الملخّص
قدٌر فاتيمو بأن هناك ” ضرورة تأويلية “لولوج الدلالة ومغامرة في القصي، يقود الفلسفة نحو “الأنطي” (ontico) ومحايثة للمايحدث، تنشد المعنى مهما توعرت الدروب أو تمنعت المجالات (الدين والسياسة والجنس…)، ولكن أيضا يحكم عليها بالمقاومة حينما تصادر الحرية.
تكوٌن ثقافة تأويلية مخصوصة، هو الذي سيمكن الفلسفة من تحديد مجالات اشتغالها وعلاقتها بالعلم وبالفن – بوصفه مخرجا تأويليا لكل الإشكاليات المطروحة – دون أن يفقدها “تميٌزها “.
اعادة رسم سياسة الحقيقة وإدراجها ضمن فضاء ايتيقي.
مهمة الفلسفة ومسؤولية الفيلسوف، وهو بمثابة مفتاح للوقوف على مقدار التوتر في الممارسة الفلسفية المعاصرة. إذ أن ثقل المسؤولية جعل الفيلسوف ينحو نحوا مستحدثا: بأن “يكتب في الصحافة “، كما تحتم عليه “السقوط في السياسة “، كما أن ممارسة الفلسفة انطلاقا من السياسة سيحمله إلى اكتشافين:
– أن التفكير الفلسفي لا يعمل إلا انطلاقا من الثقافة.
– أن بناء الإنسانية هو أيضا سياسة.
الكلمات المفاتيح: الفكر الضعيف، الحقيقة، الانطولوجيا الضعيفة، مهمة الفلسفة، مسؤولية الفيلسوف، الكتابة الفلسفية، الفيلسوف -الصحافي، السقوط في السياسة، سياسة بناء الانسانية.
Abstract
Vattimo estimates that there is an “interpretive necessity” to delve into connotation and an adventure to the extreme that leads philosophy towards the “ontico” (real or physical existence) and keeping up with what is happening. It seeks meaning, no matter how rough the paths are or how thorny the fields are: religion, politics, sex…But it also forces it to resist when freedom is confiscated:
Creating a specific hermeneutical culture will enable philosophy to define its fields of action and its relationship to science and art- as an interpretive way out of all the raised problems- without losing its “peculiarity.”
The reformulation of the “truth” policy and its inclusion in an ethical space.
The mission of philosophy and the responsibility of the philosopher are key to understanding the amount of tension in contemporary philosophical practice. As the heavy burden of responsibility made the philosopher head towards a novel direction: “writing in the press” and thus forcing him to “fall into politics” in addition, practicing philosophy from a political perspective will lead him to two discoveries:
- Philosophical thinking works only from culture.
- Humanity construction is also politics.
Key Words: Weak thought, truth, the weak ontology, the mission of philosophy, the responsibility of the philosopher, philosophical writing, the philosopher-journalist, the fall into politics, the policy of humanity construction.
مقدمة:
بسخرية** ما بعد- تأويليّة، يعيد فاتيمو قراءة تاريخ الفلسفة من أجل تحديد هوية الفلسفة وعلاقتها بالتقنية والعلم والحقيقة والسّياسة (أسئلتها وقضاياها)، قراءة وإن بدت لبعض المتفلسفة قراءة “اختزالية”[1]، فإنها مع ذلك تظل إحدى أهم المقاربات الفلسفية المعاصرة، نظرا لتنوع منطلقاتها وغنى خلفياتها وجذرية بعض أطروحاتها والزحزحات التي عملت على إحداثها، الأمر الذي حدا بالعديد من المفكرين إلى اعتباره الفيلسوف الأكثر إثارة وجدلا من بين الفلاسفة المعاصرين، و”الأكثر أهمية ممن يمكن أن نقرأ لهم اليوم”[2]. إنّ هذه المقاربة لا تهدف إلى تقديم أجوبة أكثر دقة وأشدّ صدقية عن مشكلات وقضايا حرّكت الفلسفة الميتافيزيقية طيلة قرون عدّة، ولا إلى تشييّد أنساق نظرية كشرط إمكان لانكشاف الحقيقة. إنها مقاربة تتجاوز “فكر الأساس” نحو ” فكر اللاّأساس”[3]، من خلال “تذويب” الأسس الصلبة للميتافيزيقا و”تنحيف” الذّات الواعية بذاتها، والإعلان عن أفول الإيديولوجيات القوية الثابتة… فهي مسار تفكري ينخرط بكل وعي في الأفق الراهن بوصفه أفق “البنيات الضعيفة”، أو ما بات يعرف “بالفكر الضعيف” الذي ينتمي في دلالته إلى أفق “ما بعد- حديث”[4] من جهة خلفياته الفلسفية والسياسية، ومن بين أهدافه المعبّر عنها بوضوح “فلسفة جديدة”. كيف ذلك؟
إنّ فاتيمو هو فعلا أحد “فلاسفة التقنية”، وهذه العبارة تشمل المفكرين الذين حاولوا فهم المعاصرة في نموها داخل الانتشار التقني -العلمي، غير معترف بالذنب ولا آبه به، كما أنّه لم يحكم عليه بالتّردّد أو الحيرة حيال ذلك الفهم بالنموّ. في هذه المساحة الهائلة من ترميز التقنية، يمكن ترميز “المايحدث” من خلال عبارة طريفة: “أن نصغي للنداء” (ascoltandone l’appello)، ذلك أنّ الإصغاء للنداء هو المَعْبرُ لملاقاة الكينونة، والتعرّف إلى ذواتنا. وبناء على ما تقدّم يتسنّى لنا القول إنّ عمله هذا يتنزل اليوم ضمن مسار تأويلي تفكّري يدعم ما كان قد أعلن عنه في كتابه “ما وراء التّأويلية” (1994) بوصفه آخر كتاب “فلسفي” كتبه، وذلك بالمعنى الدقيق لكلمة “فلسفيّ” “filosofico” يعقبه “اعتقاد الاعتقاد”(Credere di credere) (1996). حيث بدأ فاتيمو بشقّ طريق جديد تماما حمله نحو شكل من “الفلسفة المقاوِمة”، فلسفة متعدّدة المجالات والجبهات، ودائمة التّرحال بحثا عن مدينة المعنى، ومن أجل إنقاذ الإنسانية. وهكذا جاءت الكتابة مبسّطة، متخفّفة من العديد من الروابط مع التقنيات والإحالات المعهودة على التراث الفلسفي الذي ميّزته.
من المهم التّوكيد- وهذا النصّ الذي نطرحه يشهد على ذلك – على أنّه لا يطرح بدقّة في شكل تعويض تفاعلي، أو في شكل إبعاد للفلسفة، وإنما هو تعضيد لمسار محدّد، هذا التّعضيد الطّبيعي لمسار فريد لنموذج فلسفيّ متحقّق يكشف الطّابع العمليّ لفلسفة فاتيمو، والذي من المشروع تسميته بعبارة تجعلنا نستحضر زمن غبطة الماركسية “نظرية محسوسة”. وربّ مسار فلسفي ينبئ بميلاد ثقافة تأويلية تؤمّن العبور إلى مجال السّياسة، لكن العبور هنا ما كان ليتمّ من دون “السّقوط”. إنّه المآل الذي لا مردّ له، ولا محيد عنه، والفعل الذي لا بدّ منه، كما تدلّ عليه العبارة السّاخرة لفاتيمو “سقوطي في السّياسة”[5] (caduto nella politica)، كلّ ذلك من أجل التّحرّر والولوج إلى الإنسانية.
يبدو أنّ فاتيمو لم يفعل شيئا آخر سوى كونه طوّر واحدة من الجبهات أو المظاهر التي للنظرية (بتفكيره في/أو إنجازه لتأويلية عملية ومتحقّقة)، بوصفها إحدى المقولات الخاصّة بفكره، فبدت أطوار تكوّن الوضعية الهرمينوطيقية الجديدة، بالمعنى التّكويني، “إعادة بناء أصلية للتأويلية”[6]، أي للجدلية الهيجلية كما للتأمليّة ما بعد- جدلية لفكر هيدغير الثاني، فقد مكّن الفلسفة من الانزياح والانفتاح والفعل في مجالات مختلفة، إنّه الزمن التّأويلي المعاصر الذي هيّأ للعبور، وفتح آفاقا إنسانية متنوعة ورحبة، لم تجرؤ الفلسفات الميتافيزيقية على ولوجها، وظلّت متحصنة بمنطق الهوية والتطابق الرافض للاختلاف والمغايرة.
أمّا الخيط الهادي الذي نقترحه لهذا القول فهو: ما قدّره فاتيمو ذاته بأنّ هناك “ضرورة تأويلية” أو “قدرا فلسفيّا” لولوج الدلالة ومغامرة في الأقاصي، من خلاله تكون العدمية قد عبرت المقولات الميتافيزيقية الكلاسيكية. وربّ عبور هيّأ له “الفكر الضعيف” الذي أدّى إلى حدوث صيغة هرمينوطيقية، هو الذي قاد الفلسفة نحو “الأنطي” «Ontico» ومحايثة للمايحدث، وكان تفكّرا بأكثر فاعلية به تتخلّص من الماهيات العابرة لأسوار الأرض ولحقائق الحياة، فيكون فيها التفكير حدثيا، واقعيا وراهنيا.
إنّ الرّهان هو توسيع مجالات الفلسفة لتكون شاملة وعملية، تقودها عملية تأويلية مجبولة على الاختلاف، دائمة التّهيام والارتحال، تنشد المعنى مهما توعّرت الدّروب، أو تمنّعت المجالات (الدّين والسّياسة والجنس)، ولكن أيضا يحكم عليها بالمقاومة حينما تستلب الحقيقة وتصادر الحرية. إنّ غرضنا هنا هو أن نعرض في المرحلة الأولى تكوّن ثقافة تأويلية مخصوصة تتحدّد فيها علاقة الفلسفة بالعلوم (الصّحيحة والطبيعية منها، والإنسانية التاريخ والأدب…) وبالفنّ بوصفه مخرجا تأويليّا لكلّ الإشكاليات المطروحة، غير أنّنا سنرى أن “التميّز” الذي للفلسفة وتماسّها مع العلم والسوسيولوجيا وعلوم الثقافة والصور الفنية- الأدبية سيحمل على اختراع “فلسفة للمنطق ومنطق للفلسفة”[7]، فيها يتحدّد معنى “الانطولوجيا الضعيفة” كفكر أرضيّ يبحث في الآن والهنا، ومع ذلك سيتبيّن لنا في المرحلة الثانية أنّ تأويلية فاتيمو لمفهوم “الحقيقة” قد حدا به – وإن بمفارقة طريفة- إلى إدراج “الحقيقة” ضمن فضاءِ أرفعِ أطوارِ الصّداقة وأنواعها في “المدينة”(polis)، حيث تحرّر الهرمينوطيقا “الحقيقةَ” من قسوة الموضوعية والمطابقة الوصفيّة، وتفهمها بوصفها قيمة قوامها “الرّحمة” (carità)، وأساسها “الوفاء” (fedelta) للآخرين (li altri)، ومن ثمّة لا تُفهم “الحقيقة” إلاّ بوصفها حدثا، و”الذات” التي هي قبل كلّ شيء حوار ومشاركة.
أمّا في المرحلة الثالثة، فإنّنا سنقف عند “مهمة الفلسفة ومسؤوليتها”:(عنوان الفصل الأخير الذي جعل منه فاتيمو عنوانا لكتابه هذا). وهي بمثابة مفتاح للوقوف على مقدار التّوتر في الممارسة الفلسفية المعاصرة: بين الفيلسوف –الصحافي، والفيلسوف -الأستاذ، وبين الاختصاص الفلسفيّ ومهمّة الفيلسوف بوصفه “موظّف الإنسانية”. إنّ ثقل المسؤولية جعله ينحو نحوا مستحدثا، كأنْ “يكتب في الصحافة”، ويستعمل الوسائط من أجل التّحرّر وفتح السّبل نحو الإنسانية، كما تحتّم عليه “السقوط في السّياسة”. وبذلك يتمّ التعرف على الطريقة الوحيدة لممارسة الفلسفة انطلاقا من السّياسة (التّحرّر) والدّين(النّجاة)، حينها سيتأكّد لنا أنّ التّفكير الفلسفيّ لا يعمل إلاّ انطلاقا من الثقافة، وبأن “بناء الإنسانية هو [في حقيقته] سياسة”[8].
بقي أن نسأل: ما هي مميّزات الفلسفة؟ وما هي مجالات اشتغالها؟ وكيف تتميّز عن العلم من جهة، وعن الأدب والفنّ من جهة أخرى؟ وكيف تكون الفلسفة أنموذجا للواقعيّة و”فكرا أرضيا” (pensiero del terreno) في فهمها للحقيقة؟ وما هي مهمّة الفيلسوف ومسؤوليته اليوم تجاه الإنسانية؟ وأيّ نوع من الكتابة الفلسفية تمكّنه من ترجمة الواقع والتّشريع للتّحرّر؟ وبأيّ معنى يتمّ الجمع بين حدّين مختلفين من جهة الماهية والوجود، أعني: “الفلسفة والسّياسة”، إذا كانت الفلسفة هي عملية بالأساس، وأن السّياسة هي منطلقها الأوّل.
-
الفلسفة والعلم:
يصرّح فاتيمو في مفتتح الفصل الأوّل بأنّه “مضطر للتفكير ما بعد كانط وهيغل”[9]. ويمكننا أن نرصد في الاستعمال الفاتيمي لمصطلح “ما بعد” دلالتين مختلفتين، وإن كانتا غير متباعدتين. أمّا الاستعمال الأول فهو “هرمينوطيقيّ”، إذ يعني استئناف السّؤال عن علاقة الفلسفة بالعلم، أو إنجاز مهمّة الفلسفة، ومسؤوليّة الفيلسوف انطلاقا من إعادة ترسيم الحدود بينها وبين العلم ضمن مجالات وطوبوغرافيا جديدة للفلسفة تحدّد ثناياها وروافدها وتقاطعاتها ومسالكها المتوعّرة، وذلك من أجل أن تظهر على نحو أكثر عملية، والتي تتم بشكل” أنطي”[10]، وهو معنى عمّمه فاتيمو ليدلّ عامّة على أنّ “الفلسفة ليست علما بالمعنى الدقيق للكلمة”[11]، وذلك من زاوية ثقافيّة محض.
وأمّا الاستعمال الثاني فهو منهجيّ حيث يتعلق “المابعد” بالفلسفة ذاتها وحدود مستطاعها، وقد تدرّج فاتيمو في إيضاح هذه الدلالة كما يلي: أكّد في مستوى علاقة الفلسفة بالعلم، على أنّها “متميّزة” عنه، وهو ما يجعل الفلسفة حرّة في اتّخاذ قرارها بمعزل عن العلم. وحاول تدقيق هذا المعنى لاحقا في الفصل الثاني: “برق الحدث”[12]، (Il lampeggiaredell’Ereignis) فبيّن، في الآن ذاته، أنّ الفلسفة لا يمكنها الاستغناء تماما عن العلم، وشدّد على ذلك بقوله: “هذا حسب اعتقادي لن يكون”[13]، إذ عليها، في مقابل ذلك، أن تكون على علم بما “يحدث من تحولات في تاريخ كينونتنا، في الثقافة، في المشترك الإنسانيّ، في المعرفة للنتائج اليقينية للعلم”[14]. وضمن وجهة النظر هذه، يمكن العودة إلى العلم كما كان، أي بمعناه الأخلاقي أو السّياسي. وهكذا، يتعلق الأمر إذن بـ “العلم والوجود اللاّ -أنطي”[15]، وليس العلم كشكل من اللاّواقع، أو من اللاّضعف، أومن التعالي.
إنّ فلسفة العلم بالنسبة إلى فاتيمو هي بالأساس جزء من السّوسيولوجيا، من فلسفة الثقافة، وإنّ كلّ تفكير فلسفي في العلم لا يمكن أن يكون منطق العلم (لأنّ الفلسفة تريد أـن تقول للعلم كيف يفكر، وهو الموضوع الصحيح لفيرابند* (feyerabend)(، إذ بقدر ما يريد أن يكون تفكيرا تاريخيا، فإنّ هذا النّوع من النشاط الثقافي، ينتج عن تحوّل الوجود .إنّ تجذير طريقة تفكر الفلسفة في العلم، يدل، في تقديرنا، على أنّ فاتيمو قد باشر، بصيغة مخصوصة، الصورة المثالية التقليدية للعلاقة بين الفلسفة والعلم، إذ لا إجماع صائبا هنا حول العلاقة بين الفلسفة والعلم كتلك التي نجدها في “الحقيقة والمنهج” لغادامير، أو، قبل ذلك، عند هيدغير في “عصر تصورات العالم”، ويظل خطاب “الحقيقة والمنهج” موجّها حسب فاتيمو، بواسطة “مطلب استرداد من نوع إنسانويّ “[16]. وما هو حقيقي لا يحتكره العلم وحده، بل إن الحقيقة كما نقرؤها في التاريخ، يقولها الفنّ أيضا، ونجدها كذلك “في التجربة الاستيطيقية وفي التجربة التاريخية”، وهذا لا يعدو أن يكون تحصينا في تأويلية غادامير.
وفي هذا السياق، اقترح فاتيمو أن نأخذ مسألة ارتباط الفلسفة بالوجود من التّحديد الغاداميري لمعنى “اللغة” طريقا نهتدي به نحو النهوض بالسّؤال عن حقيقة “الكينونة”. وتبعا لذلك فهو يستحضر المقولة الشهيرة في “الحقيقة والمنهج” (الباب الثالث): «l’essere che puo venir compreso è linguaggio»” الكينونة التي يمكن أن تفهم هي اللغة[17]“.
لا نحتاج إلى التنبيه إلى ما ينطوي عليه هذا الشّاهد من صعوبة غير مفتعلة، بل هي منتصبة في صلب الإشكال المبحوث فيه نفسه، فهي صعوبة تمنع من تبيّن وجوه التّواشج بين السّؤال عن طبيعة فهم الكينونة وعلاقته باللّغة، وهي تحديدا بنية المنعرج اللغوي للفلسفة التّأويلية – وما تقتضيه من تمييز بين العلوم الإنسانية وعلوم الطبيعة-، لذلك فلا سبيل لتذليل لتلك الصعوبة إلاّ عبر الاعتراف بها، بوصفها عنصرا مقوّما للفلسفة ذاتها.
ما هي النتيجة الحاسمة التي يخلص لها فاتيمو بعد هذا التمعّن في “تاريخ الفاصلة”؟
إنه ” تاريخ الأنطولوجيا ” في التحديد الغاداميري للكينونة. إنّ تخصيص الوجود بواسطة “الكلي” (كلّية اللّغة) لا يمكن له أن يكون التّخصيص الأصيل “للكينونة”، وأنّ ذلك يضع غادامير، بحسب فاتيمو، في وضع متأرجح “ما بين النسبية والهيجلية”[18]، حيث تتحدّد هيغلية غادامير عند تخوم الرّوح الموضوعي للهيجلية، وفي الفهم للكلّ في معنى الانتماء، وذلك لأنّ غادامير لم يفهم من معنى “الوجود” طبقا لطريقة هيغل في فهم الروح المطلق، سوى معنى “المطلق”. إنّ رأس الأمر هنا هو التّحرّر من الدّلالة السّائدة للوعي، وللرّوح المطلق بالأساس، إذ “أن نكون فعلا هيغليين، علينا التّفكير بأنّ الرّوح المطلق هو مبدأ أساسي(قاعدة) للوعي الذاتي”[19].
إنّ هدف فاتيمو هو تعليق الطّابع المطلق لمعنى الوجود من خلال “تذويب” الأساس، و”تنحيف” الذات و”تنسيب” الإطلاقية التي تكتنفه حتى يعود ضربا من “الإضعاف” أو “الضعف”[20] الكامن في مشكل الوجود نفسه. وربّ “إضعاف” أو “ضعف” يعنى، كما هو الشأن هنا، نسبية “الروح المطلق” وواقعيته، يقول فاتيمو “لا نفعل شيئا آخر سوى البحث عن واقعية الروح المطلق وتشكيل صورة نسبية”[21].
علينا أن نحترز من أن نرى في مساءلة فاتيمو “للروح المطلق” مجرد نقد للتصوّر الهيغلي، فالأمر يتعلّق بخطة أكثر خطورة: إنّ الأمر يتعلق بما يسمّيه فاتيمو “تحديد موقع المطلق”، وهذا ليس غريبا عن “الفكر الضعيف” بوصفه “فكرا أرضيا” يتأسس على الاختلاف والجدلية من داخل جغرافية العقل المطلق بين شرق وغرب. عندئذ يضحي المطلق “وعيا ذاتيا راهنا (…) نحتاجه، حيث لا يمكننا أن نكون فقه دالاليما )*(Dalailama بل علينا أن نكون معرفتنا”[22]. فلكل واحد روحه المطلق الذي يعبّر عن انتمائه.
ويتساءل فاتيمو: ماذا لو تمّ تخليص هيجل من فكرة المطلق التام، أي من الوعي الذاتي الأكمل، وبماذا يفترض تعويضه؟
ثم يجيب بقوله: “حسب اعتقادي يمكن أن ينعكس فقط في فكرة الاختلاف الأنطولوجي التي تبدو منطلقا للمسار”[23]. والطريف في جواب فاتيمو هو أنّه قد جعل من “الاختلاف الانطولوجي”[24] شرطا ضروريّا لبدء مسار الفكر الضعيف الذي يقوم على “تنحيف” الذات و”إضعاف” الوجود والحقيقة.
يكشف فاتيمو، هنا، قبل كل شيء، الأسباب التي يبني من خلالها رؤيته للفلسفة الواقعية المباعدة حقّا عن العلم (الفلسفة التي دأبت على تعريف العلم، هي دائما ملتزمة، وفي نفس الآن، بإعادة تعريف العلم، كما يبدو جليا في حالة هوسرل) والتي لا تتبع تماما الأدب، ولا يمكنها أن تدمج مع السوسيولوجيا، ولا مع علم الثقافة، أو بعض أشكال الإرادة الحرة الفنية- الأدبية.
إنّ رصد الفلسفة على هذا النّحو في علاقتها بالعلم والأدب، إنّما هو تأمل ينمّ عن طرافة خاصّة. ووجه الطرافة أنّ فاتيمو يحدّد الفلسفة بوصفها شيئا “متميّزا” عن العلوم (الصّحيحة والطبيعية والإنسانية) وعن الفن، وهو “تميّز” مخصوص إلى الحدّ الذي يكون فيه صكّ التحكيم منضويا تحت تلك الإشكاليات العميقة المتعلقة بكلّ تلك المجالات ومتناسبا معها، فهي مشدودة بألف مشدّ قرابة، وموزّعة على كلّ عملية ثقافية.
II. تأويل الحقيقة
إنّ خطة فاتيمو هي ارتسام هرمينوطيقي لمفهوم الحقيقة داخل التناوب الأرسطي: حقيقة- صداقة. ويكشف عمّا وراء هذا الربّط التّناوبي من وضوح، الذي يأتي تمثيلا مذكرة تفضيل للصداقة، فينتهي إلى التنبيه إلى أنّ “المدينة” (polis) هي الأرضية التي منها تتشكل نظرية فلسفية للحقيقة، ويقدّر مصيرها. إنّه تحت هدي هذا النحو من النّظر، نُدعى الآن إلى الفحص عن مطالب فاتيمو في الفصل الثاني من “مهمّة الفيلسوف ومسؤوليته “.
1- ما هي دلالة الحقيقة؟ أو نحو تملك هرمينوطيقي لدلالة الحقيقة
يقرّ فاتيمو، منذ البداية، بأنّه “في عمق كل المناقشات بين الهرمينوطيقيين وضدّ – الهرمينوطيقيين توجد دائما مسألة الحقيقة بوصفها مطابقة”[25]، ومن ثمة يدعو إلى ضرورة الانخراط في مسار هرمينوطيقي لفهم “الحقيقة بوصفها قيمة“[26]. وعلينا، في هذا السياق، أنْ نتنبّه إلى أنّ فاتيمو قد عمد أوّل الأمر إلى فكّ الارتباط بين الحقيقة والمطابقة الوضعية، ثم إلى أنّه قد اتّجه من بعد في تحديد وجه الاقتران بين الحقيقة والصداقة في معنى “الوفاء”.
كيف ذلك؟
بدأ فاتيمو أوّلا بتأويل “الوفاء” بوصفه إخلاصا لكيان، لشيء “حدث”(evento)، ولموضوع (soggetto)، وهو قبل كل شيء حوار ومشاركة. وهو كذلك ما يسوّغ لنا البحث في السّؤال الآتي: بأيّ وجه يحمل الطابع “الصداقوي” على الحقيقة، أو بعبارة أخرى: بأيّ معنى ترتبط الحقيقة بالصداقة؟
إنّ التحرير الخطير الذي حرّر به فاتيمو ضروب الحقيقة من المطابقة إنّما يتمثّل في وضع إصبعه على مظهر ّ في غاية الأهمّيّة من هذه الصداقة، ألا وهو أخذ مسافة من المنطق المسنود من البلاغة، ونعني بذلك دون استعمال للانتقاء اللامسؤول في أغراضها التاريخية والنظرية. في نص بعنوان “الأسباب التي لا يعرفها العقل “(les raisons que la raison ne connaît pas) – طوّر فاتيمو جيدا هذه المسألة، مدافعا عن “عقل القلب” (ragioni del cuore) بوصفه يتنزل بذمّة عمل المفكر.
إنّ قصد فاتيمو هو الاستغناء عن أي ضرب من ضروب “المطابقة” الوضعية التي يمكن أن تتعلّق بها الحقيقية، ومن أجل ذلك يفترض أنّ “للقلب” أو “الفؤاد” إدراكا من جنس طريف تماما، ووجه الطّرافة أن هذا الإدراك هو مستطاع الوجود الأخصّ الذي للحقيقة، إنّه إدراك مفتوح انفتاحا جذريّا على الصّداقة التي تغذيها “الشفقة” (piétas).
فبأيّ معنى تغادر الحقيقة صحاري المطابقة لتستقر بأرض الصداقة؟
سعى فاتيمو إلى البرهنة على أنّ الطّابع “الصّداقوي” للحقيقة هو شرط إمكان لنمط الوجود الذي من شأن الذّات…. إذ يتوجّب برأيه “أن يكون في الفلسفة فتور تجاه الحقيقة بوصفها وصفا موضوعيا”[27].
كيف ذلك؟ يجيب فاتيمو: “كما تنص على ذلك فكرة الوصف الموضوعي للوضعية هي أنها لا يليق عرضها لأن الوضعية تكون دائما متسعة تحت تأثير انعكاسات التفكير: إنّها الوضعيّة، وإنّه الوعي بالوضعية، وهو الوعي بالوعي بالوضعية الخ….. لكن لا يتعلق فقط بضرورة البقاء “أوفياء” لديناميكية الوضعية (إذن إنه بالإمكان دائما التسليم الذي هو أيضا “نوع” من المطابقة المحمية، والتي ليست في كل الحالات ضرورية وملائمة لإسناد وضعيات محددة بتمعّن). توجد مسائل أخرى أعمق والتي يتوجب تقديرها”[28].
تقوم خطة فاتيمو على هذا الافتراض: “إن الحقيقة هي التي تجعلكم أحرارا”[29](La verità vi fara libiri). وتكشف هذه الأوّلية عن التّرابط المتين بين الحقيقة والحرية، ذلك أنّ الأولى هي شرط إمكان للثانية، إلاّ أن هذه البداهة لا تبدو بسيطة من حيث التركيب، فهي تحتاج توضيحا أكبر، وتأويلا أعمق لفهم معنى الحقيقيّ. فماذا عساه أن يكون؟ يجيب فاتيمو للتوّ: “يكون حقيقيا ذاك الذي يحرّرني (é vero cio chi mi libera)، ولا يحرّرني ذاك الذي هو حقيقيّ (mi libera cio che é vero)”[30]..
هكذا لم يعد ممكنا الاعتقاد في الحقيقة المتعالية، الواحدة والمطلقة والثابتة، كما نجدها عند الفيلسوف العقلاني أو رجل العلم الواقعيّ (بالمعنى الثوريّ للكلمة)، ولا حتى في فلسفة سبينوزا مثلا التي لا يعدّ من الممكن الاحتذاء بها. يقول فاتيمو “هذه هي وجهة نظر سبينوزا، فقد تأمل أبدية الحقيقة الرياضية بوصفها بنية ضرورية للكينونة، فهي غبطتي، يعني حريتي، ربّ حرية هنا تلك التي تتلاءم مع القبول المجرد والبسيط لأمر مفروض عليّ، يعني القضاء والقدر”[31].
ولئن كانت الحقيقة على هذه الشاكلة من الضّرورة التي تجذب الإنسان وتخضعه لحتميتها، فهي تبدو أكثر سلبية دينيّا أيضا (نور كشّاف لشيء شبيه). وهذا ما دفع شوبنهاور- برأي فاتيمو -وضمن وجهة النّظر هذه- إلى التّساؤل: “لماذا نحتاج إلى حب الطبيعة كما هي، لا لشيء إلاّ لأنها طبيعة؟”[32]، إذا كانت الطبيعة يحكمها قانون بيولوجي لا يرحم، والبقاء فيها للأقوى، وهو ما حدا بفاتيمو إلى القول: “في الطبيعة الحوت الكبير يأكل الحوت الصغير”[33]. لذلك فالخضوع للضرورة الطبيعية، أو بالأحرى تقبل طبيعة الحقيقة بوصفها “طبيعة مطبوعة” سيهدد الحرية التي هي قوام الحقيقة، عندئذ يحكم علينا بالمقاومة، يقول فاتيمو:”أنا أدافع بواسطة أظفاري وبأسناني. وهكذا السبيل، بمثل هذا المعنى تصير حريتي”[34].
ولكن هل بلغنا بفحص الألفاظ هذا إلى نواة التّأويل الأنطولوجيّ لمعنى الحقيقة؟ أليست الحرية هي السياق التّقليدي لتخريج هذه الصعوبة؟
لا شك أنّ هدف فاتيمو هو إخراج الحقيقة من منطق المطابقة العلمية ومنطق المطابقة الميتافيزيقية والدّينية. ويقول موضّحا: “لقد قلت بأنه يوجد في الهرمينوطيقا…تصور مختلف وأشدّ تعقيدا للمطابقة “[35]. وهذا القول يفصّل القرار الهرمينوطيقي الذي اتخذه فاتيمو: إنه ينبغي الكفّ عن النّظر من جهة الحقيقة كمطابقة، والانخراط في مساءلة مقصودة للعقل، وللوجود الذي يحمل عليه معنى الحقيقة. ويعتقد جياني فاتيمو أن “هيمنة” الحقيقة من حيث هي مطابقة على حساب الحقيقة بوصفها انفتاحا وتحررا، وأنّ هذا القمع للحرية، هو الوجه الأخر لعملية أساسية طبعت تاريخ الميتافيزيقا بأكمله، وبالتالي لا تحلّ رموز هذا التاريخ، إلاّ كتاريخ هيمنة وقمع للحرية. لقد قطع فاتيمو شوطا خطيرا في مساءلة الحقيقة من حيث هي مطابقة، إلاّ أنّ ذلك لا يبدو ممكنا من دون أن يحط الرحال عند هيدقير للتزود بالتحليل الوجوداني فيما يتعلّق بمبتغى الحقيقة: “أقرأ لهيدقر كل هذا، إن التحليل الوجوداني، مع فكرة المشروع، مع تماهي الشيء مع الأداة. هي بطريقة ما قراءة فلسفية للجملة “الحقيقة تجعلكم أحرارا” (la varita vi fara libiri)، لكن في معنى “يكون حقيقيا ذاك الذي يحرركم”. من الطبيعي عادة في حال وضع هذه المقدّمة، ينتج عنها أنّ ذاك الذي يحرّرني هو ذاك الذي ينقذني، يدفعني لإنشاء مشروع، الذي يمكّنني أن أترجّى ترجمته في الواقع، وفي المحصّلة أن يكون المشروع التّحرّري بواسطة الحقيقة، فمن البديهي أن الخلاص لا يعني بالضرورة التسليم بالأشياء كما هي”[36].
فما مغزى هذا القول؟
علينا أن ننبّه هنا إلى أمر لافت للنّظر في عرض فاتيمو لمعنى الحقيقة، إنه التّواشج بين الحقيقة والتّحرّر في تركيبة الإنسان بوصفه مشروعا: هو مفهوم “الخلاص”. إن طرافة هذا المصطلح هو أنّ فاتيمو يوظّفه بدلالته الأصلية حيث يعني معنى “الرّحمة “الإنجيلية. يصرح فاتيمو: “في مثل هذا الوضع لا أستطيع أن أتصوّر أن فكرة الحقيقة منفصلة عن الرّحمة الإنجيلية. التّحرّر الوحيد هنا والذي يمكن تصوّره، هو حياة أبدية في الرّحمة”[37]. ولكن علينا ألا نفهم معنى “الخلاص” بدلالته الفلسفية العامية، حيث يعني الحياة الأخرى، ففي الحقيقة ليس التّحرّر سوى” الرّحمة”.
ولكن بأي معنى؟
لو دقّقنا في دلالة “الرّحمة” كما يخرجها فاتيمو في أغلب كتاباته من “إيتيقا التّأويلية”(1990) و”اعتقاد الاعتقاد” (1996) إلى “الحقيقة أو الإيمان الضعيف” (2015)، لوجدناه في واقع الأمر يركز نكتة التّأويل على “الحوار مع الآخرين”، كما تعني “المحبة” و”الشفقة ” و”إنقاذ الآخر”…، لكنه يبدو غير حافل بالجذر الثاني للكلمة، أي جذر “الرّحمة الإلهية” وما تحمله من تعالٍ جعلها تنسلخ عن حقائق الأرض وحياة الناس. إنها الرّحمة الأرضية، ومحورها الأنا والآخر، يقول فاتيمو موضّحا موطنها بأنّه يكمن: “في الإصغاء للآخرين وفي الحوار مع الآخرين”[38].
بهذا المعنى ينبغي أن نفهم عبارته: “يكون حقيقيا ذاك الذي يحرركم”، في معنى أن يكون المشروع التّحرّري بواسطة الحقيقة، وأنّ الخلاص لا يعني التّسليم بالأشياء كما هي. إن الحقيقة متأصلة في الرّحمة وتحيا فيها. وبهذا يتبيّن أن ما به يكون هذا التّأويل للحقيقة مشروعا تحرّريا، هو أنّها مفسّرة بوصفها تجد معناها الأوفى في مفهوم التّحرّر، ولكن ليس بما هو “قول يقيني” ومسك ببرهان كما تكون عليه الأشياء، فالحقيقة بما هي تحرر لا تأتي إلى الإنسان من خارج أي من جهة حجة أخلاقية أو موجود غائب، وإنّما هي متأصلة في “الرّحمة الأنجيلية[39]. وقد تبدو عبارة “الإنجيلية” هنا موضع إشكال إلاّ أنّ هذا الإشكال سرعان ما يتبدّد بمعرفة طبيعة النقاش الذي أقامه فاتيمو مع المسيحيّة، وقد بلغ مداه الأقصى في كتابه “استفهامات حول المسيحية” (Interrogazioni sul cristianesimo) الذي يصرح فيه فاتيمو بما يلي: “عندما نتكلم عن التجسيد فنحن نتكلم عن إله كشيء متّضع، ضعيف ومعوز”[40]، إنّه وضع إنسان مشدود إلى الواقع شدّا، ولا يكاد يبارحه حتّى يتأثّر بإرهاصاته.
إنّ التّحرّر الذي يمكن تفكره هنا هو حياة أبدية “للرحمة”، يعني الإصغاء للآخرين ومحاورتهم والتجاوب معهم، ولكن من أجل أنّ الحياة الأبدية في الكتاب المقدس لا تفهم إلاّ بوصفها “مأدبة” (Banchetto)، فهي على حدّ تعبير فاتيمو: “ليست تأملا هندسيا لحقائق موضوعية”[41].
ولكن، أيّ معنى لأبدية ضائعة في التأملية المجرّدة للإله؟ ألا يكون هذا المشروع سقوطا في اللاّعقلانية؟
يجيب فاتيمو: “يبدو لي يقينيا أنّه أكثر عقلانية، مشروع تحرري من هذا النوع عوضا عن مشروع تحرري يتأسس على معرفة الأشياء كما هي”[42]. إن هذا مفصل خطير من تأويل فاتيمو لمسألة الحقيقة وذلك أنّه يلقي ضوءا جديدا تماما على مشكلة التّأسيس للحقيقة من جهة معنى التّحرّر وعلاقته بالرّحمة.
إنّ نكتة الإشكال قائمة في معنى “تعرف الأشياء كما هي
“conoscere le cose come stanno كيف ينتج عن “تعرف الأشياء كما هي، فهم الرّحمة في تأويل الحقيقة، ثم نبحث في معنى الرّحمة انطلاقا من الحقيقة؟ يستبعد فاتيمو أن تعني المعرفة ههنا نحوا من فعل الاستنباط المنطقي. وينصرف إلى تأويل معرفة الأشياء بوصفها من طبيعة الفهم الذي هو خاصّة للذات الإنسانية. هذه الخاصّة هي أنّ معرفة الأشياء هنا بمثابة “مشروع فهم”، بحيث أنّ التّأويل المشكّل للفهم لا يفعل سوى أن يترك الفهم يكشف من نفسه عن هيئة “الرّحمة” التي تشير إليها الحقيقة الموضوعية إشارة صورية. هنا يفيدنا فاتيمو بتخريج طريف لوظيفة “الحقيقة الموضوعية” من حيث أنها “تساعدني من أجل الفهم، كيف بإمكاني أن أتعايش أفضل مع الآخرين؟”[43]. إنّ قصد فاتيمو هو أنّ الحقيقة إنّما تأتي إلى الفعل التّواصلي ضمن “الرّحمة المعيشة” الذي هو مدار وظيفتها. إنّها تُطوّع عالم الحرية البشرية طبقا لعالم الحقيقة الموضوعية، فهي التي تجسر الهوة بيني وبين الآخرين ضمن عالم التّواصل.
لقد جعل فاتيمو السّؤال عن “الرّحمة “شرطا لضرورة مسألة الحقيقة. فكيف يبررّ هذا الموقف؟
يتعلّق الأمر بضرب من المفارقة، وصورته أنّ كلّ مشروع تحرّري ونظرية تواصلية لن يتحقّق إلا ّعلى أساس الحقيقة، وذلك بمعرفة الأشياء كما تبدو. ومن أجل تبرير موقفه هذا يستدعي فاتيمو هابرماس (Jürgen Habermas)، ويشرع في تأويل نظرية الفعل التواصلي بما يتلاءم ومعنى “الرّحمة”، يقول: “ليس من المصادفة أن يكون هابرماس مواليا للنظرية التواصلية والفعل التواصلي، إذ ليس بإمكانه بعد أن يختلف كثيرا عن الرّحمة المعيشة، مع أن هابرماس لا يمكنه تقبّل هذه النتيجة أبدا”[44]. ها نحن نعثر على نقد فاتيمي طريف “للحقيقة الموضوعية”، فلئن كان على قرابة لافتة تؤهّله للنظر في إشكالية الأطروحات الهابرماسية، فهو أكثر منها عملية وتواصلية مادام يقصد إلى تخريج جديد لطبيعة الحقيقة وقيمتها انطلاقا من معنى الرّحمة. إنّ هذا النّقد “الرحيم” للحقيقة الموضوعية في عصر العلم وهيمنة الوضعانية، الذي يتمّ تحت قلم فاتيمو إنّما يقع ضمن “الهرمينوطيقا الضعيفة “بوصفها إيتيقا. إنّه يقاوم تصوّر الحقيقة بوصفها “امتلاكا” من جهة أن الامتلاك مفهوم يجد أساسه في ظاهرة القوة والهيمنة وإقصاء الآخر، وهو يقاوم كذلك التّصوّرات الدّينية المسيحية “للخلاص” بوصفه – بالضرورة- التّسليم بالأشياء كما هي، من أجل “المعيش” المعاصر الذي لا يشكّل سوى صيغة لما بعد الحداثة ولما بعد فكر الأساس والحقيقة الواحدة القوية والمطلقة. إنّ هذه المقاومة التي باشرها فاتيمو تكشف عن تأويلية الفكر الضعيف للحقيقة والحرية، وقد حرص فاتيمو فيها على الذهاب قدما إلى المساءلة، والدفع بحوار مشترك حول هذا الموضوع.
إنّ مقصد فاتيمو هو إثبات أنّ الحقيقة بوصفها إقامة وسكنا مع الآخرين، لا ينبغي أن تضمر رؤية شديدة العداء في مواجهة الحقيقة العلمية.
ولكن، هل كشف فاتيمو بمثل هذه المساءلة عن نواة التّأويل الضعيف لطبيعة الحقيقة بوصفها صداقة؟
يبدو أنّنا لا نستطيع أن نجزم بذلك، ذلك أنّ دفاع فاتيمو عن التّأويل الضعيف للحقيقة قد اقتصر على إبراز وجوه الاختلاف بين الحقيقية الموضوعية والحقيقة بوصفها قيمة، أي حقيقة علوم الروح. وللإيفاء بهذا المطلب عقد فاتيمو الفقرة الأخيرة من فصل “قول الحقيقة” بوصفها الشوط الأخير والحاسم لبيان نكتة الإشكال في التّأويل الضعيف لمشكلة الحقيقة من حيث هو فصل المقال على ممكن الحقيقة باعتبارها صداقة.
بناء على ما تقدّم يجوز لنا التساؤل: بأي معنى يتأوّل فاتيمو “الصداقة” بوصفها الاسم الحقيقي للحقيقة؟
يقلّل فاتيمو من شأن الاختلاف الذي يقيمه بعضهم بين عبارة حقيقة و”صداقة” أو “محادثة حسنة”[45]. ويرى أنّه من المجدي في الواقع الاحتفاظ بنفس العبارة، ومواصلة الحديث عن الحقيقة أيضا في هذا السياق، فكلّ عملية فصل للموضوعين تعني في النّهاية تقبل النّظامين، وفكرة إمكانية الخلود والتسليم بقسوة الحقيقة الموضوعية، المطابقة، العلمية. وهو ما يعني الإقرار بأنّه ليس بإمكانك الحديث عن الرّحمة إلاّ في علوم الرّوح، ولا عن الحقيقة بوصفها قيمة وما إلى ذلك، بينما في العلوم الطبيعة لن يكون له أي معنى”[46]. ويقيم فاتيمو تواشجا طريفا بين علوم الروح (العلوم الإنسانية) وبين الرّحمة، وذلك من حيث هما مقامان “للحقيقة بوصفها قيمة”[47]، عندئذ، ووفق هذا المسار، تكون علوم الطبيعة غير قادرة على احتمال المعنى.
لكن، كيف نفسّر الحاجة إلى علوم الطبيعة؟ وما آليات فهمها، إذا كانت هذه العلوم لا تتضمن فعلا معنى؟
يبدو قصد فاتيمو هنا مضاعفا: فهو من جهة يكشف عن انحصار التصوّر التّأويلي المعاصر لمنزلة “المعنى” في تفسير العلوم، ومن ثمّة لتقسيم علوم الطبيعة بوصفها “خالية من المعنى”. وهو من جهة أخرى، يحاول بيان كيف أنه من الممكن استصلاح علوم الطبيعة والعناية بها عبر استنبات المعنى “لأنني أريد الدفع بحوار مشترك حول هذه الموضوع: إنه جلي بأن هذا هو المنطق الأكثر إنصافا”[48] كما يقول. إنّ الفرضية الموجّهة هنا هي، بلا شكّ، إدراج مسألة الحقيقة بوصفها انفتاحا وحوارا مشتركا.
2- دفاع عن الحقيقة
بعد إيضاح معنى “الحقيقة”، وبأيّ وجه تتعلق بقيمة “الرّحمة”، بادر فاتيمو بطرح سؤال حول ما إذا كانت هناك حقيقة أم لا؟ وهل يوجد مثال مخصوص للحقيقة؟
إنّ فاتيمو لم يشرع فجأة في طرح السّؤال حول “إمكانية وجود الحقيقة” كما يزعم سيفرينو ((severino، بل هو قد اخترع خطّة استشكال، ووجه الطرافة فيها هو الانتقال أصلا من نطاق البحث في الحقيقة، بوصفها قيمة تشاركية، إلى أفق البحث في “نمط الحقيقة الذي يعنينا”[49]. ولذلك فإنّ طرح فاتيمو للسّؤال السّاخر: “هل يوجد مصاصو دماء؟”[50]، إنما أراد من ورائه أن يدحض تصوّرا مخصوصا للحقيقة يفصل بينها وبين الأرض، ويجعلها تسبح في فلك متعال على التاريخ، ولا تنهمز بهمز الحدث، ولا يرى أنّ الأحداث هي التي تحدّث أخبارها. ويعدّ هذا المسلك استكمالا للذي سلكه في الفصل السابق، حين قرّر تقصّي “معنى الحقيقة” واستجلاءه، ونعني “الحقيقة بوصفها قيمة”. وهو ما يكشف قدرة التّأويل وآليّاته على تقصّي الخطاب، وفك شفرات اللّغة لتحرير مفهوم الحقيقة، وأنسنته حتى يشارف الدّلالة والمعنى. يقول فاتيمو: “ليس صحيحا أن الذي يبحث عن الحقيقة يبحث عن البعض من الحقيقة”[51]. قد تبدو هذه المقولة بمثابة مزحة تُقال في مقام مشروط، أو هي تعبير عن وضعية مخصوصة، إلاّ أنه يريد من وراء ذلك أن يدحض فكرة وجود مثال خاص بالحقيقة واستخداماته، و”أنه لا يوجد مثال خاص بالحقيقة يمكن استخدامه”[52]، ولتوضيح ذلك يفترض، في الآن نفسه، سؤالا ساخرا ما ينفك يجيب عنه: “هل يوجد مصاصو دماء؟ ربما نعم، لكن هذه الحقيقة يمكن ألاّ تثير اهتماما أو أنّها لا تشغلني، ليس هناك من باستطاعته أن يبرهن بأنّ مصّاصي الدماء غير موجودين، أو بأنّه لا يجدي نفعا اختيار إمكانية معرفة وجودهم أم لا”[53].
إنّ ما كان فاتيمو يبحث عنه على مدى الفقرات السابقة، ونعني بذلك الظفر بتحديد معنى الحقيقة وتحريرها من منطق المطابقة والموضوعية، قد يبدأ في استشرافه الآن في هذا الموضع. ومن جهة تاريخ الفلسفة، فإن فاتيمو هنا يثير مشكلة تقليدية هي مشكلة “الحقيقة المطلقة” أو “الحقيقة النهائية”، أي الاعتقاد في أنّه ليس ثمة إلاّ حقيقة واحدة، لأنّ القول بالحقيقة الجزئية أو “الحقيقة النسبية” يهدم إمكانية فهم معنى الحقيقة. وهو مشكل قد رسخته العقلانية الحديثة والعلمية والموضوعية للعلوم التجريبيّة.
يقدّم فاتيمو “التّأويل الضعيف” للحقيقة بوصفه حلاّ لمشكلة يبدو أنها ظلت في رأيه بلاّ حل برغم الجهد التّأويلي لرورتي، ليخلص إلى النتيجة الآتية: “إنّ من يكون منشغلا فقط بالحقيقة، سيعمل في الواقع فيما بعد بالانتقاء، وينتقي هذه الحقيقة أو تلك. وإن انتقاء الحقيقة ومفصلتها يذكرنا حسب فاتيمو بطبيعة العمل العلمي والعلوم التجريبية القائمة على التجزئة للمعرفة. ويستحضر فاتيمو، في هذا المقام، مثال البحوث الفيزيائية، إذ نجده يقول: “عندما نقوم بتجربة في المخبر لا نكترث بعرضها ضد الدّفوعات الالكترونية لـ “ألفا سنتوري” (Alfa centauri)، لأنّنا نفترض، ويتجلى لنا بوضوح، أنها ليست مهمّة. لكن، من يدري أنه بالإمكان، في المستقبل، أن نتبيّن أنّ العديد من النتائج العلمية ستغدو ملغاة بواسطة أحد النماذج”[54]. إنّ قصد فاتيمو من خلال هذا المثال هو الكشف عن الطّابع النّسبي للحقيقة الذي ما فتئت النّمذجة العلمية اليوم تروّج له وتثبته، والحل أنّ الحقيقة ليست معطى نكتشفه، بل يتم بنائها وفق نماذج وتصورات معينة.
ما فتئ فاتيمو ينبّه إلى أن الانتقال إلى التكثيف عن بنية الحقيقة العلمية والتحوّلات الطارئة عليها في عصرنا الحاضر ليس تطبيقا على حالة جزئية، وإنّما هو تدشين لنمط جديد من الحقيقة، تلك التي “يمكن افتراضها” أي الحقيقة الشيئية، أو “الحقيقة الضعيفة”، ولكن ما هو مقياس الضعف هنا؟ إنّه ليس شيئا آخر سوى حقيقة الإنسان نفسه الذي بات من المحتّم عليه أن يشهد على وجوده. يقول فاتيمو: “ولكن مرّة أخرى، يذكّنا هذا فقط أنّ هناك تاريخا يتدخّل لتغيير النتائج حتى تلك الأكثر أمانا، وتغيير طريقة استخدامنا لها”[55].
إن الحقيقة لا تظهر حقا إلا إذا أبصرنا من خلال الزحزحة التي أجراها فاتيمو على آخر تصوّر فلسفي وجّه فكرة الحقيقة في الفلسفة الغربية، ونعني التصوّر الرورتي. قد يظهر أنّ فاتيمو يحاول هنا أن يستأنف الجهد الرورتي لتأوّل الحقيقة بوصفها انفتاحا ومشاركة بعيدا عن المطابقة، والحال أنّ الأمر ليس كذلك. فالألفاظ لا تعني هنا ما كانت تعنيه لدى رورتي، يقول فاتيمو: “من الطبيعي جدّا أن يحملني كل ذلك بعيدا عن رورتي، الذي لا يزال إلى عهد قريب يزعم المرافعة عن الأطروحة التي مفادها أنّ “الحقيقة غير موجودة”[56]، مشدّدا على أنّ الدّلالة الحقيقية: “لم تعد تعبيرا بوصفها موضوعا ممكنا للبحث”. وتقتضي فرضية “الحقيقة غير موجودة” حسب فاتيمو، أن تكون هناك حقيقة وصفية إضافية تتعلّق “بعدم وجود الحقيقة”[57]، فأنْ يقع إخلاء الفعل، حيث تكون الحقيقة ليست تماما “موجودة” أو أنها “لا توجد”، ولكن من المستحيل، مع ذلك، أن يكون مثبتا أو غير مثبت، فإنّ هذا يظهر “التناقض المفضوح في الافتراض”[58]، على حد تعبير فاتيمو. إنّه، حين يتحدّث عن الحقيقة من جهة نظر تاريخ الوجود، فإنّ ذلك يوجب عليه أن يدخل في مناقشة جدية مع الفلسفة البراغماتية التي تحتاج إلى بيان تهافت أطروحتها تلك. لكن كيف يتأتّى له ذلك؟ يقول فيلسوف تورينو: “باعتباري فيلسوفا من داخل اللغة المتداولة لا أزعم القدرة على جعل اللغة المشتركة لغة حقيقة تنضوي تحت اسم الحقيقة التي تستوجب الإجابة أيضا عن غياب الحقيقة”[59].
إنّ اللاّفت للنّظر هو أنّ فاتيمو قد انصرف بالكلّية إلى تبيان طبيعة الحقيقة بوصفها متداخلة تماما مع اللغة، ومن أجل ذلك فتح هذا الفصل الذي قدّره لتخليص طابع الحقيقة من الادّعاء الرورتي، وهو ادّعاء يقول عنه فاتيمو ساخرا: “مثل غيره من وجهات نظره الأخرى، يتناسب أيضا مع نوع من المحاولة لتقويم أرجل الكلاب”[60]. ويضيف قائلا: “يوجد نوع من الوسواس النفسي للفكر التحليلي الذي يتوجب عليه أن يضع ترتيبا لكلّ شيء”[61].
يرى فاتيمو أنّ الخطاب يكون مختلفا تماما، حيث يوجد التاريخ، الذي من خلاله “تحدث” الحقيقة ويتمّ، فهم المعنى، ويعبّر عن ذلك بقوله: “يجب عليّ أن أفسر لماذا أنّ استعمال عبارة الحقيقة قد تغيّر اليوم؟ ولماذا يكون بمعنى ما صحيحا أنه “لا نمتلك أبدا الحقيقة”؟ إن تاريخ الكينونة قائم على مجموعة من الحوادث، ومن الوقائع التي حدثت، ولكن ليست تلك “الحوادث” التي يمكن تركها على حدة بمجرّد فعل ما: إنّها الأحداث. أي الحقيقة عبر تاريخها، وهي أحد هذه الأحداث، ومن الصعب التفكير في التخلص منها”[62]. إنّ قصد فاتيمو هو محاولة ترسّم السّياق الخاص بهذا التّأويل للحقيقة، ذلك أنّ الوظيفة الخطيرة لهذا الخطاب هي فهم المعنى من خلال التاريخ.
III. مهمة الفلسفة ومسؤوليتها
1- نحو اختراع نماذج جديدة من الكتابة الفلسفية
يفتتح فاتيمو الفصل الأوّل من القسم الثالث من كتابه: “مهمة الفيلسوف ومسؤوليته” بتحديد معنى “الكتابة على الصّحف”، مشيرا إلى أنّه قد انجذب إلى الصّحافة، واختار “الكتابة على الصحف”[63]، ومن ثمة شرع في إيضاح الخصائص الأساسية للكتابة الفلسفية التي تحركها أيضا “المنطلقات الشخصية”. بيد أن ما يهمّنا نحن في هذا الفصل هو بعده التّوضيحيّ والبيبليوغرافي. إنّه ضرب من الرّسم البياني للكتابة الفلسفيّة، حيث أنّ غرض فاتيمو هو تبيين أنواع الكتابة والطرق التي عبرها يكتب الفيلسوف خطابه وأسلوب اضطلاعه بمسؤوليته تجاه الإنسانية. وأنواع هذه الكتابات هي على التّوالي:
-الكتابة على الصحف (scrivere sui giornali)
– الكتابة وفق منطلقات شخصية (scrivere in prima persona)
أ-الكتابة على الصحف:
إنّ خطة فاتيمو في تحقيق ذلك هي الانطلاق من تعريف جديد للكتابة الفلسفيّة، هي الكتابة على الصحف. وهي كتابة أضحت جزءًا لا يتجزّأ من الكتابة الفلسفية ومن العمل الفلسفيّ، وانطلاقا من هذا الاختيار وصل فاتيمو إلى نتيجة حاسمة أجملها في قوله: “في النهاية أنا لا أعتقد أن هناك فرقا بين ما أقوم به أثناء تدريسي في الجامعة، وبين ما أقوم به عندما أكتب مقالا في صحيفة”3.
فما دلالة هذا البيان؟
تكمن أهمّيّة هذا البيان في أنّه يبيّن انفتاح الكتابة الفلسفية، ومغادرتها للأعمدة التقليدية للكتابة المتمثّلة في الكتب المرتّبة ترتيبا محكما و”قويا”، أعمدة لا تنفك تتعمّق الهوة بينها وبين الجمهور، أي بينها وبين الحياة اليومية. إنّ الغرض هنا هو محاولة استبصار انفتاح الفلسفة والثقافة اليوم على وسائل الإعلام والوسائط، وبعد أن نبّه فاتيمو في كتابه “المجتمع الشفاف” (1990) إلى أن الوسائط (média) “ظاهرة اجتماعية تحررية “وليست ضربا من التقنية الأداتية السالبة التي يمكن إن تؤدي إلى الاغتراب والاستلاب (مدرسة فرانكفورت، أدورنو وهوركايمر)، أشار إلى أنّنا نشهد اليوم تحوّل النّظرية إلى ممارسة، ومن خلالها تتشكّل مهمّة الفلسفة، ويضطلع الفيلسوف بمسؤوليته- التي هي على قدر كبير من الجسامة تجاه الإنسانية.
فبأي معنى تحدّد مهمّة الفيلسوف؟ وهل تنحصر مهمته في أداء وظيفته كأستاذ في الجامعة أم بالكتابة على الصّحف والالتقاء بالجمهور؟ وهل تحتمل الصّحف أعباء الخطاب الفلسفي في بلوغ أهدافه؟
تنفتح إجابة فاتيمو بسؤال إضافيّ هو: كيف نمارس الفلسفة دون أن تفقد معناها؟ والمعنى المقصود هنا هو معنى “النجاة” (Salvezza) من خلال نموذج فلسفيّ، وأيضا من خلال الكتابة. والنّجاة عنده “ليست النجاة الخاصّة بفرديّته”[64] (ma non tanto la mia individuale).
وينتقل فاتيمو بعد ذلك إلى مباشرة الإجابة على ما تقدّم من أسئلة، بقوله: إنّه يتعيّن علينا أن نفحص عن كيفيّة تأديتنا لمهنة أستاذ وأن ننهض بدور حاسم في تحقيق مهمّة الفلسفة بوصفها طريقا “للنجاة” وخدمة الآخرين. ويوضّح فاتيمو هذه الوضعية مؤكّدا “عليّ أن أمارس جيدا مهمّة أستاذ فلسفة، لأنّ ذلك هو عملي”[65]، ولكن ما المقصود بعمله؟ وما قيمة ذلك العمل؟ وهل يتقاطع مع مهمّة الفلسفة؟ يجيب فاتيمو للتوّ: “في النهاية، “لأنه عملي” يعني أيضا: أني أساعد الآخر”[66]. والملاحظ أنّ هذه الإجابة تتضمّن سببين كافيين للاضطلاع بمهنة أستاذ من قبل فاتيمو: السّبب الأوّل يتعلق بالأنا، فالعمل هو المحدّد لوجود الأنا، لذلك فهو واجب، وإتقانه ضروريّ. أما السّبب الثاني فيتعلّق بالآخر، إذ هو يهدف إلى مساعدة الآخر وتوجيهه.
وهكذا، منح هذا التوضيح مفهوم “إنسان” دلالة مستجدة من جهتين: من جهة الذات ومن جهة الآخر. أمّا من جهة الذات فنلاحظ أنّ فاتيمو قد انتقل من الحديث عن الفلسفة في المطلق إلى الفلسفة “المتعيّنة “التي تساعد، في رأيه، الأستاذ على استجادة ذاته عبر “العمل”. وأما من جهة الآخر فتبدو غاية التّربية وأهدافها واضحة هنا، حيث هي ممارسة عملية تفتح للأستاذ فسحةَ مساعدة الآخر على الترقّي و”الهجرة” إلى الإنسانية.
ويبدو أن ممارسة خطة أستاذ كانت رغبة حرّكت فاتيمو منذ بدايات تعلّمه المرتبطة بحراك الشّباب بإيطاليا في فترة الخمسينات، فقد كان هاجسه وغايته الكبرى تعليم من هم أصغر منه وأكثر شبابا. ويذكّرنا فاتيمو بأواخر مسيرته التلمذية في المعاهد، وبعلاقتها بالفلسفة، فيقول: “في نهاية المرحلة الثالثة بالمعاهد، كنت دائما ألقي المحاضرات في الواقع، وانتقل بصورة دورية للحديث عن الإنسانية الكامنة في ماريتان. هكذا كان قد نشأ موقفي الفلسفي”4.
بهذا يتبيّن أنّ الفلسفة متأصلة في تكوينه التربويّ وبداية تشكيل شخصيته، فالفلسفة بما هي عملية وبنية مقوّمة للدّنيا وللدّين لا تتأتّى إلى الإنسان من خارج (أخلاق، دين)، وإنّما هي متأصّلة في نمط وجوده الحرّ، وهو ما يجعله يختار أن يكون أستاذا يدرّس الآخرين، ومسؤوليته في ذلك كلّه توطيد انتمائه إلى الإنسانية. إنّ فاتيمو “مدين”، أي منطو على روح فلسفية أصيلة فيه “يحنّ” إليها كثيرا، فهو ملتبس “بالفلسفة في لقائها بالدّين”5، إلاّ أنّ ذلك لا يصير ممكنا إلاّ عبر “اشتراع” نموذج فلسفيّ ونمط مخصوص في الكتابة تكون الصّحف أحد أهمّ أشكاله، لأنّها الأكثر نفاذا للجموع وقدرةً على إثارة الواقع.
إنّ هذا مفصل خطير من تأويل فاتيمو لمهمّة الفلسفة، وذلك أنّه يلقي نورا جديدا تماما على مشكلة الكتابة الفلسفية بعامة. فهل ثمّة ضرورة لابتكار نمط من الكتابة يتوافق ومهمّة الفلسفة اليوم؟
يذهب فاتيمو إلى أنّ شكل الكتابة التّقليدي غير مؤهّل اليوم للنّهوض بمهمة الفلسفة، وذلك لأنّه يفترض مسبّقا ما يريد أن ينهض به، وما يجعل المهمة غير ممكنة هو أنّ المجتمع اليوم أصبح مجتمعا “شفّافا” محكوما بالاتّصالات المعمّمة، وأنّ مهمّة الفلسفة ليست في العمق، سوى نداء هذا الوجود الإنساني من أجل فهمه، حيث تكون الكتابة على الصّحف مثلا أداة لجسر الهوة بيننا وبين الآخر والعالم، مثلما أنّها تهيّئ درب الفيلسوف للعبور والهجرة إلى الإنسانية.
ب- الكتابة وفق المنطلقات الشخصية
إذا كان السّياق الذي تُعالج فيه مسألة ما تحدّد بوجه ما طبيعة تلك المعالجة، فإنّ علينا أن نكتشف السّبب الذي أتى بفاتيمو إلى “الكتابة وفقا للمنطلقات الشخصية” (scrivere in prima persona).
يمكننا أن نرصد في عنونة فاتيمو للفصل الثاني من القسم الأخير بـ “الكتابة وفق المنطلقات الشخصية” بعض مميزات التّفكير الفلسفيّ، حيث أشار صراحة إلى أنّ اهتمامه بالكتابة في البدايات كان صادرا، بلا مشاحة، عن حاجة داخليّة في البحث الفلسفي عن الوجود، ولم يكن مفروضا عليه نتيجة أيّ سياق من سياقات الكتابة الفلسفية التّقليدية، ولا بموضوعات “البدء” و”الشروع” و”البدايات”، ذلك أنّ البداية هي أفق مشروع، ولا يمكن رؤيتها إلاّ في أفق مشروعها…
وهذا النّوع من الكتابة الذي ابتدعه فاتيمو، والذي انعكس على وضعية الكتابة الفلسفية عنده، لم يكن سوى تدشين لما كان قد أعلن عنه سابقا في كتابه: “اعتقاد الاعتقاد”(cridere di credere) (1996) حيث كان، كما قال، بمثابة “الافتتاح لمذاق أدبيّ في كتاباتي الفلسفية”[67] (se c’é un apertura stilistico letteraria nel mio scrivere filosofico)
وقد يكون مذاق ما في الكتابة غير مستساغ، إلاّ متى كان نابعا من “عطف” ما ذي طابع ديني”[68]. لقد بقي أن نحدد الآن بأي وجه يتجسم هذا الجنس من الكتابة الفلسفية الذي يوفر إمكانية طريفة لإبصار الوجود، إذ لابد من طريقة جديدة في الكتابة ترقى إلى مستوى “النمذجة” (stlizzazione).
إن إقرار فاتيمو بأنّ هذا الجنس من الكتابة الفلسفية قد جاء “بدافع فردي وشخصي”، إنّما يكشف لنا حقيقة ما دفعه إلى الإقدام على اختراع نوع جديد من الكتابة بوصفها النموذج الوحيد القادر على سبر أعماق الوجود وإنارة ثناياه، وما تثيره هذه الكتابة من حميمية في اكتشاف أغواره. بيد أنّ ذلك يعني، إذا أبصرنا المسألة من زاوية التواشج بين نموذج الكتابة ومسار “الفكر الضعيف” ومن ثمة بين “الكتابة وفق منطلقات الشخصية” و”الفكر الضعيف”، بأنّ الكتابة تمثل “نموذجا” يفترضها الفكر الضعيف”[69]. بهذا يقيم فاتيمو تواشجا طريفا بين نوع الكتابة الجديدة و”الفكر الضعيف”، وذلك من حيث هما مساران يؤمّنان الانفتاح على الآخر، ويعقدان العزم على الهجرة إلى الإنسانيّة. إنّ الطريق إلى ذلك وعر، ويفترض استفهامات وتوضيحات مفهوميّة.
ولكن، علام يدلّ الفكر الضّعيف؟ وما وجه الجدّة فيه؟
يجيب فاتيمو قائلا: “يدلّ الفكر الضّعيف، عندي أيضا، على نوع من السّخرية العميقة إزاء أي انتفاخ ذاتي، باتجاه كل النّمنمات أو التّعبيرات الخاصة جداّ، أي الوجدانية”[70].
إن مقصد فاتيمو هو الاعتراف بأنّ الفكر الضّعيف هو ضدّ العقل القويّ، فقط لأنّه يوجد من أجل أن يكون بين الضعفاء، ومن هنا يستوجب منّا فنّ الإصغاء، ومن بعد إمكانيّة أن يتكلّم الوجود من جديد. ولا أظنّ أنّ غير الهرمينوطيقا يمتلك هذه الصّلوحية، يقول فاتيمو “عندئذ تسترجع الهرمينوطيقا بالأحرى نموذجا مختلفا لقول دلالة البدء”[71]. ذلك أنّ إشكالية “البدء” هي إشكاليّة محورية اليوم في الفلسفة، و”الفلسفة هي أيضا اليوم تفكير في البدايات، وفي الأسس الأولى التي من خلالها تترتّب كلّ أنساق المعارف “اللاّحقة”[72]. لا شك أن الفلسفة عبر محطاتها المختلفة قد جعلت من أولى اهتماماتها مساءلة البدايات، ويستحضر فاتيمو، في هذا السّياق، كيركيقارد بوصفه ناقدا، ومستأنفا في الآن نفسه مشكلة البداية الهيجلية. يقول فاتيمو: “من هذا المنطلق، فإنّ الكتابة من منطلق شخصي ليست انحرافا لمشكلة البداية، كما أنها ليست الطريقة التي تجعل الطبيعة التّحكميّة (الشّخصية) جليّة والتي تكون في مجملها ضرورية لما يقال وللطريقة التي يقال بها”5.
وكعادته التّأويلية في استدعاء كبار الفلاسفة التّأويليين المعاصرين لمحاورتهم بخصوص أهم الإشكاليات الفلسفية، استحضر هذه المرة دريدا ورورتي، للمقابلة بينهما ومحاورتهما، من ذلك قوله: “عندما قال دريدا نحن في هذه الجزيرة سلكنا دربا ووصلنا إلى هذه الجزيرة، تثور فيّ عديد التساؤلات، على خلاف رورتي الذي لا أحبّذه كثيرا. وعندما يوجد أسلوب شخصيّ في النّموذج الفلسفي لدريدا، أتّهمه بالأدبيات في المعنى السلبي للكلمة”6. ويرفض فاتيمو توظيف الأسلوب الشخصي الذي تعبّر عنه السرديات الأدبيّة في النّموذج الفلسفي، لأنّ ذلك سيفقد الفلسفة تميّزها عن الأدب، ويجعلها تحيد عن دأبها في قول الوجود، فحتّى الشّخصي والبدء تشخّصه الفلسفة ليروم معاشرة الوجود، فيكتوي بنار حيرته، وتمنحه بذلك تأشيرة الحجّ إلى الإنسانية. لقد كان فاتيمو واعيا بخطورة مشكلة “البدء” بوصفها تمثل “طابعا شخصيا، وفي الآن نفسه لاشخصيا للفكر في فعالية الوجود”[73]. وهذا ما جعله يسميها بـ “حيرة” (imbarazzo) البداية. وربّ “حيرة” أبعد ما تكون عن الحالة السّيكولوجية، وفي هذا يقول فاتيمو: “وفي المقابل، حسب رأينا، هي بالخصوص شيء فلسفيّ: إنها حيرة الوجوداني”[74].
لقد أراد فاتيمو بذلك أن يجذّر مسألة “البدء” داخل الفلسفة كمبحث في الوجود. وانطلاقا من وجهة النظر هذه يبرّر فاتيمو كتابته في بداية الشخصية (prima persona) على أنه بمثابة وضع للسؤال من داخل مشروع مشترك، أو هو مثلما قال روني: “انثناء وتثنّ حول المخيّلة الشخصية”[75] بما يجعل ممارسة الفلسفة ضربا من الممارسة للحرّية من أجل إعادة التّعريف بواسطتنا نحن. وهي ممارسة للحرّية، لن تكون ممكنة إلاّ في إطار الفعل السياسيّ.
2-الفلسفة والسّياسة
أ-السقوط في السّياسة
يبدو أن فاتيمو قد انجذب إلى السّياسة مبكّرا بقدر انجذابه إلى الكتابة على الصّحف، إلاّ أنّ الملفت للانتباه هنا (انطلاقا من العنوان) هو استخدامه للعبارة السّاخرة: “سقوطي في السّياسة”(caduto nella politica). إنّ في ذلك أكثر من دلالة، إنّه الوقوع في الممارسة والفعل السّياسيّ دون أن يعني ذلك التّعثّر أو السقوط الذي لا يعقبه الوقوف، فهو السّقوط الواقف الذي يحفظ المآل، والذي يعبّر عن موقف، وينمّ عن حرّية ومسؤولية تجاه ما يحدث. وقد تأوّل فاتيمو نفسه معنى السّقوط بما يلي:
- أولا أنّه دائما ما تطرح في الفلسفة مسألة السياسي الجيّد، ومسألة المشترك السياسيّ. وهذا من شأنه أن يبرر الفلسفة سواء كانت تعليما أكاديميا أو بوصفها “كتابة على الصحف”، أو ممارسة للسياسة وهو أخطر أنواع السّقوط. يقول عنها فاتيمو: “هذه الانعطافة الأخيرة والتي أجد نفسي اليوم في مواجهتها…”[76].
- ثانيا أن السّقوط يُفهم هنا بمعنى الالتزام والمسؤولية تجاه الإنسانية. إنّه “النزول” و”الإقامة”. وليس “الهبوط” و”الانحدار”، لذلك هو سقوط اختياري تجسر فيه الهوّة بين الفلسفة والعلوم الإنسانية، لكن ليس على شاكلة “النموذج نفسه الذي بدا فيه رورتي يفهم الترابط بين دريدا والأدب بوصفه خطوة تحويلية للهروب إلى أزمة حقيقية موضوعية وتاريخية للفلسفة”[77]. إذن بأيّ معنى يتأوّل فاتيمو العلاقة بين الفلسفة والعلوم الإنسانية؟
يجيب فاتيمو قائلا: “يبدو أن المرور من الفلسفة إلى بعض العلوم الإنسانية الأخرى أو الممارسة الثقافية هو شكل من السّقوط أو من المغفرة”[78]. بهذا يكون السّقوط في الفعل السياسي والثقافي هو إحلال الممارسة في النّظرية، وهي خاتمة محمودة لخوض غمار الفعل ومرسى لمطاف السّؤال عن الخير.
يكشف فاتيمو عن الأسباب التي دفعته إلى اختيار نهج الفلسفة مبكرا، ويشرح ذلك قائلا: “أشعر بالتورّط في مشروع تغيير الإنسان ضمن برنامج للتحرر”[79]. هكذا بدت الاستمرارية واضحة في هذه الشهادة لحالة فاتيمو الذي أقبل على دراسة الفلسفة بدافعية تغير الإنسان والعالم. ثم يعزو فاتيمو هذا النّزوع لتغيير العالم إلى وضعيته الاجتماعية، وانتمائه الطبقيّ. ذلك أنّ فاتيمو ينحدر من أصل بروليتاري. وهو ما أكّده بقوله: “قد يكون هذا راجعا إلى أصلي البروليتاري: إنهم البروليتاريون الذين لا يمكنهم تخيل تغيير حياتهم الخاصة فعلا إن لم يشرعوا في تغيير العالم”[80]. لا ينكر فاتيمو بأنّ الوسط العائلي الذي نشأ عليه -لأمّ أرملة، وأب جنوبي كان يعمل ضمن الشرطة – قد حفّزه على الانخراط في مشروع تغيير جذريّ وراديكاليّ، وأنّ كلّ تلك الوضعيات الاجتماعية والنفسية قد أدّت إلى ولادة فاتيمو فلسفيّا، واستمراره في هذا النهج، ونحت “شخصيته المهنية والأكاديمية”[81].
وحول مهمة الفلسفة وعلاقتها بالسّياسة منذ القدم، أعاد فاتيمو قراءة أفلاطون، وانتهى إلى خلاصة مفادها “أنّ أفلاطون هو الفيلسوف السياسي”[82]، إذ على الرّغم من الطّابع الإشكالي الذي لا يخلو من مفارقة حول هذه المسألة، فإنّ ذلك لا يحول دون ارتباط الفلسفة العميق بالمدينة «polis» لدى أفلاطون. وربّ ارتباط مثّل ميزة للفلسفة الإغريقية ككلّ في نظر فاتيمو.
هذا الطّابع السّياسيّ للفلسفة الذي نشأ منذ فجر الإغريق يستمرّ حتّى اللّحظة الرّاهنة داخل الثّقافة الغربية. وإنّ سقوط الفلسفة في السياسية، ومهمّة تغيير العالم هي ميزة “غربية” خالصة على حدّ تعبير فاتيمو مستأنفا في ذلك مقولة هوسرل: “الحقيقة أوربّية”. ويضيف قائلا: “عندما نذهب للبحث عن الفلسفة في العالم اللاّغربي سنجد فقط في المعرض بعض التّحريفات تسمّى فلسفة بحسب الهندوس والعرّافين الخ…؟”[83].
إذا كان فاتيمو يرى أنّ الفلسفة “علم تاريخي”[84]. فلسائل أن يسأل: بأيّ معنى يراها كذلك؟
يجيب فاتيمو نفسه قائلا: “ليس فقط بالمعنى الذي قيل، ولكن أيضا بالمعنى الذي نشأت عليه بواسطة تاريخ للثقافة، وبواسطة ضرب من الثقافة التاريخية، ولا أعرف ما إذا كانت ستموت بهذه الثقافة”[85]. وبناء على ذلك فإنّه لا ينبغي أن نحصر مسألة “العلم” في حدود السّؤال عن تاريخ الثّقافة، ذلك أنّ كل البحث التّأويليّ للفلسفة والثّقافة والعلم لدى فاتيمو يتسدّد نحو معنى “الوديعة”[86] التي أثارها هوسرل في أزمة العلوم الأوربية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية..
من أجل ذلك يختم فاتيمو الفقرة الأخيرة بنوع من التنبيه إلى محدودية مسألة الثقافة بالنظر إلى مسألة أخطر منها، هي السّؤال عن الطبيعة في أفق السّؤال عن معنى التاريخ بعامة. فالسّؤال عن تاريخ الثقافة أو العلم لا يستوفي السّؤال عن معنى التاريخ بعامة.
ب-السّياسة لدى الفلاسفة
بعد أن كشف فاتيمو عن أسباب «سقوطه في السّياسة» وخلفيات هذا السقوط، كما تبرز إذا تمّ تفحّصها من جهة الحلم في تغيير الإنسان والعالم، أي في ضوء نمط الوضعية الاجتماعية وتغييرها إلى الأفضل، نراه يتنقل التزاما تأويليا صريحا بطبيعة التّحليل التّمهيدي للقسم الأخير في “مهمة الفيلسوف ومسؤوليته”، من حيث أنّه يكشف عن حضور السّياسة عند الفلاسفة، إذ الغرض هو معاودة عين التحليلات السابقة ولكن كما يحتملها نمط الفلسفة السّياسيّة.
ونحن نلاحظ أن فاتيمو قد أحصى ههنا من أنماط الحرفة الفلسفية خمسة هي على التوالي: «فلسفة» و«مشروع» و«تاريخية» و«تنظير» و«تحرر»[87]، ثم انتهى إلى الكشف عن القاسم المشترك بينها، أي مقام «الاحترافية «[88]. وخلص فاتيمو إلى الكشف عمّا اعتبره جنس النّمط الجامع لهذه الضروب الفلسفية الخمسة، وهو ما يسمّيه بـ«الاحترافية» أو «الحرفة الفلسفية»[89]، حيث يكشف المسار التّأويلي عن الحدود الفاصلة بين كلّ وجهة نظر، ويتأوّل فاتيمو نوع الممارسة الفلسفية تلك قائلا: “أعتقد أنّها تقترح عليّ اختيارات عدّة ووضعيات ليست «احترافية»، وليست بالمرّة «أكاديمية»”[90]. ويقيم فاتيمو كذلك تمييزا بين المهنة السياسية الصرف، والمهمة الفلسفية الموجّهة نحو السّياسة، وهو ما يوضّحه قوله: “إن المهمة السياسية الصرف لها بعض الاختلافات المحترمة مع مهمّة فلسفية موجّهة نحو السّياسة”[91].
يجب أن نعترف أوّلا أن تداخل السّلطتين السياسية والمعرفية ليس جديدا، ولا مرتبطا بفضاء الثقافة المعاصر. لقد سبق لأفلاطون أن فكّر في هذا التداخل، ووجد له جذرا يقتضي تمازج السّلطتين داخل شخص واحد. وأجمله في قوله: لا يصلح الحكم إلاّ إذا تفلسف الحكام أو حكم الفلاسفة، وقد كان كانط واعيا بهذا الرّهان، من أجل ذلك بادر إلى الاعتراف بأنّ هاجسه هو أن يتحمّل الفيلسوف مسؤولية التّدبير الأخلاقي والتّربويّ. الأمر الذي دفعه إلى قبول تميّز مجال السّلطة والشّرعية السّياسية عن مجال سلطة العقل الفلسفيّ وشرعيّته.
يراهن فاتيمو على سياسة الفلسفة لمتابعة التّحرّر، ورسم السّبيل نحو الكونيّة من داخل الفلسفة دون أن تتحوّل إلى مهنة في السّياسة الصرف، يكون فيها الفيلسوف سياسيّا مختصّا ومحترفا. يقول فاتيمو: “إنّ مهمّة جعل سياسة الفيلسوف متابعة التّحرّر كفيلسوف وليس كسياسيّ مختص ومحترف، يعني لي اتخاذ خيار بمعنى ما أكثر كونية، بصفة أدق، بشكل غير مباشر متورّط مع أقلّ نتائج مباشرة ذات طابع سياسي تشريعيّ… ولكن أكثر تعليميّة”[92].
وبما أنّ للخطاب الفلسفي حضوره داخل الفضاء الاجتماعيّ العموميّ الذي تشكّل السّياسة أحد مجالاته الأساسية، يشترط فاتيمو بأنّه “عند اختيار ممارسة السّياسة كفيلسوف، فإن البيداغوجيا لديها الكثير ممّا تفعله، ذلك أن فكرة تثقيف الإنسانية تقوم على تغيير الإنسان قبل تغيير البنية”[93].
لقد كانت ثقة فاتيمو في الفلسفة كبيرة جدّا، فهي طريق التّحرّر، وتثقيف الإنسانية. لذلك بدا الاهتمام بتأصيل شرعيتها البيداغوجية لافتا. ونقصد بذلك شرعية تربية الذهن على التّفكير والفهم والجرأة على قول الحقيقة. هنا تأخذ بيداغوجيا التّكوين الفلسفيّ كامل أهميتها. ويجب أن نشير هنا إلى أن انفتاح الفلسفة على السّياسة لا يجعلها تفقد طبيعتها الذاتية ومسؤوليتها المعرفيّة والسّوسيو-بيداغوجيّة.
والواقع أنّ البحث في مهمة الفلسفة ومسؤولية الفيلسوف لم يكن راجعا لدى فاتيمو إلى اهتمامات بيداغوجية صرف، مع أنّه مارس التّعليم الجامعيّ لسنوات عدّة، بل هو من صميم نظريّته الواقعيّة. فقد كان تفكيره في مهمّة الفلسفة وعلاقتها بالسّياسة ومسؤولية الفيلسوف تجاه الإنسانية ضدّ كلّ أشكال التّخصص العلميّ والتقنيّ والمهنيّ امتدادا لبحثه في إمكانية إصلاح الإنسانية، وترشيد الفعل السياسيّ. لهذا السّبب، جعل القسم الأخير من كتابه: “مهمة الفيلسوف ومسؤوليته” منصبّا على ما أسماه “السّياسة لدى الفلاسفة” التي تبحث في شروط التفلسف وممارسة السّياسة، أي في جملة القواعد التي تمسّ عمل المتفلسف الذي يريد ممارسة السّياسة، وتزوّده بمجموعة مبادئ من إيتيقا الفعل السياسي كالبيداغوجيا، والتّحرّر والمواقف الثقافية من أجل تعزيز الديمقراطية. هذا الوعي الثّقافي بمقتضيات الممارسة السياسية أو إحلال الثقافة في السّياسة دفعه إلى القول بأنّ “المسار الديمقراطي يقود قبل كلّ شيء إلى هذا، أكثر ممّن يمارس السّياسة توّا ومباشرة مصداقا، لقوله: إذا كنت ديمقراطيا عليك قبل كل شيء إنتاج ما يسمى نظرية، أي أفكارا، ومواقف ثقافية…”[94]. لا يثبت فاتيمو مهمّة الفلسفة ومسؤوليتها في التّحرّر والهجرة إلى الإنسانية عبر ممارسة السّياسة، إلاّ لكي يؤسّس لمهمّة أخرى هي التي يسمّيها إنتاج أفكار نظريّة، ومواقف ثقافية تنشدّ إلى المعنى والقيمة، هي شرط كل توجّه ديمقراطيّ من شأنه أن يخلّص السّياسة من قوتها وعنفها وطغيانها.
ج- سياسة الفلسفة وفلسفة السّياسة
لقد أوصلنا تحليلنا لمهمّة الفلسفة إلى التعرّف على الطريقة التي تُمارس وفقها الفلسفة. كيف ذلك؟ لا بدّ أن تنطلق الفلسفة، التي هي طريقة في التفكير محدّدة، من الدّين والسّياسة. وهو ما أكّده فاتيمو مرارا ومنها قوله: “بالنسبة إليّ، الفلسفة الوحيدة، الطريقة الوحيدة لممارسة الفلسفة هي ما وصفته، انطلاقا من الدّين والسّياسة.”[95] لا مكان، إذن، للبحث عن الفلسفة خارج الفعل والرّجاء، إنه المنعطف الفلسفي الذي يثبت حقيقة ذات بعدين: إذا كانت الفلسفة بحثا في الدّين والسّياسة فإنّه لا معنى للدّين ولا للسياسة خارج الفلسفة. إن ممارسة الفلسفة وفق هذا المنحى هو ما “يميزها” عن غيرها من الخطابات، ويضمن لها “الاختلاف” الذي يميّزها عن أيّ احتراف علمي آخر.
يضيف نص “ملء الفراغ” (Riempire I vuoti) مشكلا إلى هذا التّعدّد الدّلالي الذي يطبع مفهوم الفلسفة، فهي تردنا هنا إلى الدّين والسّياسة بوصفها عملية بالأساس. فكيف تكون عمليّة وقد نادي هوسرل بأولوية العلماء على الفلاسفة؟
يبدو تصوّر الفلسفة، كما يقدّمه نص “مهمة الفيلسوف ومسؤوليته” هنا، مخالفا للأطروحة الهوسرلية. وهو ما يؤكّده قول فاتيمو: “في هذا المعنى لست متّفقا مع ما قاله هوسرل في “أزمة العلوم الأوروبية”، أي هناك العلماء، ومن بعد يوجد الفلاسفة “موظفو الإنسانية”[96].
في النصّ نفسه يذهب فاتيمو إلى القول بأولويّة الفلسفة، وأهميتها في الحياة الإنسانية، على نحو يمكّن من إبعاد شبح الوضعية المشكّكة في جدوى الفلسفة وضرورتها. على أساس هذا التقرير يمكن أن نميّز بين من يمارس الفلسفة ومن لا يمارسها. ولعلّ فاتيمو بهذا التّمييز يردّ على أطروحة هوسرل والرّافضين لأولوية الفلسفة، وفي نظره “أنّ الذي لا يمارس الفلسفة هو رجل مستقيل، أو “ميكانيكي شرير”. [و] إن أي جهد للنظر بتسامح مع الوضعيات الإنسانية الأخرى يبدو لي إلى حدّ ما منافقا، أنا أتفق في النهاية أنه لا أحد يستطيع صراحة أن “يتخصص”، إن لم يكن دائما يقدم مجمل الحياة الروحية: وهذا هو “الفيلسوف” الذي يوجد في كلّ الحياة”[97].
إنّ الهمّ الذي يشغل فاتيمو هنا هو تأسيس الفلسفة بوصفها عمليّة بالأساس، وتشمل كل جوانب الحياة الدّينية والدنيوية، وتبدو الفلسفة في هذا الانشغال النظري متميزة عن العلم. إنّها تؤسّسه، ولكنّها تتجاوزه وتتخطّاه، إذ يمكنها أن تقف على حدوده وتوظيفاته السّياسيّة. على أنّ الاختلاف بين هذين المجالين لا يصل إلى درجة ازدراء العلماء والمختصّين. فواقعة العقل تعرّفنا على الحياة باعتبارها مجالا رحبا لتكامل الخبرات، وللجمع بين النّظري والممارساتيّ، وهو ما لخّصه فاتيمو في قوله: “لا أعتقد أن أصدقائي الأطباء، أو الكيميائيين، أو التقنيين هم معوزون: ولكن أتساءل في ما يفكر أولئك الذين لا يقومون بهذا العمل، عندما لا يقومون بعملهم. ماذا يفعل تاجر الدّجاج عندما لا تكون تجارة في الدّجاج؟ … أحيانا أفكّر بأنّ أهمّية الإيروس في حياة الإنسان تكمن في الحقيقة في أنّه بالضّبط يملأ الفراغات الشّاغرة في العمل”[98].
وأمّا الفلسفيّ ما بعد هيدغريّ، فإنه مع اكتشاف التّفكير، يميّز بين العقل الحاسب والعقل المتأمّل، فلا يكتفي بالتقاط مفرداته من المعرفة العلمية أو التخصّصات فحسب، ولكنّه مكلّف في الوقت ذاته باختراع ضرب جديد من التّفلسف نفسه، واجتراح تقاليده غير التقليدية، المباعدة، والمتميزة عن العلم والتخصّصات. ولكن ماهي هذه الفلسفة؟ إنها “الآن هي ما تفكر فيه عندما لا يكون لديك شيء محدد للتفكير فيه… بهذا المعنى ربما يكون التفلسف متوافقا مع أكثر من موهبة أو مهمة، مع نقص: أو بالأحرى مع تعاظم ومأسسة النقصان. عندما نفكر “مهنيا” في الفلسفة، مهما كانت الفسحة للمواضعات الوجودية، عندما لا تكون التخصصات المهنية نشطة، عندئذ تكون لمجموع الحياة الروحية بداهة أكبر”[99].
بهذا التّمعين وحده يمكن فهم معنى “الانحراف”، ” إنّه من الواضح بأنّ هذا النّوع من ” الانحراف” نشأ فقط في بعض أصناف المجتمع، وفي وضعيات اجتماعية مخصوصة”[100]، وتحتاج الفلسفة، هذا التفكير الذي يحتاجه كلّ إنسان، إلى إعادة بناء مستمرة وتعريفات جديدة بما يجعلها محايثة للمايحدث، تعد بكل شيء ويكون فيها التفكير حدثيا، واقعيا وراهنيّا.
فهل هي الفلسفة التي تدرس أكاديميا، أم أنّها تلك التي تفترض وجود مهنة خاصة بها؟
يجيب فاتيمو: “إذا لم تكن هناك دراسة أكاديمية للفلسفة، وإذا لم تكن هناك فرضية لمهنة من هذا النوع، فإنّه لا أحد يفكّر في التّأكيد على عدم وجود أفكار محدّدة كفكر. كذلك مرة أخرى، إن الفلسفة هي فقط الإنجاز التاريخي في مكوّنها المحض”[101].
لم يفكّر فاتيمو في الفلسفة باعتبارها نمطا خالصا للفكر فقط، بل تمثّلها أيضا عبر حضورها المؤسّسي داخل فضاء الجامعة، وهو بذلك لا يربط مصيرها التاريخي بممارسة التفكير وحدها، بل بوجود هذا الفضاء وما يوفّره من دراسات أكاديمية وبحثية من جهة، وكذلك بما يوفره من “مهنة” تدريس لأستاذ الفلسفة من جهة ثانية. غير أنّ صيغة النّقد الفاتيمي للفلسفة “كمهنة” ستأخذ بعدا أعمق يبعث على السّخرية، من ذلك حينما يثير فاتيمو مسألة وصاية الحكومة على الفكر بوصفها المسؤول الأوّل عن دفع أجر أساتذة الفلسفة؟ يقول فاتيمو: “أحيانا عندما أفكر كطفيليّ، لا أفكر فقط بسخرية، بهذا أسأل: إلى متى ستظل الحكومة تدفع أجر أساتذة الفلسفة؟ “بالتأكيد أن الفلسفة ليست مهنة “طبيعية”، ليس من الفراغ أن فلاسفة الماضي ينظفون ببطء، هناك دائما شك في البهجة، والذي يخلق حالة من عدم الاستقرار في هذه المهنة”[102].
لن يقبل فاتيمو أن تكون الفلسفة مهنة طبيعية – كغيرها من المهن الأخرى تابعة للحكومة- يتقاضى الفيلسوف أجره جراء تعليمه للإنسانية. ليس التّعليم الفلسفي مجرد تخصّص لسرد حكاية عن تاريخ الفلسفة وأنساقها، بل هو ترسيخ القدرة على البحث عن سياسة الحقيقة التي تعنينا والتي تكون في علاقة محايثة للواقع وأحداثه ومع مجموع الحياة الروحية، “لقد مثّلت “أزمة العلوم الأوربية” مشكلا، ذلك أنّها حافظت على الخاصية الخاصّة في علاقة مع مجموع الحياة الروحية، وإذا كانت حاضرة هامشيا في كل مهنة، فإنها حاضرة بنيويا في الفلسفة”[103].
د- سياسة بناء الكونيّة
بعد الوقوف على مسارات وأهداف “السقوط في السّياسة”، وبعد معرفة الدّور المنوط بعهدة الفلسفة في تعلّقها بالسّياسة، علينا أن نفهم الآن بأيّ معنى استثمر فاتيمو ذلك في تبيّن حقيقة بناء الكونيّة؟
ينبّه فاتيمو إلى أنّه، عندما يفكّر في مشكل التخصّص واللاّتخصّص، يشعر “بالذعر في الحديث، إذ نعثر فقط على نسبة 0.0001 بالمائة للإنسانية”[104]. ويكشف هذا الرقم المفزع عن التدنّي الخطير للوعي بالإنسانية، ومردّ ذلك إنّما هو مشكلة العمل، وما يفترضه من تخصّصات بعيدة جدّا عن مسألة الثقافة، وتوجد ضمن نظام عيش مجرد، وذلك يعني-بحسب فاتيمو- أنّ حياة الأغلبية من البشر هي روحيّا مضبوطة بالدّين، وتتحرك بالميل بين دواعي العقل ونوازع الذائقة. وإنّه لذو دلالة أن فاتيمو يطرح مسألة «الموت جوعا في المدن»[105] وضمن هذه الزاوية علينا أن نفتّش في معنى الإنسانية وعلاقتها بالسّياسة في كتاب “مهمّة الفيلسوف ومسؤوليّته”، وبخاصة ضمن هذا الفصل الأخير من الكتاب الذي أودع فيه فاتيمو أطروحته حول مهمّة الفيلسوف وعلاقته بالسّياسة.
بادر فاتيمو بطرح السّؤال الأكثر إحراجا للفيلسوف تجاه مشكل الإنسانية، وهو: «أي معنى يمكن أن يثيره مشكل الموت جوعا؟»[106]. إنّ القصد من وراء سؤال كهذا هو امتحان مدى التزام الفلسفة بالإنسانية، في زمن أعلنت فيه الفلسفة الهجرة إلى الإنسانية.
يقول فاتيمو «أنا بالفعل أكون خائفا في بعض الأحيان بسبب ضيق الأفق الذي منه تتحرك تأمّلاتي أنا نفسي الذي يبشّر بـ “نكران النفس”*. في الواقع أتكلم فقط عن نفسي، وعن أولئك الذين يقومون بحرف مماثلة أو مختلفة عني» 6.
لن يهمّنا من هذا الاعتراف الخاصّ تجاه ما يحدث في قضية الجوع سوى ما يضيفه بالنّسبة إلى موقفه من هذه القضايا الإنسانية من صراحة أو جرأة، وما يتعلّق بالسياق الذي أتى منه فاتيمو إلى مسألة بناء الكونيّة في علاقتها بالسّياسة. ووجه الطرافة هنا هو عثورنا أوّل الأمر على مفهوم دينيّ يشبه أن يكون مرادفا للمقصود من الكونيّ وما هو بالكوني، ألا وهو مفهوم «نكران النفس» (perdere l’anima) بوصفه الشعور الخاص بالذّات تجاه الإنسانية، وذلك بعد تأويل الذّات بوصفها “إقامة مع الآخرين”، عندئذ يتوضّح أنّ «نكران النفس» هو على نحو ما من القول الذاتي في إشكالية الكونيّة بعامّة.
بيد أنه علينا أن ننتبه إلى أنّ «نكران النفس» غير قابل للتحقّق في الواقع. يقول فاتيمو: «طبقة البروليتاريا، الشعوب البدائية، الهنود الذين يقبعون على أرصفة الطريق في كلكوتا*(calcutta) ، ماذا يمكن أن يكون لديهم للقيام به مع ما أقوله؟»[107]. من أجل ذلك يسارع فاتيمو إلى التّذكير بأمر خطير، وهو أنّ الخطاب الفلسفي يطال فقط جزءا من العالم دون غيره، وأنّه بالمحصّلة خطاب محكوم بثقافة بعينها، ويفكّر، ويشتغل من داخل تلك الثقافة.
ويضيف فاتيمو في السّياق نفسه قائلا: “إذن قبل كل شيء: أنا مقتنع بأني عندما أمارس فلسفة أنجز خطابا يرى فقط جزءا معيّنا من العالم، وليس غيره”[108]. بذلك توفّر فاتيمو على كشف محدودية الخطاب الفلسفي في ادّعائه الكونيّة. ويقول في ذلك: “هكذا بالرغم من أنّ الفلسفة وبصفة حقيقية تفترض شرعيا وبإخلاص أن تكون خطابا كونيا إلاّ أنه لا يمكن أن يكون”[109]. قد يكون ذلك بسبب الضّغط الكلّي على الحياة الروحية الإجمالية، إلاّ أنه ثمّة دائما ضرورة ملحّة لتبيان عزم الفلسفة على رسم السّبيل نحو الكوني وفي الوقت نفسه هناك ضرورة لا تقلّ إلحاحا لمساءلة تاريخ الفلسفة، والكشف عن مكانيّة الكونيّ فيها، ونحن يهمّنا هنا بخاصّة أن نصرف اهتمامنا إلى الخطوة الثانية من مهمّة الفلسفة، أي خطوة “كيفية بناء الكونيّة”. فما الذي يعنيه التّفكير في الكونيّة؟ وعلى أيّ أساس يتمّ بناء الإنسانية؟ لماذا تصلح الإنسانية؟ وهل تفيد الهنود القابعين على الطريق في كلكوتا، عندما تمطر أو لا تمطر بوجود الطعام أو نفاذه…؟
يدعونا فاتيمو في هذا الموضع إلى أن نفكّر قليلا على شاكلة هوسرل، عندما تحدّث عن الكهنة والأطباء، ويعني بذلك أنّه “يتوجب أن تكون لديك القدرة على مقارنة وجودهم مع وجودي”[110]. إنّ المطلوب من وراء ذلك هو النّهوض بنحو من الوعي قادر على الحوار معي، ومع أشكال أخرى من الوعي. يقول فاتيمو “أنا لا أشعر بعد الآن باحترام متزايد للبدائيّين، ولكن أعتقد بأنّه فقط توجد إمكانية للدّخول في التفكير المستمرّ في تواصل ممكن مع الثقافات المختلفة”[111]، حتى يصبح ممكنا الإبصار كيف يكون الوعي أفقا للتّواصل مع الآخرين. بسبب ذلك يقرّ فاتيمو: “نحن نعلم أن فكرة الكونيّة المزمع إنشاؤها، الكوني بوصفه مهمّة أو مشروعا أو فكرة تنظيميّة، هي فكرة من خلالها تتحرك بالنهاية، كلّ الثقافة الفلسفية بعد كانط”[112]. إلاّ أنّ إنشاء الكونيّة وتشييدها لن يتمّ إلاّ على أرض السّياسة، إذ السّياسة هي التي ترسم خرائط الأفكار، وتحدّد مجالات اشتغالها، وهكذا «تكون الكونيّة مرتبطة ارتباطا وثيقا بمشروع سياسي، ويجب أن تكون بالأحرى معترفا بها كبناء سياسي لكل الآثار»[113]. ويفترض فاتيمو أنّ ما يمكّننا من استيضاح هذا التّواشج بين بناء الكونيّة والسّياسة في الفكر الفلسفيّ هو «الطابع الموضوعي».
كيف ذلك؟
إن طرافة هذا المصطلح هو أنّ فاتيمو يأخذه في دلالته الواقعيّة، حيث يعني الإنتاج والتقنية في العالم، وبهذا فإنّ فكرة الكونيّة حسب فاتيمو “ليست مركزية أوروبية حتى لو كانت منتجا أوروبيا»[114]. ولكنْ علينا ألاّ نأخذ معنى الكونيّة في الدّلالة الثقافية التاريخية، حيث تعني المركزية أي “الأوربة”، فعلى الحقيقة ليس من كونيّة اليوم سوى البعد الموضوعيّ. ولكن بأي معنى؟ تُفهم دلالة الموضوعي هنا بالمعنى التكنولوجي، يقول فاتيمو: «نحن الآن لدينا مشكلة الكونيّة التكنولوجية ترعب وتهدد أفق القيم التي أصبحت ممكنة في الغرب [115]. ويمثّل اليابان أهمّ الأمثلة على قوّة التكنولوجيا وانتشارها الكوكبيّ مقابل انحسار قيم الديمقراطية5. وهذا المثال يكشف عن سرعة ترحّل التقنية وسهولة توطينها في العالم (الهند، اليابان والصين) على عكس الديمقراطية التي تتطلّب ميراثا ومراسا وتاريخا. إنّ الانتشار التّكنولوجي لوحده لا يبصر الكونيّة، وهو ما يدعو إلى تبصيرها، أي تبصير إمكانية الانزياح من التكنولوجيا إلى الديمقراطية.
عند عتبة هذا التوضيح يشرع فاتيمو، ضمن الفقرة الأخيرة من الفصل الأخير، في الفحص عن العلاقة الممكنة بين الفلسفة والسّياسة، أي عن دور الفلسفة ومسؤوليتها في بناء الكونيّة. إن طريقة فاتيمو في إخراج دور الفلسفة والمراهنة على عملها الثقافي، بوصفها مسئولة عن تحقيق التواصل الإنساني، لا تخلو من طرافة، إذ يقول: «أعتقد أن الفلسفة التي يجب عليها فعل الكثير. وفي هذا المعنى يمثل البرلمان الأوربّي مكانا مثاليا لمثل هذا النوع من العمل. إذ هناك الكثير من الثقة في إمكانية تغيير الزيّ والثقافة أكثر من البرامج التشريعية»[116].
نحن نعرف أن فاتيمو كان عضوا في البرلمان الأوروبي. وقد كان ذلك مناسبة لممارسة الفلسفة تحت قبة البرلمان، أي في نطاق السّياسة. إنّ إمكانية حمل الفلسفة على السّياسة بوصفها أفقا لبناء الكونيّة هو ما يفسّر كيف أن فاتيمو لا يتردّد في حمل الفلسفة على المجال السّياسيّ، ودورها المستقبليّ في رسم السياسات الكلية، يقول في هذا: «لئن بدت الفلسفة حاليا أقلّ فاعلية على المستوى السياسيّ، فإنّنا نأمل أن تنتج شيئا فشيئا مشاريع أكثر رحابة، أي تلك التي يقع تعديلها لصلاحية أطول، هذه هي أيضا واحدة من المسؤوليات الفلسفية التي نحتاج إلى توظيفها أيضا عندما يبدو علينا الظمأ وعندما يشتد التعب»[117].
تهلك الكونيّة في السّياسة، ولكن ستبقى الفلسفة آخر القلاع لتحصين الإنسانية من خطر الوقوع في المركزية، ثقافية كانت أو تكنولوجية، ولكن من حيث هي مأخوذة بوصفها أفقا لفهم الوجود ومسارا تحرريّا للإنسانية، ولنقلْ أيضا السّياسة لا يصلح أمرها إلاّ بالفلسفة. إنّ طرافة هذا الحمل للفلسفة على السّياسة من شأنه أن يحمل السّياسة على الخير، وأن يتمّ بها جسر الهوة بين الهويات الثقافية ضمن فضاء الكونيّة.
خاتمة
إن غاية الفلسفة ليست فيها، بل في مقام خارج عنها هو الحياة. لذلك فالحاجة إلى الفلاسفة لا ينبغي أن تخرج عن المهمّة الأساسية للفلسفة في رأي فاتيمو: مشروع التّحرّر. إذ لا حرج أن يولّي الفيلسوف فكره تجاه الحياة العملية وتجاه شتى التّجارب الإنسانية، وعلى رأسها الدّين والسّياسة، “إنه الفيلسوف الذي يوجد في كل الحياة “[118] من أجل استجادة الذات وملاقاة الإنسانية.
ولكن هل هذه هي طبيعة الفكر الفلسفي المنتظرة من عمل الفلاسفة؟ أم أنّ غاية التفلسف الحقيقية هي أن نتجرّأ على دفع الإمكان التّأويلي، وصولا إلى إعادة رسم سياسة الحقيقة، والمغامرة في الأقاصي، وفتح آفاق جديدة بحثا عن مدينة المعنى؟ هل الفيلسوف هو البديل الممكن عن السّياسيّ في العصر الراهن؟ إنّ غموض التماسّ بين الفلسفة والسّياسة لدى فاتيمو يكمن أكثر ما يكمن في الإجابة عن السّؤالين المحوريّين في القسم الأخير من كتابه “مهمة الفيلسوف ومسؤوليته”: أية علاقة ممكنة اليوم بين الفلسفة والسّياسة؟ وما حدود مستطاع الفلسفة على الفعل ومسؤوليتها في بناء الكونيّة؟ ولن تتبدّد هذه الحيرة إلا بالوقوف على كتابات فاتيمو المتأخّرة، وأهمّها كتاب: “في الواقع، نهاية الفلسفة”[119]Della realtà. fini della filosofia) ) الذي سيكون طورا جديدا لاستئناف تلك القضايا ومعالجتها، ففيه يضع فاتيمو الفلسفة على محكّ الواقع.
** السخرية هي تمارين فلسفية على قضايا ومشكلات اجتماعية وإنسانية تكشف التناقضات والمفارقات وتثير الدهشة والتساؤل، في اللاّمفكر فيه أو في المسكوت عنه. فالعقل السّاخر هو العقل الذي يسخر من ذاته أولا، كما أنه نقيض العقل القويّ (عقل التنوير والحداثة) الواثق من نفسه والمطمئن إلى صواب منطقه ونتائجه. وقد رافقت صدور كتابه “الفكر الضعيف” (1983) موجة من النقد من قبل معاصريه، وتمّ نعته بالفكر السّاخر.
1- Emannuele Severino, Articolo, la stampa 21/03/2007. p: 8.
[2]-Franca D Agostini. introduzione a Vattimo, Gianni, société transparente trad. J-p. Bisetta, Desclée de Brouwer, Paris 1990.p 6.
[3]-Vattimo, Gianni, La fin de la modernité. Nihilisme et herméneutique dans la culture postmoderne. Tr ad charles Alunni Ed Seuil. Paris 1987 p, 123.
[4]-Vattimo, Gianni, la société transparente ; trad. J-p. Bisetta, Desclée de Brouwer, Paris 1990.p 23.
[5]-Vattimo Gianni, Vocazione e responsabilita del filosofo, il melangolo, genova, 2000. p: 113.
[6]- Vattimo Gianni, oltre l’interpretazione Il significato dell ermeneutica per la filosofia. Editori Laterza. Prima Edizione.Roma 1994, p94.
[7]-Vattimo Gianni, op. cit. p: 92.
[8]-Vattimo. op. cit. p: 123.
[9]-Vattimo Gianni, op. Cit.p.49.
[10]-Vattimo. op. cit. p: 51.
[11]-Vattimo. op. cit. p: 53.
[12]– Ibid.
[13]-IVattimo. op. cit. p: 54.
[14]-Ibid
[15]-Vattimo. op. cit. 61.
[16]-Vattimo Gianni. op. cit. p: 62.
(*)Feyerabend Paul Karl بول كارل فيرابند ألماني من أصل نمساوي، ابستيمولوجي واستاذ فلسفة بجامعة كاليفورنيا من أهم مؤلفاته ” العلم في المجتمع الحر” (1978)
[17]– نذكّر هنا بأن فاتيمو، أثناء ترجمته لكتاب “الحقيقة والمنهج”، قد واجه مشكلة في نقل الجملة التالية “الكينونة التي يمكن أن تفهم هي اللغة” ” تتعلق بمدى الحفاظ على الفاصلة في الجملة الألمانية»
[18]– Ibid.
[19]– Ibid. p:.59.
[20]-Ibid.
[21]-Vattimo, “non facciamo altro che cercare di realizzare la sperito assoluto, fornendone una immagine relativa” op. cit. p: 60.
* دالاليما هو الزعيم الروحي لشعب التبتو البوذية
[22]-Vattimo Gianni. Op. cit. p: 61.
[23]-Ibid.
[24]– Vattimo Gianni e Pier Aldo Rovatti, Il pensiero debole, il melangolo. milano. 1983.p 12.
[25]-Vattimo Gianni, Vocazione e responsabilita del filosofo, il melangolo, genova, 2000. p: 101.
[26]-Ibid.
[27]-Ibid.
[28]-Ibid.
[29]– Ibid. p: 102
[30]-Ibid.
[31]– Ibid. p 101.-102
[32]– Ibid. p: 101.
[33]-Ibid.
[34]-Ibid.
[35]-Ibid.
[36]– Ibid. p: 103.
[37]-Ibid.
[38]-Ibid.
[39]- Ibid. p: 103.
[40]-Gianni Vattimo, “quando noi parliamo dell incarnazione parliamo di un Dio che si e fatto umile. debole. povero “Interrogazioni sul cristianesimo cosa possiamo ancora attenderci dal vangelo? Edizioni lavoro, Copyright. Roma 2000. p: 30.
[41]-Vattimo Gianni, Vocazione e responsabilita del filosofo. op. cit. p: 103.
[42]-ibid.
[43]-Vattimo, OP. Cit. p:104.
[44]-Ibid.
[45]-Vattimo, op. Cit. p: 104.
[46]-Ibid.
[47]-Ibid.
[48]-Ibid.
[49]-Ibid.
[50] – نشير هنا إلى أن فاتيمو قد جعل من هذا السّؤال عنوانا للعنصر الثالث و الأخير من فصل، “ في قول الحقيقة” :
«esistono I vampiri?» op. Cit. P105
[51]-Vattimo, op. Cit. p: 103.
[52]– Ibid. p: 105.
[53]-Ibid.
[54]-Ibid.
[55]– Ibid. p: 105.
[56]-Ibid. p: 106.
[57]-Ibid.
[58]-Ibíd.
[59]-Ibíd.
[60]– Ibid.
[61]– Ibíd
[62]– Ibid. p: 106.
[63]– Ibid. p: 109.
[64]-Vottimo, Gianni, Vocazionne e responsabilità del filosofo, op. Cit. p: 109.
[65]-Vattimo, devo far bene il professore di filosofia perché é il mio lavaro, op. cit. p: 110.
[66]– Ibid.
[67]-Vottimo, Gianni, Vocazionne e responsabilità del filosofo, op. Cit. p: 111.
[68]– Ibid.
[69]-Vattimo Gianni, op. cit. p: 112.
[70]-Ibid.
[71]-Ibid.
[72]-Ibid.
[73]-Ibid.
[74]– Ibid. p: 113.
[75]-Ibid.
[76]-Ibid.
[77]– Ibid.
[78] -Ibid.
[79]– Ibid. p: 114.
[80]– Ibid.
[81] -Ibid.
[82]– Ibid. p: 115.
[83] -Ibid.
[84]– Ibid.
[85]– Ibid.
[86]– Ibid.
[87]– Ibid. p: 116.
[88] -Ibid.
[89]– Ibid.
[90] -Ibid.
[91]– Ibid. p: 117.
[92] -Ibid.
[93]– Ibid. p: 117.
[94]-Ibid.
[95]– Ibid. p: 121.
[96]-Ibid.
[97]– Ibid. p: 122.
[98]– Vattimo, op-cit. p: 122.
[99]– Ibid.
[100]– Ibid.
[101]-Ibid.
[102]– Ibid. p: 122.
[103]-Ibid.
[104]– Ibid. p: 123.
[105]-Ibid.
[106]-Ibid.
* يجدر بنا أن ننبه هنا إلى أن” ترجمة العبارة الايطالية “perdere l’anima” بـ “نكران النفس” إنّما يقع ضمن سياق أخلاقي ديني بمعنى جلد الذات.
*كلكوتا: مدينة هندية تقع شرق الهند، عاصمة ولاية بنغال الغربي المحاذية لبنغلاداش. وقد كانت عاصمة الهند قبل 1911 وهي رابع مدينة في الهند ذات كثافة سكانية عالية.
[107]-Vattimo Gianni, op. cit. p: 123.
[108]-Ibid.
[109]-Vattimo Gianni, op. cit. P: 123-124.
[110]– Ibid. p: 124.
[111]-Ibid.
[112]– Ibid. p: 124.
[113]-ibid.
[114]-ibid.
[115]-ibid.
[116]-ibid.
[117]-Vattimo Gianni, op. cit. p: 125.
[118]– Ibid. p: 122.
[119]-Vattimo GIANNI, Della realtà. fini della filosofia. Garzanti. Milano. 2012.