الاسترسال: مظاهره وأثره في تطوير الدّرس النّحويّ

الاسترسال

 

ملخّص:

يتعامل الباحثون مع مفهوم المسترسل Continuum باعتباره خاصيّة في نظام اللغة تسم كلّ الظّواهر والمستويات. ويعدّ من المفاهيم العرفانيّة القادرة على تقديم إضافة في تعلّميّة الدّرس اللّغوي. وهو أمر دفعنا إلى محاولة استثماره والاستفادة منه في حقل البيداغوجيا والتّعلّماتّ. لذلك رأينا أن نهتمّ في هذه الورقة بمحوريْ اهتمام كبيريْن: المحور الأوّل سنوضّح فيه مفهوم الاسترسال اللّغويّ ومظاهره في الدّرس اللّغويّ وفي مادة العربيّة إجمالا. أمّا الثاني فسنبيّن فيه أثر هذا المفهوم في تطوير الدّرس النحويّ والارتقاء بقدرات المعلِّم صاحبِ المعرفة العالمة وقدرات المتعلّم.

الكلمات المفاتيح: مسترسل – منظوميّة – وظيفة نحويّة – تعلّم – معلِّم – متعلّم.

Abstract:

Researchers deal with the concept of Continuum as a characteristic of the linguistic system that characterizes all phenomena and levels. It’s a cognitive concept that can benefit us in learning linguistic lessons. So, we invested it in pedagogy and learning. We have therefore seen that in this paper we are interested in two major themes: first, we will clarify the concept of linguistic continumm and its manifestations in the grammatical lesson and in Arabic as a whole. Secondly, we will outline the impact of this concept on the development of the grammatical lesson and the upgrading of teacher’s knowledge and learners’ capabilities.

Key Words: Continuum – Modularity – Grammatical Function – Learning – Teacher – learner.


1- مقدمة:

تُسيّر العمليّةُ التعليميّة في الكثير من الأحيان وفي جلّ الموادّ المدرّسة حسب مبادئ ثلاثة: الاشتغال الذّاتيّ autorégulation والتّفاصل discrétion والتسليم بالثّوابت. نقصد بالاشتغال الذّاتيّ أنّ كلّ مادّة تعليميّة تشتغل ذاتيّا وتتطوّر بمعزل عن سائر الموادّ دون تأثّر أو تأثير. فلا مجال للحديث عن تفاعل محتمل بينها أو تأثير مادّة في أخرى. ونقصد بالتفاصل أنّ كلّ فرع من فروع مادّة ما يحسُن عزله عن الفرع الآخر حتى يوصف وتُفسّر كيفيّة اشتغاله. أمّا مبدأ التّسليم بالثّوابت فنعني به اعتبارَ القوانينِ والقواعد داخل الموادّ مجموعةً من الثّوابت المحدّدة والمعلومة وغير القابلة للتّغيير والاتّساع. 

غاية هذا البحث هي الوقوفُ على محدوديّة هذه المبادئ في الارتقاء بمهارات المتعلّين ومنهج تفكيرهم أوّلا، ثمّ تطوير المعرفة العالمة للمعلّمين ومناهج تدريسهم ثانيا، بغرض التأسيس لفهم قائم على التّفاعل بين الأشياء والظّواهر والمستويات. فنحن نتّفق مثلا على أنّ فهم النصّ الشعريّ يتأسّس على فهم تحليليّ شموليّ تفاعليّ للمستويات المعجميّة والإيقاعيّة والصوتيّة والتركيبيّة والدّلاليّة، مع استبعاد التصوّر القائم على التفاصل بين تلك المستويات ومركزيّة مستوى منها في عمليّة وصف النصّ أو تحليله. كما أنّنا نتّفق على أنّ هناك تقاطعات بين الاشتقاق والتركيب والبلاغة في درس اللّغة. بل إنّنا نتّفق على أنّ التسليم المعرفيّ بالقواعد اللّغويّة والحدود أصبح ذا كفاءة وصفيّة وتفسيريّة محدودة لأنّ هناك تفاعلا ممكنا بين الظواهر الفرعيّة عند دراسة المشتقات أو أبنية الجمل أو الوظائف النّحويّة أو غيرها من الظّواهر. هذا التّفاعل المبنيّ على دحض مبادئ الاشتغال الذاتيّ والتّفاصل والتّسليم بالثّوابت عبّرت عنه المناويل اللسانيّة العرفانيّة بمفهوم المسترسل Continuum. وهو مفهوم ذهنيّ مجرّد نفترض أنّه قادر على تعديل التصوّر الأوّل وتقديم تصوّر متوازن وناجع لتطوير تدريس مادّة اللغة العربيّة. لذلك سنحاول في هذا البحث معالجة بعض محاور الاهتمام نلخّصها في الأسئلة التّالية:

  • ما معنى الاسترسال وما جدواه في تفسير كيفيّة اشتغال الظّواهر اللغويّة؟
  • ما مظاهر الاسترسال الممكنة في الدّرس اللّغويّ؟
  • كيف يمكن الاستفادة من هذا المفهوم لتطوير درس العربيّة وتطوير العمليّة التعليميّة إجمالا؟

2- حدود الاستفادة من مبدأ المنظوميّة والتفاصل بين المعارف والظّواهر:

من المفاهيم التي سبقت مفهومَ الاسترسال هو مفهومُ “المنظوميّة”[1] Modularity. وقد ظهر التصوّر المنظوميّ للغة مع علماء اللّسانيّات النفسيّة. إلاّ أنّ هذا المفهوم توضّح واستقلّ بجهاز مصطلحيّ مع جيري فودور Fodor في كتابه “منظوميّة الذّهن” (The Modularity of mind) الصّادر سنة 1983. وهذا التّصور يقوم على اعتبار الفكر البشريّ مجموعة من المنظومات Modules العرفانيّة التي تشتغل مستقلّة بعضها عن البعض الآخر وتتفرّع إلى منظومات فرعيّة Sub-modules تشتغل اشتغالا داخليّا ذاتيّا. وقد فصّل فورستر Forster وقاريت Garrett النّظر في خصائص تلك المنظومات الفرعيّة وكيفيّة اشتغالها في مجال الاكتساب اللغويّ وإنتاج الكلام مثلا. فتحدّثا عن منظومة فونولوجيّة ومنظومة معجميّة وأخرى إعرابيّة وأخرى صرفيّة…[2]

وبما أنّ كلّ تصوّر أو منوال لا يكتسب أهميّته إلا إذا كان قابلا للتحقّق الاختباريّ، ذلك أنّ أفضل منوال هو “المنوال الذي يسمح بتفسير وقائع اختباريّة أكثر مع احترام نفس الشّروط المنطقيّة”[3]، فقد طُبّق هذا التصوّر في مجالات معرفيّة وعلميّة عديدة منها علم النفس العصبيّ. وساعد التصوّر المنظوميّ بعض العلماء في مجال علم النّفس العصبيّ على تشخيص الأمراض اللغوية مثل مرض الحُبسة aphasie [4] وتشريح مواضع البقع المريضة المؤثّرة في وظيفة نظام نطقيّ دون تغيير الوظيفة العاديّة لبقيّة الأنظمة وحصلوا على نتائج لافتة في الغرض. وهذا أفضى إلى دعمهم فكرة الاشتغال المنظوميّ لمعالجة إنتاج الكلام[5] .

وقد تبنّى البنيويّون والتّوليديّون التّصور المنظوميّ للفكر البشريّ في وصفهم الظواهر اللّغويّة وتفسير كيفيّة اشتغالها. واعتبروا أنّ جلّ الظّواهر اللغويّة والمستويات تشتغل في شكل منظومات وثنائيّات وقيم تخالفيّة تأثّرا بالنزعات الثنائيّة في منوال الصّوتم التي ظهرت مع تربتسكوي مثلا. واعتمدوا في منهجهم الوصفيّ والتّفسيريّ مبدأيْ الاستقلاليّة والمركزيّة في اشتغال المكوّنات والمستويات ونظام اللغة إجمالا.

هذا التّصوّر المنظوميّ للظّواهر ترك أثرا في الحقل البيداغوجيّ وفي بعض نظريّات الاكتساب والتعلّم. فقد اعتمد التصوّر المنظوميّ للفكر منهجا لتحصيل المعرفة السّليمة في النظريّة الجشطالتيّة[6]. وقد عُدّ في ميدان المناهج والبرامج التربويّة، لسنوات طويلة، التصوّرَ الأنسب لتفسير اشتغال مهارة الفهم والتفكيك عند المتعلّم. ذلك أنّ الأوّليّة تبقى لتيسير عملية التحصيل والفهم ثم تترك عمليّة إعادة البناء وتوظيف تلك المعارف والإنتاج إلى مرحلة ثانية.

3- الاسترسال بديل للمنظوميّة والتّصنيفِ الصّارم للظّواهر والأشياء:

ظهر مفهوم الاسترسال في المعارف البشريّة والعلوم الإنسانيّة وحتى الصّحيحة لتجاوز مفهوم المنظوميّة وبعض المفاهيم الأخرى الموازية له أو المؤدّية إلى معناه من قبيل الاستقلاليّة والتفاصل… وانطلق العلماء من مبدأ الملاحظة. ورأوا أنّ الاسترسال يسيّر الكثير من الظّواهر الكونيّة والطبيعيّة. ففي المناخ مثلا لا تفاصل تامّا بين حالات الطّقس المختلفة، كما أنّه لا تفاصل تامّا في ألوان قوس قزح لأنّ بينها استرسالا طيفيّا.

لم يكن مفهوم المسترسل لسانيّ المنشأ. فقد ظهر في النّحو المقارن والتاريخيّ في القرن التّاسع عشر مع شميدت (ت1901) عندما درس جغرافيّة الألسن واللهجات ضمن نظرية سمّاها “نظريّة الأمواج” théorie des ondes. واعتبر أنّ هناك أوجه شبه وتداخلا بين الألسنة المتجاورة واسترسالا يشبه استرسال الأمواج[7]. ثمّ ظهر المصطلح صريحا في النصف الأوّل من القرن العشرين ضمن نظريّة الصّواتم مع إدوارد سابير وبلومفيلد وتربتسكوي وضمن نظريّة العلامة اللغويّة مع يلمسلاف[8]. لكن المصطلح كان أوضح مع قيستاف قيوم Guillaume (G) ضمن مدرسته الموسومة بـ”المدرسة النّظاميّة الذّهنيّة” Psycho-systématique ومع التيّار الدلاليّ العرفانيّ ضمن نظريّة الطّراز théorie du prototype كما استوت مع إليانور روش Rosch (E) التي بيّنت ضعف كفاءة منوال الشّروط الضروريّة الكافية (ش.ض.ك) وانتهت إلى أنّ الحدود بين المتصوّرات والمقولات والأشياء غير دقيقة[9]، ثمّ مع لاكوف Lackoff ولنقكار Langacker وجاكندوف Jackendoff وتايلور Taylor وغيرهم ممّن دحض مسألة استقلال المكوّنات والمستويات اللغويّة والاشتغال المتفاصل لها، منطلقين في ذلك من أنّ اللغة هي مكوّن واحد من مكوّنات عرفانيّة عصبيّة عديدة تنضج تفاعليّا في ذهن الإنسان، وأنّ مستويات الصّرف والمعجم والتركيب والدّلالة تشتغل مسترسلة دون وجود مكوّن مركزيّ يسيّرها ويتحكّم فيها[10] (م.ن). وقد أصدر ويلسون Wilson وتيلر Tyler كتابا سنة 1987 تحت عنوان “ضدّ المنظوميّة” (Agaist modularity) رفَضا فيه صراحة فكرة المعالجة المنظوميّة القطاعيّة للذّهن البشريّ وبيّنا كفاءته الوصفيّة والتفسيريّة المحدودة في ميدان العلوم والمعارف البشريّة.

إذن مفهوم الاسترسال ظهر بديلا للتصنيف الصّارم للأشياء والظّواهر والمستويات. وهو ضديد التّفاصل والاستقلال والاشتغال المركزيّ والذّاتيّ. وقد ترك هذا المفهوم أثرا في العلوم والدّراسات فظهر نسق معرفيّ يدعم تداخل الاختصاصات وظهرت مجموعة من الدّراسات البينيّة التي تؤكّد مزايا التفاعل والاسترسال في المعارف البشريّة عامّة وفي المعرفة اللغويّة تحديدا اكتسابا وإنتاجا وتعلّما وتعليما وفهما وتأويلا.

4- المسترسل في الظّاهرة اللّغويّة والتصوّراتُ الموجودة في الأذهان:

رفض بعض أعلام اللسانيّات النفسيّة والدّلاليّون العرفانيّون إذن مبدأ الاستقلاليّة والتصوّر المنظوميّ للفكر البشريّ. وأثبتوا أنّ المستويات اللّغويّة الدالّة خاصّة، تشتغل متفاعلة ومتوازية. وقد عبّر لنقكار عن رفضه لتصوّر استقلال المكوّنات والمستويات التمثيليّة في نظام اللغة، وبيّن أنّها تشتغل متفاعلة ومسترسلة[11]. وهذا التّصوّر ترتّب على تسليمه بأسبقيّة الفكر على اللغة وربطه بين المعالجة الذهنيّة لها والاستعمال ربطا تتفاعل فيه التّصورات الذهنيّة والأبنية اللغويّة ويُدمج بعضها في البعض الآخر[12]. فالمستويات والمكوّنات تتكوّن ذهنيّا في مراتب متدرّجة بين الانفصال والاتّصال لتتحقّق نحويّا مسترسلة عبر عمليّات تدريج Gradation تحقّق معنييْ الحركيّة والاسترسال وتدحض معنييْ السّكون والتّفاصل[13].

فالاسترسال حسب هذا الفهم منطلقه ما يتكوّن تفاعليّا في الأذهان من معان وتصوّرات. وما الأبنية المنجزة إلا نتاجا لتلك الحركة الذهنيّة المتفاعلة. أي إنّ تلك الحركيّة في الأبنية المنجزة المعجّمة تفسّرها الحركيّة الحاصلة في مستوى التّكوين والنشأة، نقصد بذلك مستوى المعاني والتّصوّرات الموجودة في الأذهان[14].

ويُعدّ افتراض حصول تجاذب بين اللفظ والمعنى عند إنتاج الأبنية اللغويّة حجّة أخرى تدعم حضور الاسترسال باعتباره خاصيّة في نظام اللغة. ذلك أنّ اللفظ لا يحيل على معنى واحد لا يخرج عنه إلى غيره، بالنّظر إلى تعدّد احتمالات تأويله. فهو يمثّل “سمة تسم المعنى ولا تعيّنه”[15]. وهذا يفضي إلى اعتباره مكوّنا هامّا في البنية اللغويّة يختزن قوّة احتماليّة هي التي تمنحه إمكانات لا نهائيّة لإنتاج أبنية تتعامل فيها دلالات قد تكون متقاربة أو متباعدة ناشئة عن استرسال نحويّ دلاليّ متنوّع داخل الوحدات اللّسانيّة. وبفضل استرسالها يمكن الحصول على “أبنية مزيج” Blending structures [16]. تكون قابلة للحلول في أكثر من بنية لغويّة وإنشاء علاقات تركيبيّة حادثة. من ذلك بنية المصدر التي تسترسل فيها دلالات متنوّعة بدخولها مجال التركيب وكذلك بنية الاسم المحض كما سنوضّح، وقد تحدّث الشريف عن هذا النوع من الاسترسال الدّلاليّ الممكن بين المشتقّات وبين أقسام الكلم وفسّره تفسيرا تكوينيّا اعتمادا على ما أسماه بـ”قانون التّشارط والاسترسال” المسيّر لاشتغال الأبنية الإعرابيّة والاشتقاقيّة[17]. فتنشأ بذلك بنيتان: البنية الأولى ضمنيّة احتماليّة موجودة بالقوّة في ذهن المتكلّم. أمّا البنية الثانية فهي منجزة موجودة بالفعل. والذي يربط بين البنيتين هو علاقة التشارط والتفاعل والاسترسال. وهذه العلاقة لا تُفهم إلاّ بالعودة إلى أصل التكوين والنظر في الآليّات الذّهنيّة التي تولّدها.       

5- تمثّلُ مظاهر الاسترسال الممكنة في الظّواهر اللّغويّة مدخلٌ هامّ لإعادة النّظر في تعلّميّة الدّرس اللّغويّ:

أشرنا في بداية هذا البحث إلى أنّ المعارف المقدّمة في درس العربيّة تقوم في أغلب الأحيان على مفهوم التّفاصل والتصنيف الصّارم للظّواهر المدروسة. وتكون القواعد المقدّمة بمثابة الثّوابت التي لا تقبل التّغيير أو العدول أو التّوسّع أو الاحتمال. ففي مجال الوظائف لا مجال للحديث عن الاحتمال الإعرابيّ وفي مجال المشتقّات لا مجال للحديث عن خروج المشتقات عن مقتضيات الوزن. وكأنّنا باللغة صناعة أعدّت بتلك الضوابط والدّقة والقولبة الصّارمة وتُـنوسيَ أنّ اللغة طبيعيّة وأنّ التقعيد والتنظير يتأسّسان بعد اكتمال نشأة الألسن[18]. لذلك نؤكّد على حركيّة نظام اللغة بفضل صفة الذّهنيّة فيه التي أثبتتها المناويل اللسانيّة العرفانيّة وبفضل التجاذب المحتمل بين الألفاظ والمعاني. فغايتنا من البحث في مظاهر الاسترسال في بعض الظّواهر اللغويّة أن نثبت أوّلا المزايا التي يمكن أن يوفّرها مفهوم “المسترسل” في تفسير تلك الحركة الدّاخليّة في نظام اللغة، وفي تفسير المتغيّرات الحاصلةِ داخل الأبنية اللغويّة المنجزة اشتقاقيّة أو تركيبيّة، وأن نثبت ثانيا أنّ تعلّميّة الموادّ، ومنها العربيّة، يلزمها هذا الرّافد النّظريّ المنهجيّ لتظل محلّ متابعة واهتمام.

5- 1- الاسترسال الممكن في باب أقسام الكلم:

سنطرح في هذا الموضع مظاهر من الاسترسال الممكن في باب أقسام الكلم، أي الاسترسال الممكن بـين الاسميّة والفعليّة والحرفيّة[19]. وسنختار المواضع الأكثر وضوحا وتواترا محاولين ربطها ببعض الأمثلة من برنامج تدريس اللغة بالمدارس الإعداديّة على وجه الخصوص.

في قسم الأسماء تُعدّ الأسماء المحضة في أصل نظام اللغة العنصرَ الموصوف في بنية الجملة لأنّ دلالـته ذاتيّة. لكن قد يُنزله المتكلّم منزلة الصّفة وتكون دلالته مستخلصة من المقصد، فيُحمل ذلك الاسم على صفة موجودة في ذهن المتكلّم لحظة إنشاء القول ويمنحه معنى جديدا داخل البنية التي حلّ فيها. فعندما نقول:

                                 أ- الفتى الحاسوب صديقي.

                                 ب- جاءت الفتاةُ القنبلةُ.

فإنّ المعنى الذي قصده المتـكلّـم بالاسم “الحاسوب” هو وصف الفتى بالذكاء وسرعة البديهة ويسر إيجاد الحلول. وقصد بالاسم “القنبلة” بلوغ تلك الفتاة درجة من الجمال والسّحر تضاهي أثر القنبلة في محيطها الذي تنزل به. فمنتج هاتيْن البنيتيْن نقل الاسميْن من حالة الاسميّة المحضة إلى حالة الوصفيّة. فأنشأ “بنيتيْن مزيجا” استرسل فيهما معنيا الاسميّة والوصفيّة. هاتان البنيتان، ورغم بساطة تركيبهما، تختزنان طاقة بلاغيّة وتداوليّة كبيرة هي التي يحتاجها المتكلّم أحيانا لإعادة تشكيل الدّلالة حسب ما يضمره من مقاصد. والأبنية من هذا القبيل كثيرة في العربيّة، وقد أشار الباحثون إلى كثرتها إمكانا وإنجازا من قبيل: مدفعٌ عملاقٌ وبنية لغزٌ وأنيابٌ حديدٌ والدّنيا الكلبةُ…[20]

يمكننا أيضا نقل الصّفة من حالة الوصفيّة إلى حالة الاسميّة إذا افترضنا تقدير الاسم الموصوف في بنية وردت فيها الصّفة خالية من الموصوف. فتقترض تلك الصّفة عندئذ حكم الاسم المحض كما في قولنا:

                                 ج- دخل سارق إلى بيتنا.

                                 د- أنت كاذب.

والأصل “رجل سارق” و”شخص كاذب”، باعتبار أنّ “الصّفات إذا ذكرتها مجرّدة من متبوعاتها فلابدّ فيها من الدّلالة على الذّات مع المعنى المتعلّق بها”[21] ، وتتأكّد هذه الصّورة من الاسترسال بطريقة أخرى يتحقّق بها الانتقال من الوصفيّة إلى الاسميّة أيضا عندما تلزم التّاء بعض الصّفات لتصبح تلك التّاء في تلك الحالة “أمارة للنقل من الوصفيّة إلى الاسميّة وعلامةً لكون الوصف غالبا غير محتاج إلى موصوف كالنّطيحة والذّبيحة”[22] .

ونشير في هذا الموضع إلى أنّ قضيّة العلاقة بين الأسماء المشتقّة والأفعال تندرج ضمن حديث النّحاة عن أقسام الكلم وخصائص كلّ قسم. وقد استفاضوا في بيان سمات الاسميّة وسمات الفعليّة في صنف من الوحدات وفي بيان مظاهر القرابة والاسترسال بينها. فسمّوْها “الأفعال المتّصلة بالأسماء” و”الأسماء القائمة مقام الأفعال” و”الأسماء الشبيهة بالأفعال”. وهذه التسميات حجّة على وجود تعالق دلاليّ وإعرابيّ بين الاسميّة والفعليّة في ذلك الصّنف. وذلك التّعالق المحتمل يؤكّد وجود استرسال بين حالة الاسميّة وحالة الفعليّة. وقد اعتبر النّحاة كذلك في باب “أفعل التفضيل” أنّ الألف واللام والإضافة في “أفعلُ” ممّا يرجح كفّة الاسميّة. وحذفهما والخروجُ عن الإضافة وزيادة “مِن” يرجّح كفّة الفعليّة[23]. وهذه المراوحة بين حالة الفعليّة وحالة الاسميّة تُعدّ من أهمّ صور الاسترسال في نظام العربيّة لتواترها في المنجز من الأبنية. وقد يفسِّر هذا التّجاذب تردّد النّحاة ومنهم سيبويه في إدراج “أفعل” في قسم بعينه من أقسام الكلم[24].

ونجد صورا أخرى، لكنّها قليلة، من الاسترسال في العربيّة بين الحروف والأسماء. وقد تمثّل بنية “أكلوني البراغيث” وما شابهها في نحو:

                                 هـ- خرجا الولدان/ خرجوا الأولاد/ خرجن البنات.

أهمّ نموذج. فالضمائر المتصلة بالأفعال في تلك البنية أفرغت من محتواها الدّلاليّ المقوليّ لتكون مجرّد حروف منبئة بعدد الفاعلين. وعمليّة الإفراغ هذه سمّاها النّحاة بـ”خلع الأدلّة”. والمقصود بخلع الأدلّة أن تَخلع عن كلمة ما دلالة الاسميّة فيها أو دلالة الفعليّة، وهما دلالتان ذاتيّتان، وتُـفرغُها منهما وتُخلّصها إلى دلالة الغيريّة. وقد خصّ ابن جنّي هذه الظّاهرة بباب[25]. ويمكن اعتبار التردّد بين حرفيّة ما الموصولة واسميّتها مظهرا آخر من الاسترسال فالـ”ما” في قولنا:

                                 و- سرّني ما قلته.

تتأرجح بين الحرفيّة على تأويل “سرّني قولك” وبين الاسميّة على تأويل “سرّني مقولك”. وقد رجّح ابن هشام اسميّتها اعتمادا على مبدأ التغليب لأنّ الاسميّة في رأيه هي الأغلب لاعتبار حضور معنى غير العاقل فيها[26].

ونلاحظ أنّ بعض الصفات في العربية تكون مؤنثة معنى ومختصّة بالإناث لكنّها خالية من علامة التأنيث. وبرد بعضها على وزن فاعِل كما في حائض وطالق أو على وزن مُفْعِل مثل مُرضِع ومُطفِل…[27] لكن متى “قُصِد فيها معنى الحدوث فالتاءُ لازمةٌ، نحو حاضت فهي حائضة وطلقت فهي طالقة” (م. ن). فالانتقال من حالة الوصفيّة إلى الحدثان والفعليّة هو الذي يبرّر حضورَ التاء، لأنّها قريبةٌ من التاء الدالّة على إسناد الفعل لفاعلٍ مؤنَّث عند وقوع الصفة موقعَ الفعل. وهذا يفسّر قوله تعالى: “يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ” (الحَجّ، 2) ذلك أنّ إضافة معنى الحدثان والفعليّة إلى الصّفة قد منحها دلالات جديدة عند وصف أهوال يوم القيامة إلى درجة أنّ المرأة المرضع تنسى رضيعها رهبة من ذلك المشهد.

لقد عرضنا أهمّ صور الاسترسال بين حالات الكلم باقتضاب، فقد عرضنا لهذه الصّور ولغيرها في بحثين سابقيْن[28]. لكن ما لفت انتباهنا في هذه الحالات أنّ الاسميّة تمثل محور حدث الاسترسال ومنطلق عمليّة الانتقال والتّدريج نحو الحالات التركيبيّة الأخرى.

5- 2- الاسترسال الممكن في باب الاشتقاق:

عدّ التّحاة والدّارسون الاشتقاق آليّة ذهنيّة تمكّننا من معرفة الأصل الذي تتولّد منه الوحدات المعجميّة المشتقة المستعملة والمُخرَجة وإرجاعِها إلى المادّة الأولى المُدخَلة المجرّدة العارية من العناصر الزّائدة التي تعتبر منطلق التّوليد والاشتقاق[29]

لكنّ اللافت أنّ المتكلّم قد يُجري بعض المشتقات مُجرى الآخر. من نحو إجراء المصدر مُجرى اسم الفاعل أو المفعول، أو إجراء المفعول مجرى الفاعل. كأن نقول مثلا “رجل قتيلٌ” عوضا عن “رجل مقتول” و”عيشة راضيةٌ” عوضا عن “عيشة مرضيّة” و”ماء دافقُ” بمعنى “ماءٌ مدفوقٌ” و”حجابا مستورَا” بمعنى “حجابا ساترا”. كما استعمل العرب المصدر للدّلالة على الفاعل من قبيل “رجلٌ عدْلٌ” بمعنى “رجلٌ عادلٌ”. لأنّ المقصود هو قوّة الدّلالة التي تضيفها صيغة المصدر، لذلك نجدهم يقولون:

                                 أ- رجلٌ عدلٌ.

                                 ب- امرأة عدلٌ.

فخرجت البنية (ب) عن الأصل في إجراءات المطابقة بين الموصوف المؤنّث والصّفة المعدولة عن الأصل إذ “أنّ التّذكير إنّما أتاها من قبل المصدريّة” [30] لأنّ المصدر مذكّر في أصل نظام العربيّة.

وقد عالج بعض الدّارسين مثل هذه الصّور والأبنية عند تفسير تكوّن البنية اللّغويّة المنجزة عبر مراحل مستوياتها المختلفة. فقد حاول الشّريف مثلا إثبات مبدأ يسيّر البنيتين الاشتقاقيّتين الأصليّة المعدولة أو الحاصلة والمحتملة فقال إنّ البنية الإعرابيّة أعلى تجريدا من البنية الاشتقاقيّة والبنية التّصريفيّة المعجّمة وغير المعجّمة من حيث هما مرحلتان أساسيّتان لتكوّن مستويات وسم البنية الإعرابيّة لفظيّا معجميّا[31].

واللافت في مجال المشتقّات والمقولات التصريفيّة أنّ وسم الكلمة بالعلامة لا يوفّر الصّرامة في الدّلالة على المعاني المقوليّة لأنّ العلامة ليست مختصّة بمعنى واحد بل صارت متصرّفة يسترسل فيها أكثر من معنى تصريفيّ (الجنس والعدد والإعراب والعاقليّة). وحتى في مستوى تسمية “الجمع المذكر السالم” أو “الجمع المؤنث السالم” تسترسل تلك المعاني وتتقاطع. ذلك أنّ “تغيير الأسماء في مقولة العدد يتقاطع مع الكثير من السّمات التّصريفيّة ومعنى العاقل وغير العاقل”[32]. وهذا التقاطع له الكثير من وجوه التأثير في الأبنية اللغويّة وفي نظام الوسم المطابقي[33]. لذلك تبدو تلك المقولات التصريفيّة بمثابة المقولةً الواحدة التي تسترسل في ما بينها داخل الأبنية اللغويّة استرسالا طيفيّا شبيها بـــ “طيف الألوان تتّبع الواحدة فلا تشعر إلاّ وأنت في الأخرى”[34].

5- 3- الاسترسال الممكن في باب الوظائف النّحويّة:

نلاحظ أنّ بعض المدرّسين يؤمن بمبدأ التصنيف الصّارم للوظائف النّحويّة، لكأنّ الحواجز بينها صارمة لا تقبل الاختراق. وفي حقيقة الأمر نقف على الكثير من المرونة والاسترسال بين الوظائف والمحلات الإعرابيّة في مصنّفات نحاتنا القدامى. فبمفهوم الاسترسال يمكن أن نفهم تبادل المحلات بين الفاعل والمفعول وتقارضهما أحكام بعضهما البعض كما في قولنا:

                                 أ- خرق الثّوبُ المسمارَ.

كما يجوز اعتبار وحدة “حمار” في قولنا:

                                 ب- “رأيت رجلا حمارا.

نعتا أو بدلا من باب الغلط[35]. وبنفس المبدإ يمكن أن نفسّر تردّد النّواسخ الفعليّة بين الفعليّة التامّة والفعليّة النّاقصة ونفهم اختلاف النّحاة في فعليّة أفعال المدح والذمّ واسميّتها. كما يمكن أن نفهم علّة الاسترسال بين النعتيّة والحاليّة والخبريّة. ذلك أنّ المخالفة بين المنعوت والنّعت مفردا في علامة التّعيين تجعل النّعت بدلا[36]. كما أنّك إذا خالفتَ بين المنعوت والنّعت في التعيين انتقل النّعت إلى خبر. وتتعدّد في العربيّة الصّور النّاشئة عن مبدإ التحويل على النّحو الذي وضّحه تشمسكي Chomsky. فالمركب الموصولي محوّل دلاليّا وتركيبيّا عن المشتقّات. فقولنا: “أريد أن أخرج” محوّلة عن بنية “أريد الخروج”. والمبنيّ للمجهول محوّل عن المبنيّ للمعلوم.

أمّا في باب المفاعيل وأشباهها فتتشابه الحال مع بعض الوظائف النّحويّة مثل النّعت والتّوكيد والمفعول المطلق. وتميّزها عن تلك الوظائف يكون إمّا بمسلك الدّلالة أو بالصّيغة الاشتقاقيّة أو بمقولة التّعيين أو بقرينة الوسم المطابقيّ. واللاّفت عند حديثنا عن مطابقة الحال لصاحبها أنّ تفسير المطابقة بينهما متّصل بأمر المشابهة الحاصلة بين الحال وبعض الوظائف النّحويّة. ذلك أنّ شبه الحال بالخبر في المعنى هو الذي حمل النّحاة على تنكيرها وبرّر تخالفها مع صاحبها في التّعيين. وكذلك شبه الحال بالمفعول في المعنى الإعرابيّ هو الذي يبرّر نصبها وتخالفها مع صاحبها في الإعراب عندما يكون صاحبها فاعلا أو ما قام مقامه. ومن ذلك أنّ شبه الحال بالنّعت في المعنى هو الذي يبرّر خصّها بالمشتقّات الواصفة. وهذا يستتبع جريانها على صاحبها في الجنس والعدد. فبين الأبنية التالية:

                                 ج- 1- رأيت ولدا خائفا.

                                       2- هرب الولد خائفا.

                                       3- رأيت الولدَ خائفة (المتكلم مؤنث).

                                       4- هرب الولد خوفا…  

يوجد “استرسال وظيفيّ” بسبب تأثير الاختلاف الاشتقاقيّ المقوليّ للوحدات التي تحلّ داخل الأبنية. وهذا يعني أنّه لا توجد حواجز فاصلة بين الوظيفة والأخرى باعتبار أنّ اللفظ لا يمكن التّعويل عليه دائما للفصل بين وظيفتيْن متمايزتيْن لأنّه يعدّ عند بعض الدّارسين مجرّد كساء للمعنى[37]. وهو قابل للتبدّل والتكيّف مع البنية. وهذا يفضي إلى تغيّر المعنى النحويّ. فإذا بدّلنا مثلا سمة مقوليّة (علامة الجنس أو العدد أو التعيين…) تغيّر ذلك المعنى النّحويّ وانتقلنا من وظيفة إلى أخرى. فما بين الوظائف النّحويّة استرسال هو الذي يمنح نظام اللّغة حركيّة وتنوّعا وحياة. أمّا القول بالحدود الصّارمة بينها فهو خضوع للقولبة الصّارمة ولنمطيّة الأبنية وتقديس لثوابت الأنظمة اللغويّة.

5- 4- مظاهر أخرى من الاسترسال:

نقف على صور أخرى متنوّعة من الاسترسال الممكن في درس العربيّة. ففي مجال الأعمال الإنشائيّة، نقف على مظاهر كثيرة من الاسترسال داخل الأبنية اللّغويّة. فقد فرّق سيبويه وغيره من النّحاة والبلاغيّين بين المعاني الأصليّة والمعاني المقاميّة[38]. ونظر الدلاليّون والتداوليّون في استرسال المعاني في الأعمال القوليّة، فاعتبروا مثلا أنّ البنية:

                                 أ- هذا سارق.

تنجز عدّة أعمال قوليّة. وأشار ميلاد إلى أنّ خروج المعنى الأصليّ للاستفهام أو غيره إلى معان مقاميّة يمثّل وجها من الخروج عن نمطيّة البنية والمعنى. وهذا الخروج هو من مظاهر الاسترسال القائم بين العمل القوليّ الواحد وسائر الأعمال[39]. ومن ذلك أنّ همزة الاستفهام قد يتحقق بها التثبيت والتقرير والتوبيخ والرّدع… لذلك فصلوا بين الأعمال اللغويّة من حيث هي أبنية نظريّة مجرّدة تمثّل أصول المعاني من ناحية والأعمال القوليّة من حيث هي أبنية منجزة منفتحة على التنوّع والتعدّد من ناحية أخرى[40].

أمّا في المستوى المعجميّ فيساعدنا مفهوم الاسترسال على فهم كيفيّة اشتغال المعجم داخل النصّ الشّعريّ مثلا. ذلك أنّ الوحدات المعجميّة قد تجري على غير أصولها داخل الأبنية اللغويّة. فنلك الوحدات لا تكتسب قيمتها فحسب من امتلائها الإحاليّ الذي يجعلها تكون هي المرشّحة للحلول في البنية اللّغويّة. بل تكتسبها، وهذا هو الأهمّ، من التّركيب ومن البنية التي حلّت فيها[41]. فكلّ وحدة معجميّة يتّسع معناها النّحويّ وحتّى المعجميّ بما لها من قوّة احتماليّة منحها إيّاها نظام اللّغة ووفّرها لها مبدأ الاسترسال.

إذن مظاهر الاسترسال اللغويّ كثيرة والأبنية والصّور المؤكّدة لحضوره تكاد لا تحصر. ولا شكّ أنّ أهم صور الاسترسال وأكبرها تأثيرا في درس العربيّة هي الحاصلة بين فروع المادّة. نقصد التفاعل المفترض بين تعلّميّة إنتاج النصّ الحجاجي وتعلّميّة النّحو والصّرف وتوظيف الظّواهر البلاغة… فالاسترسال باعتباره خاصيّة في النّظام اللغويّ، أيّ نظام، هو ميزة توسّع طاقة اللّغة وتمنحها صفات الثّراء والتنوّع والحركيّة لأنّ تلك الخاصيّة تفضي لسانيّا إلى أبنية منجزة كثيرة ينتجها المتكلّم قد تخرج عن أصول ذلك النّظام وثوابته.

6- مزايا مفهوم الاسترسال في درس العربيّة وفي العمليّة التعلميّة إجمالا:

نحن لا نشكّ في نجاعة التصوّر المنظوميّ للظّواهر اللغويّة في فهم خصائص الأنظمة اللسانيّة. فهذا التصوّر يسمح بتصنيف الظّواهر والأشياء والسيطرة عليها وجعلها نظاميّة اعتمادا على ثنائيّة الثّوابت والمتغيّرات أو ثنائيّة الأصول والفروع. لكن ما أردنا إثباته أنّ مفهوم الاسترسال لا يضعف مفهوم النّظام في اللغة ذلك أنّه، أي الاسترسال، “يسمح نظريّا باستيعاب كلّ الصّور اللّفظيّة الممكنة التّحقّق في الاستعمال”[42]. كما يسمح بفهم كيفيّة اشتغال نظام اللغة من حيث هو نظام متحرّك ومرن وحيّ وليس نظاما منمّطا ثابتا أو معطى للفهم والتصنيف والحصر سلفا.

إنّ الاسترسال نظير صفات الحركيّة والتّصرّف والعدول والاتّساع والحياة التي تميّز كلّ الألسن في بعدها الإنجازيّ. وهو ضديد الجمود والثبات وضديد الدّغمائيّة والمسلّمات. فلا مجال في فضاء المسترسل للقواعد المتكلسة والأشياء المنمّطة. إنّ هذا المفهوم، من حيث هو مفهوم عرفانيّ تكوينيّ، يسمح بإعادة قراءة جزء كبير من المتغيّرات الحادثة في الأبنية المنجزة وبتفسير ما عجزت عن تفسيره اللسانيّات التّصنيفيّة والتنظيريّة بحكم انطلاقه من الذّهنيّ المجرّد. ذلك أنّه يمكّننا من فهم ثنائيّة المعجّم وغير المعجّم مثلا: فغير المعجّم يقع في مستوى الأبنية النّظريّة المجرّدة التي تمثّل الأصول والثوابت والتي تسيّر كلّ أشكال الإنجاز. أمّا المعجّم فهو الذي يمثّل الصور المتنوّعة والمتغيّرة واللانهائيّة من الإنجاز. لذلك يجب تطويع أذهان المتعلّمين لقبول مبدأ النسبيّة في المعارف المقدّمة. وهذا ينطلق من بناء سليم لتلك المعارف في ذهن المدرّس صاحب المعرفة العالمة أوّلا. فلا مجال لتحنيط المعرفة وبناء الوثوقيّة الواهمة التي من سلبياتها عدم التفاعل مع الوضعيّات الحادثة والمتغيّرة غير القابلة للتّفسير. فكل أمر نكتسبه أو نتعلّمه معرفة كانت أو علما أو مهارة، إنّما هو معطى يتميّز بقابليّة التطوّر والتغيّر وقابليّة الدّخول في علاقة استرسال وتفاعل.

7- خاتمة:

اخترنا الاشتغال في هذا البحث على مفهوم الاسترسال من حيث هو خاصيّة في نظام اللغة تسم المستويات الدالّة ذات الصّلة. ورأينا أنّ هذا المفهوم يحيل على معنى الحركيّة بين الظّواهر اللّغويّة ويؤكّد صفة توالد الأبنية بفضل ذلك التّجاذب الحاصل أو المحتمل بين الألفاظ والمعاني. لكنّنا ندرك أنّ كلّ المناهج والوسائل والمناويل تبقى نسبيّة في كلّ مجالات المعرفة. فكلّ منوال لسانيّ ذي طابع إجرائيّ لا يمكن أن يستوعب كلّ الألسنة ولا كلّ الظّواهر في اللّسان الواحد لأنّ المنوال مصنوع. وهو غير قادر على معالجة كلّ الظّواهر الطبيعيّة وغير قادر على السيطرة عليها واستيعابها.

يجب أن نقرّ بضرورة الاستفادة أوّلا من التصوّر المنظوميّ باعتباره مبدأ نظاميّا تصنيفيّا لا باعتباره خاصيّة في الذّهن البشريّ وفي نظام اللغة، والاستفادة ثانيا من مفهوم الاسترسال في فهم كيفيّة اشتغال الأبنية اللغويّة في مستوى الإنجاز لأنّ في ذلك فوائد منهجيّة ومعرفيّة وإجرائيّة ذات بال. بل إنّنا نقول بضرورة بلوغ المتعلّم مهارتين في العمليّة التعليميّة:

  • مهارة التعرّف إلى ثوابت النّظام اللغويّ الذي يحدّد مجموعة القواعد النّظريّة المجرّدة التي تسيّر معظم صور الإنجاز.
  • مهارة إدراك المتغيّرات التي تمثّل نظاما فرعيّا هامّا في كلّ لسان يؤكّد الطاقة الخلاقة لذلك اللسان ويمنح المتكلّم القدرة على التصرّف والعدول والاتّساع.

والمهارة الثانية هي التي نقترحها أولويّة من أولويّات “تربية المستقبل” لتطوير العمليّة التعليميّة في سائر الموادّ المقدّمة لا سيّما في درس العربيّة.

نحن أردنا انطلاقا من تجربتنا الطّويلة في التدريس إبداءَ بعض الملاحظات في محتوى تعلّم مادة العربيّة ولا سيّما تعلّميّة الدّرس اللّغويّ، وتوضيحَ بعض الآليّات والمفاهيم التي يمكن أن تطوّر مهارة المدرّس في التّعامل مع المعارف المقدّمة للمتعلّمين. ونعتقد أنّ التوسّل ببعض مفاهيم النحو العرفانيّ ولسانيّات الخطاب واللسانيّات التطبيقيّة بات ضروريّا للارتقاء بمهارات المعرفة العالمة لتدريس الأدب واللغة والبلاغة من نحو مفاهيم: الاسترسال والفضاءات الذهنيّة والعوالم الممكنة والمداخل المعجميّة وآليّات إنتاج الكلام والاستعارة التصوّريّة والمزج والجسدنة…

 قائمة المصادر والمراجع:

المصادر العربيّة:

  • الأسترباذي رضيّ الدّين، شرح الرّضيّ على الكافية، تصحيح وتعليق يوسف حسن عمر.، منشورات جامعة قاريونس، بنغازي، ط 2.، 1996.
  • ابن جنّي، أبو الفتح، الخصائص، تحقيق محمد علي النّجّار ،دار الكتب المصريّة، المكتبة العلميّة، مصر (د.ت).
  • سيبويه، أبو بشر، الكتاب، تحقيق عبد السّلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، ط.3، 1988.
  • ابن هشام، جمال الدين، مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت.

المراجع العربيّة:

  • باسانو ،دومنيك، منظوميّة اللغة، ضمن موسوعة علوم اللغة، تعريب فرحات المليّح، 1995.
  • بياجيه، جان، الإبستمولوجيا التكوينيّةن ترجمة د. سيد نفادي، دار التكوين، دمشق، 2004..
  • بن حمّودة، رفيق،
  • -موضوعيّة الذّاتي في مقاييس النّحاة وأوضاعهم: مطابقة الفعل للفاعل، ضمن مجلة موارد، عــــــ5 ــدد، 2000 .
  • -الوصفيّة: مفهومها ونظامها في النّظريّات اللّسانيّة، دار محمد علي للنّشر، ط 1، 2004.
  • الذويبي، لطفي،
    • نظام المطابقة في الظّاهرة اللغويّة: دراسة تركيبيّة دلاليّة، أطروحة دكتوراه مرقونة، كلية الآداب بالقيروان. تونس، 2016.
    • الاسترسال المقوليّ في باب أقسام الكلم وأثره في نظام الوسم المطابقيّ في العربيّة، مجلة دراسات في الإنسانيّات، تونس، العدد4، 2018.
  • زكري، منير، مباحث في الاكتساب اللّغويّ: تحليل علميّ للمسائل الفيزيولوجيّة والباثولوجيّة والمعرفيّة، المعهد العالي للغات بتونس، 2001.
  • الزّنّاد، الأزهر، فصول في الدّلالة: ما بين المعجم والنّحو، نشر مشترك دار محمد علي الحامّيّ للنّشر، تونس، 2010.
  • الشّريف، محمّد صلاح الدّين، الشّرط والإنشاء النّحويّ، بحث في الأسس البسيطة المولّدة للأبنية والدّلالات، منشورات كلّيّة الآداب منوبة، تونس، 2002.
  • عاشور، المنصف، ظاهرة الاسم في التّفكير النّحويّ: بحث في مقولة الاسميّة بين التّمام والنّقصان، منشورات كلّيّة الآداب بمنّوبة، ط2، 2004.
  • فرتيمر، مايكل، نظريّة التّعليم الجشطلتيّة، ترجمة علي حسين حجاج، ضمن عالم المعرفة.، عدد 70، 1983.
  • قريرة، توفيق، الاسم والاسميّة والأسماء في اللّغة العربيّة: مقاربة نحويّة عرفانيّة، مكتبة قرطاج للنّشر والتوزيع، ط1، 2011.
  • المنوال العرفانيّ في دراسة الأسمنة والأسماء المتّصلة بالفعل في العربيّة، حوليّات الجامعة التّونسيّة، عدد57، 2012.
  • المبخوت، شكري، اتّصال الأعمال اللغويّة وانفصالها. ضمن ندوة الاسترسال في الظّاهرة اللغويّة. منشورات كلية الآداب بسوسة.
  • مجدوب، عزّ الدّين، المنوال النّحويّ العربيّ: قراءة لسانيّة جديدة، دار محمد علي الحامّي، تونس.،
  • المسترسل، ضمن أعمال ندوة المعنى وتشكّله، الجزء2، منشورات كلّيّة الآداب منّوبة، سلسلة النّدوات، المجلّد18، 2003.
  • ميلاد، خالد، الإنشاء في العربيّة بين التّركيب والدّلالة: دراسة نحويّة تداوليّة، نشر كلّيّة الآداب بمنّوبة والمؤسّسة العربيّة للتّوزيع بتونس، ط1، تونس، 2001.

المراجع الأجنبيّة:

  • Fodor J, The Modularity of mind, The MIT Press, Bradford, 1983.
  • Langacker R. Construction grammer: Cognitive radical and less so in cognitive linguistics internal dynamic and interdisciplinary interaction, Berlin-New York. ,2005.
  • Wilson M. & Tyler L.K., Against modularity, Against modula-rity, In J. L. Garfield (Ed.), Modularity in knowledge representation and natural-language understanding(pp. 37-62). Cambridge, MA, US: The MIT Press, 1987.

[1]– يعرّب بعض الدّارسين المصطلح أيضا بـ “القالبيّة” (انظر مثلا بن حمودة، 2004 ،139-145).

[2]– باسانو، 1995.

[3]– المجدوب، 1998، 128.

[4]– الحُبسة aphasie في علم النّفس العصبيّ هي اضطراب يصيب قدرة الكلام بسبب خلل عصبيّ ذهنيّ في الدّماغ (زكري، 2001 ، 35-37).

[5]– باسانو، 1995.

[6]– النّظريّة الجشطالتيّة من أشهر نظريّات التّعلّم اعتمدها عالم النّفس الألمانيّ Wilhelm Wundt (1832-1920) موظّفا مهارة الاستبصار لتنظيم أشياء الكون باعتماد قدرات الذّهن (فرتيمر،1983 ،199-279).

[7]– يعدّ تصوّر شميدت قطعا مع تصوّر أستاذه شليشر القائل بنظريّة “النَّسب اللغويّ” القائمة على التفاصل بين الألسن (المجدوب.، 2003، 753…)

[8]– اقترض علماء اللّغة مصطلح المسترسل من علم الرياضيّات. ويقصد الرّياضيّون بهذا المصطلح إمكان حصول الانتقال من عنصر إلى آخر أو من فضاء إلى آخر على نحو تدريجيّ متعاقب ودون قطع (المجدوب، 2003).

[9]– المقْولة catégorisation القصدُ منها تصنيف أشياء الكون وظواهره. وقد كانت الشروط الضروريّة الكافية (ش.ض.ك) غير ناجعة لمقولة الأشياء وتصنيفها. فظهر مفهوم الطراز لتجاوز محدوديّة منوال (ش.ض.ك) بالنّظر إلى الاسترسال الحاصل بين سمات الأشياء وموجودات الكون.

[10]– اعتبر المجدوب أنّ الاسترسال ظهر باعتباره خاصيّة في نظام اللغة مع أعلام المدرسة الذهنيّة النّظاميّة بدءا برئيسهم قيستاف قيوم Guillaume. وبدأ الظّهور أكثر وضوحا في أعمال الدّلاليّين العرفانيّين بدءا بأعمال الأمريكيّة إليانور روش Rosch عندما درست مفهوميْ المقْولة والطّراز وأعمال موشلير Moeschler وكليبار Kleiber. وانتقل تأثير هذا المفهوم إلى أعمال لنقكار وجاكندوف وغيرهما (المجدوب، 2003، 762).

[11]– Langacker , 2005, 103-105.

[12]– الزنّاد، 2010، 135.

[13]– Langacker , 2005, 137.

[14]– في إطار نظريّة الاكتساب اللغويّ يرى بياجي مؤكّدا فكرة الاسترسال أنّ تطوّر مهارة الاكتساب اللغويّ والكلام تأتي في سياق تطوّر سائر الأنظمة العرفانيّة الأخرى لذهن الطفل وهذا التطوّر ناتج عن تفاعل بين تطوّر الذّكاء الحسيّ الحركيّ وبين المحيط (بياجي، 2004، 35-36)

[15]– الشريف.2002: 70.

[16]– قريرة، 2012، 189.

[17]– الشريف، 2002، 350-361.

[18]– يمكن مقارنة هذا الأمر بالقواعد العروضيّة المصنوعة. فتلك الأوزان تبقى نسبيّة ولا تستوعب كلّ الشّعر الطّبيعيّ والدّليل كثرة التّغييرات الزحافات والعلل وعيوب القوافي.

[19]– هذه السيرورة يسمّيها العرفانيّون تدريجا Gradation. والملاحظ أنّ فكرة التّدريج هذه الممكنة بين أقسام الكلم كانت غائبة عن أذهان دعاة التيسير في النّحو في النّصف الأوّل من القرن العشرين. لذلك راحوا يفرّعون باب الاسم إلى أقسام فرعيّة مستقلّة. وهذا راجع إلى تأثّرهم بالتّصنيف البنيويّ المنظوميّ الصّارم للظّواهر اللغويّة الموصوفة. وقد تزعّم هذا التيّار إبراهيم مصطفى ثم إبراهيم أنيس ومهدي المخزومي وتمّام حسّان… وقد تناول المجدوب تصنيفاتهم للكلم وآراءهم في هذه المسألة ونقدَ توجّههم في (المجدوب، 1998، 181-204).

[20]– بن حمّودة، 2004،632.

[21]– الأسترباذي، شرح الكافية، 2/284.

[22]– المرجع نفسه، 3/329.

[23]– لهذا السبب أخذت “أفعل” الفعليّة الحكم الإعرابيّ للفعل فمُنعت من الصّرف ومن الجرّ.

[24]– سيبويه، الكتاب، 1/ 132.

[25]– ابن جنّي، الخصائص، 2/179-196.

[26]– ابن هشام، مغني اللبيب، 1/335.

[27]– الأسترباذي، شرح الكافية، 3/329.

[28]– توسّعنا في توضيح بعض صور الاسترسال في البحث الذي أنجزناه لنيل شهادة الدكتوراه (الذويبي، 2016، 161-165). كما عرضنا لبعض هذه الصّور في مقال نشرناه بمجلة “دراسات في الإنسانيّات” (الذويبي، 2018)

[29]– عاشور، 2004، 56-66.

[30]– ابن جنّي، الخصائص، 2/202.

[31]– الشّريف، 2002، 303-325.

[32]– عاشور، 2004، 223.

[33]– هذه الآثار اشتغلنا على توضيحها بشيء من التفصيل في (الذويبي.2016، 204-210).

[34]– الشريف، 2002، 316.

[35]– يعتبر سيبويه أنّ الاسم “حمار” في قولنا : “مررت برجلٍ حمارٍ” بدل غلط وليس نعتا. يقول: “فأمّا المحال فأن تعني أنّ الرّجل حمار. وأمّا الذي يحسن فهو أن تقول مررتُ برجلٍ، ثمّ تُبدل الحمار مكان الرّجل فتقول حمارٍ. إمّا أن تكون غلطت أو نسيت فاستدركت” (سيبويه، الكتاب، 1/439). كما يجوز اعتبار المصدر “ركضا” حالا في قولنا: “هربت ركضا” على تقدير “راكضا” واعتبار “القرفصاء” حالا أو مفعولا مطلقا على تقدير “جلوس القرفصاء”.

[36]– ابن يعيش، شرح المفصّل، 2/244.

[37]– بن حمّودة، 2004، 621.

[38]– سيبويه، الكتاب، 3/176-343.

[39]– ميلاد، 2001، 415.

[40]– المبخوت، 2004.

[41]– الوحدات المعجميّة “عين” أو “يد” أو “أسد” وغيرها تقع، بفضل سمة التركيبيّة الموجودة فيها بالقوّة، تحت عمليّات تحيين actualisation ذهنيّة تعطيها في كلّ مرّة أدوارا دلاليّة محتملة تجعلها تسترسل في أبنية متنوّعة.

[42]– بن حمّودة، 2004، 300.

مقالات أخرى

الفروق الثقافية في التعليم:

قراءة معرفيّة في سوسيولوجيا التّجربة المدرسيّة:

سيميائية التحول الجندري في الرواية التّونسية  بين البحث عن الهوية وتخريبها:

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد