قراءة معرفيّة في سوسيولوجيا التّجربة المدرسيّة:

 

ملخّص:

تتدخّل في تشكيل التّجربة المدرسيّة باعتبارها الجزء الذّاتيّ للفاعلين التّربويّين عدّة متغيّرات وعوامل سوسيو-ثقافيّة لتتجلّى عموما في ثلاثة أبعاد (المشروع، الإستراتيجيّة، تكوين الموضوع)، وتشكّل هذه الأخيرة ]التّجربة المدرسيّة[ بالنّسبة إلى التّلاميذ مع الأخذ بعين الاعتبار “هابيتوس-هم-” (Leurs habitus)  ومنفعتهم الشّخصية آليّة يواجهون بها النّظام التّعليميّ الانتقائيّ، بغية إبراز الذّات الفاعلة لتحقيق نجاح دراسيّ يراعي معايير ثقافة المدرسة بمفهومها المؤسّساتيّ التّنظيميّ التّعليميّ، إذ يتمّ تصنيف تجربة التّلاميذ هذه من طرف “فرونسوا ديبي” حسب تصوّر خاصّ للنّجاح المدرسيّ في ارتباطه بمشروع التّلميذ وتجربته المدرسيّة الّتي تتداخل فيها عدّة عوامل منها: الأصل الاجتماعيّ والتّفاعلات المدرسيّة والاحتياجات الشّخصيّة.

الكلمات المفتاحيّة: التّجربة المدرسيّة، النّجاح المدرسيّ، فرونسوا ديبي، تجربة التّلاميذ، المشروع، الإستراتيجيّة، تكوين الموضوع، تصنيف التّجارب المدرسيّة للتّلاميذ.

Abstract:

The school experience, as the subjective part of educational actors, is shaped by several variables and sociocultural factors, generally manifesting itself in three dimensions (the project, the strategy, and formation of the subject). The latter constitutes the [school experience] for the students, taking into account their habitus and personal benefit, as a mechanism by which they confront the selective educational system. In order to highlight the active self to achieve academic success that takes into account the standards of school culture in its institutional, educational, organizational concept, such that this student experience is classified by François Dubet according to a special perception of school success in its connection with the student’s project and his school experience, in which several factors intersect, including social origin and school interactions and personal needs.

Keywords: school experience, school success, François Dubet, students experience, project, strategy, formation of the subject, classification of students’ school experiences.


1- تقديم:

من أجل مقاربة ما يدور داخل المدرسة، لابدّ من الحذر من الانزلاقات الإيديولوجيّة لبلوغ وصف وتحليل وتفسير موضوعيّ، وكما يقول “فرانسوا ديبي[1]” (François Dubet) فإنّ المدرسة تُعدّ حقلا للمعارك والصّراعات، أيّا كان ما يُفَكَّرُ فيها أو ما يُقال عنها، وعلى عالم الاجتماع أن يشارك في هذه المعركة[2]، فكثيرا ما تؤخذ التّوقعات الماكروسوسيولوجيّة للدّخول في “العلبة السّوداء”[3] (La boîte noire)، إذا ما افترضنا أنّ التّجربة المدرسيّة تتشكّل بالأساس داخل تلك العلبة السّوداء.

لعلّ الهدف الكامن وراء التّجربة المدرسيّة لدى التّلاميذ هو تحقيق النّجاح المدرسيّ والاجتماعيّ، ورغم أنّ هذا الأخير ليس بموضوعنا المباشر فقد ظلّ، ولفترة مهمّة، منطلق الإشكالات المتمحورة حول حقل سوسيولوجيا التّربية (La sociologie de l’éducation)، فخلال فترة السّتينيّات من القرن الماضي ومع روّاده الأوائل، وخاصّة الاتّجاه النّقديّ “بيير بورديو” و”جون كلود باسرون”[4] اللّذين ربطا النّجاح الدّراسيّ بالأصل الاجتماعيّ للتّلاميذ، مع العلم أنّه في بعض الأحيان يكون حجم التّفاوتات التّعليميّة المدرسيّة أكبر من حجم التّفاوتات الاجتماعيّة الّتي تحدّدها مسبقًا؛ في حالات أخرى، وعلى العكس من ذلك، يكون حجم التّفاوتات التّعليميّة المدرسيّة أصغر من اللّامساواة الاجتماعيّة، ومنه، تُبرِزُ بعض أنظمة المدارس إعادة الإنتاج الاجتماعيّ بينما تقلّل البعض الأخرى منه[5] ليأتي بعد ذلك اتّجاه آخر والّذي لا يزال معاصرا، حيث قُدِّمَت مع “رايمون بودون” و” بوتيني” و”فرونسوا ديبي” تفسيرات جديدة للنّجاح المدرسيّ، يمكن فهم فحواها عامّة انطلاقا من طرح ثلاثة مفاهيم أساسيّة وهي: “الإستراتيجيّة”، “المشروع” و “التّجربة المدرسيّة”، ونستخلص ممّا سبق أنّ البعد العلائقيّ يظهر بين مفعولات التّلاميذ والنّجاح المدرسيّ.

في الأخير تبقى كلّ تلك التّفسيرات موضع مساءلة وتقييم نظرا لارتباطها بمجال اجتماعيّ معيّن بما يحمله من ثقافات و”رساميل” (بِلُغة بورديو)…إلخ، هذا ما يعكس حدود قراءتنا المعرفيّة الّتي تتقيّد بسياق تاريخيّ وسوسيو-مجاليّ معيّن مرتبط بفرنسا على وجه الخصوص. ما يهمّنا في تأطير موضوع هذه الورقة البحثيّة بالأساس هو محاولة معرفة ميكانيزمات عمل تلك التّفسيرات المعاصرة وتحليلها، مسلّطين الضّوء فقط على تجربة تلاميذ السّلك الثّانويّ لدى “فرونسوا ديبي” ضمن سوسيولوجيا التّجربة المدرسيّة. ومن أجل بلوغ معرفة وفهم عميقين، وجب طرح أسئلة إبستمولوجيّة يمكن صياغتها على النّحو التّالي: ما معنى التّجربة المدرسيّة؟ كيف تتشكّل تجربة التّلاميذ؟ ما هي تصنيفات التّجارب المدرسيّة لهم؟

2- نحو بناء معنى للتّجربة المدرسيّة:

من خلال ما سنقدّمه، يتّضح أنّ للتّجربة المدرسيّة مغزى ينبثق قوامه وأصله من الفلسفة الوجوديّة (سواء بكيفيّة صريحة أو ضمنيّة) الّتي تقول إنّ “العقل لوح فارغ أو صفحة بيضاء”، وتنتهي]الفلسفة الوجوديّة[ إلى أنّ المعرفة هي نتاج الذّات البشريّة لأنّ الحواس هي الّتي تنقل معطيات الإدراك إلى الدّاخل فتنتج المعرفة بالإمكان الذّاتيّ البشريّ[6].

         تتجاوز سوسيولوجيا التّجربة المدرسيّة وصف تجارب التّلاميذ والأساتذة، وتتعلّق بعلم الاجتماع العامّ الّذي يهدف إلى إنتاج تحليل النّظام المدرسيّ من ناحية التّفسير التّحليليّ، ونظريّا من ناحية التّجربة الذّاتيّة للفاعلين بينما ينتقل علم الاجتماع عمومًا من موضوعيّة النّظام إلى ذاتيّة الفاعلين. وتسعى سوسيولوجيا التّجربة إلى السّير في الاتّجاه المعاكس من خلال فكّ ارتباط منطق النّظام (المدرسيّ) بالطّريقة الّتي تتبلور فيها تجربة الفاعلين (Dubet, 1994). ويمكننا القول إنّه إذا كانت تجربة الفاعلين ذاتيّة وتنطوي على “حرّيّتهم” فإنّ الحقيقة تظلّ مُعرَّفة باختبارات موضوعيّة تمامًا، ويمكن إثباتها انطلاقا من قيود النّظام لأنّ التّلميذ لا يختار مسقط رأسه وتراثه الثّقافيّ ولا موارده الإستراتيجيّة في سوق المدرسة  (Le marché scolaire)ولا حتّى التّعريفات الثّقافيّة الّتي تحدّد أذواقه وتمثّلاته عن نفسه. من ناحية أخرى، هو الّذي يُطلب منه العمل وبناء نفسه ضمن نظام القيود هذا، لذلك، من الممكن إعطاء الأولويّة للتّجارب المدرسيّة وفقًا لـلاختبارات الّتي يواجهها التّلاميذ[7].

يعتبر فرونسوا ديبي في كتابه الثّانويّون  [8] (Les lycéens) أنّ التّجربة المدرسيّة هي الجانب “الذّاتيّ” للنّظام المدرسيّ، بتعبير أدقّ، إنّها الكيفيّة الّتي يقدّم بها الفاعلون أنفسهم ويبنون بها هذا النّظام الّذي يساعدهم في العثور على ميولاتهم وتمثّلاتهم. ووفقًا لأشكال أخرى في الأبعاد المختلفة للنّظام المدرسيّ، نجد أنّ البعد الأوّل للتّجربة المدرسيّة هو ذلك الخاصّ بمشروع التّلميذ، هنا نفتح قوسا يعبّر عن رأي بیير مارتان لنبيّن أنّالمشروع كينونة وجدانيّة وتربويّة يتبنّاه المتعلّم ويستدمجه نفسانيّا وعاطفيّا ومعرفيّا ويربطه بأفق مستقبليّ أوسع، حيث يعمل الجميع من خلاله على مساعدة المتعلّم على تمثّله وبنائِه وذلك عن طريق الممارسات التّربويّة والبيداغوجيّة الملائمة“، في حين يرى وليام جيمس أنّه إذا شكّل المتعلّم في ذهنه صورة لما يودّ أن يكون عليه وتعلّق بها لفترة طويلة بما يكفي، فإنّه يتحوّل تدريجيّا إلى ما تخيّله تماما[9]، وهو ما يؤكّد رأي ديبي الّذي يموقعه ]المشروع[ كوسيط بين النّموذج الثّقافيّ للنّظام المدرسيّ ووظيفته الانتقائيّة.

بقدر ما يمكن تعريف المراهقة على أنّها ممرّ يؤدّي بالضّرورة إلى تغيّر حالة البالغين، فإنّ أيّ ثانويّ “يبني” وضعه الرّاشد في المستقبل[10] و يُطلب منه وضع “المشاريع ” اليوم، ويجب على التّلميذ أن يعرض في المستقبل صورة عن نفسه ووضعه وموقعه في مهنته. يُنظر بهذه الطّريقة إلى الدّراسات/ التّعلّمات (Les études) على أنّها ذات جدوى إلى حدّ ما وتكون مكيّفة ومقدّمة لتحقيق مشروع ما، ومع ذلك، فإنّ فكرة المشروع هذه أكثر تعقيدًا ممّا تبدو عليه لأنّها لا تعني بأيّ حال من الأحوال أنّ التّلميذ يُعتبر موضوعًا حرًّا ومستقلًّا تمامًا “يُقرّر” مشاريعه. قد تكون المشاريع محدّدة على المدى الطّويل إذ يضع الثّانويّ صورة مهنيّة وراشدة عن نفسه، كما قد يكون المشروع أيضًا على المدى القصير جدًّا، وأنّ رؤية المستقبل تقتصر فقط على الزّمن المدرسيّ ممّا يجعل التّلميذ يتطلّع ببساطة إلى الانتقال إلى الفصل التّالي، وفي هذه الحالة يرى التّلاميذ أنّهم على المسار الصّحيح وأنّ وضع المشاريع “الحقيقيّة” تؤجّل إلى غاية التّعليم العالي.

لا تعني المكانة المركزيّة للمشروع في التّجربة المدرسيّة بالضّرورة أن يكون التّلميذ هو السّيّد و”المالك” (Le maître et le propriétaire)، ويمكن للثّانويّ أن يعيش تجربة المشروع كشيء خارج عن ذاته ونتاجا للتّوقّعات الوحيدة للأسرة الّتي “تدفعه”. أخيرًا، قد لا يكون لدى العديد من الثّانويّين أيّ مشروع، لكنّ هذا الغياب لا يبطل بالضّرورة دور المشروع في تجربة التّلميذ لأنّ التّعلّمات تفتقر لجزء من معناها ويشعر التّلاميذ بإحساس بالفراغ وعدم الجدوى. المشروع ناتج عن تطلّعات المراهقة وعن التقاء البنية الاجتماعيّة (La structure sociale) والمدرسة حيث يفرض الموقع الاجتماعيّ بعض الطّموحات والتّطلّعات الّتي تأتي ضدّ المدرسة والموارد المخصّصة والقواعد المعترف بها في النّظام المدرسيّ. ونتيجة لهذا الالتقاء، يحدّد المشروع القيمة الذّاتيّة للتّعلّمات وقيمة المعرفة المكتسبة ومدى ملاءمتها لوِجهات نظر التّلاميذ.

البعد الثّاني للتّجربة المدرسيّة، يقع بين التّنظيم المدرسيّ (L’organisation scolaire) والنّموذج الثّقافيّ ويتوافق مع ما يشار إليه عادة بالتّجربة التّعليميّة (L’expérience éducative)، ويتعلّق الأمر بتكوين الموضوع ]المعنى[ والسّؤال: إلى أيّ مدى تكتسب المعرفة[11] المكتسبة والعلاقات التّربويّة، بالإضافة إلى جدواها، معنى ذاتيًّا يشعر من خلاله الثّانويّون بأنّهم “مكوّنون” وبأنّهم يتحوّلون؟ 

ويمكننا وصف هذا البعد من التّجربة المدرسيّة من حيث الشّغف والميول (Vocation) والملل والتّعرّف على المدرّسين والاكتشاف و “الحساسيّة” لبعض الموضوعات والأساتذة، بأنّه ارتباط بالمعرفة وهو ليس بالأمر السّهل. يجب أيضًا اعتبار المحتوى ]التّعليميّ[ كعلاقة اجتماعيّة بين التّلاميذ والأساتذة المطالبين بتقديم معرفة معيّنة.

يقوم الثّانويّون بتكوين هذا المعنى الذّاتيّ للتّعليم من ثلاثة توجّهات رئيسيّة:

الأوّل هو المردوديّة، أين يتمّ الحكم على التّعليم والمدرّس من وجهة نظر الإنجازات الّتي يُسمح للتّلميذ بتحقيقها. إنّه ليس مبدأ المنفعة العامّة للمدرسة، ولكنّه علاقة نفعيّة بالتّعليم، فـ”الأستاذ الجيّد” (Le bon enseignant) هو الّذي ينظّم العمل بكفاءة ويتيح فرصة الحصول على نتائج جيّدة في الامتحان. ويتمّ تعريف الوضعيّة المدرسيّة على أنّها اختبار يتمكّن المعلّم الكفء من التّفوّق فيه، و]يبدو أنّ قدرة المعلّمين على “التّدريس” يجب أن تدمج القدرة على إدارة مجموعة، والتّحكّم في العلاقات بين التّلاميذ، ونزع فتيل العوائق، وتكييف أساليب وطرق التّقييم[12].

التّوجّه الثّاني لهذه العلاقة بالمعرفة هو الفائدة (Intérêt)، ويعتبر التّلميذ نفسه، من خلال المعرفة، “موضوعًا فكريًّا” في التّكوين المهتمّ بالمعرفة والتّحوّلات الّتي يمكن أن تحدثها في طريقته لرؤية العالم وإدراك نفسه .من وجهة النّظر هذه، يُنظر إلى الأستاذ والنّظام على أنّهما مثيران، أو على العكس من ذلك، “مدرسيّان مملّان”.

أخيرًا، يمكن للثّانويّين الحكم على الارتباط بالمعرفة من وجهة نظر العلاقة بلعبة الشّخصيّات الموجودة، ولاسيما شخصيّة الأستاذ، ثمّ يخضع الارتباط بالانضباط لطبيعة العلاقات الشّخصيّة الّتي يتمّ بناؤها بين المدرّس وفصله والتّلاميذ. بالطّبع، كلّ التّلاميذ يرسمون نفس الصّورة لـ “لأستاذ الجيّد”، ويَرَوْنَ أنّه: فعّال، ممتع ومحبوب. ومن المهمّ التّمييز بين هذه الأبعاد المختلفة للتّجربة الذّاتيّة للمعرفة لأنّ التّلاميذ لا يرتّبونها بنفس التّرتيب، وبالتّالي لا يقدّمون أنفسهم بنفس الطّريقة إذ يمكنهم تصوّر أنفسهم على أنّهم تلاميذ أكثر أو أقلّ كفاءة، كمثقّفين شباب أو مراهقين مهتمّين -أوّلا وقبل كلّ شيء- بـ “شخصيّتهم”.

يتجاوز تكوين الموضوع والارتباط بالمعرفة العلاقة التّربويّة. وفي الواقع، إنّ التّنظيم المدرسيّ هو[13] أيضًا مساحة لتجربة المراهق/ الشّابّ الّتي يتمّ التّرحيب بها في المدرسة، ولكنّها مستقلّة إلى حدّ كبير. لا تعني حقيقة أنّ حياة المراهق/ الشّابّ دائمًا ما تكون في حالة توتّر مع المدرسة وأنّها لا تشارك في تكوين موضوع ما (Formation d’un sujet)، وهي تشكّل مساحة عامّة يناقش فيها التّلاميذ ويعيدون صياغة المعارف المدرسيّة بشكل أو بآخر. هذه المساحة يتّفق فيها الثّانويّون على درجة من الالتصاق أو الابتعاد. وفيما يتعلّق بالثّقافة المدرسيّة لا تقتصر التّجربة التّعليميّة الثّانويّة على التّعليم بالمعنى الضّيّق، بل إنّ حياة المقاهي والمجموعات والاهتمامات المختلفة والصّداقات والأحبّاء تشارك أيضًا في تكوين المواضيع حتّى لو كانت المدرسة الثّانويّة (Le lycée) لا تتحكّم فيها بشكل مباشر.

البعد الأخير للتّجربة المدرسيّة هو الإستراتيجيّة، ]ففي منطق الإستراتيجيّة، يتمّ تحديد هويّة الفاعل، العلاقات الاجتماعيّة ورهاناته بطريقة مختلفة تمامًا[14][، ويشغل التّلميذ منصبًا محدّدًا بالأدوار وقواعد الانضباط وطرق الانتقاء (Sélection)، كما أنّه يضع نفسه بدرجة أو بأخرى في مرتبة الشّرف في التّسلسل الهرميّ للمكانة والكفاءات، لذلك فهو مطالب بتطوير إستراتيجيّات التّكيّف والاندماج لحساب استثماراته المدرسيّة وإدارة مصالحه حيث يجب الاحتفاظ ببعد الفعل هذا لأنّه لا يوجد ما يثبت أن أكثر إستراتيجيّات المدرسة فاعليّة تكون من وجهة نظر ذاتيّة، وهي الأكثر جدوى من حيث المشروع والأكثر إثارة للاهتمام من النّاحية الفكريّة، وبالتّالي كلّما كان النّظام المدرسيّ أقلّ اندماجا، زادت احتماليّة أن يكون هذا البعد قائما بذاته ومهمًّا.

تتميّز المدارس الثّانويّة الفرنسيّة بتنظيم “ضعيف” و”انتقاء” قويّ، ويدلّ ضعف التّنظيم على أنّ المدارس الثّانويّة لها تأثير مباشر ضئيل على حياة المراهقين/ الشّباب خارج ساعات الدّراسة والّتي يتمتّع فيها التّلاميذ باستقلاليّة شخصيّة كبيرة، ويدلّ كذلك على أنّ التّماهي بالمؤسّسة ضعيف، ويزداد الأمر سوءًا عندما يكون المرء في مؤسّسات جماهيريّة. ومن ناحية أخرى، فإنّ الوظيفة الانتقائيّة قويّة لأنّ مسارات التّلاميذ بأكملها تبدو كعمليّة فرز طويلة لترتيب اختيارات المسالك/ الشّعب (Filières). وفي اجتماع هاتين الخاصّيّتين ما يفسّر وزن البعد الإستراتيجيّ للتّجربة المدرسيّة ووجوب فهم كيف “تعمل”، وتعلّم ما يسمّيه الآخرون “حرفة التّلميذ”.

يظهر من خلال الرّسم التّمثيليّ أعلاه أنّ وسط ثلاثيّة أدوار المدرسة توجد ثلاثيّة أبعاد التّجربة المدرسيّة. ويذهب فرونسوا ديبي إلى اعتبار التّجربة المدرسيّة، التّجربة الذّاتيّة للفاعلين داخل المنظومة التّعليميّة المدرسيّة. فالدّافعيّة الّتي تقف وراء افتعال هذه التّجربة من طرف الفاعلين (التّلاميذ) هي تقليص الهوّة الحاصلة بين ثقافة المدرسة وثقافة الغالبيّة منهم داخلها، وتمثّل هاتان الثّقافتان خطّين متوازيين، هنا يأتي دور هذه التّجربة كخيط ناظم أساسه خلق معنى للتّعلّمات وتكوينه ووضع مشروع ببناء إستراتيجيّات ذاتيّة لبلوغ النّجاح في ظلّ التّفاوتات. ويقرّ كلّ من بودون ورينو أنّ “التّفاوت في الفرص المدرسيّة هو اختلاف احتمال الوصول إلى مختلف مستويات الدّراسة تبعا للأصل الاجتماعيّ. ويمكن أن نوضّح ذلك بالقول ببساطة؛ إنّ تلميذا من صفّ دراسيّ عال لديه احتمال للوصول إلى الجامعة أكبر بكثير من تلميذ منحدر من عائلة عاملة. ويظهر التّفاوت في الفرص بشكل واضح جدّا في مختلف نقاط التّفرّع الدّراسيّ (الانتقال من مرحلة دراسيّة إلى أخرى)”[17].

3- تجربة التّلاميذ؛ سؤال المقوِّمات والتّشكيل:

تعدّ التّجربة المدرسيّة للتّلاميذ مجال بحث حديث نسبيًّا، وقد شكّل قانون التّوجيه لعام 1989 نقطة تحوّل رمزيّة من خلال إظهار الحاجة إلى وضع التّلميذ “في مركز نظام التّعليم”، وتمّ وضع هذا المبدأ على مدى العقدين الماضيّين بسبب تطوّر مكانة التّلميذ بشكل كبير (Cavet ، 2009)، إذ أصبح موضوعًا يتمتّع بحقوق، وخصوصا فاعلا مسؤولاً عن تمدرسه لأنّ المدرسة تتوقّع منه أن يمارس “مهنة التّلميذ”. إلى جانب هذه التّحوّلات، ستضع الدّراسات أيضًا التّلاميذ في قلب اهتماماتها وتبدأ بالتساؤل حول “تجربتهم المدرسيّة”.

لطالما أهملت سوسيولوجيا التّربية دراسة الفاعلين المدرسيّين وبشكل خاصّ التّلاميذ، فقد كان يجب انتظار أعمال ديبي (1991،1994) حول الثّانويّين وتعزيز “سوسيولوجيا التّجربة المدرسيّة Sociologie de l’expérience scolaire” من أجل النّظر إلى الطّريقة الّتي يضع التّلاميذ من خلالها الإستراتيجيّات والعلاقات والمعاني، لذلك يعدّ هذا، مجال بحث حديث نسبيًّا[18]. إنّ تجربة التّلاميذ هي الوحدة الأساسيّة الّتي يمكن من خلالها محاولة التّفكير في التّربية حيث يتمّ قياس ما “تفعله” المدرسة بالفعل.  يجب دراسة هذه التّجربة على أنّها النّشاط الّذي يقوم التّلاميذ من خلاله ببناء أنفسهم بدرجات متفاوتة من النّجاح، كمواضيع لدراساتهم/ تعلّماتهم في نظام مدرسيّ ويجب أن نسأل أنفسنا: كيف يلتقي الأفراد بالمدرسة؟ وكيف يشكّل هذا الاجتماع ويحوِّلهم[19]؟

لإعطاء محتوى ملموس لموضوع التّجربة المدرسيّة، سنفكّر في وجهة نظر تلميذ أو طالب يدخل المدرسة الّتي لم تفرض قواعدها عليه بشكل ملحوظ، ووفقًا لبحث قام به “فرانسوا ديبي” فإنّ مشكلته ]التّلميذ [الرّئيسيّة ليست الامتثال للرّموز ولكن هي إعطاء معنى لعمله المدرسيّ (Dubet، 1991/ Dubet  Martuccelli et، 1996)، وبعبارة أخرى، يكون التّلميذ أقلّ تقييدًا لِلَعب دور يقوده لبناء تجربته المدرسيّة، وإلى حدّ ما، لبناء نفسه كموضوع لتعليمه. فكيف يمكن للتّلاميذ إنتاج معنى لدراستهم؟ للتّحدّث مثلهم: كيف يمكنهم “تحفيز أنفسهم”؟

 يوجد أوّل سجّل للتّعبئة، وهو سجّل الهابتوس Habitus المدرسيّ الّذي يُنقل إلى التّلميذ من طرف عائلته، وهو يعطي التّلاميذ معنى -جيّدًا- لدراساتهم لأنّهم[20] نشأوا في أسر قادرة على نقلها إليهم بشكل أساسيّ. أمّا في أسر الطّبقة المتوسّطة، فتدرس لأنّ “الأمر على هذا النّحو”، ولا يتمّ إعداد التّكييف الاجتماعيّ بشكل مناسب للحياة المدرسيّة ]من المسلّم به أنّ مستوى تعليم كلّ من الوالدين أمر مهمّ بالنّسبة إلى نجاح الطّفل[21]، ومع ذلك، كما يشتكي المدرّسون بمرارة، فإنّ هذا النّوع من التّنشئة الاجتماعيّة في المدارس بدأ في التّدهور لأنّ معظم التّلاميذ في نظام جماهيريّ (Système de masse) غير مُنَشّئين اجتماعيّا لِلَعب اللّعبة، خاصّة عندما يكونون فقراء أو ينتمون إلى أقلّيّات موصومة فتبدو المدرسة وكأنّها عالم أجنبيّ بالنّسبة إليهم، لأنّ الثّقافة الجماهيريّة (ثقافة الكتلة) (Culture de masse) تقدّم نماذج لحياة طفوليّة بعيدة كلّ البعد عن القيم المدرسيّة القائمة على الطّاعة والعمل الجادّ والجدّيّة.

السّجلّ الثّاني لتعبئة التّلاميذ/ الطّلّاب هو سجلّ المنفعة الفرديّة، وتجدر الإشارة إلى أنّ الدّراسات/ التّعلّمات تمثّل استثمارًا للجهد والعمل بهدف الحصول على بعض المزايا من حيث “الدّبلومات” والمؤهّلات (بودون، 1973)، وكلّ التّلاميذ يعرفون ذلك ويقرّ به جميع الآباء من خلال التّأكيد على أنّ الدّراسات ناقل للحركة والاندماج الاجتماعيّ، ومع ذلك، فإنّ معرفة هذا لا يكفي ليكون هذا النّوع من التّحفيز فعّالا.

في الواقع، ومع إطالة الدّراسات الّتي تتغيّر فائدتها بمرور الوقت وبالحصول على “دبلومات” مربحة لاحقًا -علاوة على ذلك- ففي العديد من البلدان مثل فرنسا، كان إنتاج الشّهادات والوظائف غير متناسق ممّا أدّى إلى تخفيض قيمة الشّهادات. تعدّ فائدة الدّراسات/ التّعلّمات إحدى أدلّة الاقتصاد الكليانيّ (Macroéconomiques) الّتي لا يستطيع العديد من التّلاميذ تجربتها على الفور، فكيف تحفّز نفسك عندما لا يدرك المرء نوع النّشاط والوضع الاجتماعيّ الّذي يقود الدّراسات/ التّعلّمات؟

 أخيرًا، يجب ألّا نغفل عن حقيقة إمكانيّة تحفيز التّلاميذ لأسباب فكريّة من خلال المعرفة نفسها والّتي تسمح لكلّ فرد بالتّطوّر الفكريّ و “النّموّ”. يرتبط التّلاميذ بشدّة بهذا البعد، ولكن من غير السّهل تحقيقه لأنّه غالبًا ما يُنظر إلى المعارف الأكاديميّة/ المدرسيّة على أنّها أكاديميّة محضة، ولا تقدّم إجابات للأسئلة الّتي يطرحها الأفراد على أنفسهم. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ ألعاب الانتقاء (Les jeux de la (sélection[22] والتّوجيه المدرسيّ في أفضل الحالات لا يجعلون التلاميذ يختارون حقًا الدراسات التي تروق لهم. في هذه الحالة، لا يتمّ الاهتمام الفكريّ بالدّراسات بل يجب غزوها من قبل التلاميذ.

تميل كلّ سجلّات التّحفيز وتطوير المعنى الذّاتيّ للدّراسات/ التّعلّمات إلى الفصل تدريجيًّا لأنّ كلّ واحدة منها تستند إلى منطقها الخاصّ: منطق الانتماء الاجتماعيّ ومنطق المرافق المدرسيّة، وكلّ ذلك من الثّقافة. وحسب رأي بورديو، ففي علم الاجتماع الكلاسيكيّ تعزّز هذه المَناطِقة (Logiques) المختلفة بعضها عن البعض حيث يميل إلى الاندماج وتتبلور في دور يجب على التّلاميذ استيعابه كدعم لشخصيّتهم، لكنّ اليوم، يجب على التّلاميذ قبل كلّ شيء أن يتعلّموا الجمع بين كلّ هذه المنطقيّات لجعلها متماسكة ويجب أن يبنوا تجاربهم وأن يشكّلوا أنفسهم كتلاميذ، لذلك يمكن النّظر إلى التّجربة على أنّها الطّريقة الّتي يشكّل بها الفاعلون أنفسهم ويبنون مجموعة من الهويّات والممارسات والمعاني، فمن خلال هذا العمل يُخضعون أنفسهم لأنفسهم، ويشكلونها كموضوعات دراساتهم/ تعلّماتهم. إلى حدّ ما، يجب أن يكونوا أحرارًا حتّى لو لم تكن الموارد الّتي تقوم عليها هذه الحرّيّة تخصهم وترتبط بوضعهم الاجتماعيّ والتّعليميّ.

إنّ المهمّة أسهل بكثير على التّلاميذ المتميّزين لأنّهم يعتمدون على “هابتوسات” (Des habitus) أكثر ملاءمة للنّماذج المدرسيّة/ الدّراسيّة (Modèles scolaires)، ولأنّ النّتائج المتوقّعة أكبر والتّكاليف أقلّ ومساحة اختياراتهم الفكريّة أوسع. في المقابل، يكون عمل التّجربة أكثر صعوبة عندما يأتي التّلاميذ من خلفيّات بعيدة عن المدرسة وتكون مواردهم الاقتصاديّة والتّعليميّة ضعيفة وخياراتهم الثّقافيّة محدودة. ومع ذلك، يفشل العديد من الأغنياء وينجح العديد من المحرومين وكلّهم مطالبون باجتياز هذه الاختبارات الّتي يقيسون من خلالها قيمتهم ودوافعهم و “شخصيّتهم”؛ إنّهم يتواصلون اجتماعيّا من خلال “بناء أنفسهم”. 

يمكن النّظر إلى التّنشئة الاجتماعيّة في المدرسة على أنّها آليّة لتوليد القيم وتحويلها إلى أدوار وأدوار إلى شخصيّات على طريقة بارسونز (Parsons)، ويتمّ تقديمها الآن على أنّها بناء لتجارب الأفراد وفيها جمع بين المشاعر والاهتمامات، وبالنّسبة إلى التّلاميذ فإنّ النّجاح المدرسيّ ليس برنامجًا بقدر ما هو شكل من أشكال المصلحة الذّاتيّة وتحقيق للذّات.

تتغيّر التّجربة المدرسيّة تدريجيًّا وفقًا لأعمار التّلاميذ، فخلال فترة الدّراسة تزداد الاختبارات المدرسيّة تعقيدًا وهنا نجد بعض التّحليلات الخاصّة بـ(Piaget) بحيث يظلّ الأطفال محدّدين على نطاق واسع    -إلى حدّ ما- من خلال الالتزام بمعايير المدرسة عندما تكون مدعومة بتوقّعات الأسرة[23].

         يتّضح من خلال ما تمّ طرحه بخصوص تجربة التّلاميذ أنّ التّجربة المدرسيّة الخاصّة بالتّلاميذ عبارة عن دخولهم للاهتمام الفكريّ بالتّعلّمات المدرسيّة، وذلك في جوّ من الحرّيّة والذّاتيّة، وبالتّالي يمكن النّظر إلى التّجربة على أنّها الطّريقة الّتي يشكّلون بها أنفسهم ويبنون مجموعة من المعاني والممارسات، وهكذا يشكّلون أنفسهم كموضوعات دراستهم. وفي الأخير تبقى مهمّة هذه التّجربة أكثر سهولة لدى التّلاميذ المتميّزين لأنّهم يعتمدون على “هابتوسات” أكثر ملاءمة لنماذج المدرسة الّتي تتوفّر بداخلها مجموعة من القواعد الّتي تحدّد سلوك “الطّفل”[24].

4- من أجل تصنيف التّجارب المدرسيّة للتّلاميذ:

قام فرونسوا ديبي بدراسة عدّة مؤسّسات ثانويّة فرنسيّة في كتابه “الثّانويّون” (Les lycéens) معتمدا على مقابلات معمّقة مع عدّة عيّنات من التّلاميذ وأساتذتهم، بالإضافة لمسح سوسيو-ثقافيّ دقيق لمحيط المؤسّسات المدروسة، كما قام بتصنيف الثّانويّين إلى ثلاثة أنصاف، يرتبط كلّ صنف منها بتصوّر خاصّ للنّجاح المدرسيّ في ارتباطه بمشروع التّلميذ وتجربته المدرسيّة الّتي تتداخل فيها عدّة عوامل، منها: الأصل الاجتماعيّ والتّفاعلات المدرسيّة والاحتياجات الشّخصيّة، ويقسّمها حسب دراسته إلى ما يلي:

 أ- الثّانويّون الحقيقيّون: إنّهم التّلاميذ المنتمون إلى الطّبقات الرّفيعة الوالجون إلى ثانويّات النّخبة الموجودة في مركز المركز، إنّهم -في أغلبهم على غرار ورثة بورديو- يملكون رأسمال ثقافيّ يمكن إعادة استثماره في التّمدرس. ويمثّل النّجاح المدرسيّ لدى هذه الفئة آليّة طبيعيّة وضروريّة لبلوغ المستقبل الّذي يعد به الأصل الاجتماعيّ، فالأسر لا تتوقّف عن دفع أبنائها نحو النّجاح الّذي لا يشكّل سوى حلقة معروفة من مسار يفضي إلى دراسة عليا متميّزة التّصنيف، كما أنّه حافز مدرسيّ ضمن عالم التّنافس الشّديد بين مختلف التّلاميذ الّذين يعيشون تجربة مدرسيّة تتميّز بمنطق “الفعاليّة الأدائيّة الّتي توجد فيه الثّانويّة كأداة” ورفع شعار: “النّجاح قبل كلّ شيء”.

لا تنفصل انتظارات التّلاميذ ونظرتهم لأساتذتهم ودرجة اندماجهم في الميكانيزمات التّنافسيّة المدرسيّة ومشاريعهم الشّخصيّة عن هذه التّجربة المدرسيّة الّتي تمثّل غالبا استمرارا لإستراتيجيّة أسرهم، لذا يتموقع النّجاح المدرسيّ هنا وبالإضافة لطابعه الأدائيّ ضمن سيرورة بحث عن التّفوّق يتشبّع بها التّلميذ قبلا في وسطه الاجتماعيّ، فهو جزء من الثّقافة المدرسيّة الّتي يحياها المتعلّم دونما هواجس أو تخوّفات من الفشل وإكراهات المستقبل المهنيّ، أي أنّه وجه من أوجه التّفاعل بين الثّانويّين الّذين يحاكون بعضهم لكنّ ذلك لا ينفي أنّهم يعانون “توتّرا وضغطا يعيشونه بين عالم الثّقافة وعالم التّنافس”، إنّه تنبيه واضح لأنّنا لا نتحدّث عن ورثة إعادة الإنتاج بشكل تامّ بقدر ما نسلّط الضّوء على توافق بين الثّقافة الاجتماعيّة والثّقافة المدرسيّة[25] والتّفاعلات الشّخصيّة لصنع تجربة تمنح للنّجاح المدرسيّ معنى ثقافيّا وإجرائيّا يشكّل مظهرا ووسيلة لانخراط المتعلّم الطّوعيّ والفعّال في الميكانيزم المدرسيّ التّراتبيّ في الآن نفسه.

ب- الثّانويّون الجيّدون: إنّهم الثّانويّون المنحدرون في أغلبهم من الطّبقات المتوسّطة ثمّ من الطّبقة البرجوازيّة، إنّهم لا يرقون إلى مرتبة الورثة من الطّبقات الرّاقية لكنّ أسرهم تملك قدرا مقبولا من التّمدرس وموقعا اجتماعيّا مقبولا، فَهُمْ يدرسون بثانويّات ذات استقطاب جيّد وموقع وسط المدينة.

إنّ النّجاح بالنّسبة إلى هذه الفئة غير مضمون، فما هو إلّا مهرب من الفشل الّذي يعتبر كارثيّا بالنّسبة إلى أولياء الأمور إذ “تجلب النّتائج السّيّئة عقوبات أكثر ممّا تمنح الجيّدة ومنها الرّضا”؛ إنّهم على هذا الأساس مرغمون على النّجاح لتحقيق مشاريعهم المهنيّة الّتي تسمح بترقّيهم الاجتماعيّ غير المضمون (بخلاف الثّانويّين الحقيقيّين)، ومن أجل ذلك يوظّفون كافّة الإستراتيجيّات من أجل النّجاح في اللّعبة المدرسيّة.  تعتبر الفائدة من هذا النّجاح معبرا مؤقّتا للهروب من الفشل الّذي تحذّر منه الأسر، والبقاء ضمن الطّبقة المتوسّطة في المستقبل على الأقلّ.

 تتميّز التّجربة المدرسيّة للثّانويّين الجيّدين بتنافس مدرسيّ ضعيف وقطيعة واضحة بين الاهتمامات الشّخصيّة وانتظارات المؤسّسة المدرسيّة. إنّ معظم التّلاميذ غير مرتاحين لمعايير النّجاح (الأفضليّة لبعض الموادّ العلميّة، طرق التّدريس المملّة والمكرّرة …)، وهو ما يفسّر قلّة مشاركتهم أثناء الحصص. إنّهم يعتبرون أنّ حياتهم وشخصيّتهم الحقيقيّة توجد خارج كلّ هذا، خصوصا وأنّهم يعيشون عالمين منفصلين بينهم وبين أساتذتهم لكنّهم رغم ذلك يمتثلون للقواعد المدرسيّة ويخفون ازدراءهم، وهذا يعطي للنّجاح المدرسيّ معنی براجماتيّا صرفا ناتجا عن “حرفة التّلميذ Métier d’élève”، أي “معرفة القواعد الضّمنيّة، الحيل والقدرة على توقّع[26] طلبات الأساتذة، كلّ هذه التّقنيات الخفّيّة الّتي تضمن النّجاح”. إنّ النّجاح بنفس المعنى هو فنّ يوظّفه الثّانويّون من أجل تجاوز مرحلة مؤقّتة لا ينتمون إليها لتحقيق مشروع قصير الأمد بالمقارنة مع المشروع الخارجيّ الّذي تتداخل فيه الرّغبات الشّخصيّة الأصليّة مع الأهداف المهنيّة.

ج- الثّانويّون الجدد: إنّهم في الغالب تلاميذ من الأصول الاجتماعيّة الأقلّ حظّا، الّذين يوجّهون لشعب تقنيّة وحرفيّة وينحدرون من آباء لم يتابعوا دراسات ثانويّة، ويعتبرون جددا لأنّهم موجة من التّلاميذ الّذين ولجوا الثّانويّات بمعايير جديدة لا تخضع للنّموذج الانتقائيّ الفرنسيّ الصّارم سابقا، إنّهم الفئة الّتي لم تستطع بلوغ المعدّلات الكافية لولوج الثّانويّات “الحقيقيّة” أو “الجيّدة”، فكان حظّهم ثانويّات هوامش المدن.

 يشكّل النّجاح المدرسيّ لهذه العيّنة مفارقة مغرية بالتّحليل: إنّهم يرتفعون اجتماعيّا، ويتهاوون مدرسيّا، بالنّسبة إلى أسرهم، يشكّل تقدّمهم من مستوى إلى آخر في مسارهم الدّراسيّ ترقّيا. إنّ الآباء راضون على حصول أبنائهم على الباكالوريا لأنّهم لم يبلغوا قطّ هذه العتبة الدّراسيّة، لكن في نفس الوقت، لا يمنح الاقتراب من الباكالوريا إحساسا بالنّجاح المدرسيّ لأنّ شعبتهم تصنّف كأدنى الفروع قيمة ولأنّ الولوج إليها جاء نتيجة إخفاق دراسيّ.

 الجدير بالملاحظة، أنّ التّلاميذ عندما يتعرّفون على وضعيّتهم الدّراسيّة، يتخلّون عن المعايير الأسريّة للنّجاح ويتبنّوْن وجهة النّظر المدرسيّة الّتي ينتمون إليها، إنّه “تأثير الجماعة المرجع” كما يقول السّوسيولوجيّون، وهذا يبيّن كيف استطاعت المدرسة صنع سُلّمها التّفاوتيّ الخاصّ للنّجاح، متجاوزة المنظور القادم من الأصل الاجتماعيّ.

رغم هذا الإخفاق المدرسيّ الّذي يحسّه الثّانويّون الجدد باستمرار ورغم أنّ انتقاءهم الاجتماعيّ والدّراسيّ يجعلهم بعيدين عن الثّقافة المدرسيّة، إلّا أنّهم ينظرون إلى النّجاح المدرسيّ نظرة إجرائيّة كوسيلة لتحقيق الاستقلاليّة بعيدا عن الأسر، إنّهم يفكّرون في حلول سحريّة -كما يقول ديبي- للهروب من وضعيّة التّبعيّة لأسرهم الفقيرة لكن في غياب أيّة مشاريع، أو يتخيّلون مشاريع لا علاقة لها بما يدرسون. إنّ النّجاح المدرسيّ لهذه الفئة يمنحهم أملا مستمرّا بتحسين أوضاعهم الاجتماعيّة[27].

5- على سبيل الختم:

في البحث عن معنى التّجربة المدرسيّة، يظهر جليّا أنّها تتشكّل من ثلاثة أبعاد (المشروع، الإستراتيجيّة، تكوين الموضوع) وسط أدوار المدرسة (الإنتاج “نموذج ثقافيّ”، التّوزيع “انتقاء”، التّنظيم “اندماج”) ويعتبرها فرونسوا ديبي (François Dubet) تجربة ذاتيّة للفاعلين داخل المنظومة التّعليميّة المدرسيّة، فالتّجربة المدرسيّة الخاصّة بالتّلاميذ عبارة عن دخولهم للاهتمام الفكريّ بالتّعلّمات المدرسيّة وذلك في إطار من الحرّيّة والذّاتيّة. إنّ الدّافعيّة الّتي تقف وراء افتعال هاته التّجربة من طرف التّلاميذ هي تقليص للهوّة الحاصلة بين ثقافة المدرسة وثقافة الغالبيّة منهم عن طريق بناء مجموعة من المعاني للتّعلّمات والممارسات وتكوينها، وبهذا يشكّلون أنفسهم كموضوعات دراستهم لوضع مشروع ببناء إستراتيجيّات ذاتيّة لبلوغ النّجاح في ظلّ التّفاوتات.

قام ديبي بتصنيف الثّانويّين إلى ثلاثة أصناف، يرتبط كلّ صنف منها بتصوّر خاصّ للنّجاح المدرسيّ في ارتباطه بمشروع التّلميذ وتجربته المدرسيّة الّتي تتداخل فيها عدّة عوامل، منها: الأصل الاجتماعيّ والتّفاعلات المدرسيّة والاحتياجات الشّخصيّة، وقسّمها حسب دراسته إلى ما يلي: الثّانويّون الجدد والثّانويّون الجيّدون والثّانويّون الحقيقيّون.

قد لا تقف التّجربة المدرسيّة للتّلاميذ على أن تكون آليّة لتحقيق النّجاح المدرسيّ فحسب، بل لتواجه خيبات الأمل الدّراسيّة[28].

قائمة في المصادر والمراجع:

باللّغة العربيّة:

  • بودون (ريمون) وفيّول (رينو): “الطّرائق في علم الاجتماع، ترجمة مروان بطش مجد، المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر والتّوزيع، ط1، بيروت-لبنان، 2010.
  • دوركايم (إميل): “التّربية الأخلاقيّة، ترجمة السّيّد محمّد بدوي، مراجعة عليّ عبد الواحد وافي، تقديم محمّد الجوهريّ، المركز القوميّ للتّرجمة، ط1، القاهرة-مصر، 2015.
  • ديبي (فرونسوا): المواقع والحظوظ إعادة تفكير في التّفاوتات الاجتماعيّة“، ترجمة د. كنزة القاسميّ، إفريقيا الشّرق، الدّار البيضاء-المغرب، 2016.
  • سنهجي (عبد العزيز): “المشروع الشّخصيّ للمتعلّم في ضوء الرّؤية الإستراتيجيّة للإصلاح 2015-2030، من التّصوّر إلى التّنزيل الميدانيّ”، طبع ونشر: شمس برينت- سلا، ط1،

باللّغة الأجنبيّة:

  • Bourdieu (Pierre) et Passeron (Jean-Claude): «Les héritiers. Les étudiants et leurs études», Les Éditions de Minuit, Paris, 1964.
  • Bourdieu (Pierre) et Passeron (Jean-Claude): «La reproduction. Eléments pour une théorie du système d’enseignement», Collection Le sens commun, 1970.
  • Courtinat-Camps (Amélie) et Yves (Prêteur): «Diversité des expériences scolaires chez des collégien(ne)s scolarisés en 3e», L’orientation scolaire et professionnelle, 41/4 / 2012.
  • Duru-Bellat (Marie) et (VanZanten Agnès): «Sociologie de l’école», Armand Colin, 4ème édition, Paris, 2012. [Version PDF].
  • Dubet (François): «Les lycéens», Edition du Seuil, Paris, Avril 1991.
  • Dubet (François): «Sociologie de l’expérience, Editions du Seuil,.1994
  • Dubet (François): «Fait d’école», Éditions de l’École des hautes études en sciences sociales, Paris, 2008.
  • Dubet (François) et Martuccelli (Danilo):  « A l’école, Sociologie de l’expérience scolaire», Seuil, 1996.
  • Dubet (François) et Duru-Bellat (Marie): «10 propositions pour changer d’école», Seuil, 2015.
  • Dubet (François) et Duru-Bellat (Marie): «L’école peut-elle sauver la démocratie?», Editions du Seuil, Aout 2020.

الأطروحات الجامعيّة:

  • إعبدون (عوّاد): “سوسيولوجيا النّجاح المدرسيّ في الوسط القرويّ، جماعة بني أعروس إقليم العرائش نموذجا“، بحث لنيل شهادة الماجستير، تخصّص سوسيولوجيا التّربية، تحت إشراف الأستاذ فوزي بوخريص، جامعة ابن طفيل، كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، فوج 2016/2018، القنيطرة-المغرب.

المواقع الإلكترونيّة:


[1]– عالم اجتماع فرنسيّ وأستاذ بجامعة بوردو الفرنسيّة،‏ تركّزت أهمّ أعماله على قضايا السّوسيولوجيا والتّربية، الشّغل، النّظريّة السّوسيولوجيّة، العدالة…الخ، ولعلّ تصفّح أهمّ ‏كتبه: «لماذا يجب تغيير المدرسة؟ تلاميذ الثّانويّ ]الثّانويّون[ «‏les lycéens‎‏»، النّفاق المدرسيّ، انحطاط المؤسّسة، مدرسة ‏الفرص، حقائق/ شؤون المدرسة…» ‏ يوحي بالأهمّيّة القصوى الّتي استأثرت بها المدرسة في أبحاثه وأعماله الّتي ‏قاربها من منظور سوسيولوجيّ ناقدا للسّوسيولوجيا القديمة، مستندا على الدّراسات المقارنة والأبحاث الميدانيّة ‏الموسّعة.‏

– ورد في مقال إلكترونيّ لعمر بن سكا تحت عنوان: “أزمة المدرسة وإشكاليّة إعادة الإنتاج بين النّظام التّعليميّ والمجتمع”، مجلّة الإصلاح الإلكترونيّة ويمكن الاطّلاع على الرّابط التّالي:

http://alislahmag.com/index.php?mayor=contenu&mayaction=article&article_id=2197&idlien=189 تمّ الاطّلاع عليه بتاريخ 23/11/2023

[2]– Dubet (François): Fait d’école, Éditions de l’École des hautes études en sciences sociales, Paris, 2008, la couverture de livre.

[3]– Dubet (François) et Martuccelli (Danilo): A l’école, Sociologie de l’expérience scolaire, Seuil, 1996, P434.

[4]– انظر على سبيل المثال:

– Bourdieu (Pierre) et Passeron (Jean-Claude): Les héritiers. Les étudiants et leurs études, Les Éditions de Minuit, Paris, 1964.

– Bourdieu (Pierre) et Passeron (Jean-Claude): La reproduction. Eléments pour une théorie du système d’enseignement, Collection Le sens commun, 1970.

[5]– Dubet (François): Duru-Bellat Marie. L’école peut-elle sauver la démocratie?  Editions du Seuil, Aout 2020. Pp61-62.

[6]– ورد على لسان الطيب بوعزّة خلال سلسلة من الدّروس التّكوينيّة:

https: /Heshamphilosofer/videos/238114877398924/?sfnsn=wa (بتصرّف)، تمّ الاطّلاع عليه بتاريخ: 08/01/2021 السّاعة:  14h40

[7]– Dubet (François): Fait d’école, op, cit. Pp42-43.

[8]– ترجمة كلمة “Les lycéens” بـ”الثّانويّين” لها ارتباط أصيل بالمدرسة الثّانويّة وبالتّالي فمن الضّروريّ أن تعبّر عبارة “الثّانويّون” عن تلاميذ المدرسة الثّانويّة التّأهيليّة على الأقلّ كما يتمّ تسميتها بالمغرب.

[9]– سنهجي (عبد العزيز): المشروع الشّخصيّ للمتعلّم في ضوء الرّؤية الإستراتيجيّة للإصلاح 2015-2030 من التّصوّر إلى التّنزيل الميدانيّ، طبع ونشر: شمس برينت -سلا، المغرب، الطّبعة الأولى، 2019، ص7.

[10]– Dubet (François): Les lycéens, Edition du Seuil, Paris, Avril 1991, P24.

[11]– Dubet (François): Les lycéens, P25.

[12]– Dubet (François): Duru-Bellat Marie, 10 propositions pour changer d’école, Seuil, 2015.

[13]– Dubet (François): Les lycéens, op, cit, p26.

[14]– Dubet (François): Sociologie de l’expérience, Editions du Seuil, 1994, p145.

[15]– الشّكل الموجود في الرّسم التّمثيليّ مأخود عن:

– Dubet (François): Les lycéens, Edition du Seuil, Paris, Avril 1991, p28.

[16]– Dubet (François): Les lycéens, op, cit, p 27.

[17]– بودون (ريمون) وفيّول (رينو): الطّرائق في علم الاجتماع، ترجمة مروان بطش، مجد المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر والتّوزيع، الطّبعة الأولى، بيروت-لبنان، 2010، ص56-57.

[18]– Courtinat-Camps (Amélie) et Yves (Prêteur): «Diversité des expériences scolaires chez des collégiens(ne)s scolarisés en 3e», L’orientation scolaire et professionnelle, 41/4 / 2012, Page 2. Mis en ligne le 07décembre 2015[En ligne], consulté le 01 mai 2019. URL: http://journals.openedition.org/osp/3918;DOI:10.4000/osp.3918 )Référence électronique.(

[19]– Dubet (François): Fait d’école, op, cit. p15.

[20]– Ibid. P34.

[21]– Duru-Bellat (Marie): Van Zanten Agnès, Sociologie de l’école, Armand Colin, 4ème édition,  Paris, 2012, [Version PDF], p62.

[22]– Dubet (François): Fait d’école, op, cit, p35.

[23]– Dubet (François): Fait d’école, Pp36-37.

[24]– دوركايم (إميل): التّربية الأخلاقيّة، ترجمة السّيّد محمّد بدوي، مراجعة عليّ عبد الواحد وافي، تقديم محمّد الجوهريّ، المركز القوميّ للتّرجمة، ط1،القاهرة- مصر، 2015، ص142.

[25]– إعبدون (عوّاد): سوسيولوجيا النّجاح المدرسيّ في الوسط القرويّ، جماعة بني أعروس إقليم العرائش نموذجا، بحث لنيل شهادة الماجستير، تخصّص سوسيولوجيا التّربية، تحت إشراف الأستاذ فوزي بوخريص، جامعة ابن طفيل، كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، فوج 2016/2018، القنيطرة-المغرب، ص43.

[26]– إعبدون (عوّاد): سوسيولوجيا النّجاح المدرسيّ في الوسط القرويّ، جماعة بني أعروس إقليم العرائش نموذجا، ص44.

[27]– المرجع نفسه، ص45-46.

[28]– وردت عبارة “خيبات الأمل الدّراسيّة” بتفصيل عند: ديبي فرونسوا، المواقع والحظوظ إعادة تفكير التّفاوتات الاجتماعيّة. ترجمة د. كنزة القاسميّ، إفريقيا الشّرق، الدّار البيضاء-المغرب، 2016، ص42-45.

مقالات أخرى

استشكال الليبراليّة عند دومينيكو لوسوردو

أيّ نموذج إيتيقي للإنسانيّة المعاصرة

الفروق الثقافية في التعليم:

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد