1 دور التاريخ في صناعة القيم:
من الواضح أن تركيزنا على تاريخية النظر ومفاهيمه لم تكن أمرا عارضا ولا عبثيا، بل كان عملية مقصودة غايتها استبعاد أشكال متعددة من الفهم الضيق التي سادت نظرتنا إلى ديكارت، والتي كرستها محاولات اهتمت بنسقه، إذ تقدمه على أنه رجل أحلام وميتافيزيقا وترهات فارغة من المعنى، وفي هذا القول ما فيه من آثار تحمل عبيرا وضعيا انبث في ثقافتنا بشكل غريب وفاضح جدا، إلى درجة أننا أصبحنا لا نتورع عن تصنيف الفلاسفة إلى ماديين ومثاليين وعقليين وواقعيين وبرجوازيين وحالمين كما لو كنا قيمين على تاريخ الفكر، نقوم بهذا دون أن نكون على اطلاع دقيق بأفكارهم، ودون معرفتنا الدقيقة بصواب حكمنا من بطلانه. مثل هذه التصورات التي تشوه الفكر أو النسق الفلسفي خاصة منه – الحديث سببها غياب البعد التاريخي لدى أصحابها ومحاكمتهم لأنساق يتم عزلها عن سياقها فتفقد – قوتها الحجاجية. لذا فإن الاحتكام إلى الإبستيمولوجيا يلغي هذه التصورات، لأن الفهم الإبستيمولوجي الذي يفكر بالفكر فقط، يقترب إلى حد كبير من الموضوعية، ويتلمس حقيقة حركية الأفكار وشروطها.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه الآن هو : إذا كنا قد احترمنا البعد التاريخي، ووقفنا على حقيقة التصور الديكارتي، وتجنبنا الوقوع في مآزق ومتاهات الفهم الوضعي، فأين نحن من كل هذا؟ ما الذي يمكن أن نستفيده من هذا الفكر؟ خاصة وأنه صناعة غربية ظهرت في ظل شروط نظرية لم نساهم في بلورتها إلا بطريقة غير مباشرة، ومن ثمة فلا حظ لنا فيها؟
هذه مشكلة تنتزعنا الإبستيمولوجيا منها من خلال مبدأ كونية الأفكار، فمن خصائص النظر أنه ليس حكرا على أمة دون الأخرى، لأن هذا سيسقط في مقاربة عنصرية ترتكز على آفة ومبدأ الإبداع، وهي آفة تقوم كعائق إبستيمولوجي. فالأفكار ذات طبيعة كونية لا تعترف بحدود جغرافية أو سياسية أو دينية أو
عرقية. فالفكر فكر وانتهى الأمر، وهذا يعني أن من حقنا أن نعتمد على هذا الفكر الغربي، لا لمجاكاته، وإنما لمعرفة الأسباب والشروط النظرية التي انسدت لدينا، وحالت دون تبلور منظومة نظرية لدينا أو استمرارها على الأقل. وأيضا لنفهم السر في غياب قيم الحداثة من تسامح وحقوق للإنسان عامة وللطفل والمرأة خاصة، وأيضا للحيوان والبيئة، والديمقراطية والحرية ودولة الحق والقانون، لمذا لم تنغرس هذه القيم في ثقافتنا، ولم تتعد مستوى الشعارات دون أن تجد لها صدى في الواقع؟ ثم لماذا التهافت على هذه الحقوق والقيم الغربية؟ هل يعني هذا أنه ليست لدينا قيم؟ هل يدل هذا على أننا نعاني فراغا روحيا وقيميا لا يمكن تعويضه إلا باستدعاء الحداثة؟
لقد استطاع الغرب أن يغرس قيم الحداثة داخل ثقافته، وأن تصبح جزءا لا يتجزأ من مسلكيات الناس وأخلاقيات عملهم، لذا نرى اليوم تمسكهم بها وتفعيلهم لها وحرصهم عليها، أما لدينا فلا يمكن أن تتكرر التجربة، ما لم نستوعب الدرس التاريخي الذي مر منه الغرب، وقاده من العصور الوسطى حيث حالة الاستبداد إلى الحداثة، حالة الإنسان والحق والحرية والديمقراطية. صحيح أن ثقافتنا تحمل حقوقا أيضا، فالإسلام أقر حقوقا للرجل والمرأة والعبد والفقير والمظلوم وابن السبيل والجار والأسير، ولكن هذه الحقوق لا يمكنها أن تتسع لتشمل كافة الحقوق المندرجة اليوم تحت مفهوم حقوق الإنسان، لأنها أخذت على أنها تشريع إلهي. وبالتالي لم تكن هناك حاجة لتأسيسها نظريا وتاريخيا، ولم يكن من الممكن الوصول إلى حقوق الإنسان وقيم الديمقراطية في ثقافة تعتمد على هذه التشريعات الإلهية كمرجعية نظرية لها، لأن ما له أصل إلهي يتعالى عن النقد، هذا بالإضافة إلى أن الثقافة الإسلامية لم تعرف وجود مؤسسة دينية ترعى الفكر النظري كما هو حال الكنيسة التي ساهمت في تبلور وشيوع النظر من خلال الجامعات والمدارس.
أما فيما يخص التجربة الأوروبية، فيعود السبب في ظهور القيم والحقوق والديمقراطية إلى ذلك الصراع المجموم الذي دار بين الكنيسة من جهة، والنسق النظري من جهة ثانية، والذي امتد من الفلك إلى الفيزياء، وصولا إلى الفلسفة والسياسة، وكانت الغاية منه هو سحب المشروعية السماوية من الكنيسة وإضفاء بعد إنساني على كل شيء، وذلك ليسهل أمر تعديله وتغييره وإصلاحه.
أما بالنسبة إلينا، فإن غرس هذه القيم أمر صعب إن لم يكن مستحيلا مادمنا نتناول المسألة خارج شروطها التاريخية والنظرية، ومن ثمة فالدعوة لهذه القيم تظل في مستوى الوعظ والإرشاد فقط. لابد من وجود ميكانيزمات وأدوات تتحكم في الفعل الإنساني والأخلاقي، وذلك الحقيقي، وهذا لن يتم أيضا بدون بلورة منهج واضح للعمل.
2 التفلسف كمنهج للتغيير:
إذا كنا قد وقفنا عند قيمة المنهج ودوره، وثبت لدينا أن المنهج هو أول مطلب ينبغي تحقيقه للتغيير، بل أكثر من هذا، لا يمكن لمن لا يمسك بمنهج واضح أن يحقق أدنى نجاح، فإن ما نحتاجه الآن هو المنهج أيضا، هذا هو ما أوحت به الديكارتية، فالإصلاح هنا ذو طبيعة فكرية محضة، وهذا ما يجب الوعي به، وهذه هي غاية الفلسفة، والتي تتجلى في خلق سلوك عقلاني فلسفي يتحكم في الأشخاص ويحركهم دون أن يشعروا بذلك، فالفكر يرتبط على نحو وثيق بالعمل، ومادام العلم في تاريخه يمر بثورات تؤدي إلى ظهور أنساق نظرية جديدة، فإن تغير الأفكار يتطلب تغير العقليات وأنماط السلوك والثقافة العامة. وهذه هي مهمة المفكرين والمتفلسفين الذين عليهم أن يقربوا العامة وجهلهم من الخاصة وعلمهم، ولتحقيق هذه الغاية لابد أن تكون لهؤلاء المفكرين رؤية واضحة المعالم (منهج) تمكنهم من تحديد المسارات والمراحل التي ينبغي قطعها لتحقيق المبتغى.
فدخول الحداثة وتحقيق قيمها لا يمكن أن يتم نتيجة الصدفة والتلقائية، كما أنه لا يتوقف على إرادة ورغبة الأشخاص بحيث يمكنهم القيام بذلك متى أرادوا، بل هو أمر يتطلب شروطا أهمها توفر منهج للعمل، إذ في غياب هذا الأخير لن تكون عملية التغير هادفة وغائية.
3 قيمة الشك:
في مقدمة الترجمة الفرنسية لكتاب “مبادئ الفلسفة”، يؤكد ديكارت على أن “التفكير الفلسفي الذي يحقق متطلبات المنهج العقلي السليم هو ما يميزنا عن الأقوام المتوحشين، وأن تقدم الأمة وحضاراتها إنما يقاس بمدى شيوع التفلسف الحقيقي فيها”)] 1 [(، وهذا يدل على أن المعيار الذي قياسا إليه يعرف مدى تطور الدول ذو طبيعة فكرية بالأساس. إذ أن ما يقصده ديكارت بالتفلسف هنا هو انتشار نمط تفكير عقلاني يقوم على تعليق الأحكام الجاهزة والتخلص من كل المعتقدات الموروثة، وتحطيم كل الأبنية المسلماتية التي تعشش في أعماق عقلية المجتمع والثقافة، والتي تحولت إلى ملكوت تسكنه حقائق لا تقبل النقد والمساءلة والتشكيك.
وهنا لابد أن نستلهم الشك الديكارتي، فهو منطلق كل عملية تفلسف، إنه السلاح الذي يرفعه العقل ليطرد العوائق التي تتحكم فيه، وليستعيد زمام المبادرة والسيطرة، وعندما يتوفر العقل على المنهج، فما عليه إلا أن يخوض مغامرة التفلسف والبناء التي تبدأ من الشك لأنه حينها يكون متحررا من سلطة الحس ووصاية كل السلط.
إذا كانت الغاية الأولى للشك ذات طبيعة معرفية، فإن غايته الثانية ذات بعد تربوي، وتتجلى في أن الشك يعلمنا أن إجماع الناس على فكرة ما لا يعد دليلا على مشروعية ومصداقية تلك الفكرة، بمعنى أن ما يومن به جميع الناس لا يملك مناعة تجعله بمنأى عن الشك ومتناول النقد، بل إن هذا الإجماع قد يكون في كثير من الأحيان عائقا إبستيمولوجيا يحول دون بلوغ الحقيقة. الدرس المستفاد من هذه المجطة التاريخية، هو أن مجموع التقاليد والتعاليم وأناط التفكير التي تسود في مرحلة تاريخية ما ليست مطلقة بحيث تظل صالحة لكل زمان ومكان، بل هي صناعة إنسانية استجابت لحاجات وشروط المرحلة، وبالتالي تفقد مصداقيتها المعرفية والإنسانية عندما تتغير الشروط التي أنتجتها.
4 التأسيس النظري للتربية من خلال قيمة العقل:
لقد كانت فكرة العقل بمثابة تتويج حقيقي للحداثة، والقول بها جعلها ثورة فلسفية كبرى، لأنها أنهت مجموعة من التقاليد والتصورات التي كانت تجد مرجعيتها في الفكر القديم. اعتبر ديكارت أن العقل نور فطري، وهو أعدل الأشياء قسمة وتوزعا بين الناس، بحيث لا يفوق بعضهم بعضا في مقدار ما أوتوا منه. مع هذا التحديد الذي أعطي للعقل، يمكن القول إنه ظهرت الإرهاصات الأولى للحديث عن مبحث فلسفي جديد هو التربية. وهنا تظهر تاريخية الأفكار والمفاهيم، ويظهر أن الشروط النظرية هي التي تصنعها. وفي فلسفة ديكارت تبلور الأساس النظري للتربية، فقبل هذه المرحلة لم يكن هناك حضور لمبحث التربية مطلوبا بذاته، أي علما قائما بالذات، لأنه كان يحتاج إلى شرطه النظري، وهو توفر كونية
الإنسان، كان في حاجة ماسة وضرورية إلى وجود مفهوم الإنسان كمفهوم كوني موحد، وبما أن هذا الأخير كان غائبا فلا غرابة أن تغيب التربية أيضا. فأين يتجلى هذا الترابط بين المفهومين؟
إن التربية بما هي فن ملازم للإنسان، يهدف إلى الرقي به نحو نموذج الكمال، ويسعى إلى الزيادة من تخليقه وتنمية قدراته، لم تكن ممكنة في إطار التصور القديم، لأنها تتأسس على مبدأ النمو والتطور، وهذا لم يكن متوفرا في الإطار النظري الإغريقي، لأنه آمن بأن العدالة هي إنزال الناس منازلهم ووضع الأشياء في أمكنتها الطبيعية. يحضر الإنسان في هذا الإطار باعتباره حيوانا ناطقا، فالحياة جزء لا يتجزأ من ماهيته، وبالتالي فالطبيعة هي التي تتحكم فيه، بل هي التي تحدد له مسبقا ما سيكون عليه، كل ما سيكون عليه طيلة مستقبل حياته يحدد سلفا، ومن ثمة فهناك من هيأته الطبيعة ليكون حرفيا وصانعا، وهناك من هيأته ليكون حارسا وجنديا، ومنهم من حبته برعايتها فرسمت طريقه ليكون مفكرا وفيلسوفا.
في تصور كهذا لا يمكن أن توجد التربية، لأنه لا مجال هنا للتطور والتقدم، مادامت الطبيعة قد حددت سلفا لكل إنسان منزلته وألزمته باحترام هذا الترتيب، لأنه قانون إلهي، وكل من يحاول تغيير مكانه الطبيعي يخرج عن إرادة الإله. كما أن مفهوم الإنسان هنا لم يكن واضح المعالم، بل كان متصدعا ومشتتا ما بين السادة والعبيد، والحرفيين والجنود والفلاسفة… وإذن فالتربية كفن إنساني يتوجه إلى الإنسانية جمعاء لم تكن ممكنة نظريا، مادام أن الشروط المرافقة لوجودها لم تكن متوفرة )وحدة وكونية مفهوم الإنسان(.
أما في العصر الحديث فإن ديكارت قدم الأساس النظري لظهور علم التربية عندما وحد الإنسان. فبما أن العقل أعدل الأشياء توزعا بين الناس، فهذا يعني سواسيتهم في مقدار حظهم منه، وهذا يعطيهم الحق ليكونوا سواسية أمام القانون، وأمام الدولة والعدالة، لهذا نقول إن سؤال التربية اختمر في النسق الديكارتي قبل أن ينضج لدى فلاسفة آخرين.
من التداعيات الخطيرة للقول بفطرية العقل، أي توفر الناس جميعا عليه منذ ولادتهم دون تمييز عرقي أو عنصري أو ديني أو سياسي، أن كل واحد منهم ملزم بأن يفكر لذاته وبذاته الخاصة فقط دون أن يستعين بالآخرين وتدخلاتهم، وبالتالي فالذات لوحدها بمقدورها أن تقرر مصيرها وأن تسحب ذاتها من كل أشكال الوصاية الممارسة عليها، بهذا كفت الطبيعة عن التدخل في الإنسان لتحديد مصيره ومنزلته وتركته ليكتب قدره بيده، ويختار ما يريد، إنه حر : “العودة إلى الذات واتخاذها مرجعا للحكم في كل شيء”. هذا هو المرتكز الذي انبنت عليه الحداثة الفلسفية واستندت إليه بقية المباحث الأخرى لتعيد بناء نفسها بما يتلاءم مع المنظور الجديد. بهذا تغيرت نظرة الإنسان إلى ذاته وإلى العالم، فلم يعد يهاب الطبيعة ويخشاها بعدما أثبت العلم عطالتها، بل سعى للسيطرة عليها وتسخيرها لخدمة طموحاته وتلبية حاجياته، مشروع السيطرة على الطبيعة لم يتبلور إلا في ظل شروط نظرية أبرزها تفريغ المادة تماما من كل أشكال الحياة والقوة والفعل والفكر .