استشكال الليبراليّة عند دومينيكو لوسوردو

 

ملخّص:

هذا البحث استكشاف نقديّ لمضمرات الليبراليّة ومأزقها الشكليّ، مثلما طرحته مدوّنة الفيلسوف الإيطاليّ دومينكو لوسوردو في سياق الفلسفة السياسيّة. فقد عمل هذا الفيلسوف على تفكيك الأحداث التاريخيّة والفكريّة، مُبيّنًا التناقضَ الذي انتبت عليه الليبراليّة، وقد حَادَتْ عن مسارها النظريّ. وفي هذا المطَّرَح، وضع لوسُوردو النَّظريات والتناقضات والمعضلات الأخلاقيّة والسياسيّة الكبرى على محكّ النقد. واستُهل مبحثنا ببسط نظريّ تخلّله تحديد فلسفيّ. ويعقب ذلك، نقد الليبراليّة وبيان قُصورها على الصّعيد النظريّ فالإجرائيّ. ومن ثمَّ، خصّصنا الجانب الأخير للصّراع الطبقيّ والنضال، موليّنا فيه وجوهنا شطر السّياقات التاريخيّة للتحرّر.

الكلمات المفاتيح: الليبراليّة، العبوديّة، الصراع الطبقي، التحرر، الحريّة.

Abstract:

This research is a critical exploration of the implications of liberalism and its formal dilemma, as presented in the blog of the Italian philosopher Domenico Losurdo in the context of political philosophy. The philosopher worked to deconstruct historical and intellectual events, demonstrating the contradiction that emerged from liberalism. It deviated from its theoretical path. Losurdo puts theories, contradictions, and major moral and political dilemmas to the test of criticism. The work begins with theoretical introduction and philosophical definition. Then we move to criticize liberalism and point out its theoretical and practical shortcomings. Then, we devoted the last aspect to the class struggle and struggle. In it, we paid attention to the most important historical contexts of liberation.

Keywords: Liberalism, slavery, class struggle, liberation, freedom.


“إنَّ البَشَرَ يَصنَعُونَ تَارِيخَهم بِأَنفُسِهم، ولكنّهم لا يَصنعونَه بالطريقة التي يَتمنونَها، إنَّهم لا يصنعونه وفقا للظروف والحيثيات التي يختارونها، وإنّما وفقا لظروف خلقها الماضي وأورثها لهم”

كارل ماركس

“إنّ ما جعل بناء أنطولوجيا الوجود الاجتماعي أكثر صعوبة هو الحدث الذي لعب دورا حاسما في تاريخ حظوظ ماركس وإنجلز”

 لوسوردو

“لن يضيع الكفاح المرير، إذا ما رآه الثوار قائمًا. ستسقُط القيود الثقيلة وستهدم الجدران أمام الكلمات، وستحييك الحرية في ضوء النهار وسيعيد لك أشقاءك السيف”

 بوشكين

“دومنيكو لوسوردو هو أحد الفلاسفة الذين ساهموا في إعادة قراءة جذرية للتقليد الليبرالي

دانييل زامورا

 

1- مقدمة:

بحلول القرن الثّامن عشر، استقرّت الثّورة الصناعيّة في أوروبا الغربية وبالتّزامن معها لاح عصر التنوير الفكريّ بأبعاده المختلفة، في القارة الأوروبيّة برمّتها، مُنبثقا من حركات فكريّة وفلسفيّة وقرت في إعمال الفكر والسؤال عن الحريّة. ونعلمُ يقينا، أنّ الثورة الصناعيّة هي انتصار على النّظام الإقطاعيّ المُتوحش الذي استفحلَ في القرون الوسطى. فهي تحوّل مُتفردٌ في التاريخ، انطلقت شرارته في بريطانيا وأنتجت تطورا هائلا في الجانب التقنيّ، فأضحت في منتصف القرن الثامن عشر الدولة التجاريّة الرائدة في العالم. وفي تلك الفترة، استولت بريطانيا على مستعمرات في أمريكا الشماليّة وشبه القارة الهنديّة.

وقد حقّقت مكاسب بيّنة وملموسة في ما يتعلّقُ بالمجال التقنيّ والتجاريّ: من قبيل المنسوجات كغزل القطن، بطاقة البخار والمناسج الآليّة، وصناعة الحديد مثل استخدام الفحم النباتي عِوَضا عن الفحم الحجريّ، واختراع الأدوات الآليّة كآلات التّصنيع الاقتصاديّ، في نطاق تطوير التجارة العالميّة. وأفضى هذا التطوّر إلى نشأة قوّة رأسماليّة ضخمة، بالتوازي مع بزوغ نجم عقلٍ رأسماليّ بوصفه الداعم الأوّل للنّظام الاقتصاديّ القائم على الملكيّة الخاصّة لوسائل الإنتاج وخلق السلع والخدمات لغاية الربح.

وفي خضم ذلك، أدرَكَ الفلاسفة الليبراليون، ضرورة استبعاد العقل الرأسماليّ، وتحصين الفرد من ضروب الاستبداد والجور والاستغلال الطبقيّ. وكان هدفهم الأول، إعادة اكتشاف الإنسان وتأصيل حقوقه وإرادته. استنادا لذلك، انتشرت الأفكار الليبراليّة عند الغرب، على غرار أفكار آدام سميث «حريّة العمل»، «حريّة التجارة»، «الحريّة الاقتصاديّة». فطوَّعت الرأسماليّة أفق الليبراليّة لغاياتها ونشاطاتها المتطرّفة، ودمَجتها في منظومتها الإنتاجيّة. بذا، تَقُودنا مُحايثة الرأسماليّة الجديدة إلى التساؤل على الخرَاب الذي يُطبقُ مآزره على عصرنا الحاليّ، ويَرمِي عَاتِقَهُ عَوَاتِقَنَا، خَوضًا للهُوَّة الرَّاهنةِ التي نَعيشُهَا، فما هو التمثّل المفهوميّ المستصفى من التوجّه الليبراليّ ذاك؟

تَخيَّرنا الخوض في غمار هذا المفهوم المشكليّ عبر الولوج في فكر فيلسوف معاصر، قد غادرنا منذ أمد غير بعيد، وهو مَن عاش محنة التفلسف في زمن الثّورات والإرهاب والصراعات السياسيّة. فالفيلسوف الإيطاليّ دومينكو لوسوردو، مؤرّخ ومفكّر ماركسيّ ولد سنة 1941 وتوفي سنة 2018 بعد صراع مع السرطان، وتحصّل على الدكتورا سنة 1963 في جامعة أوربينو، بأطروحة أنجزها حول «يوهان كارل رودبرتس» بإشراف باسكال سالفوتشي. وانخرط في الستينيات ضمن مجموعة من الشيوعيّين الإيطاليّين المُهتمّين بالانقسام السياسيّ السوفياتيّ الصينيّ.

وقد عمل هذا الفيلسوف مديرًا بمعهد العلوم الفلسفيّة والتربويّة في جامعة أوربينو، ودَرَّسَ تاريخ الفلسفة. كان أيضا رئيسا للرابطة الهيغليّة الدوليّة «هيغل-ماركس للفكر الجدليّ»[1] سنة 1988 وعضوا في جمعية لايبنيز. عُرفَ لوسوردو بمشاركته في السياسة الوطنيّة والدوليّة وبإدانته للإمبرياليّة الأمريكية. وقد اعتبره رواد الفكر في إيطاليا بالمؤرخ الماركسيّ الثوريّ، وبالفيلسوف المغاير، والناشط الشيوعيّ. وتراوحت أعماله بين دراسة الكانطيّة والمثاليّة الألمانيّة الكلاسيكيّة وتفسير الماركسيّة الألمانيّة وغيرها. تعزيزا لذلك، أسهم لوسوردو في قراءة جديدة لنيتشه الراديكاليّ والفكر الهيدغريّ والنازيّة.

 فلم يكنْ قارئا رتيبًا لتاريخ الفلسفة ينقل أفكارهم وأقوالهم ونظرياتهم، إنَّمَا تَقصّى ببراعة موضوعات النقد السياسيّ لليبراليّة والاستعمار والاستبداد، واستثمر تجارب القُدَامى ليحلّل التَّجارب الجديدة التي عاصرها. وهو ما يعني أنّه ليس طالبًا وفيًّا للماركسيّة، لكنّه تعمّد سبرَ أغوار بحثية جديدة، تتلاءم وأفكارَه الثوريّة المعاصرة. فبدت تصوّراته مُناهضة لأشكال إخضاع الشعوب والنضالات الزائفة. نقرّ إذن، أنّ هذا الفيلسوف قد قسَّم حياته البحثيّة إلى جملة من المجالات الفلسفيّة وهي بالتوازي: نقد الليبراليّة، والبحث في الاشتراكيّة، ونقد الإمبرياليّة ونقد اليسار الغائب. ذلك فضلا عن البحث في الإشكالات المعاصرة له، من مثل مقاومة سرديات العولمة السوداء، والنضال ضدّ تآكل الذَّات والعقل.

من هذا الموقع، عمدنا إلى الحديث عن تصوّر هذا الفيلسوف، رغم معاصرته للكثير من المفكرين في بلاده، نظرا إلى أسباب عِدَّة أبرزها نقدهُ الشديد للنازيّة والهولوكوست الأحمر والانخراط الأعمى وراء القوى الإمبرياليّة الغربيّة، ونقدهُ كذلك لليسار الإيطاليّ صلب اليسار في حدّ ذاته مثل جورجيو كولّي(Giorgio Colli)، وجياني فاتيمو (Gianni Vattimo).

وقد بدا لوسوردو حاملا في فكره أحلام رفاق الفكرة شأن غرامشيو جوردانو برونو (…) وقضايا الإنسانيّة جمعاء. وله مؤلّفات كثيرة، منها نذكر المُترجمة إلى الفرنسيّة والإنجليزيّة وهي هيغل والليبراليون (1992)[2]، هيغل والكارثة الألمانية (1994)، هيدغر والإيديولوجيا الألمانيّة (1998)، غرامشي: في الليبراليّة وفي الشيوعية النقديّة (2005)، تاريخ مضاد لليبراليّة (2013)، لغة الإمبراطورية (2013)، اللّاعنف: تاريخ غامض (2014)، نيتشه: الثائر الأرستقراطي (2016)[3].

2- في المفهوم الليبراليّ:

اشتُقَّ مُصطلح الليبراليّة من العبارة اللّاتينيّة (Liber)، وتعني الحريّة والتّحرر. وتمّ تداوله للتّعبير عن الأفكار والإشكالات الباحثة في حريّة الفرد. ونشير إلى أنّ الفكر الليبراليّ لم يتشكّل لدى مفكر أوحد، إنَّما هو نتاج تنظير جماعيّ ضمّ ثلّة من المفكرين، أهمّهم جون لوك وآدام سميث وفولتير وروسو وألكسيس دي توكفيل وجون ستيورات مل. وتعودُ أصول المصطلح إلى تعريب كلمة (liberalism) وفقا للسان الإنجليزيّ ولفظة (liberalisme) في اللّغة الفرنسيّة. ونجدُ في معجم لالاند: “ليبراليّة (Freisinn) في كلّ المعاني (D. Liberalismus). وهو مذهب سياسيّ يرى أنّه من المُستحسن أنْ تزداد إلى أبعد حدّ ممكن استقلاليّة السلطة التشريعيّة والسلطة القضائيّة بالنّسبة إلى السلطة الإجرائيّة/التنفيذيّة، وأن يُعطي للمواطنين أكبر قدر من الضمانات في مواجهة تعسّف الحكم. والليبراليّ (أول استعمال للفظة) هو الحزب الإسبانيّ الذي أردا نحو1810، أن يدخل في إسبانيا البرلمانيّة من الطراز الإنجليزيّ-الليبراليّة، تتعارض مع الاستبداديّة (Autoritarisme). وهو مذهب سياسي-فلسفيّ يرى أنَّ الإجماع الدينيّ ليس شرطا لازما، ضروريا لتنظيم اجتماعيّ جيّد ويطالب بـ«حرية الفكر» لكلّ المواطنين. وهو مذهب اقتصاديّ يرى أنّ الدولة لا ينبغي لها أنْ تتولّى وظائف صناعيّة، ولا وظائف تجاريّة، وأنّهَا لا يحقّ لها التدخل في العلاقات الاقتصاديّة التي تقوم بين الأفراد والطبقات أو الأمم. وبهذا المعنى، يُقال غَالِبًا ليبراليّة اقتصاديّة. تتعارض مع الجولانيّة (Etatisme) أو حتّى بنحوٍ أعمّ مع الإشتراكيّة”[4].

من أجل ذلك، تعتبر الليبراليّة الحلّ الأمثل للشعوب المضطهدة، ذلك أنّ أساسها الحريّات الفرديّة. فلابدّ من الإشارة إلى سيل الكتابات التي برز في الثمانينيات والتسعينيات المتعلّقة بالليبراليّة والتي برزت مع كتاب نظرية العدالة (1971) لجون راولز، الذي شكَّلَ حدثًا في مجال الفلسفة السياسيّة. وأصبح مرجعًا بارزا في القرن العشرين. وقد كتب مايكل ساندل كتاب الليبراليّة وحدود العدالة ردًّا على هذا الكتاب. وفيه انطلق من نظريّة مَفادُها حرص المجتمع اللّيبراليّ على قيمة الحريّة بمختلف أنواعها (الحريّة الدينيّة، حرية التعبير، …) في الحياة، مبيّنًا أنّ هذا الحرص مجرّد زعم لا غير، تنحرفُ عنه النظم الليبراليّة، وتحديدا إذا ما اتّصل الأمر بالإجراء.

وفي تحديد لوسوردو لليبراليّة اعتبرها تقليدا للفكر الذي يهتمُّ رأسا بحريّة الفرد التي تجاهلتها الفلسفات العضويّة وقوَّضتها بمختلفِ أنواعِها. لكن إذَا كان الوضعُ على هذه الشاكلة، فكيف نصنفُ جون سي كالهون[5]؟ هذا الرجل البارز، نائبُ رئيس الولايات المتحدة في منتصف القرن التاسع عشر، والذي قَدَّم قصيدة حماسيّة للحريّة الفرديّة. والتي تُناشد لوك وتُدافع بقوّة عن جور السلطة وأيّ تدخل لامُبرر من قبل الدولة[6]. ويجيبُ لوسوردو عن سؤاله الساخر فيقول، حافظ كالهون ليبراليّ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، على الصورة التقليديّة والبنيويّة لليبراليّة بوصفها فكر حريّة. مُقابل ذلكَ، نرصد مُفارقة، فمن جهة يُدافعُ عن الأقليّات، ومن جهة أخرى يعتبر عبوديّة السود «خبرا إيجابيّا».

والمستفاد أنّ الليبراليّة تُفهم، حسب لوسوردو، مسارا للتّحرر ونفيه في تاريخها. فهي تتمتّع بميزة تاريخيّة ونظريّة تتمثّل في تقيّيد السلطة داخل المجتمع. وبالعودة إلى تاريخ الليبراليّة، نلحظُ تقسيمات نجملها في الآتي:

  • الليبراليّة الكلاسيكية: هي الصورة الأولى من النظريّة الليبراليّة، برزت في القرن السابع عشر سقفها الأيديولوجيا، ثم تطوّرت في القرنين الثَّامن عشر والتاسع عشر في المجتمعات الغربية. وتواصلت إلى العقود الأولى من القرن العشرين. وتراجعت مع طلوع التوجهات الماركسيّة.
  • الديمقراطية الاشتراكيّة: برزت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي الجانب المعتدل من الليبراليّة.
  • الليبرالية الحديثة: (النيوليبراليّة) وهي توجّه من مسارات المدرسة الليبراليّة، وبرزت في القرن العشرين. ومن بين أهمّ أعلامها: توماس هيل جرين وليونارد ترلّونيه وبهاوس وجون هوبسون.

أمّا في ما يتعلّق بالليبراليّة الاقتصاديّة، المهيمنة على العالم، فلم تكن وليدة الراهن، ذلك أنّ مردّها إلى النصف الثامن عشر وتحديدا فترة الثورة الصناعيّة ما بين 1750-1850. وكانت تخوض دول القارّة الأوروبيّة في تلك الفترة التحوّل من المجتمع الاقطاعيّ المنهار إلى المجتمع الصناعيّ الرأسماليّ. وهنا مكمن المفارقة التاريخيّة في ليبراليّة القرن الثامن عشر. فكانت ثوريّة وتقدميّة في نزعتها، على غرار ليبراليّة أواخر القرن العشرين التي اتّسمت برجعيتها ومعاداتها لمصالح البشر. وقد طوّعتها البرجوازيّة الصاعدة سلاحا لخوض صراعات المجتمع الاقطاعيّ، لتمرّ إلى المجتمع الرأسماليّ[7].

3- في نقد الليبراليّة[8]:

يذكر جيانيف ريسوفي مراجعة لكتاب لوسوردو، فرادة هذا الفيلسوف، لأنَّه يُقدّم بحثًا مفتوحًا لمراجعة التاريخيّة وسيرة الفكر الليبراليّ، إذْ يشكّل التّاريخ المضاد لليبراليّة محاولة جادّة تاريخيّا للتّخلي عن الفضاء التنويريّ للاعتذار الليبراليّ المعتاد. فنقد لوسوردو لليبراليّة لا يعني تجاهل مزايا تاريخ الفكر الليبراليّ وقوّته، إنّما اختيار التضاريس الحقيقيّة للتّاريخ من خلال التغلّب على القمع والتغييرات التي تُميزّه. لقد دمرّ التحريف التاريخيّ الإشتراكيّة[9].

يعتمدُ لوسوردو النموذج الأمريكيّ ليبيّن العلاقة بين الليبراليّة والعبوديّة. ويقرّ في الفصل الثاني من كتابه الليبراليّة تاريخ مضاد، تناقضات النُظم الليبراليّة التي تدّعي الدّفاع عن الحريّة، وهي تُضمرُ تمجيدًا خفيّا للعبوديّة والاستبداد.

وازداد عدد العبيد في الأمريكيين 330 ألف سنة 1700، ووصل إلى ما يقارب ثلاثة ملايين سنة 1800 وتجاوز ذلك بكثير في خمسينيات القرن التاسع عشر، رغم نجاح الثورات الليبراليّة. ألا يجدرُ التساؤل، في هذا المُنعطف، عن أصول المفارقة؟ وكيف تنتصرُ العبوديّة في أشكالها الأكثر تطرّفًا في عصر ذهبيّ؟ يحيطُ لوسوردو علما بهذا السؤال، فيعودُ إلى مثال عينيّ وهو اعتراف جيمس ماديسون[10]، مالك العبيد، والليبراليّ (مثل العديد من أبطال الثورة الأمريكية)، الذي لاحظ أنَّ الهيمنة الأكثر قمعًا التي يُمارسها الإنسان على الإنسان هي في أكثر الأزمان استنارة[11]. بمعنى تزامن صعود الليبراليّة بانتشار العبوديّة العنصريّة، فهما نتاج ولادةٍ واحدة، تتمثل في ظُهور الملكيّة الحديثة.

أسهمَ تطوّر العبودية العنصريّة، حسب لوسوردو، في سعي المجتمعات المدنيّة إلى رفع شعارات الحريّة والنضال ضدّ الاستبداد. وتأثّر أبناء الثّورات والحركات الليبراليّة بموجة الحريّة الموعودة. ويلجأُ لوسوردو، لتوضيح هذه النقطة، إلى هوغو غروتيوس (Grotuis) ليفهم تفكيك جون لوك النظريّ للعبوديّة والفرق بين «العبد» و«الخادم». وفي هذا المخاض المعرفيّ، قارن غروتيوس بين العبد «الأجير الدائم» المرتبط طوال حياته بسيده، وبين الخادم المؤقّت. علاوة على ذلك، يفرض غروتيوس الموانع الأخلاقيّة. وإزاء هذا التصوّر، تخلّص لوك من هذه الموانع، داعيا إلى ضرورة احترام السيد عبده. فالسلطة التي يُمارسها العبد هي سيادة مطلقة وتعسفيّة. وهذا أشدّ أنواع الجور والاستبداد. وتبعا لذلك، يفقدُ العبد خصائصه الإنسانيّة. وتأسيسا عليه، يُثمّن لوسوردو عمل لوك النظريّ، ويُشيرُ إلى ماكتبه حول التطوّر الذي خضعت له العبوديّة العنصريّة منذ أواخر القرن السابع عشر.

إنّ مُشكلَ العبوديّة لم يؤرّق لوك فحسب، إنّما بلغ حدّه إلى دراسات مونتسكيو الذي خصّص له بعض الصّفحات. إذْ لاحظ مونتسكيو أنَّه “لا يوجد مناخ على وجه الأرض لا يستطيع فيه المرء تشغيل الأحرار في العمل”[12]. على طرف نقيض، تكون هذه اللهجة ضبابيّة وغير بيّنة. فشدَّدَ مونتسكيو على الحريّة، ولكنّه في الوقت ذاته ساند العبوديّة بين شعوب الجنوب. وبهذا، يرى فيه لوسوردو تبريرًا للعبوديّة التي ترفضها الأسباب الطبيعيّة وتتعارض مع العقل المجرّد. وبناء عليه، يجمعُ بين لوك ومونتسكيو، فيبيّن أنَّهما يجمعان بين التحرّر ونفيه في ذات الآن. كيفَ يتشابك التحرّر ونفيه في ذات الفكر؟ وبأيّ معنى ينظّرون للحريّة ويبررون العبودية؟

تظهرُ الاعتبارات المرتبطة بالعبوديّة لديهم، في سياق الحديث عن العلاقات المنعقدة بين المناخ والقوانين والعادات والاستبداد. وانهمكَ مونتسكيو، وفقا للفيلسوف الإيطاليّ، في تعديل القوانين المؤسّساتيّة عِوَضًا عن الدعوة إلى إلغائها إلغاءً تاما ونهائيّا. ومنه، “يجب على القوانين المدنيّة أن تسعى إلى إزالة انتهاكات العبودية من ناحية ومخاطرها من ناحية أخرى مهما كانت طبيعتها”[13]. وعلى هذا النحو، يُساندُ القانون الذي أصدره لويس الرابع عشر الذي كرّس عبودية السود واقترح تنظيمها[14]. ويتمسكُ بفرضية “سيكون من الجيّد لو كان بيننا عبيدا”[15].

يُحلّل لوسوردو موقف وليان بلاكستون (Blackstone) تُجاه العبوديّة، ويعتبر أنّه قريب من موقف مونتسكيو، إذْ يرى احتفاء إنجلترا بوصفها أرضًا للحريّة، لا ينفي واجب خدمة العبد الأسود لسيده. وهو واجبٌ لقاء المبادئ العامّة لقوانين إنجلترا ولا يُلغى. فلا يُمكن للعبد في هذه الوضعيّة، المُطالبة بالحريّة، وقد قُمِعَت مؤسّسة العبوديّة، رغم اعترافهم بها. ويذكرُ لوسوردو في هذا المضمار، مثالا لسيّد أبيض أحضر معه من المستعمرات، عبده باعتباره غرضا منقولا أو قطعة من ممتلكاته الخاصّة. وقد أثار ذلك جدلا في إنجلترا سنة 1772. وذلك بعد أنْ توجَّه العبد جيمس سومرست (James Somersett) إلى القضاء ليتحرّر من سيّده. عندها، اتّضحت معالم الحريّة الليبراليّة والتغيّرات السياسيّة والاجتماعيّة. فأصبحت مؤسّسة العبوديّة لاحقا، لاغية قانونا في إنجلترا سنة 1772، وقد حظيت بتكريسها القانونيّ والدستوريّ.

ما يرمي إليه لوسوردو إذن، هو نقد النُظم الليبراليّة التي تدّعي ضمان الحقوق والحريّات، وفي الآن ذاته تعدّ الأشد ظلما وبطشا تُجاه الطبقات المختلفة. فلا يضع الفلاسفة الذين انتصروا للحريّات تصوّرا حاسما تُجاهَ مُشكل العبوديّة في عصرهم. ودافع جون لوك على سبيل المثال، عن حريّات الأفراد ضدّ السلطة المطلقة للملكيّة ولكنّه في الوقت نفسه ينفي حريّة العبيد ويضفي الشرعيّة لبقاء مؤسّسة العبوديّة. وقد كان الفيلسوف الفرنسيّ جان بودين (1530-1596)، نَصيرًا للتّسامح الدينيّ وناقدا للعبوديّة، مُدَافِعًا في السياق نفسه عن الملكيّة المطلقة للدّولة ولاستمرار السلطة الأبويّة وسيادة قوانين الطبيعة.

وقد استشهد لوسوردو بتشبيه سميث ولوك وماندفيل للعمّال بالدّواب. ويعود تشبيه رواد الليبراليّة العمال بالحيوانات، إلى تجريد الطبقة العاملة من الأبعاد الإنسانيّة. وثمّة عدّة نصوص لأعلام الليبراليّة شاهدَة على تشبيه العبيد بأبشع النعوت. بقيت العبوديّة مستمرّة داخل المجتمع، رغم إلغائها رسميًّا. وقد قَارَن بجامين فرانكلين (1844-1917) عمَّال المناجم في اسكتلندا بالسّود، وبذلك تواصلت «آثار» العبوديّة في أوروبا[16]. وينتقلُ لوسوردو إلى ليبراليّ آخر، وهو آدام سميث في كتابه محاضرات في الأحكامLeçons sur la jurisprudence (1763-1764) ، ويتساءل هل تنبني كلّ علاقات العمل على الحريّة؟ ويقودهُ هذا السؤال إلى استنتاج بيّن وهو من الصعب اعتبار الخدم رجالا أحرارا، وفقا لآدام سميث. فللسيد الحقّ في تأديب خادمه برحمة، ولا يعدّ ذلك قتلا إذا مات أثناء تأديبه، إلّا إذا قتله بسلاح. بذلك، يضمّ الخدم والعبيد في نفس المنزلة.

إجمالا، يُقدّم لوسوردو في كتابه الليبراليّة تاريخ مضاد، الجانب المظلم لهذا التوجّه، الذي يذهبُ إلى عكس ما جاء للدّفاع عنه. يشكك في الأيديولوجيا الليبراليّة وفي أغلب مفاهيمها المركزيّة، مُتمعّنًا في تاريخ الفكر الليبراليّ. وتعتبرُ الليبراليّة عند لوسوردو تقليدا فكريًّا يلتقي فيه تمجيد الحريّة بتمجيد العبوديّة. إلى جانب، استعباد الطبقة العاملة والهيمنة عليها واستغلالها في البلدان الأوروبيّة. ويتّخذُ الثورة الإنجليزيّة (1688-1689) مثلا على ذلك وهي التي لم تُلغ احتكار العبيد. ولا يُمكنُ، حسب لوسوردو، التوفيقُ بين الحريّة والعبوديّة، وبين التحرر والاضطهاد. والليبراليّة، من منظوره، هي تمثيلٌ إيديولوجيّ للنظام الرأسماليّ والطبقة الرأسماليّة. وبمقتضاها، يضفي النفعيّ والاقتصاديّ الشرعيّة على اللّاشرعيّ والإنسانيّة على اللّاإنسانيّ.

صفوة القول، يختلف نقد لوسوردو لليبراليّة عن النقد الماركسيّ المطروح في الإيديولوجيا الألمانيّة، وكأنَّه يحرّر نفسه من سطوة ماركس وإنجلز. فقد ركزّ ماركس على النموذج الألمانيّ في فترة الحرب العالميّة الثانية، مُنهَمًّا بتشريح المفاهيم الليبراليّة وتفكيكها لاسيّما الحريّة. فهي فرضيّة اجتماعيّة، وبحث في حقوق الإنسان. ومنه، ينقد مفهوم الحريّة الليبراليّ، لأنّها قدرة الإنسان على تحقيق ذاته انسجاما مع محيطه وواقعه، ولا يمكن أن تتحقّق هذه الحريّة فرديّا. أمّا لوسوردو فهو ينقدُ الليبراليّة، من خلال عودته إلى النُظم الليبراليّة الكبرى ولأهمّ المنظّرين لها، كاشفا مُضمراتها.

4- في الصراع الطبقيّ، والنضال من أجل التحرّر:

“في خضم الأزمة الاقتصاديّة المؤديّة إلى تفاقم الاستقطاب الاجتماعي وإحياء ذكرى الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين، والذي حكم على ملايين الأشخاص بالبطالة وانعدام الأمن… ظهرت مقالات تُشير إلى «عودة الاقتصاد» وأصبح الصراع الطبقيّ أقلّ توترا. فهل اختفى إذن؟ في منتصف القرن العشرين، انتقد رالف دارندورف بشدّة مذهب نظرية ماركس حول الصراع الطبقيّ. فقدت الملكيّة أيّ تأثير وحلّت محلّها الجدارة، ممّا جعل الوضع الاجتماعيّ للشخص يعتمد على تحصيله التعليميّ”[17]. ويقودنا لوسوردو بهذا القول، إلى التساؤل حول اختفاء الصراع الطبقيّ. ويبرّر الفيلسوف تغييبها في المشهد العالميّ والفكريّ إلى جدارة الرأسماليّة في علاقة بالصراع الطبقيّ. بمعنى أدقّ، ووفقا لعبارته «تهدئة الصراع الطبقيّ» من قِبَل دولة الرفاهيّة التي تطوّرت في الغرب منذ 1945 وتحديدًا بعد الاقتصاد الكنزي (Keynesian economics)[18]. وينطبق هذا القول على أوروبا الغربيّة، في مقابل فشل الولايات المتحدّة في إخفاء الصراع الطبقيّ. وسؤال لوسوردو، في هذا المنعرج، ليتعمّق أكثر في تحليله، هو هل أنَّ ظهور دولة الرفاهيّة هو نتيجة حتميّة لاتّجاه متأصّل في الرأسماليّة، أم هل هو نتيجة للتعبئة السياسيّة والاجتماعيّة من قبل الطبقات؟

برزت دولة الرفاهيّة في أوروبا بعد الحربين العالميتين والنكوص الفاشي، فصارت معقلا للنقابات العماليّة لإعادة هيبة الدولة ورفع شعارات الحريّة. أمّا في أمريكا فالأوضاعُ مرعبة، يذكرُ لوسوردو ما ذكره عالم الاجتماع السويدي جونار ميردال حول التجارب التي تُجرى على الناس في أمريكا.

واعتمدت الحكومة في ستينات القرن العشرين أكثر من400 رجلا ملونا[19] في ألاباما كفئران تجارب بشريّة وعيّنة للدّراسة[20]. في المقابل، يُضيفُ لوسوردو أنّ العقود الممتدّة من نهاية الحرب العالميّة الثانية إلى تهدئة ناجحة للصّراع الطبقيّ. وذلك في فترة انفجار الثورة المناهضة للاستعمار، وتحديدا شعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينيّة. وهو نضال الأمريكيين من أصل إفريقيّ لإنهاء نظام الفصل العنصريّ والتمييز. نتساءلُ ماذا يقصدُ لوسوردو بتهدئة الصراع الطبقيّ؟ أيعني ذلك دحضهُ لنظرية ماركس؟ 

يبحثُ لوسوردو في الأشكال المختلفة للصراع الطبقيّ ولتحرير الطبقة العاملة. لم يشرح ماركس وإنجلز وفقا له الأطروحة المركزيّة في فكرهما بشكل أساسيّ. وهذا جليّ منذ كتاباتهم المبكرّة، رغم أنَّها حقّقت نتائج هامّة كإسقاط النظام القديم وإلغاء العبوديّة. لكنّها، لم تكن النتائج المطلوبة مثل التحوّل السياسيّ والاجتماعيّ الجذريّ. والأهمُّ عند لوسوردو هو الذهاب إلى ما هو أبعد من «التحرّر السياسي» الذي تحقّق نتيجة للثورة البرجوازيّة.

يرومُ لوسوردو الوصولَ إلى فكرة بعينها، وهي «تحرر الطبقة العاملة»، «تحررها الاقتصاديّ»، و«إلغاء السيطرة الطبقيّة»، لبلوغ التحرّر العالميّ. ويعودُ لوسوردو إلى تدخّلات ماركس وإنجلز حول «تحرير ايرلندا» التي عانت خمسة قرون من الاضطهاد. نادى الفيلسوفان بالتحرّر الوطنيّ. ولم تكن المواجهة نحو تحرير البروليتاريا فقط، إنّما صوب تحرير الشعوب المضطهدة. ويبرزُ ذلك جليّا في الخطاب الافتتاحيّ للجمعيّة العالميّة للعمال التي تأسست سنة 1864، يقول فيه “يا عمال العالم اتّحدو!”[21]. إلى جانب ذلك، يؤكّد لوسوردو على النضال من أجل تحرير الأمم المضطهدة، لأنَّه لا يقلّ أهمّيّة عن النضال من أجل تحرير البروليتاريا.

ولا يتحقق ذلك، إلّا بتطوير الطبقة البروليتاريّة أداةً للعمليّة التحرريّة التي تفكّك قيود الطبقة الرأسماليّة. لم يصل ماركس وإنجلز حسب لوسوردو إلى هذا المنهج النظريّ دون تقلبّات. ويقصدُ تحليل ماركس للوضع المأساويّ في الهند في كتابه بؤس الفلسفة من جهة، فهم الصراع الطبقيّ بين العمال أنفسهم من جهة أخرى. ويذكرُ لوسوردو مثال العمال الذين ماتُوا في جزر الهند الشرقيّة والذين ذهبوا ضحايا لتوفير الرخاء والرفاه لبقية العمال المنشغلين في نفس الصناعة في إنجلترا. يذكر لوسوردوا البرجوازيّة البريطانيّة مسؤولةً عن تشتت جهودهم، ولن تبلغَ نتائج نضال الهنود. يلتقي هذا الموقف، بما دوّنه لوكاتش في التاريخ والوعي الطبقيّ، إذ يقول: “إنّ إمكانيّة المنهجيّة الماركسيّة هي نتاج صراع الطبقات، مثلها مثل أية نتيجة ذات طابع سياسيّ أو اقتصاديّ. إنّ تطوّر البروليتاريا، هو أيضا، يعكس بنية التاريخ الداخليّة للمجتمع”[22].

هكذا، يكون الصراعُ الطبقيّ نتاج المنهجيّة الماركسيّة التي بدت عارية أمام لوسوردو، فهو يقول ما فعله “معبد الماديّة التاريخيّة”-ويقصدُ ماركس- هو تطوير المادّة الطبقيّة بوصفها قاعدة لإنتاج الموارد الضامنة للحياة، وتأسيس العلاقات الاجتماعيّة، وخير مثال على ذلك تحليله للوضع الإيرلنديّ. ويستشهد لوسوردو في ذلك برسالة ماركس سنة 1870 والتي بدت له أكثر تعمقًا في الوضع الإيرلندي. يقول ماركس في مسألة الأرض الايرلانديّة شكلا أساسيًّا للمسألة الاجتماعيّة. وهي مسألة وجود، حياة أو موت بالنسبة إلى غالبيّة الشعب الإيرلنديّ وهي في الآن نفسه مسألة وطنيّة. لذا، لا تنفصل القضايا الاجتماعيّة عن القضايا الوطنية[23]. يُفضي تحليل ماركس إلى أنّ الصراعات الطبقيّة والأوضاع الاجتماعيّة هي شكل من أشكال النضال الوطنيّ.

ويذهب ماركس حسب الفيلسوف الإيطاليّ إلى ما هو أبعد في مقال نشره سنة 1859، وهو متعلّق بالإبادة الجماعيّة في ايرلندا المستعمرة، والحرب الوحشيّة التي خاضتها بريطانيا ضدّ المزارعين. حكمت بريطانيا السّوق العالميّة وفرضت العبوديّة على ايرلندا، التي أصبحت بمقتضى ذلك سوقًا يوفّر اللحوم والصوف بأقلّ الأثمان للسوق البريطانيّة[24]. بذلك، يكون الشعب الإيرلنديّ خاضعًا لسلطة الحياة والموت وضحية للوضع الذي يعيشه.

لابدّ إذن، أنْ نجدَ حلاً للصّراع الطبقيّ من جهة لوسوردو، فهو مفهوم ملغز على المستوى النظريّ، ويتّخذ أشكالا متعدّدة ومتغيّرة على المستوى التطبيقيّ. بمعنى، لم يحدّد ماركس العلاقة بوضوح لا لبس فيه بين الصراع الطبقيّ والنضال الوطنيّ، وبين المسألة الاجتماعيّة والمسألة القوميّة. ولم يجد صيغة ناضجة تميّز بين الجنس والنوع. فقد ركزَّ اهتمامه على التضامن مع حركات القوميَّات المضطهدة، بوصفهم أبطالا لصراع طبقيّ كبير قصد التحرّر. ألا يجدرُ البحث في جنس يُعاني الاضطهاد الاجتماعيّ، أم أنَّه خارج الصراع نظريّا؟

 يتحدثُ لوسوردو عن النساء المضطهدات وحربهم قصد التحرّر، الاضطهاد العائليّ، الذي يمارسه الرجل، مُستشهدا، بنصّ نشره إنجلز سنة 1884. إذ يقول الفيلسوف الإيطاليّ، توفي منذ ماركس سنة 1883، ولكن في وقت مبكر من سنة 1845-1846، بقيت الأسرة الأبويّة على حالها، وتكون الزوجة والأطفال عبيدا للزوج. وينتقد في بيان الحزب الشيوعيّ البرجوازيّة التي اختزلت البروليتاريّ في أداة عمل وإنتاج. والبرجوازيّ نفسه يرى زوجته مجرّد أداة للإنتاج[25]. حينئذ، يقدّم المجتمع الرأسماليّ العبوديّة بطرق مُختلفة ومتعدّدة. والطبقاتُ ذاتها تفرض سلطتها الداخليّة. وفي هذه النقطة، يفهم لوسودرو الأطروحة التي صاغها إنجلز معوّلا على جوزيف فورييه وقد تمسّك بها ماركس، وقاعدتها تحرّر المرأة مقياسًا لتحرّر كلّيّ.

إجمالا، يُلَخِصُّ لوسوردو الصراعات الطبقيّة من أجل التحرّر. وهي تهدف في نضالات تحرريّة إلى تغيير جذريّ في تقسيم العمل وعلاقات الاستغلال والاضطهاد في البلد الواحد ودوليّا وأسريّا. وقد وضع ماركس وإنجلز نفسهمَا في مأزق عندمَا زجَّا بالصراع الطبقيّ اليوميّ في سياق الاضطرابات الجارية، وتحديدًا هزيمة العمّال الثوريين الذين انتفضوا في باريس سنة 1848، فضلا عن الجهود اليائسة في بولندا وإيطاليا. يشهد العالم تطورا هائلا في الصراع الطبقي السياسيّ، وسيتّخذُ النضال السياسيّ بمقتضى ذلك أشكالا مُتنوعة. إلى جانب ذلك، هناك حروب طبقيّة، وحروب عالميّة، وهناك ثورات وصراعات وأزمات تاريخيّة متعاقبة، تتقاطع وتتقارب.

5- خاتمة:

 ما يُريدُ لوسوردو توضيحه هو شكليّة الليبراليّة بالأساس، بمعنى أدقّ الحريّة بوصفها شعارا شكليّا، لا مُحايثة فيه. إذْ أكَدَّ الفيلسوف أنَّ العمال في أغلب البلدان الرأسماليّة والليبراليّة ليسوا أحرارا، محرومين من أبسط الأشياء والفقرُ يفرضُ عليهم سلطه. لا يُمكنُ للتقليد الليبراليّ برمته ضمان حريّة الطبقة العاملة، بل يزيدُ من إنتاجيتها قصدَ استغلالها والزجّ بها في سراديب العبوديّة. وهنا يقتبسُ لوسوردو بعض مقاطع أعلام الليبراليّة الذين يعتبرون ممارسة الجنس بين السود والقردة مُتاحة وممكنةً لخلق طبقة جديدة من العبيد. ويعتبرُ لوسوردو ذلك مُرعبًا ووقحا في آن واحد، لأنَّ الدعوة إلى التحرّر ونفيه هي، في نهاية المطاف، انفصامٌ فكريّ.

والحقّ، أنَّ عمليّة التحرّر بالنسبة إليه، لا تَضمنها النُظمُ أو المذاهبُ أو التصوّراتُ الشكليّة، وإنَّما هي عمليّة نضال قصد التحرّر. أنْ نناضل هو ألا نكون عبيدا، وألا نسقطَ في سطوة نُظمٍ تجعلنا كذلك بأشكال وطرق جديدة. لا يُمكنُ أنْ نكون رعايا ليبراليون، أو أن نُشيد بما يقدّمونه من شعارات مُفرغة المضمون والتطبيق. وفي هذه النقطة، يَلُوم لوسوردو ماركس، في كونه لم يدرك خطّة الليبراليّة الضمنيّة وهي نفي الحريّة، وبقيَ مُنهَّمًا بالثورة البرجوازيّة عمادا للتحرّر السياسيّ. فهو أوحدُ النظر والزاويّة ولم يفهم ضمنيّا ما هو مضادٌ. ربّما لأنَّ ماركس الشاب لم يكن على اطلاع كبير بالتّاريخ القديم للولايات المتحدّة الأمريكية.


[1]– The Hegelian International Association Hegel-Marx for Dialectical Thought.

[2]– تواريخ الكتب المذكورة هي تواريخ ترجمة الكتب إلى اللّغة الفرنسيّة وليست تواريخ النّشر باللّغة الأصليّة.

[3]– صدر هذا الكتاب باللّغة الإيطاليّة سنة 2002.

[4]– أندريه لالاند، الموسوعة الفلسفيّة، منشورات عويدات، بيروت-باريس، تعريب خليل أحمد خليل، المجلّد الأوّل، 2001، ص725-726.

[5]– جون كالديول كالهون (782-1850) هو رجل دولة ومنظّر سياسيّ أمريكيّ ونائب رئيس الولايات المتحدة الأمريكيّة في فترة 1832إلى 1832 لفترتين، الأولى بين عامي (1825-1829) وعمل فيها نائبًا للرئيس جون كوينسي آدامز، والثانية من 1829 حتّى استقالته سنة 1832 وعمل فيها نائبا للرئيس أندرو جاكسون. دافع عن الرقّ، وساهم في الدفع بمفهوم حقوق الأقليّات في السياسة. بدأ مسيرته السياسيّة قوميّا ومحدثا ومؤيدا لوضع حكومة وطنيّة قويّة ورفض التعريفات الوقائيّة. وانقلبت آراؤه بحلول أواخر عشرينيات القرن التاسع عشر، وأصبح من أبرز المؤيدين لحقوق الولايات وتحديد دور الحكومة…

[6]-Voir: Domenico Losurdo, Liberalism A counter- History, Translated by Gregory Elliott, Verso, London New York, 2011(2006), p1.

[7]– انظر رمزي زكي، الليبراليّة المتوحشة ملاحظات حول التوجهات الجديدة للرأسماليّة المعاصرة، الهيئة المصريّة المعاصرة، القاهرة، 2007، ص32.

[8]– لم يكن لوسوردو الوحيد الذي نقد السياسة الليبرالية نذكر مثلا: تشارلز تايلور Charles Taylor ومايكل والتزر Michael Walzer.

[9]– Voir, Michael BIZIOU, Définir le libéralisme, un enjeu politique, Publié dans laviedesidees.fr, le 26 septembre, 2013, p2.

[10]– جيمس ماديسون الابن، (1751-1836) رابع رئيس للولايات المتحدة من 1809-1817، وعرف بأبّ الدستور. وله دور رئيسيّ في وضع دستور الولايات المتحدة سنة 1787، بالتعاون مع ألكسندر وهاميلتون وجون جاي وكان من بين الزعماء الرئيسين المؤيدين للدستور في الصحف الفيدرالية سنة 1788.

[11]– Voir: Domenico Losurdo, Liberalism A counter- History, Op. cit, p38.

[12] Domenico Losurdo, Liberalism A counter- History, Op. cit, p38.

[13] Voir: Ibid., p45.

[14] Voir: Ibid., id.

[15] Ibid., p43.

[16] Ibid., p 67.

[17]– Domenico Losurdo, Class Struggle Apolitical and Philosophical History, Translated by Gregory Elliot, Series Editors, United Kingdom, p1.

[18]– النظرية الكنزية في الاقتصاد: أسّس هذه النظريّة جون مينارد كينز، وهي تركّز على القطاع العامّ والخاصّ. أي الاقتصاد المختلط. ويرى أنّ اتّجاهات الاقتصاد الكلّيّ تحدّد إلى حدّ بعيد سلوك الأفراد على مستوى الاقتصاد الجزئيّ.

[19]– هو مصطلح تاريخي لشخص لون بشرته ليس أبيضا. نشأ في الولايات المتحدة ويرتبط بها أساسا، واعتمد أيضا في العالم الإنجليزيّ. يدخل في الولايات المتحدة في التعريفات المختلفة لعكس الرجل الأبيض، بما في ذلك الأمريكيين من أصل إفريقيّ، والأمريكيين الآسيويين، والأمريكيين من جزر المحيط الهادي، والأمريكيين متعددي الأعراق، وبعض الأمريكيين اللاتينيين. ويستخدم هذا المصطلح في الولايات المتحدة في التجارب المشتركة للعنصريّة النظاميّة التي واجهتها بعض المجتمعات.

[20]– Voir Domenico Losurdo, Class Struggle Apolitical and Philosophical History, Translated by Gregory Elliot, op. cit, p3.

[21]– Ibid., p8.

[22]– لوكاتش، التاريخ والوعي الطبقي، ترجمة الدكتور حنّا الشاعر، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت-لبنان، ط2، 1982، ص30.

[23]– Voir: Domenico Losurdo, Class Struggle Apolitical and Philosophical History, Translated by Gregory Elliot, op. cit, p34.

[24]– Voir Ibid., p38.

[25]– Voir Ibid., p43.

مقالات أخرى

أيّ نموذج إيتيقي للإنسانيّة المعاصرة

الفروق الثقافية في التعليم:

قراءة معرفيّة في سوسيولوجيا التّجربة المدرسيّة:

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد