العائلة والأسطورة وإشكالية نشأة الدّولة

تكوين-الدولة

 

ملخّص:

الفكر السياسي حول الدولة، صيرورة تاريخية، وغايات اجتماعية، وسياسية، وحقوقية. لذلك، فتاريخ الدولة، مرتبط بتاريخ الفكر السياسي بشقّية العقلاني والأسطوري، لأنّ كلّ حديث عن الدولة يقتضي ضرورة الحديث عن معنى السياسة، وهو ما يجعل حديثنا منصباً على قضية نشأة الدولة في التاريخ، بالبحث في جذورها وأسسها، لإبراز العناصر والشروط والظروف التي أدت إلى تشكّل هذا الذي يسمّى بالدولة، وقوفا عند لحظة مجتمعات دون دولة، أو ما يصطلح عليها بالمجتمعات البدائية، فقد كانت البشرية مجرد قطيع صغير، لا سلطة منظّمة، ولا نظام سياسي واضح المعالم، فكانت السيادة للأسطوريّ الّذي اعتبر أساس الوجود، ومحدّداً لما يرتبط بالسياسة والمجتمع، والتي لعبت دورا كبيرا في بزوغ فجر الدولة كحدث تاريخي غيّر مجرى العلاقات بين الأفراد فيما بينهم، وبينهم وبين وسطهم.

الكلمات المفاتيح: الدولة – العائلة – الأسطورة – الأساطير السياسية – النّظام الاجتماعي.

Abstract:

Political thought about the State، with historical depth, social, political, and human rights objectives. Therefore، the history of the State is linked to the history of political thought in the sisterhood of rationality and mythology.  Because every talk about the State necessarily requires talk about the meaning of politics, this makes our conversation focused on the issue of the State ‘s origin in history. by examining its roots and foundations, to highlight the elements, conditions and circumstances that led to the formation of this so- called State, standing at the moment of societies without a State, or what are termed primitive societies Human beings were just a small herd, not an organized authority, not a well- defined political system, It was the mythical supreme sovereignty that was the basis of existence, and specific to politics and society, It played a major role in the dawn of the State as a historical event that changed the course of relations between individuals and between them and their midst.

Key-Word: State – Family – Legend – Political Myths – Society – Social Order.


.“نجد أنّ الدولة تكفل لكلّ إنسان التمتع بكامل حقوقه الجسدية منها أو الروحية تبعاً لدرجة قواته”

سبينوزا

1- مقدمة:

استحق الإنسان أن يكون الكائن الوحيد القادر على الوعي بأهمية التطور، والخروج من عالم  الفوضى والاضطراب والدخول إلى عالم النظام والانسجام، قدرة تجلت في الإبداع والابتكار، وخلق آلهة وأساطير ليس بهدف التقديس وحسب، وإنما التوسل بأليات لتحقيق الحق، والبقاء في الوجود،  اكتشف الإنسان النار وصاغ لغة للتعبير والكتابة، شيّد المنازل، وصنع بمهارة جميع الآليات والوسائل المادية والفكرية بغية تحقيق الحاجات الضرورية، ألهمته غريزته أولا حب الاجتماع مع الآخرين،  من أجل التآزر والتعاون لبناء المدن والمجتمعات، رغم أن الاجتماع كان أوليّا وبدائيّا حيث غياب القواعد الأساسية التي يمكن الاتفاق عليها لتنظيم الوجود، على نحو يستجيب لرغبات الإنسان، ظهر الاجتماع البشري في شكله الأولي البسيط، فكان هناك مجتمع. تطور الاجتماع ليصل إلى مرحلة متقدمة حيث ميلاد الدولة، بحث الإنسان عن عناصر سياسية وقانونية وأسطورية لتطعيم وتدعيم الكيان السياسيّ الجديد، فكانت العدالة مبدأ المساواة وخلق نظام مناسب للمدينة، بهدف التآخي والتوافق، واستمرت رحلة الإنسان في النمو السياسي والاجتماعي والقانوني، مرّة يعود إلى عالم الأساطير ليستلهم منها الحِكم السياسية، كالقول بعدالة الآلهة مثلا، محاولا تطبيقها على واقع الناس، ومرّة يتجاوز سماء المتعاليات، متوطنا في الأرض، منطلقا من العقل، باحثا عن شروط ومقومات الوجود الإنساني الفردي والجماعي، كلّ ذلك، من أجل ترسيخ قواعد ومبادئ  تحفظ الاجتماع وتُحقق النّظام بين الناس على نحو أفضل.

كان الإنسان في فترة ما قبل نشأة المجتمع والدولة والسلطة والقانون، يعيش في الكهوف والمغارات، متوطنا في أكواخ بسيطة، تقيه الحرّ والقرّ، موظفا ما يملك من قدرات جسمية وغرائز للدفاع عن نفسه، يقتات من الطبيعة ليبقى ويستمر في الوجود، مواجها شتى صنوف الحيوانات الفتاكة([1])، محروما من فكرة المجتمع والنظام والدولة، ممّا جعل هذه المرحلة تتّسم بالغموض، فيصعب على الباحث التوصل إلى حقائق نهائية وثابتة، لكن رغم ذلك، يجب الإقرار بأنّها مرحلة موجودة وعاشها الإنسان وفق ما هو متاح، وعلى جميع المستويات، وعن طريقها نستشف خاصيّة التطور لدى الإنسان. تطورت البشرية شيئا فشيئا، من التأقلم مع البيئة الجغرافية، إلى استخدام أدوات بسيطة للصيد ومواجهة الأعداء، من إنس وحيوان، فبدأ في استخدام النار، التي أحدثت تبدلا ملحوظا، على مستوى السلوك والتصرف والتعامل مع الأشياء، وبرز مفهوم الطهي، الذي أعاد ترتيب علاقة الإنسان مع ما هو بيولوجي وطبيعي.

2- الدولة : جدل العائلة والنشأة:

أدّت التحولات السابقة إلى بروز فكرة التوسع والانتشار وغزو مناطق جديدة بحثا عن الطعام المناسب، حيث الاستعانة بوسائل بدائية في عملية الإنتاج والعمل، والدفاع عن النفس، فقبل صناعة السيوف والخناجر الحادة، كان يتخذ من الحجارة المسنّنة أداة ووسيلة لتحصيل القوت، (فقد عرفت أقوام من جامعي الحبوب البرية يلمّون بتقنيات جيرانهم الزراعية. ولكنّهم رفضوا استعمالها في إنتاج غذائهم الأساس، كالأرز البري، الصالح للزراعة، لأنه محرم عليهم تعذيب أمهم الأرض. في مثل هذه الحالات يتعلق الأمر بأفضلية مبدئية للطبيعة على الثقافة[2]، ساعد على ذلك، اكتشاف إشعال النار عن طريق عملية الاحتكاك، فتزّود بأساليب جديدة للعيش، مع غياب التوطّن والاستقرار الدائمين، لأن التغيّرات المناخية كانت تدفعه إلى تغيير البيئة، بمعنى لم تبرز بعد فكرة الجماعة. وعليه، (فمن المحتمل أن أكل لحوم البشر قد عُرف في هذه الفترة)[3].

مكّن الاحتكاك مع البيئة، الإنسان من الاندفاع لاقتراح أدوات أخرى، كالسيوف والرماح، ممّا جعل الصيد ينتشر بحدّة ويتخذ صفة مهنة يقوم بها بعض الأفراد لصالح الآخرين، رغبة منهم في الحفاظ على الحياة، لذلك، فقد تجلّت بعض القوى العقليّة للتطوير والإنتاج والحماية والبحث عن مقومات بقاء النفس، في شكل جماعات وقرى، وبناء المساكن، التي رغم بساطتها إلاّ أنها تحمل أثر الفعل الإنساني واختلافه عن الحيوان، سكنا وعيشا، بل، أكثر من ذلك، التوسل بالحيوانات والاستئناس بها وترويضها لتحصيل القوت للجماعة، يوم أن كان الإنسان عبارة عن قطيع صغير، كما أنّ بروز فكرة الزراعة وطّدت دعائم فكرة الاستقرار والتوطن، والوجود  الدائم في المكان، تلك هي البدايات الأولى لتشكّل معنى القبيلة والزعامة فيها، فنمط العيش وفق شروط جغرافية اختلف من بيئة إلى أخرى.

من معالم تغيّر وتطور نمط الحياة البدائية للإنسان (اختفاء أكل اللحوم البشرية تدريجيا، ولم يبق إلا بمثابة طقوس دينية لدى البشر)[4].  فقد وصلت البشرية إلى مرحلة متقدمة يمكن وسمها بالمرحلة العليا، حيث استخدام الحديد والكتابة وبداية التدوين، وتغيّر نمط الإنتاج السائد مقارنة مع الفترة البدائية. لذلك، وانسجاما مع فكرة التوطن، فقد ازدادت الكثافة السكانيّة، وتوسعت المساحات المزروعة معلنة عن بداية ما يصطلح عليه بالمجتمع، كمجموعة من الأفراد تربط بينهم علاقات ومصالح تجارية ومنافع متبادلة، محكومة إمّا بقوة القوانين الشفهية غير المدوّنة التي اتخذت شكل عادات وتقاليد وأعراف، زمن سيادة منطق القبيلة والغنيمة، وإما بالقانون عندما سيتطور المجتمع وتنضج الممارسة الفكرية المتجلّية في مفهوم الدولة.

يتمثل التبدّل الملحوظ في التطور الإنساني، فكرا وسلوكا وإنتاجا، بمعنى الخروج من الوحشية والبربرية والدخول إلى المدنيّة، سيصبح الإنسان كائنا سياسيا واجتماعيا، إما بالطبع أو بالوضع. لقد غيّرت التحولات نمط عيش الإنسان، فقد كان التمركز حول القبيلة وفق نظام معين للقرابة الدموية، هو أساس الإحساس بالانتماء للعائلة التي اعتبرت قطب الرحى وأساس الاجتماع القبلي، والمبنية على أساس (قاعدة الزواج بين ذكر وأنثى بشروط سهلة)[5]. علما أن نظام العائلة يختلف من بيئة إلى أخرى، وهو ما جعل كلّ تجمع/ قبيلة، يضع شروطا معينة للزواج والمصاهرة، قد تصل إلى حد الغرابة في بعض الأحيان، لكنهّا مصاهرة ستؤدي إلى ميلاد أسرة وعائلة ومجتمع ودولة، ويبدو ذلك متشكلا بشكل طبيعي، لأن الفرد كائن طبيعي، سيساهم في ظهور العائلة كظاهرة طبيعية، والتي ستؤدي إلى نشأة المجتمع بناء على مفهوم الطبيعية، ما يفسر ذهاب حكماء اليونان خاصة أرسطو وأفلاطون على اعتبار أنّ الإنسان كائن سياسي واجتماعيّ بطبعه.

يشكّل نظام القرابة المبني على رابطة الدم، الفكرة الأساس لمفهوم المجتمع والعلاقات الإنسانية خاصة داخل القبيلة.  يتجلى أساس نشأة المجتمع في تطور نظام العائلة وفق قراءة فريديريك أنجلز Friedrich Engels (1820-1895). نظام العائلة مرن، قابل للتطور بحيث يمكن القول إن للعائلة أوجها متعددة، من العائلة البسيطة، وصولا إلى العائلة الأعلى والأعقد. ويضيف كارل ماركس بخصوص تلك النقطة: (ونفس الشيء ينطبق على النظم السياسية والقانونية والفلسفية عموما)[6]. يجد التطور الإنساني أساسه في ظهور عناصر جديدة، كالاحتماء بالعائلة والقبيلة بعدما كان يحتمي الفرد بذاته، بمعنى ظهرت قوة جديدة؛ هي قوة الجماعة التي حلّ محل الفرد الواحد، لأن قوة هذا الأخير، عاجزة لوحدها عن تحقيق ما هو بيولوجي وجماعي، لذاك، ستكون قوة الجماعة مظهراً للحياة الاجتماعية، وأداة خلاّقة لتحقيق ما ينبني عليه الوجودان: الفردي والجماعي، وهو عنصر جوهري لتأكيد أن المجتمع البشري يختلف عن مجتمع الحيوانات، حيث الثبات والخضوع لمنطق الغريزة. صحيح، تؤكد الداروينية[7]، أن هناك كائنات تطورت لتتأقلم مع البيئة، لكن، التطور الإنساني يختلف عن جميع أشكال التطورات الأخرى، فلا يوجد توازٍ وتساوٍ وتساوقٍ بين التطور الإنساني والتطور الحيواني، ومن ثمّ الاختلاف الجذري بين نمط حياة الإنسان، حيث العقل والثقافة، وبين نمط حياة الحيوان، ومثال ذلك؛ ( التطور الحاصل على مستوى العلاقات الجنسية، فتحريم الجنس بين الأخ وأخته، أدى إلى نشأة القبيلة، بمعنى أن منع تحريم انتهاك المحارم أفضى إلى نشأة القبيلة كجماعة التي هي  أساس النظام الاجتماعي لأغلب شعوب العالم، وعند الإغريق والرومان، نخرج من القبيلة إلى المدينة)[8].

دائما ما تظهر عناصر جديدة في التاريخ كقوى اجتماعية تساعد على عمليّة التطور والانتقال من وضع مشروط إلى وضع آخر بأفاق أخرى، وهو ما ينطبق على العائلة التي تطورت عبر التاريخ بفعل عناصر وعوامل متعدّدة أهمّها؛ قاعدة المنع والتحريم، حيث ميلاد علاقات اجتماعية جديدة، محكومة بالعناية والرقابة والعمل والدفاع عن الجماعة، إلى درجة أن أصبحت هي المركز والحائزة على كلّ شيء، بمعنى؛ لا نجد أثرا لمفهوم الملكية الخاصة، فثروة القبيلة كانت للقبيلة ولجميع أفرادها، ثم أصبحت لزعيم القبيلة، وستنتقل بعد ذلك للعائلة. تعتبر الأسرة المكوّنة من الزوج والزوجة والأبناء، الخليّة المركزية والاجتماعية، سواء في العصر الحديث أو بالنسبة إلى العصور الأولى، فرغم كون الإجماع منعقداً على أن الإنسان كان يعيش في جماعة، إلاّ أنّ الخلاف يتمثل في معرفة نوع تلك الجماعة، بحيث يمكن حصر الآراء المختلفة في ثلاثة آراء: يذهب فريق إلى أن الأسرة كانت هي الخلية الأولى، بينما يذهب آخرون إلى أنها كانت هي القبيلة، أما الفريق الثالث فيقول بأنها كانت العشيرة التوتمية[9].

انعكس التطور الحاصل على ثروة القبيلة أيضا والتي ستؤدي إلى الاصطدام والصراع والتنافس والسيطرة، ممّا يعني الحاجة إلى ضرورة وجود سلطة تتحكم في الكلّ. العائلة في التاريخ القديم، خاصة الحقبة الرومانية، لم تكن تعني العواطف والمشاعر الجيّاشة التي تستبد بمملكة الوجدان، فينجذب الذكر للأنثى بغاية حصول واقعة جنسية تثمر البناء، وإنّما كانت تعني العبيد فقط، فكلمة Famulus تشير إلى عبد الأسرة، وكلمة Familia تحيل إلى مجموع العبيد المملوكين لفرد معين[10]. أي أنّ العائلة، ليست بنية جامدة، ولكنها تتطور استنادا إلى عناصر وقوى اجتماعية، منعكسة على القبيلة أو المجتمع، لكنها أيضا تضّم في داخلها عناصر متنافرة تؤدي إلى الصراع والتطور، العائلة هي الكل: السلطة والعبودية والتربية والتنشئة الاجتماعية والعناية، وهي العناصر المتضافرة فيما بينها والمشكِلة لحدث اجتماعي جديد متمثل في ظهور مؤسسة الدولة – المدينة في بلاد اليونان. (إذا تمّت تنشئة شخص ما، فإنه يصبح من الوسط الاجتماعي، وينتمي إلى عائلة، أو جماعة، أو مؤسسة، أو دين، أو وطن … الشخص الذي تمّت تنشئته في ثقافة معيّنة ومجتمع معين قد نمّى عن طريق الثقافة حاجات فيزيولوجية وهيئات جسمية، تطلبت شروطا لعضويته العصبية وجهازه الحسي الحركي)[11]. وبالتالي، تمدُّ التربية والتنشئة الاجتماعية والثقافة المكتسبة عن طريق البيئة الذهن بالمفاهيم العقلية والتمثلات والصور والأفكار والمعارف البدائية، وهي العناصر التي تجعل للفرد القدرة على تطوير طُرق التفكير، والتي لا يتحقق ذكاء الفرد بدونها، فاستيعاب العناصر الثقافية، يرافقه نموُّ القدرات العقلية، في أفق خلق عناصر أخرى جديدة، تناسب الوضعيات الاجتماعية والسياسية، والنتيجة، تكيّفُ الفرد واندماجه مع الجماعة، لنشأة مدينة أو كيان سياسي منظّم، والذي تلعب فيه الأسطورة دورا كبيرا.

3- الدولة والأسطورة: مساكنة أم مجاوزة؟ 

يلحظ الناظر في تاريخ المجتمعات البدائية العلاقة الجوهرية بين التجمعات بمختلف أشكالها والأسطورة[12]. معنى ذلك، للأسطورة دور في ظهور المجتمع عامّة والدولة خاصّة، ارتبط بزوغ فجر المجتمع بالأساطير المتعددة، التي كانت تشكّل أساس العادات والتقاليد والأعراف، بل، أكثر من ذلك، ساعدت على خلق تراتبيّ بين الأفراد والطبقات، ذلك، ما جعلها، جوهر الحياة الاجتماعية، وعنصر بقائها، إلى درجة أنّ ما يطرأ على المجتمع من تغيّرات، يجد سنده في الأسطورة، فهي كيمياء حياة الفرد والجماعة. نشأة المجتمع يجد سنده في البعد الأسطوري كمعلم لا محيد عنه، لأنّ وظيفة الأسطورة ليست منح الإنسان أفكار البناء والنشأة، وإنّما هي قوة، تساعد على النمو والتحول والانتقال، وخلق النظام والانسجام داخله، (فلقد سبقت الأسطورة الفلسفة بأمد طويل، في القيام بدور المُعلّم والمُربي الأول للبشر)[13].

      تمتدّ الأسطورة إلى أبعد من كونها مجرّد حكاية خيالية، ولكنهّا تعبير عن شكل من أشكال الثقافة السائدة، فهي لا تعبر عن الطقوس التي ترعاها الدولة والعائلة والمجتمع، لأن هناك أعداداً ضخمة من الطقوس والاحتفالات التي ترعاها الديانات المختلفة والمتعددة، أي أن الأسطورة، هي الحياة والمجتمع، والرؤية الخاصة للأشياء، ولفهم مجتمع ما، يجب فهم واستيعاب الأساطير السائدة فيه، فعندما ننظر إلى العالم نرى ألواناً متعددة من الأساطير، المجسّدة لروح المجتمعات والجماعات والكيانات السياسية. عن طريق الأسطورة، يمكن تفسير شيء ما، ظاهرة طبيعية أو نشأة مؤسسة كالدولة-المدينة مثلا.

 الأسطورة بالنسبة إلى الجماعة حقيقة تاريخية، وفكرة بديهية ومسلّمة ضرورية، يُجسّد الإنسان عن طريقها فعل المحاكاة للإنتاج والإبداع، فبالنسبة إلى الفكر السياسي الأسطوريّ كلّ شيء عبارة عن صور رمزية، كلّ الأشياء تتحول من صورة إلى أخرى، ينطبق ذلك على الدولة التي هي مجرد صورة مثلى للمتعالي، فإذا كان الكون منسجماً وفق إرادة طبيعية موجودة فيه بالقوة، فإن وجود الدولة محاكاة للكون في نظامه وانسجامه. لذلك، يصعب الحديث عن السياسة في ظل غياب الأسطورة، والتاريخ شاهد على علاقة نمط الحياة السياسية لدى الإغريق بالأسطورة، والشيء نفسه بالنسبة إلى العربي والمسلم، فخيال الذات العربية الإسلامية مشدود إلى الأسطوري المتعالي، حتى لو اتسم بالغرابة، خصوصا في معرض  الحديث عن حياة صاحب الرسالة في الإسلام، أعني النبي محمد، والحديث عن  مسمّى المعجزات، وحادثة شقّ صدر النبي وهو طفل، حيث تمّ استخراج قلبه من طرف مَلكين وتنقيته من شوائب الشر، وإعادته إلى مكانه الطبيعي، بغاية تمهيد الطريق لنزول الخبر السماوي، ونشره في الأرجاء، واستمالة الناس للدين الجديد. ورغم ما تحمله تلك الواقعة من صور أسطورية وخرافية، منافية للمنطق السليم، إلاّ أن كتب السير والمغازي تتغنى بها[14].

هناك ارتباط وثيق بين الفكر الأسطوري والفكر السياسي، لأن الأسطورة ليست مجرد حكاية خيالية، ولكنهّا فكر خلاّق، وطاقة تمنح الذهن التخيّلات للتفكير في القضايا الإنسانية، والدفع به إلى اكتشاف قواعد العمل السياسي، المناسبة والملازمة لعصر من العصور، ولا شك في ذلك، لأنّ الأسطورة ملتصقة بالوجود الإنساني على جميع المستويات، ذلك ما يفسر كون كلّ حقبة تاريخية إلا ولها أساطيرها الخاصة، ومروياتها التي تحكي قصة العالم ونشأة الأحداث السياسية بما في ذلك حدث ميلاد الدولة. ومنه، يؤدي كل فهم عميق للأساطير إلى الكشف عن تدرج الوعي الإنساني، حيث الانتقال (من أكثر صور الأساطير بدائية إلى أكثرها تعقيدا)[15]. وتلك قضية طبيعية جدا، لأن تاريخ الفكر السياسي تراكميّ، لا مجال فيه للصدفة والعشوائية، بحيث يصبح الحديث عن وجود قطائع إبستمولوجية محل مراجعة[16].

أكثر من ذلك، هناك تصورات سياسية واجتماعية، تنكر ما يسمّى بالعقلية البدائية، رغم الاعتراف بوجود حضارة ومجتمعات بدائية، وسبب ذلك، القول بأنّه لا يوجد اختلاف بين عقلية البدائي وعقلية المتحضّر، كما يؤكد ذلك سير تايلورEdward Burnett Tylor (1832-1917)، فاختلاف تفكير البدائي في السياسة عن تفكير المتحضّر، يكمن في قواعد البرهنة والاستدلال، أما المادة والمعطيات الأولية الخام التي ينصبّ حولها التفكير فلا تتغيّر، وعندما تتوقف التجريدات العقلية والقواعد العلمية سنضع أنفسنا معوض البدائي[17]. ينطبق ذلك على المجتمعات والدول التي تعيش في القرن الواحد والعشرين، لكن بسياسة تفتقد للعقل والقواعد والمنطق، والمجتمعات العربية الإسلامية خير نموذج على ذلك، لأن العقل العربي غير مستقل في تأمله وتفكيره، ولكنه خاضع لمبادئ لاهوتية وتراتبية معرفية، الأمر الذي يجعل أفقه منحبس ومنغلق، رهانه فوق كل ذي علم عليم، وعندما تغيب قواعد التفكير السياسي، والنقد والبرهنة، يعني السباحة في المتعاليات الأسطورية، وتحول عقلية القرن الواحد والعشرين إلى عقلية بدائية، مشحونة بقوة العاطفة والوجدان، ذلك هو العقل الهيولاني، يساعد على بروز الاستبداد السياسي والطغيان باسم الأساطير، ويمهد الطريق لسيادة الكهنوت ورجال الدين، واشتداد نزعة التكفير والتطرف، لأن ملكة النقد لدى العقل منعدمة، إرغام العقل الناقد، المتسامح، على الانحجاب، والغربة والعزلة، وفتح الطريق للعقل الهيولاني. جعل خطاب التعالي في العالم العربي والإسلامي الكلاسيكي والمعاصر، (العقل العربي يتأرجح بين الضياع والنسيان. فلا يحق له صياغة حاضره، أو التساؤل عن قضايا عصره، بل، انصياعه وخضوعه للمقدس الذي يتجلى في الحاكم بأمر الله. هكذا، تكون السياسة ممزوجة بالعقيدة هي السبب المباشر وراء أزمة العقل العربي وموت الفكر، عندما منحت السلطة لعقل عاطل لا يتأمل حتى ذاته، وبالأحرى كيف يمكن له أن ينظر إلى حاضره ويسعى إلى إبداع مستقبله. لقد ضيع علينا هذا العقل فرصة اللقاء بالتاريخ حين مزج بين اليوم الأخير وراهننا، أي عندما وضعنا أمام الاعتقاد في السماء والتنازل عن حقنا في الأرض)[18].  

تحوّل وجهة الأسطورة من السماء إلى الأرض، يعني ارتباطها المباشر بالسياسة، وجعل البشر يصوغون أفكارا تناسب وضعيتهم السياسية والاجتماعية. تصبح الأسطورة منغرسة في كيان المجتمع والدولة، والفعل المحرك للعلاقات الاجتماعية، إلى درجة أن الغزو والتوسع والدفاع عن النفس، يتم استنادا إلى بركة المتعاليات الأسطورية، ومهما تعددت الأساطير وتنوعت فإنّ الغاية واحدة: خدمة السياسة والدولة والسلطة. (وتتخذ الأسطورة في مختلف المجتمعات أشكالا متنوعة تنوعا لا حدَّ له، ولكن، قوام كل المركبات الأسطورية مهما اختلفت أشكالها أسطورة السلطة)[19]. تغدو الأسطورة عنصر قوة عندما ترتبط بالواقع السياسي والاجتماعي. تساعد على ترسيخ ممارسة سياسيّة معيّنة، تصبح وسيطا بين الإنسان وواقعه، أداة وصل وربط بين الأشياء، بين الحاكم والمحكوم، السماء والأرض، الفرد والجماعة، وأكثر من ذلك، تتسلل إلى وعي، وإلى لا وعي الأفراد والجماعات، مُحدثة تأثير رهيب، لأنها تمارس هيمنة خفية على الوعي الجمعي للمجتمع، وتوجهه، وهنا منشأ الخطر، لأنّ الأفراد يتحولون بفعل قوة الأسطورة إلى كائنات تبريرية لا تفسيرية، بمعنى تتحول الأسطورة إلى أيديولوجية. علما أن هناك فرقاً ما بين التبرير والتفسير.

 وبالتالي، تزداد الأسطورة قوة ومكانة في المجتمعات والدول التي يغلب عليها طابع التبرير، حيث البحث عن مسوغات متعالية لاهوتياً وأخلاقياً وميتافيزيقياً لإضفاء المشروعية على الواقع من فوق، والاحتفاظ به كما هو، دون أيّة رغبة في التغيير، وتلك هي سمات المجتمعات العربية الإسلامية. بينما التفسير عمليّة علميّة واعية، غايتها البحث عن الأسباب في أفق إزالة المشكلة والقضاء عليها، فمثلا الذات العربية الإسلامية تبرر عدم نزول المطر بالحديث عن انتشار الكبائر والبعد عن الدّين، وكأننا لا زلنا نعيش في المرحلة الأسطورية- اللاّهوتية التي تحدث عنها أوغست كونط، والتي تعرف بقانون الحالات الثلاث[20]. لكن يتهافت هذا التبرير أمام أبسط سؤال: كيف نفسر نزول المطر في مناطق لا علاقة لها بالإسلام؟ يتهاوى ذلك التبرير، عندما يستحضر الإنسان واقع المجتمعات الأوروبية حيث تهاطل الأمطار، واستمرارية الثلوج في سيبيريا الروسية. أمّا التفسير؛ فعمليّة تأخذ بعين الاعتبار المعطيات العلميّة والتغيّرات المناخية الإيكولوجية والسياسية والاقتصادية، وتأثير ظاهرة الاحتباس الحراري على الغلاف الجوّي للأرض، وارتفاع نسبة التلوث في الأرض. ونفس الشيء بالنسبة لعلاقة الأسطورة بالحياة السياسية، وسلطة الحاكم، فإمّا أن نفسر أو نبرر. التفسير يعني حضور علم السياسة كما سنرى، ووفق قواعد منطقية، بينما التبرير، حضور للمتعاليات الأسطورية، (وهذا هو شأن الاعتقاد بالصنم – الإله أو التابو- إذ يحرم أشياء دون أن يفسر التحريم تفسيرا عقليا، فينذر من يؤمن به، أنه إذا حدثت ممارسة جنسية مع امرأة قبل أن يبدأ رحلة تجارية انتهت رحلته بكارثة، أو أنه إذا أكل من لحم الحيوان التي تؤلهه القبيلة أصيب بالجنون أو تناثر لحمه إربا)[21].

4- الدولة والأساطير السياسية:

للأساطير السياسية دور في نشأة الدولة، ونظام الحكم، لأنها البوصلة التي توجه أفعالاً وتصرفات صاحب السلطة، وتجعله محكوما بقوى متعالية، حيث الاعتقاد بأنها الأصل الذي ينبثق منه كل شيء، فهي جالبة للخير ودافعة للشر، تجعل الوجدان مشحونا بالمبادئ الما فوق الطبيعية، ترسخ الاعتقاد بأنها تمنح ما هو صالح للبشر، وعندما يتمرد الإنسان عليها، يحصل الشر والفوضى والاضطراب في المجتمع. ومنه، توجه الأساطير السياسية الإنسان الحاكم والمحكوم، تستبد به، تحدد معنى الخطأ والصواب في المجال السياسي، والجميل والقبيح في المجال الأخلاقي الجمالي، الفضيلة والرذيلة، لأنها المقياس الأسمى. قوة، تجعل الإنسان غير قادر على تفسيرها مكتفيا بالتبرير، والإيمان الأعمى بها. أضف إلى ذلك، أنها تتحكّم في المجال السياسي، وتوجه الواقع نحو وجهة محدّدة، الحق ما تراه الأساطير السياسية كذلك، تصبح المتعاليات السياسية، هي البوصلة الوجودية، ومنبع الخير، وعندما تشتد مكانتها في النفوس والعقول، تؤدي إلى تشكل رؤى سياسية واجتماعية حول المجتمع والسلطة والدولة، فمن النّظام الأسطوري، حيث الحديث عن الكون والإنسان إلى النّظام الاجتماعي والسياسي، بمعنى آخر، أن كل قول أو حكاية أسطورية، إلا ولها أفق سياسي وقانوني بامتياز.

المجال السياسي بمختلف مفاهيمه، وخاصّة مفهوم الدولة، كان مرتبطا في بداياته الأولى بالأساطير التي وسمناها بالسياسيّة، أي أن الفكر السياسي كان غير قادر على الانفلات من سلطة التعالي، هي الحياة والعيش والموت، انتقلت الأساطير من الأخلاق والمعتقدات إلى مجال السياسة، ما جعل الأساطير السياسية ليست مجرد مرويات وحكايات كبرى، ولكنّها نظام من القيم والأفكار والتصورات المختلفة، حيث تتبدى علاقة الإنسان بالإنسان وبالأشياء، وأدوات رمزية يستظلّ بها الإنسان لحماية نفسه، (وصون وحدة المجتمع)[22]. وبذلك، عندما ننظر في العلاقات الإنسانية السياسية والاجتماعية، نلاحظ أن للأساطير عدة وظائف؛ فهي التي تمنح الإنسان أنماطا متعددة من الأفكار التي تعينه على التفكير في كيفية تنظيم العلاقات الاجتماعية عامة، والقبلية البدائية خاصة، وكيفية إدارة وتدبير الأنشطة الفلاحية والسياسية، فاللُّحمة الاجتماعية وليدة الأساطير كمتعاليات تحرك الذهن والوجدان، وتمدُّ الذات بالطاقة اللاّزمة للاعتزاز بالبيئة الجغرافية  والدفاع عنها، فمختلف أشكال القرابات الدموية والعائلية والعشائرية، تجد قوتها وسند بقائها في الأسطورة السياسية، حيث القيم والمبادئ المحركة للعمل والتعاون وتوجيه الجهد لتحقيق ضروريات الحياة، كالارتباط بالأسرة والعائلة والقبيلة أساسه الأسطورة.

 جميع المفاهيم المرتبطة بالسياسة والدولة تغديها النزعة الأسطورية التي تتجسد في شكل مركب من الألفاظ والمضامين ذات الأفق التنظيمي الملازم للبشر في كلّ زمان ومكان. أدّت قوة المتعاليات الأسطورية إلى توحُّد القبيلة من أجل الغنيمة، ذاك ما يفسر جنوح خيال الإسلام السياسي قديما وحديثا إلى مسألة الخِلافة/الخرافة، كأفق سياسي لتدبير علاقة الديني بالسياسي، لأنها نزعة تجد أساسها في خطاب التعالي، الذي يمنح الذات التي تعيش الأوهام الراحة والطمأنينة، والتطلع الدائم إلى نموذج يعتبر في المخيال الإسلامي هو المثال، حتى وإن تطلب تحققه معجزة خارقة، أي أن الأساطير المتعالية تخلق وعي نكوصي، وتحرك اللاّشعور السياسي، وتخلق الأوهام والإستيهامات النفسية، يصير الحاضر بعيداً عن التعيّن، والمستقبل خاوٍ من المعنى، علما أنه من الضروري خلق تصورات حول المستقبل انطلاقا من الحاضر، لأن العودة إلى الماضي، والسكن فيه، نسيان للحاضر. يتجلى خطر الوعي النكوصي، في السقوط في النكوص التاريخي، وتوهُّم أن الماضي قادر على أن يعود بحمولة مفاهيمية لإنقاذ الحاضر، وتلك هي المسخرة، لأن الأنا مغتربة في الماضي، تصل إلى حدّ التضحية بالذات، من أجل المراهنة على عودة ممكن تراه هو الحقيقي، أعني الماضي.

الأسطورة هي العمود الفقري للدولة لحظة نشأتها وإلى الآن، إلى درجة أن لكل دولة أساطيرها التي تتغذى منها، لإضفاء المشروعية على وجودها السياسي، والإنسان لا يستطيع الانفلات منها، وما عليه، إلا قبول ما يحدث له بغبطة وفرح. هنا يتبدى لنا قول آخر، يتمثل في أن الأسطورة لم تكن مجرد ديانة للمجتمعات البدائية، وإنما رؤية لعلاقة الإنسان بالمتعاليات والأرض والسياسة والمجتمع، وهي علاقات تفضي إلى تشكّل سلوكيات وتصرفات وعلاقات اجتماعية، بحيث ينشأ مجتمع روحيّ أسطوريّ، أصله في عالم آخر، وتجلياته في الواقع، يحتل فيه الكاهن كناطق رسمي باسم السماء والآلهة مكانة معتبرة، إنها لحظة نشوء تراتبية اعتقاديّة بين الناس، لأنّهم يعتقدون أن الكاهن هو  حامي الأساطير، وفي ذلك حمايّة للسماء وحراسة القول المتعالي، والمعبر عن قوتها، إلى درجة أن صاحب السلطة، يستعين بالكاهن أو رجل الدين، لحيازة بركة السماء.

   توسل الملوك ورجال السلطة والحكم عبر التاريخ بهذا النوع من الكهنة. حافل تاريخ البشر السياسي بالأحداث، حيث الاستعانة بالعرّافين والكهنة ورجال الدين، لحصول البركة واستمرارية الجماعة، لأن تأثيرهم في النفوس قوي، وأداة طيّعة وليّنة في يد صاحب السلطة. تتراوح أعمالهم داخل الدولة والمجتمع بين الدعوة للأسطورة، والدعوة للخضوع للمجتمع والدولة والحاكم. يتجلى ذلك في مختلف العلاقات والطقوس الاجتماعية والمعتقدات السحرية التي ارتبطت قديما وحديثا بالدولة، علما أن الأساطير ليست ثابتة، وإنما هي متحركة قابلة للتطور وفق السياقات الاجتماعية ونمط العيش.

 تتطور الأساطير المتعالية لتترسخ في الواقع، مؤدية إلى تشكل أساطير سياسيّة واجتماعية جديدة، رغم كون السماء هي أصل ومنبع الأساطير، إلا أن تطور البشر، استعاض عن تلك الأساطير بأساطير أخرى أشد قوة وتأثيرا. وعليه، الأساطير المتعالية هي القلعة المحصّنة التي يلوذ بها الإنسان الحاكم للتحكم في الناس وممارسة نوع معين من السلطة، عن طريقها يطّل على العالم، أي أن الأساطير عندما تتحكم في المجال السياسي والاجتماعي، تتحول مع صاحب السلطة إلى قاعدة عمل ومبدأ للسيطرة والهيمنة، ومعيار للحكم، تصبح تجارب البشر السياسية رهينة الأسطوري، فهذه الأخيرة فن (وأروع فلسفات الحياة، وأعمق تعاليم الأديان، وأدق نتائج التجربة الحسية، وأوهى الخرافات البدائية وكافة الطرق والمواقف التي واجه بها الإنسان الحياة)[23]. يترتب على ذلك، توسل الإنسان بالأسطورة كتصورات متعالية لمواجهة تحديات الحياة وأزمات التجمعات البسيطة والمعقدة، للبحث عن القيم الفردية بغاية حصول الخلاص ونيل الفضيلة وحيازة شكل من أشكال السلطة، ومحاكاة الآلهة في تدبيرها للبشر، يتمثل ذلك في فكرة الحق الإلهي، التي بدأت بالتوسل بالمتعاليات ليتحول الملك وصاحب السلطة إلى إله فيما بعد.

أما على المستوى الجماعي، فقد جعلت الأسطورة الوجود الاجتماعي مستساغا مقبولا، حاملا للدلالات والمعاني، بعدما كانت نكرة، خاوية من المعنى، وهو ما جعل صاحب السلطة قديما وحديثا، يجنح إلى الغرائبيّ والعجائبيّ والأسطوري لإضفاء المشروعية على وجوده السياسي، فسر ارتباط الإنسان الحاكم بالسياسة والدولة والمجتمع، مرده إلى الأسطورة التي تتحول إلى عادة / وقاعدة نظر، وبتطور الفكر السياسي والاجتماعي، وتتحول العادة لمؤسسة يخلع عليها صاحب السلطة حرمته، فتصبح محطا لقيم ومصالح جديدة، وموضوعا لتفسيرات جديدة.  

يشكّل تحالف رجال السياسة مع رجال الدين أو الكهان أو العرافين، قوة لخلق المزيد من الأساطير التي تغذي خيال الأفراد وأصحاب القرار في الدولة. كثيرة هي الشعوب التي تقدس العائلة كوحدة اجتماعية بعد أن كانت وحدة أسطورية، (وتوحي بالقيام بالواجبات تجاه العائلة والأقربين وتشدد على واجبات الزوجة تجاه زوجها، ولكنها تعطي هذه الواجبات قيمة ذاتية لا تصدر عن وحي إلهي أو تدخل علوي)[24]. حدث انزياح وانتقال من الخضوع لقوة الأساطير الفوقية والمتعالية، وحلول أساطير اجتماعية وسياسة بموجبها تحددت الأدوار والعلاقات والتراتبيات داخل المجتمع والدولة، لتوجيه التفاعلات الاجتماعية بين الأفراد وتأثير المعلم أو الحكيم على النفوس.

 سبقت التحول من الجماعة  البدائية البسيطة إلى الدولة، تحولات على مستوى الذهن أوّلا، ثم على مستوى الأساطير الاجتماعية،  ما يعني أن للأسطورة فكراً متعالياً ودوراً في عملية الانتقال، من تطور جماعي إلى آخر، من المرحلة اللاّهوتية حيث سيادة الأساطير المعبرة عن القوى المتعالية، إلى المرحلة الميتافيزيقية التي لعب فيها العقل دورا كبيرا، وصولا إلى المرحلة السياسية الحاسمة، حيث أصبح كل شيء مرتبط بالإنسان والأرض، ومن التجارب البشرية لحصول الاجتماع، فبقاء العادات والتقاليد والأعراف، راجع إلى قوة الأسطورة، المهيمنة على خيال الشعوب والمجتمعات، كونها، حكايات كبرى، تحكي قصة الوجود الإنساني والمادي، ونهاية الأسطورة، يعني، تحول نظام معين، ( فإذا تهافتت الأسطورة لحقتها العادة وإذا انهارت أسطورة السلطة نشبت الثورة)[25].

   إذا تركنا مجال السياسة، حيث الحضور المكثف للأساطير بمختلف أشكالها، وولجنا مجال العلم، فإننا نجد فيرابند Feyerabend يشيد بالأسطورة كونها بناء فكرياً ضرورياً، وأن الإيديولوجيات العقلانية هي التي زرعت فكرة أن الأسطورة دونية في الأذهان، وأنها لا عقلانية فقد كتب: (كانت الأسطورة والمأساة والملاحم القديمة تتعلق بالعواطف والبنيان والوقائع، كلها في نفس الوقت، وكان لها تأثير عميق وجيّد على المجتمعات التي يحصل فيها. وحطّم بزوغ العقلانية الغربية هذه الوحدة، ووضع مكانها تصورا للمعرفة أكثر تجريدا وأكثر انعزالا وأكثر ضيقا بكثير)[26]. ولا شك في ذلك، لأن الأسطورة، تحمل مختلف التصورات عن المعرفة والطبيعة والأخلاق والإنسان والعوالم الميتافيزيقية الممكنة، التي يصعب على الإنسان تجاهلها، لذا، يجب الإشادة بدور الأسطورة في جميع المجالات، خاصة السياسية والمعرفية، ومحاولة إقصائها، يعني احتقارها واعتبارها خاوية من المعنى، وفي ذلك، إساءة للفكر الذي بدأ أسطورة وتطور شيئا فشيئا.

ليست الأسطورة مجرد انعكاس لمعتقدات الإنسان البدائية حول العالم والطبيعة والدولة والعدالة والقانون، ولكنها في العُمق، تكشف عن التمثّلات الكسمولوجية والأنطولوجية والأكسيولوجية والسياسة التي ارتبطت بمجتمع ما، وأنّها وسيلة لجعل العقل السياسي، يُنقّب عن مختلف الوظائف والعلاقات الاجتماعية بين الأفراد، وبين الحاكم والمحكوم، شريطة الفهم العميق والتفسير المعقول للأساطير، والتخلص من الرؤية السلبية للأسطورة التي تحشرها في خانة الفكر الفارغ من المحتوى. (لا يحتوي النسيج الأسطوري تناقضات صارخة، لأن فعلا سحريا يكمّلُ أو يعدّلُ فعلا سحريا آخر، فتنتظم المعتقدات والأفعال في بناء منسجم نسبيا، ويتطور البناء الأسطوري عبر التداول والتكيّف مع تغيّر السياق الاجتماعي)[27]، أي أن البناء الأسطوري، دالّ، وغزير من حيث المعاني التي تتطلق التأويل والتفسير والتعليل، لإبراز الأفكار والتصورات، وفي ذلك كشف عن الخصائص الذهنية والوجدانية التي ميّزت مجموعة ثقافية معينة، ذلك ما يزيل عن الأسطورة، كونها أوهاماً وتمثلات وتخيلات وترهات، ولكنها في الحقيقة عكس ذلك، أفكار خصبة ومضامين فكرية، عبرها تتجلَى طبيعة الأنظمة السياسية والاجتماعية المرتبطة بدولة ما، كما أنها تتضمّنُ جملة من الدلالات الرمزية المعبّرة عن رغبات الأفراد، حيث العلاقات بين الإنسان والقوى المتعالية المتحكمة في الوجود، وهي علاقات تؤطّر وتُوجه سلوكيات الأفراد، وتخلق نوعا من النّظام الاجتماعي المطبوع بكثافة التقاليد والعادات كقوانين شفهية غير مدوّنة. وبالتالي، كل إشادة بالعلم والسياسة والقانون والعدالة، يقتضي بالدرجة الأولى الإشادة أيضا بالأسطورة. يضيف فيرابند Feyerabend: (إذا أشدنا بالعلم بسبب إنجازاته، تجب الإشادة بالأسطورة مائة مرة. وبحرار أكبر، لأن إنجازاتها كانت أكبر بشكل لا يقبل المقارنة. إن مبدعي الأسطورة بدأوا الثقافة، بينما العقلانيون والعلماء غيروها فحسب، ولم يفعلوا ذلك دائما في الاتجاه الأفضل)[28].    

ارتبطت بعض الأساطير السياسية والاجتماعية في حضارات الشرق القديم بتأثير خيال المعلم أو الحكيم، غير أن هناك حضارات أخرى اقترنت أساطيرها السياسية والدينية بالمتعاليات، والما فوق خاصة الحضارات التي هيمنت عليها فكرة الأديان التوحيدية، وعاشت تجربة ما يسمّى بنزول الوحي، حيث كانت السماء والمطلق أو الجوهر المفارق سند الفعل السياسي، ومحرك التصورات حول الدولة والسياسة والسلطة والقانون، إلى درجة أن العادات والتقاليد ومختلف أشكال التفاعلات الاجتماعية، ارتبطت بالخطاب الماورائي والسماء، مثال ذلك قول يهوذا:” أكرم أبيك وأمك، فتطول أيامك على الأرض التي منحك إياها إلهك الرب”. والشواهد على ذلك كثير، ” أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم، فإن اختلفتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله”.  وعموما يمكن القول، إن جميع المجتمعات القديمة والحديثة، نهلت من الأساطير المتعالية معظم أفكارها السياسة حول العمران والدولة، بحيث يمكن تسمية تلك المجتمعات بالمتعالية أسطورياً، وتحقق النظام والانسجام والوحدة داخلها يتطلب وجود سلطة تستند إلى أسطورة ما، تفعل فعلها، تضبط الناس وتحقق شكلا من أشكال الرفاهية، ” إذا جَاد الله، جادّ عُمر”.

جميع أشكال التدبير والعقاب، والرفاهية والأخذ والعطاء، يستدعي ضرورة وجود سلطة قادرة على تحقيق متطلبات النفوس. صحيح، أنّ الأساطير من الناحية الرمزية بمثابة سلطة، داخل سلطة الدولة والمجتمع، غير أنّها سلطة تحتاج إلى سلطة بشرية، لتطبيقها على الأرض، هنا تنشأ واقعة سياسية جديدة، وهي حصول التماهي بين السلطة البشرية مع السلطة الأسطورية، فيقسم المجتمع إلى فئات وطبقات، تقسيما أسطوريا، إنها لحظة نشوء جملة من القيم الأخلاقية: المسيء والمحسن، الفاضل والرذيل، الخير والشر، الكافر والمؤمن، دار الإسلام ودار الكفر، لأن الأساطير (تمارس سلطة أوسع منها… وهي سلطة الرقابة على الذين ينكرون تعاليمها أو يحاولون التملص منها)[29].

وبالتالي، انسداد الأفق السياسي والفكري، وانحباس القدرة على التفكير، لأنّ زمن سيادة الأسطورة، زمن كثيف، واستبدادي، يستبد بالأفراد، ويغتال العقل، باسم ضرورة الخضوع للمحدّدات الأسطورية. يتم نسيان الأرض أو جعلها تابعة للما فوق، من يريد إصلاح الأرض، عليه التوجه إلى السماء ومداعبة الأساطير، وإذا كانت الأساطير، قد لعبت دورا كبيرا وإيجابيا في بعض الحضارات، خاصة الحضارة الإغريقية، فإن هناك مجتمعات أخرى تحولت فيها الأساطير الفوقية إلى عوائق حالت دون التقدم والنمو، وعلى جميع المستويات، أي أن الأسطورة من الناحية المنطقية سلاح ذو حدين، قد تحفز الإنسان، وتوقظ الخيال الخلاّق للتأمل والتفكير والنقد والتطوير، فيبرع بعض الأشخاص في مجالات معينة، لكنها قد تتحول إلى قوة للتدمير وشلُّ قدرات الذات، ومثال ذلك، تاريخ العرب والمسلمين، الحافل بأسماء المفكرين الذين همشهم الواقع والناس جراء سطوة الأسطوري – الديني، على حساب العقلي- الفكري، لا لشيء إلا لأنهم فكروا ضد الأسطورة والدين، وانتقدوا سياسة الحاكم، ولم يسايروا بعض الفقهاء في تفسيراتهم وتأويلاتهم المغرضة، فالصعلوك، والفيلسوف النابتة وتدبير المتوحد، هي أمثلة قليلة من كثيرة، تؤكد سياسة الإقصاء والنبذ في حق العقل الناقد والمتمرد على الأسطوري والغرائبي والعجائبي.

5- الخاتمة:

لم تعتبر علاقة الدولة بالأساطير السياسية والاجتماعية، مجرد تصورات خيالية معبرة عن طبيعة بعض الشعوب، حيث حضور المرويات أو السرديات الكبرى، وإنّما الكشف عن القوى الفعّالة والفاعلة والمهيمنة على الدولة والعلاقات الاجتماعية، والمؤثرة في حكم الحاكم وسياسته. جميع مراحل التطور الاجتماعي، مرتبط بالأساطير، ولا شك في ذلك، لأنّ تاريخ الفكر السياسي، مليء بالشواهد التاريخية الدالة على ذلك، من اليونان القديمة والرومان، مرورا بالعصر الوسيط وصولا إلى الأزمنة الحديثة، حيث حدثت خلخلة لبنيّة بعض الأساطير السياسية، وتشكلت نظريات جديدة هي بنت الحداثة السياسية، كما سنرى في موضعه. إذا سلمنا بفكرة أن الأساطير قوة فعالة، فإن ذلك يعني أن ايجابياتها كثيرة ومتعددة، شريطة التأويل العميق، والفهم الجيّد، المؤديان إلى استنباط المبادئ والقيم، لتوظيفها لأغراض عملية وسياسية تساعد على فهم نشأة الدولة في التاريخ، خصوصا وأن تطور الفهم العقلي للأسطورة يصاحبه تطور سياسي واجتماعي ووعي عميق بالمشاكل المتعددة التي تواجه الإنسان. معنى ذلك، أن الأسطورة في زمن النضج العقلي والوعي الاجتماعي، تكف عن كونها عوائق لتتحول إلى طاقة خلاقة، ويجب على العقل أن تكون له القدرة على فرز الأساطير وتمييزها عن بعضها، والقطع مع البعض منها، وخلق قطائع مع الأساطير، وهو ما حدث بالفعل مع حكماء الطبيعة الأوائل يوم أن فسروا الطبيعة بناء على العقلانية الطبيعة مبتعدين عن بعض الأساطير في عملية التفكير، وقد وصل تأثير ذلك إلى المجال السياسي كما سنرى ذلك في مكانه. عدم القطع مع بعض الأساطير، يعني وجود عوائق تحدُّ من إغناء السياسيّ والاجتماعيّ، ولننظر إلى واقع العرب والمسلمين قديما وحديثا، كيف أن الأساطير المتعالية لعبت دورا سلبيا، في إذكاء الحروب والصراعات بين المسلمين مع بعضهم حول مسائل سياسية تتعلق بالحكم والتدبير، والعيب ليس كامنا في الأساطير، وإنّما في الذات المنهزمة، والعقل غير القادر على الفهم والاستيعاب، في أفق تجاوز الأزمات وإبداع الحلول السياسية لتطوير الدولة، ذلك ما يفسر ضبابية مفهوم الدولة في تاريخ العرب والمسلمين. فسطوة الأسطوري-الديني، منعت العقل من استنباط القيم السياسية والمبادئ الاجتماعية من النصوص الدينية، والسبب فهم النصوص والمراهنة على بناء الأحكام الشرعية بغاية تأطير الحياة السياسية والاجتماعية بثنائية الحلال والحرام، والنتيجة، ضياع السياسة والمجتمع والدولة. 


[1]– (هناك أشياء كثيرة تهيب بالنفس وتروعها، ولكن، الإنسان هو أشد الأشياء هيبة وأكثرها روعة، فهو الذي يسلك سبيله في البحر من خلال الأمواج العاصفة، وهو الذي يجدد حياة الأرض بمحراثه، وهو الذي يأسر السباع ويقلبها أليفة خدمته، وهو الذي علم نفسه النطق، وأذلّ لعقله تموجات الفكر الخاطفة، وراض نفسه على أصول الحكم، ولا يستعصي عليه إلا الموت). روبرت ماكيفر، تكوين الدولة، ترجمة: حسن صعب، دار العلم للملايين، الطبعة الثانية، بيروت لبنان، 1984، ص58.

[2]– كلود ليفي ستراوس، الأنثروبولوجيا البنيوية، الجزء الثاني، ترجمة مصطفى صالح، مراجعة وجيه أسعد، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دون طبعة، دمشق 1983، ص445.

[3]– فريديريك انجلز، أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، ترجمة: أحمد عزب العرب، دار الطباعة الحديثة، دون تاريخ، دون طبعة، ص12.

[4]– المرجع نفسه، ص16.

[5]– فريديريك انجلز، أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، مرجع سابق، ص19.

[6]– المرجع نفسه، ص21.

[7]– نسبة إلى تشارلس داروين Charles Darwin: (بدأ يفكر في نظريات التطور منذ عام 1837 ويطلقون على مذهبه في التطور اسم الدّاروينية Darwinism وهذا المذهب يرد أصل الأنواع جميعها وتطورها إلى أن الكائنات الحيّة تنزع إلى إنتاج مواليد تختلف اختلافا طفيفا عن آبائها، وأن عملية الاصطفاء الطبيعي تفضي إلى بقاء الأصلح أو الأكثر تكيفا مع البيئة، وبأن كل ذلك يؤدي في النهاية إلى ظهور أنواع جديدة لم تكن معرفة من قبل. وقد قام داروين بشرح مذهبه في كتابه ” أصل الأنواع”). حاتم ناصر الشرباتي، موسوعة الخلق والنشوء، مكتبة الإيمان، دون طبعة، المنصورة، 2003، ص. 51. علما أن نظرية التطور، كانت متداولة في الأوساط العلمية والاجتماعية قبل داروين، مثلا؛ أكد هيربرت سبنسر Spenser Herber (1820-1903) قبل داروين تطور الأنواع من أشكال بسيطة إلى أشكال معقدة. له نظرية مشهورة في التطور بالانتقال من حال التجانس إلى حال التنافر والاختلاف… وهو من أبرز القائلين بالداروينية الاجتماعية social    darwinisim  وهي نظرية في التطور الاجتماعي والثقافي، نشأت في القرن التاسع عشر واستمدت اسمها من صلتها بدراسات داروين البيولوجية، والواقع أن الفكرة القائلة بأن حياة الإنسان في المجتمع تمثل صراعا من أجل الوجود يحكمه مبدأ ” بقاء الأصلح” لم يستحدثها، ولكن، دراساته منحتها الشُّهرة… وذهب إلى حد القول بأن الجماعات كائنات حيّة تتكور بمثل تطور الطريقة التي يتم بها تطور الأفراد، وقد اسُتخدمت تلك النظرية لتوطيد دعائم الاستعمار ولتبرير التمايز الطبقي على أساس من التفوت الفطري بين الأفراد والأقوام، وتأييد الهيمنة الاستعمارية على أساس العنصرية والعرقية، وترسيخ فكرة تفوق بعض الشعوب والأمم على الأخرى. حاتم ناصر الشرباتي، موسوعة الخلق والنشوء، مرجع سابق، ص48-49. بتصرف.  

[8]– فريديريك انجلز، أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، مرجع سابق، ص30.

[9]– إدريس العلوي العبدلاوي، المدخل لدراسة القانون، الجزء الأول: نظّرية القانون، مطبعة فضالة، الطبعة الثانية، المحمدية 1975، ص219.

[10]– فريديريك انجلز، أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، مرجع سابق، ص50-51.

[11]– G. Rocher, L’action Sociale, éd, Payot, Paris, 1968, P. 132.

[12]– للأسطورة معان مختلفة، تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، والثقافة والمعتقدات، وعموما يمكن القول: إنّ الأسطورة هي حكاية خيالية خرافية شعبية، تقوم بالأدوار فيها قوى طبيعية متعالية، تظهر في شكل اشخاص يكون لأفعالهم ومغامراتهم معنى رمزي ودلالة كثيفة، وبهذا المعنى، تروي الأسطورة قصّة مقدّسة حدثت في غابر الزمان، أبطالها الآلهة أو أنصاف الآلهة. وتعتبر كل أسطورة كشفا عن سر من أسرار الوجود والطبيعة والعالم المتعالي، ومحاولة تفسير لغز من ألغازه، أي أن الأسطورة تروي عادة كيف نشأ العالم، ووجدت الأشياء، كما انها تعبّر عن تصور معين للعالم، بدايته ومراحل تشكّله وغاياته، ومنزلة الإنسان في ذلك، بالمقارنة مع القوى التي تفوقه قدرة وقوة. تقدّم الأسطورة في قالب خيالي يبتعد عن التفسير العقلي والعلمي أجوبة عن أهم المشاكل التي يطرحها الوجود الإنساني، ووضع الإنسان، مثل أسطورة برومثيوس التي تعبّر عن تحدّي الإنسان للآلهة والقوى الطبيعية، وأسطورة سيزيف التي تجسّد الوضع المأساوي الذي يعيشه الانسان باستمرار، وأسطورة أوديب التي تجعل الانسان خاضعا لقدره ومصيره المحتوم، حيث يغذو الانسان كالريشة في مهبّ الريح. وبالتالي، فالأسطورة، قصّة خيالية يوظّفها الشاعر أو الأديب أو الفيلسوف لبسط آرائه وافكاره ورؤيته الخاصة حول العالم والانسان والطبيعة والدولة، كأسطورة سيزيف لألبير كامو، وأسطورة أهل الكهف لتوفيق الحكيم، وأسطورة الكهف لأفلاطون. في أفق رسم صورة لمستقبل خيالي ووهمي، يتعذر تحقيقه في الواقع، وهي صور تعبّر عن مشاعر وعواطف الناس، وتدفعهم إلى القيام بأعمالٍ وأفعالٍ، كالحديث مثلا عن أسطورة الخلافة، وأسطورة الدولة، واسطورة المهدي المنتظر وأسطورة العلم. جلال الدين السعيد، معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية، دار الجنوب للنشر، دون طبعة، تونس 1994، ص42. (بتصرف). 

[13]– ارنست كاسرر، الدولة والأسطورة، ترجمة: أحمد حمدي محمود، مراجعة: أحمد خاكي، دون طبعة، المكتبة العربية بالاشتراك مع الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 1975، ص47.

[14]– (تعدُّ حادثة شق الصدر التي حصلت له عليه الصلاة والسلام أثناء وجوده في مضارب بني سعد من إرهاصات النبوة ودلائل اختيار الله إياه لأمر جليل. وقد رُويت هذه الحادثة بطرق صحيحة وعن كثير من الصحابة منهم أنس بن مالك فيما يرويه مسلم في صحيحه: ” أن رسول الله أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرجه، فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم أعاده إلى مكانه. وجاء الغلمان يسعون إلى أمه – مرضعته- ينادون: إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو ممتقع اللون). محمد سعيد رمضان البوطي، فقه السيرة النّبوية مع موجر لتاريخ الخلافة الراشدة، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، الطبعة السادسة، دمشق، 1999، ص47.

[15]–  ارنست كاسرر، الدولة والأسطورة، مرجع سابق، ص24.

[16]– يعتبر الإبستمولوجي الفرنسي غاستون باشلار، أول من ابتدع مصطلح القطيعة الإبستمولوجية قبل أن يأخذه الآخرون ويطبّقونه في مجال المعرفة الدقيقة، لينقل بعد ذلك إلى مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية والسياسية. وقد انقسم العلماء والمفكرون حول مفهوم القطيعة، بين مؤيد ومعارض ومتمايز معه، فمنهم من يقول بأن القطيعة مطلقة كحدّ السيف، تفصل ما كان عما سيكون، يعني الخروج النهائي من براديغم، والدخول إلى براديغم جديد، لا علاقة له بما كان. ومنهم من لا يعترف بوجودها إلا لكي يلغيها أو يقلل من أهميتها ويستوعبها، ومنهم من يعترف بوجود قطيعة نسبية متدرجة، لا مطلقة ولا جدرية. ويُتّهم أصحاب الاتجاه الأول بأنهم يمثّلون التيار اللاعقلاني في ساحة الأبستمولوجيا المعاصرة، لأنهم يلغون التطور التدريجي بين مختلف مراحل العلم، ويعتبرون أن العلم يتقدم عن طريق القفزات أو الطفرات المفاجئة التي تفصل بشكل كلّي ونهائي ما كان عما سيكون. وأما أصحاب التيار العقلاني الإبستمولوجي، فيؤكدون بأن تطور العلوم والأفكار والنظريات يحصل عن طريق التراكمات المتواصلة، لا القفزات والطفرات الفجائية. هاشم صَالح، مخاضَاتُ الحداثةالتنويريّة، القطيعة الإبستمولوجية في الفكر والحياة، دار الطليعة للطّباعة والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 2008، ص8-10.

[17]– ارنست كاسرر، الدولة والأسطورة، مرجع سابق، ص24.

[18]– عزيز حدادي، أزمة الفكر العربي وأسئلة الميتافيزيقا، منشورات أفريقيا الشرق، دون طبعة، الدار البيضاء، 2014. ص81.

[19]– روبرت ماكيفر، تكوين الدولة، ترجمة: حسن صعب، دار العلم للملايين، الطبعة الثانية، بيروت لبنان، 1984، ص58.

[20]– من خلال ما هو معلوم أن مؤسس الفلسفة الوضعية أوغست كونط، أراد القطع مع التفسيرات اللاهوتية والميتافيزيقية للعالم والمجتمع، وتبنى فلسفة وضعية تنهل أسسها ومنهجا من العلم، ومحاولة اسقاطه على العلوم الإنسانية، معتبرا العلم مر بثلاث مراحل كبرى: المرحلة الأسطورية- الكهنوتية، الدينية، فالمرحلة الميتافيزيقية، ثم المرحلة الوضعية، ودعا هذا التقسيم بقانون الحالات الثلاث، واعتبر أن البشرية كلها سوف تمر بهذه المراحل عاجلا أم آجلا… غير أن غاستون باشلار تبنّى التقسيم الوضعي لمراحل العلم مضيفا مرحلة رابعة وأخيرة، مؤكدا أن التفسير الوضعي للعالم، -يساوي المرحلة الثالثة في منطق أوغست كونط- يمثل نهاية التطور البشر ي، لأنه تفسير علميّ يستند إلى المحسوس القائم على التجربة والملاحظة، بخلاف التفسير الأسطوري – الكهنوتي المؤسس على الغيبيات، والتصديق القلبي، أو التفسير الميتافيزيقي القائم على التجريد العقلي والافتراضات غير المبرهنة. وهكذا، أضاف غاستون باشلار، إلى تلك المراحل الثلاث مرحلة رابعة قائمة بالأساس على النظرية الذرية والميكانيك الموجي الذي أسّسه العالم الفرنسي لويس دو بروغلي Louis de Broglie (1892-1987) الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1926.

 هاشم صالح، مخاضات الحداثة التنويرية، القطيعة الابستمولوجية في الفكر والحياة، الطبعة الأولى، دار الطليعة للطّباعة والنشر، بيروت، 2008، ص15-16. (بتصرف).

لا نريد الخوض في مناقشة غاستون باشلار حول المرحلة الرابعة، نظرا لاختلاف مقام الحديث والموضوع، ولكن، تكفي الإشارة إلى أن القول بالمرحلة الرابعة في منطق تفكير غاستون باشلار تبدو ظالمة ومجحفة، وغير منصفة للقرنين السابع عشر والثامن عشر، لأنهما قرنين شهدا أعظم التحولات العلمية، وحدوث قطائع في مجال الفيزياء والهندسة، حيث تم تجاوز هندسة أوقليدس، والقول بالهندسة اللاأقليدية، مما يعني حصول قطيعة على يد غاليليو ونيوتن في مجال العلم، وديكارت في مجال الفلسفة، فلماذا تجاوزهم باشلار وقفز على فكرهم؟

[21]– روبرت ماكيفر، تكوين الدولة، مرجع سابق، ص59.

[22]– المرجع نفسه، ص19.

[23]– روبرت ماكيفر، تكوين الدولة، ص20.

[24]– المرجع نفسه، ص62.

[25]– روبرت ماكيفر، تكوين الدولة مرجع سابق، ص55.

[26]– أورده بناصر البعزاتي، الاستدلال والبناء، بحث في خصائص العقلية العلمية، المركز الثقافي العربي، ودار الأمان للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، الرباط 1999، ص392.

[27]– بناصر البعزاتي، الاستدلال والبناء، مرجع سابق، ص393.

[28]– بناصر البعزاتي، الاستدلال والبناء، مرجع سابق، ص394.

[29]– روبرت ماكيفر، تكوين الدولة، ص62.

مقالات أخرى

ملامح السّرد المقاوم

التّعليم عن بعد

إشكاليّة العدالة والدّيمقراطية

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد