع الانتماء وطرح سؤال الأصول، وخاصة بالنسبة للمجتمعات التي ثبت تقاطع مساراتها التاريخية أو تشابهها مع ما حملته “أخبار التونسيين”.
[1] – ابن سلامة(البشير)، الشخصية التونسية، مقوماتها وخصائصها، نشر مؤسسات بن عبد الله، تونس، 1974.
[2] – الغراب(سعد)، العامل الديني والهوية التونسية، الدار التونسية للنشر، تونس، 1990.
[3] – جعيط (هشام)، الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي، ترجمة المنجي الصيادي، دار الطليعة، بيروت، 2008.
[4] – وناس(المنصف)، الشخصية التونسية: محاولة لفهم الشخصية العربية، الدار المتوسطية للنشر، تونس، 2011،
[5] – التيمومي(الهادي)، كيف صار التونسيون تونسيين؟، دار محمد علي الحامي، تونس 2015.
[6] – للاطلاع على معنى التأويل في العلوم الإنسانية يمكن العودة إلى مقال ” منهج التأويل في العلوم الإنسانية، لمصطفى غراب، مجلة التربية والابستمولوجيا، المجلد الخامس، العدد 9، الجزائر، 30/12/2015، ص المنجى 163 –178.
[7] – إن انجذاب لطفي عيسى إلى المصادر غير المدروسة أو المهملة من قبل جمهور الباحثين في التاريخ هي مغامرة قد تعوّد الباحث على خوض غمارها منذ تسعينات القرن الماضي، فهو من روّاد البحث والتقصي في كتب المناقب في الجامعة التونسية واستجلاء أخبارها تغطية لما سكتت المصادر التاريخية أو تحاشى واضعوها توضيحه. للمزيد حول الموضوع يمكن العودة إلى مؤلفه الموسوم بـ: أخبار المناقب: في المعجزة والكرامة والتاريخ، سراس للنشر، تونس 1993، وكتاب السيّر: مقاربات لمدونات المناقب والتراجم والأخبار، دار المعرفة للنشر، تونس.، 2007.
[8] – صفر (محمد البشير)، مفتاح التاريخ مفكرات ومقالات تاريخية، الطبعة الأولى سنة 1928، مطبعة النهضة، تونس. وطبعة ثانية تضمنت تقديما وتحقيقا لحمادي الساحلي وصدرت عن دار الغرب الإسلامي، بيروت، سنة 2009.
[9]– ابن خوجة (محمد)، “الرزنامة التونسية”، تغطي الأعداد المحفوظة بمؤسسة الأرشيف الوطني التونسي الفترة المتراوحة بين 1901 و1916 متضمنة 16 عددا. ويتوفر الأرشيف على حافظتين تحملان الترقيم 52 دو.
[10] – الحشايشي (محمد بن عثمان)، العادات والتقاليد التونسية/ أو الهدية أو الفوائد العلمية في العادات التونسية، تحقيق الجيلاني بن الحاج يحيى، سراس للنشر، تونس 1994.
[11] – Demeerseman (André), “Réflexions sur l’étude de la personnalité de la Tunisie”, dans IBLA, 4 ème trimestre 1958, p: 355 – 366. “A la recherche de la personnalité de base de la Tunisie”, sans IBLA, 1er trimestre 1959, p: 1-28. 2 ème trimestre 1959, p129 – 146. ” Contribution à l’étude de la relation entre la langue arabe et la personnalité de la Tunisie” dans IBLA, 4éme 1960, p: 357 – 399.
[12] -عيسى (لطفي)، أخبار التونسيين: مراجعات في سرديّات الانتماء والأصول، دار مسكلياني للنشر والتوزيع، تونس 2019، ص 18.
[13] – نفسه، ص 18.
[14] – نفسه، ص 16.
[15] – نفسه، ص 20.
[16] – نفسه، ص 332.
[17] – نفسه، ص 20.
[18] – نفسه، ص 22.
[19] – نفسه، ص 152.
[20] – السنوسي (زين العابدين)، الأدب التونسي في القرن الرابع عشر، تونس 1927، مقدمة المؤلف، ورد في كتاب أخبار التونسيين…، م س، ص 203.
[21] – عيسى(لطفي)، أخبار التونسيين: مراجعات في سرديّات الانتماء والأصول، م س، ص 23.
[22] – نفسه، ص 255.
[23] – نفسه، ص 230
[24] – نفسه، ص 256.