ملامح السّرد المقاوم

 

ملخّص:

تتأمّل هذه الدراسة السرد الروائي المقاوم، باحثة عن أسسه وآلياته باعتباره أداة من أدوات النظرية الثقافية المقاومة، كان لها دور كبير في مناصرة الشعب الفلسطيني والتعريف بقضيته. ولعلّ ذلك يدخل في إطار إفلات الخطاب الأدبي من قبضة الكولونياليّة وتحوّله إلى أداة مقاومة. ونتوقّف في هذا الإطار عند فعل المقاومة السردية باعتباره فعل حراسة للذاكرة ونبش في جرائم المستعمر من جهة و فعل رفع معنويات ومساندة للنفس الكفاحي المتأصل في الشعب الفلسطيني من جهة ثانية. وقد حاولنا تضييق المدوّنة المدروسة لشساعة الموضوع، واتّخذنا بعض الروايات العربية والفلسطينية مصدرا.

الكلمات المفاتيح: السرد – المقاومة – الكولونياليّة – الذاكرة – الثّقافة.

Abstract:

This study examines the resistance narrative, searching for its foundations and mechanisms as itis a tool of the cultural theory of resistance, which played a major role in supporting the Palestinian people and introducing their cause. Perhaps this falls within the framework of literary discourse escaping the grip of colonialism and turning it into a tool of resistance.

  In this context, we focus on the act of narrative resistance as an act of guarding memory and excavating the crimes of the colonizers on the one hand, and an act of raising morale and supporting the fighting spirit inherent in the Palestinian people on the other hand. We tried to narrow down the studied blog to the breadth of the topic, and we took some Arab and Palestinian novels as a source.

Keywords: Narration – colonialism – Resistance – memory – cultural.


1- مدخل:

شّكل البعد المقاوم وجها من وجوه الرّواية العربية المعاصرة. فلقد مال عدد هام من الرّوائيين إلى سرد ملتزم، مدافع عن قضايا الشعوب وطموحاتها العريضة، معاد للظلم والقمع والاحتلال، منتصر للقضيّة الفلسطينيّة، في مختلف مراحل الصّراع مع المحتلّ. فهذه القضية لم تغب عن الرّواية العربية والفلسطينيّة، رغم التّحوّلات المختلفة التي يمرّ بها العرب والعالم.

ورغم اختلاف التّجارب، يمكن القول إنّ منوال هذا السرد المقاوم قد اكتمل وبات من الممكن تحديد خصائصه الجماليّة والدلاليّة. فلهذا السرد نواميسه التي تتكرّر في مختلف التّجارب، مشكّلة خطابه المقاوم. فليست الرّواية المقاومة مجرّد حبكة أحداث أو نظام لغوي إيديولوجي فحسب ولكنّها حبكة دلاليّة أيضا، تحقّق غاية هذا الأدب الذي لا تدفعه النّظريّات الشكليّة أساسا، بل همّه إبلاغ صوت القضيّة والدّفاع عنها.

هذه الحبكة نطمح في هذا البحث إلى الوقوف عند أبرز ملامحها من خلال بعض النماذج الرّوائيّة، لكنّ الخوض في هذا الأمر يتطلّب منّا قبل ذلك النظر في نقطتين. فلا بدّ أن ننظر في انبثاق روح الثقافة المقاومة في ظلّ توظيف المستعمر للأدب وتجنيده له في دعايته الواسعة. فنحن مع أدب يتمّ تحويل وجهته إيديولوجيّا من هذا الطرف أو ذاك لخدمة موقفه ودعمه. أمّا النقطة الثانية التي نتناولها فتتّصل بالسرد الأدبي باعتباره وجها من وجوه هذه المقاومة الثقافيّة الأدبيّة. فكيف يبدو الأدب عرضة لتحويل الوجهة الإيديولوجيّة؟ وكيف يكون السرد مقاوما؟

2- الأدب بين الاستعمار والمقاومة:

شكّل الأدب وجها من وجوه الحرب بين القوى الاستعمارية والشعوب المستعمرة الخاضعة. فهو أداة لا تغيب عن المعركة. نجده حينا في صف الكولونياليّة وحينا في صفّ المقاومة. فكلّ يوظّفه لصالحه وهو ما يجعلنا نتحدّث عن تحويل وجهة.

لقد حرص الخطاب الاستعماري على خوض لعبته الأدبية، موظّفا الأدب من خلال أعمال تبرّر الاستعمار وتؤيّده وتجلب له الأنصار. فلقد ” وظفه المستعمر توظيفا ماهرا وماكرا في لغته وفي ثقافته وفي رسم صورة دونية وهامشية للطرف الآخر…”[1]، وهو ما أفرز مصطلح الأدب الكولونيالي الذي يحيل على الأدب المساند للخطاب الاستعماري والداعم له، وهو نابع عن خيال ذي نزعة استعماريّة يعبّر عن طموحات القوى الاستعمارية وأحلامها التوسعية. ” فلا شكّ تاريخيّا أنّ الخيال الاستعماري، تعبير قديم جدّا عن خيال امبريالي شاسع…”[2] وهو “يعتبر تمجيدا للاستعمار…”[3].

وفي المقابل فللشّعوب المستعمرة الضّعيفة أدبها الذي ترفعه في وجه مستعمريها وتحرّض به جماهيرها. وهو ما يمكن أن نسميه أدب المقاومة الذي تعاظمت أهميته ودوره، وبات يحظى باهتمام جديد خصوصا بعد ظهور دراسات ما بعد الكولونيالية، المتشبّثة بمحو الخطاب الكولونيالي من الأذهان لما فيه من مغالطات ونوايا إذلال للشعوب المحتلة. لقد تشكّل خطاب ما بعد الاستعمار لمحو آثار الخطاب الاستعماري والتصدي لخدعه ومغالطاته وإساءاته إلى ثقافات الشعوب وقضاياها. فكتاب ما بعد الاستعمار ” يحاولون بطريقة ثقافية إعادة تأهيل هويّة وثقافة شعوبهم المنسية ويريدون إلغاء فكرة تفوق القيم الثقافية الأوروبية المفروضة منذ قرون على الشعوب المستعمرة…”[4] وهو بذلك يولي عناية لفضح الخطاب الاستعماري وكشف مغالطاته. ” فلا يخفى أنّ هذا اللون من الأدب يتقصّد في المقام الأول القيام بالمقاومة الثقافية بحسب تعبير إدوارد سعيد بديلا من المقاومة العسكرية”[5]. فالكتّاب يحملون هموم الماضي وآلامه، معبّرين عن الرغبة في محاسبته وتجاوز آثاره، إذ “يحمل كتاب العالم الثالث في مرحلة ما بعد الامبريالية ماضيهم في أعماقهم ندوبا لجراح مذلة وتحريضا على خلق ممارسات مختلفة ورؤى للماضي تملك الطاقة على التنقيح وتنزع نحو مستقبل ما بعد استعماري”[6].

هذا الجدل الذي وسم الأدب تجدّد في قضيّة العصر، فالمحتلّ بدوره قد وظّف الأدب بشكل لافت، ممارسا دعاياته. فلقد ” كان الأدب الصهيوني جزء لا يتجزّأ ولا غنى عنه، استخدمته الصهيونية السياسية على أوسع نطاق، ليس فقط لخدمة حملاتها الدعاوية بل أيضا لخدمة حملاتها السياسية والعسكرية” [7]. فهذا الأدب سليل الخطاب الاستعماري التوسّعي يردّد فكره الزائف ويعمل على محو الحقائق ومهاجمة الانسان العربي والفلسطيني. ولكنّ الأدب الفلسطيني والعربي لم يتخلّف عن الرّكب وحاول التّصدّي للاستعمار ولأدبه، معايشا له ومنتفضا عليه، متزامنا معه، تاركا بذلك لوحات أدبية ستظلّ شاهدة على عقود الاحتلال وما تخلّلها من ظلم واضطهاد ومجازر.

هذا الجهد شكّل مدوّنة شاسعة للثقافة المقاومة، تنضوي تحتها في الحقيقة أجناس مختلفة من الأدب والإبداع ولا يمكن نسيان بعضها. فهي تجمع الفنون التشكيلية والشعر والنثر والموسيقى والسينما وغير ذلك، وهي تمتدّ عبر أجيال مازالت تتدافع، مسجّلة إسهامها ونضالها. ولكنّنا نقصر هذه الدّراسة على مجال السّرد وعلى بعض التّجارب نظرا لضيق المجال من مختلف الأوجه. فكيف يكون السّرد فعلا مقاوما؟ وكيف ينخرط في معركة الكتّاب من أجل محو جراح الخطاب الاستعماري؟

3- السّرد خطابا مقاوما:

يشكّل السرد أداة من أدوات النظرية الثقافية المقاومة، فهو لا ينفصل عن واقعه بل يتبنّى مشاغل عصره وقضاياه، حاملا مطالبه ومواقفه. فهذه الشعوب الضعيفة التي تعرّضت إلى الاستعمار وذاقت ظلم الخطاب الإمبريالي وتعاليه وغطرسته وأنصتت إلى مزاعمه، احتاجت إلى سرد مقاوم مضادّ للكولونيالية لتدافع عن هويّتها وعن حقوقها المسلوبة ولتكشف المسكوت عنه. “فالقصص أيضا تغدو الوسيلة التي تستخدمها الشعوب المستعمرة لتأكيد هويّتها الخاصّة “[8]. وهي كذلك الوسيلة التي تعبّر بها عن مشاغلها. وهو ما يجعل السلط القمعية بمختلف أنواعها تراقب السّرد بمختلف أنواعه وضروبه، التخييلي وغير التخييلي، مانعة بعض الأخبار والحكايات والتفاصيل، مكذّبة لها، مقابل إبراز أخرى أو اختلاقها. فكثيرة هي النصوص السرديّة التي تعرّضت للمنع والحجب. “فالقوّة على ممارسة السرد أو على منع سرديات أخرى من أن تتكوّن وتبزغ لكبيرة الأهمية بالنسبة للثقافة وللامبريالية”[9].

إنّ السّرد المقاوم يعدّ قوّة تعبيريّة مؤثّرة، حطّمت أساطير القوى الاستعمارية وفضحتها ورفعت معنويّات الشّعوب الرّازخة تحت الاحتلال والعنف والتّسلّط وقد شكّلت الرواية جنسا سرديا، لعب دورا مهما في تحقيق هذه الغاية المقاومة، لافتة الانتباه إلى قضايا كثيرة، مؤثّرة في شعوبها وفي الآخر المستعمر، مبلورة رأي عام جديد، لا يثق في مزاعم الخطاب الكولونيالي “فالسرديات الكبرى للتحرّر والتّنوير قد جنّدت الشعوب في العالم المستعمر وحفّزتها على الانتفاض وخلع نير الامبريالية. وخلال هذه العملية هزّت تلك القصص وأبطالها العديد من الأوروبيين. فقاموا بدورهم بالصراع من أجل سرديّات جديدة للمساواة والروح الجمعية الإنسانية”[10].

وقد انخرطت الرواية العربية في هذا المسعى. فاهتمّت بتصوير الظلم والقمع وتابعت التجارب السياسية المختلفة، وتبنّت صوت الشعوب العربية في تطلعاتها الداخلية وفي قضاياها القومية، مهتمّة بالصراع العربي الإمبريالي في محطاته المختلفة، بما فيها من نكسات وانتصارات، وما فيها من أحلام وأوهام. فلقد انصرفت روايات عديدة إلى هذا الماضي الاستعماري تنبش حكاياته وتعيد كتابته روائيا إذ “وجد السرد في تلك التجربة وتداعياتها مادة خصبة، أصبحت جزء حيا في العوالم التخييلية للرواية العربية”[11].

ولقد واصل الخطاب الرّوائي العربي مواكبته لقضايا الإنسان العربي ومن أبرزها القضية الفلسطينية، متحمّلا بدوره مهمّة المقاومة الثّقافيّة للمحتلّ الغاشم. وبذلك شكّلت الرّواية وجها آخر من وجوه المقاومة، وما أعمال غسّان كنفاني وأميل حبيبي وتوفيق فياض وغيرهم من الروائيين الفلسطينيين والعرب غير نماذج لهذا التّوجّه. فهؤلاء وغيرهم ممّن يواصلون الجهد المقاوم، يتصدّون على طريقتهم للخطاب الاستعماري المعادي الذي يتّخذ لنفسه قنوات كثيرة منها الأدب.

ولكنّنا في هذه الدّراسة، لا نستعرض هذه الأعمال ولا نقدّم لها جردا تاريخيّا، بل نمضي في التّفكير في السّرد المقاوم أو السرد المناصر لفلسطين، باحثين في روحه وفي أعماقه، محتفلين بدور هذه النّصوص الرّوائيّة ومتيحين للراغبين في كتابة نصوص سرديّة مقاومة مادّة تساعدهم على كيفيّة بثّ النبض المقاوم في تجاربهم. فليس هذا السرد خطابا تحريضيّا على الفعل المقاوم بشكل مباشر لكنّه مقاومة تستهدف العقول وتقدّم المناصرة الفكريّة التي يحتاجها الشّعب الفلسطيني وتعرف كيفيّة زرع قضاياه العميقة بين طيّاتها. فهذا الخطاب يكتب الصوت الفلسطيني ويقدّمه إلى العالم عبر هذا الجنس الأدبي. فكيف ينخرط السرد الرّوائي في الفعل المقاوم؟ وكيف يساند صوت السارد البندقيىة ويواجه هذه الآليات الحربيّة المتهاطلة على مدن وقرى فلسطين طوال عقود؟

4- الرّواية حارسة للذاكرة الفلسطينية:

يتولّى السرد المقاوم مهمّة التّصدّي للتّزييف المتعمّد للتّاريخ، قصد قلب الحقائق، جاعلا من مهامه التّصدّي للأساطير والأكاذيب الصهيونية، وهي أساطير ممنهجة يمارسها الساسة والإعلاميون ولم يتخلّ عنها الرّوائيون الصّهاينة أيضا.” فالرواية الصهيونية لا تضخّم الحقائق وتنفخها بالمبالغة ولكنها تخترعها أيضا… “[12]، على حدّ تعبير غسان كنفاني. فهي تردّد الكثير من الأكاذيب، أداة لتبرير الاحتلال ولإبراز عقدة التّفوّق الصهيوني.” فالمؤلف الصهيوني مطالب دون ريب بتبرير الاجتثاث. يختار إصدار حكم بعدم جدارة العرب بوطن…”[13].

هذا التّوجّه يتصدى له السرد الروائي العربي/ الفلسطيني المقاوم الذي يسعى إلى الدفاع عن الذاكرة ومقاومة النسيان، وهي مهمّة ضروريّة في ظلّ عالم اليوم، عالم تزييف الوقائع والحقائق والهويّات ومحو الآخر المختلف من كلّ الخرائط والدفاتر. لذلك يمارس خطاب التّذكير، حراسة للحقيقة وتذكيرا بما وقع. فالرّوائي المقاوم حارس الحقيقة المهدّدة بالمحو. ينخرط في خطابات مقاومة التزييف الرسمي للتاريخ.

لعلّ أبرز مظاهر هذا البعد العودة إلى المرجع والتقاط أحداث تاريخية مختلفة وهي أحداث مفصليّة هامّة أعاد السرد الرّوائي تخييلها وتشكيلها من جديد، متحمّلا مهمّة سرد المظلمة الطويلة ومستعرضا محطات مختلفة منها، مقحما بين طيّات روايته بعض الأحداث العالقة في الذاكرة الإنسانية. ولعلّ أبرز هذه الأحداث ما جرى في العام 1948[14].

فهذا التقسيم وما تبعه من تهجير، لا يكاد يغيب عن هذه الرّوايات، فمازالت أحداثه نابضة في الذاكرة الحية، تتناقله القصص والرّوايات المؤيدة للشعب الفلسطيني، التي تستعيد تلك القرارات المشؤومة، التي أدّت إلى قيام الكيان على الأرض الفلسطينية، مذكّرة بالظلم الكبير.

يظهر هذا الماضي ذاكرة موجعة مثلما يتحدّث السارد في رواية عائد إلى حيفا. فالماضي ينهض مؤلما “فجأة جاء الماضي حادا كالسكين…”[15].

وهو أيضا “الماضي الراعب بكل ضجيجه”[16]. فهو ماض مرتبط بنزول المستوطنين إلى المدينة وبداية احتلالها:

“…ولأوّل مرّة منذ عشرين سنة، تذكّر ما حدث بالتفاصيل وكأنّه يعيش مرة أخرى. صباح الأربعاء 21 نيسان عام1948.

كانت حيفا مدينة لا تتوقع شيئا رغم أنّها كانت محكومة بتوتر غامض. وفجأة جاء القصف من الشرق، من تلال الكرمل العالية. ومضت قذائف المورتر تطير عبر وسط المدينة لتصبّ في الأحياء العربيّة. وانقلبت شوارع حيفا إلى فوضى واكتسح الرعب المدينة التي أغلقت حوانيتها ونوافذ بيتها”[17].

وعن نفس اللحظة التاريخية يتحدّث رجل من يافا، متذكّرا “…أنا من يافا من سكان المنشية وفي حرب1948 هدمت قنابل المورتر بيتي. لست أريد أن أروي لك الآن كيف سقطت يافا وكيف انسحبوا. أولئك الذين جاؤوا لينجدونا لحظة المأزق…”[18].

في هذا الإطار يأتي صوت التاريخ متواطئا في رواية حنظلة لبديعة النعيمي، مصوّرا هذه المرحلة:

“تقسيم ثم وعد فانتداب فقيام دولة…انسحاب بريطانيا …صوت خبيث يتردّد…(هل سيكون هناك توترات بعد انسحاب البريطانيين … يجيبه أحدهم … سيتمّ إصلاح ذلك ببضع مجازر محسوبة…”[19].

هكذا افتك الوطن بسرعة وافتكّت البيوت واختطف الأهل:

“حرب لستة أيام… انكسار، استيلاء على بقية فلسطين، فلسطين أسيرة مذبوحة… انتظر… انتظر إنّه بيتنا، أبي يصرخ، أمّي تعتقل، إنّه أنا أصرخ خلف أمّي…أمّي…أمّي…”[20].

وعلى هذا النحو تكتب حفيظة قارة بيبان في روايتها العراء المرحلة على لسان غسّان الذي يروي بدايات التهجير:

“…و ظلّ جبل الكرمل جاثما، مثقلا بحزن الأرض يرقب ما جرى في ايار… فلقد جاؤوا عصابات غريبة هجمت بسرعة مرعبة. جراد أسود انتشر في الأفق. غلى الطريق. أخذوا يقفزون من شاحنة قدمت هادرة، انتشروا مصوّبين البنادق إلى الفلاحين العائدين إلى بيوتهم، صارخين: كاديما… كاديما…”[21].

لقد تردّد حدث الاجتياح وطرد الفلسطينيين مصوّرا لحظة قاسية عاشها هذا الشّعب ومذكّرا بالمظلمة.

ولا تخلو هذه الرّوايات من تذكّر لأحداث كثيرة جرت بعد ذلك في السنوات الأولى على غرار ما تذكره النعيمي ” فتتالى المذابح التاريخية ” مذبحة دير ياسين، قبية، كفر قاسم، بلدة الشيخ، الطنطورة، قلقيلية…”[22]. أو في العقود الأخيرة ومن ذلك ما نسجّله في رواية العراء من إشارة إلى أحداث هامة، على غرار حصار بيروت، الغارة على حمّام الشط، الاغتيالات المتتالية لقيادات منظّمة التّحرير الفلسطينية في تونس إلى غير ذلك من يوميّات الصّراع.

فعن إذاعة الشّرق الأوسط تنقل خبر اغتيال أبي جهاد في تونس:

“توقّفت الإبرة على موجات إذاعة الشّرق الأوسط أمام شحّ الأنباء في الإذاعة التونسية. كان صوت المذيع الجهوري يعلن الخبر: علمنا من مصادر موثوقة أنّه في اللّيلة الماضية السبت 16افريل1988الموافق لـ 1 رمضان 1408ه تسلّل كومندوس إلى العاصمة التونسية، حيث اغتالوا أحد أبرز رجال منظمة التحرير الفلسطيني خليل الوزير أبو جهاد في ضاحية سيدي بوسعيد”[23].

ولا تقصر الرّواية المقاومة كتابتها للذّاكرة على تخييل الاعتداءات الصّهيونية وكتابة العدوان بل إنّها تتوجّه نحو كتابة خيبة الفلسطيني من الموقف العربي. وهي خيبة تتكرّر كتابتها، من ذلك ما نجده في رواية بديعة النعيمي، مذكّرة بالموقف العربي الضعيف والمتخاذل والمنكسر، راسمة خيبة الشّعب الفلسطيني الذي كان يأمل كعادته تدخّلا عربيا يحميه ويتصدّى للتّقسيم ولاجتياح الأرض الفلسطينية ولكنّه خذل.

“في 14 ايار لعام1948 أعلن بن غوريون قيام دولتهم المزعومة. فأطلق كلّ منّا العنان لمخيلته ترصد دخول القوات العربية إلى فلسطين بعد خروج القوات البريطانية منها. كانت مخيلتنا ترسم على رمال آمالنا. الجيش اللبناني يدخلها من الشّمال غلى الجليل. ومن مرتفعات الجولان كنا نأمل أن تدكّ القوات السورية أبواب “كبلوتزدجانيا”. ومن الشّرق ستدمّر القوات الأردنية “مستعمرة أتزيون” ثم تحتلّ القدس. والقوات العراقية ستجتاز نهر الأردن والمصرية من الجنوب ستصل إلى تل أبيب ونمحو الكيان الصهيوني للأبد…”[24].

هذا الإحساس بالخذلان يظهر في رواية العراء من خلال مذكّرات غسان عبر استدعاء أبيات محمود درويش:

 “ندعى للرّحيل من جديد وقد سقط القناع

وصرخ محمود:

سقط القناع

فلا إخوة لك يا أخي

لا أصدقاء

لا صديق لا قناع”[25].

هذه اللحظة التّاريخيّة وهي لحظة ترحيل الفلسطينيين من بيروت إلى تونس عقب حصار بيروت تبدو لحظة حزينة. فهي لحظة فيها ” يتواطأ البر والبحر والجو”[26].

وهي لحظة سقوط قناع مثلما وسمها الشاعر محمود درويش أو لحظة طعن. فلقد وجد الفلسطيني نفسه وحيدا، لا سند له ولا حام، فلم يكن هناك غير قرار الترحيل وهو الذي صوّره غسان جرّحا عميقا واعتبره حفلة تقسيم الجسد الفلسطيني:

 “سقط القناع وجاءت أوامر التهجير ليقطعنا سكّين قرار الحاكمين. فنلقي السلاح ونوزّع في ملاجئ كل الأصقاع. تحملنا البواخر بعيدا عن بيروت، جموع إلى عدن، جموع إلى العراق، جموع إلى تونس في حفل تقسيم الجسد الفلسطيني…”[27].

هذه النّماذج تكشف أنّ الرّواية المقاومة تحاول التذكير بما جرى فهي تحرس الذّاكرة لتكون شاهدة على مظلمة العصر وفصولها الكثيرة، مسجّلة في دفاترها صفحات من التاريخ، مستعرضة المظالم والاعتداءات وملمّحة إلى إحساس الفلسطيني بخيانة العرب لقضيّته. وهي بذلك تضمر فضح الخطاب الاستعماري وكشف تناقضاته وإبراز وحشيته ومروقه عن القوانين والمواثيق.

5- كتابة الكولونيالية الفظيعة:

تسعى الرواية المقاومة إلى تقويض الخطاب الكولونيالي، مدّعي التقدم والديموقراطية وفضح ازدواجيته، حريصة على إبراز وجهه الوحشي الإجرامي وفضح ممارساته اللاإنسانية. فكلّ الرّوايات التي تعيد تخييل التّجربة الاستعمارية من منظور مقاوم تكتب هذا الوجه القبيح للاستعمار الذي مارسه مع شعوب كثيرة. وهذا ما لم تخرج عنه الرّواية المقاومة، المناصرة للشّعب الفلسطيني. فهي تحرص على إبراز صورة العدوّ الصهيوني المتوحّش الذي لا يلتزم بالقيم الإنسانيّة والمواثيق الدّوليّة. ذلك العدوّ الذي لا تخلو ممارساته من عنصريّة تجاه الشّعب الفلسطيني. فالرواية المقاومة تبدو فاضحة للخطاب الاستعماري وتلك مهمّتها التي طرحها إدوارد سعيد.

يبدو هذا العدوّ قاتلا، بلا رحمة، دون مبالاة بالأطفال والعجائز. فإذا الحديث عن جرائمه يتحوّل إلى لحظة دامية وفظيعة. في هذا الإطار تكتب حفيظة قارة بيبان عن سقوط ألاف القتلى مقابل صمود المقاتلين الفلسطينيين، “سقط ألاف القتلى من المدنيين خمسون ألفا بين قتيل وجريح”[28]، مصوّرة الروح المتوحشة للعدوّ . فلقد “منع إسعاف الجرحى في الطرقات”[29] واستعمل القنابل الخطيرة و”ابتلعت القنابل الفراغية الحديثة البنايات بأهاليها”[30].

ويلوح الوجه الفظيع للاحتلال أيضا من خلال رسم صورة للخراب والدّمار الذي أحدثه عدوانه على حمام الشط:

“على الطريق تبعثرت محافظ أطفال. تناثرت الكراريس والكتب…احترق نصف قصّة أطفال ملوّنة، تركت بقاياها شاهدا على الرّصيف المخرّب. كان طفلان صغيران بميدعتي المدرسة مضرّجين بدمهما…”[31].

وفي هذا الإطار تعرّي بديعة النعيمي من ناحيتها الممارسات الوحشية التي تعرّض لها الفلسطينيون، مبرزة نماذج كثيرة منها لعلّ أبرزها اغتصاب السجينات الفلسطينيات وإهانتهنّ.

ولعلّ أبلغ مثال على ذلك ما ورد في شهادات السجينتين حياة ودلال، عمّا تعرّضتا له من ممارسات، ومن عنف شديد ومحاولات اغتصاب في السجون والمعتقلات. فتصوّر السجينة حياة عنف المحقّق الذي يبدو مرّات مختلفة معنّفا لها ومعتديا عليها وساخرا منها. فهو يمارس الصّفع والعنف والاغتصاب:

“رمقني بحنق وانقضّ عليّ وصفعني. ولعلّه أدار حنكي من قوة الصفعة…جبان…ضمرتها في نفسي. انزلق خيط رفيع من الدم من جانب فمي بصقته جانبا وقهقهت. فكّ حزام بنطاله وأنزله…”[32].

وتروي السجينة ما تتعرّض له من محاولات اغتصاب مختلفة.

ونفس هذه الممارسات تعرّضت لها السجينة دلال:

“أمروها بان تخلع ملابسها. انزلقت نظرات الجنود فوق جسدها العاري. حاولت ازاحتها لكنها فشلت… أرادوا تحطيم صمودها وانتمائها لفلسطين”[33].

إنّ هذه الرّوايات تقدّم شهادات على ممارسات كولونياليّة وحشيّة تعرّض لها الشعب الفلسطيني ولم تخل منها تجارب مختلف الشعوب التي خضعت للاستعمار. وهي تحيلنا على روايات ونصوص كثيرة تحدّثت عمّا فعله جنود الاستعمار في المستعمرات، كاتبين عن المستعمر المضطهد ومن بينها تجربة فرانز فانون[34] الذي يرى أنّه “علينا أن نظلّ سنين طويلة نضمّد الجراح الكثيرة التي لا تشفى في بعض الأحيان. الجراح التي أحدثها في شعوبنا الاندفاع الاستعماري…”[35].

وزيادة على وحشيّة الممارسات لا ينسى السّرد التذكير بعنصريّة الكيان الصّهيوني وعقيدته الحاقدة على الإنسان العربي والفلسطيني. وهي عقيدة لم يتخلّف الأدب الصهيوني بدوره عنها وجسّدها في نصوصه وتصوّراته:

“البدو والفلاحون الذين كتب عنهم الكتاب والروائيون اليهود إذن بدائيون. عندما يكونون على الأرض فهم سعداء وفي سلام. ولكنّهم إذا وقفوا أصبحوا مجرمين، وهم لا يقلّون قسوة عن الصخر، وفي أفضل الأحوال فإنهم ليسوا شريرين، ولكنهم بدائيّون، سريعو التّهيّج تسهل إثارتهم…وعليه لم يكن غريبا أن تكون هذه الأفكار سائدة حول الشخصية العربية في الأدب الذي كتبه المستوطنون الصهاينة…”[36].

ولعلّ دراسات كثيرة تعجّ بهذا الفكر العنصري المستهدف للإنسان العربي. هذا الخطاب تفضحه الرّواية وتقدّم نماذج عنه. فنسجّل في رواية العراء تصويرا لهذا الفكر وإشارة إليه عبر مقتطفات صحفيّة توردها الكاتبة وتقحمها في روايتها، منقولة عن صحف العدو التي تتبنّى دعوات إلى ذبح العرب وتصفيتهم.. فتعنون بعض الصحف عناوينها “اليهودي عندما يذبح فلسطينيا أو عربيا يتخلص من مخاوفه ويصبح جديرا بحمل رمز الذكورة”[37]. ويبدو هذا الحقد أيضا في تصريح ميناحيم بيغين الذي يدعو إلى التنكيل بالعرب.

“لا ينبغي أن تأخذكم بهم شفقة، طالما أننا بعد لم نقض على ما يسمّى بالحضارة العربية التي سوف نبني حضارتنا الخاصة على أنقاضها”[38].

هذه المقولات تؤكّد معاداة العرب والتّحريض عليهم. فالصهيوني يمارس حقدا على الشخصية العربية والفلسطينيّة وهو يعاملها دون المرتبة الإنسانيّة، وهو ما تجسّده حيونة الشخصيّة الفلسطينيّة في تصريحات المحقّقين. فكثيرا ما توصف الشخصية الفلسطينية عندهم بالحيوان. وهو ما يظهر في وصف المحقق للسجينة الفلسطينيّة في رواية حنظلة وهو وصف يدل على نمط التفكير الصهيوني المعادي للإنسان العربي والقيم الإنسانية: “اعترفي يا حيوانة من الذي دبّر حادثة تفجير الثلاجة المعبّأة على الأقل بخمسة كيلوجرامات من المتفجرات في ساحة صهيون بتاريخ 4 يونيو؟ اعترفي بأنك تنتمين إلى تلك المنظمة التخريبية”[39].

ثم يصرخ في الأعوان: “تعالوا خذوا الحيوانة…”[40].

ويتكرّر هذا الوصف مرّات مختلفة في الرّواية وهو ما يؤكّد العقيدة العنصريّة للصهاينة.

هذا الفضح للخطاب وما فيه من عنصرية ضد العرب يلوح في عائد من حيفا حيث يسجّل غسان كنفاني تلك المعاداة للعرب:

” قالت زوجته: كان ذلك طفلا عربيا ميتا وقد رأيته مكسوّا بالدم.

وأخذها زوجها إلى الرصيف الآخر وسألها: كيف عرفت أنّه طفل عربي؟

-ألم تر كيف ألقوه في الشاحنة كأنّه حطبة؟ لو كان يهوديا لما فعلوا ذلك”[41].

هذه العنصريّة ليست حكرا على العرب فحسب، حسب غسّان كنفاني بل هي عقيدة تجاه كلّ الشعوب “… في العمل الفني الصهيوني تتعرّض كلّ شعوب العالم للاحتقار بدرجة أو بأخرى. فالبولونيون جبناء والالمان برابرة والاتراك مرتشون واليونانيون أذلاء والعرب فرارون وخونة والانكليز متواطؤون والأمريكيون انتهازيون”[42].

وهكذا نسجّل أنّ الرّواية المقاومة تمارس مهمّة فضح الخطاب الاستعماري الصهيوني، كاشفة عنفه ووحشيته وعنصريّته، متصدّية للتّزييف. ولكنّها تنصت في نفس الوقت إلى نداء الشتات الفلسطيني، متبنّية واقعه وأحلامه.

6- نداء الشّتات:

تتبنّى هذه الروايات نداء فلسطينيا عميقا هو نداء الشتات الفلسطيني، نداء المهجّرين والمطرودين والمرحّلين والهاربين من القمع الصهيوني، والحالمين بالعودة إلى الوطن. وهو ما يبرّر ما في هذه الروايات من حركة رحيل. فلا يكاد الرحيل والعودة يغيبان عنها. فهذا السرد الروائي المقاوم يبدو سردا تغلب عليه صور الرحيل والعودة. وهو بذلك يصوّر معاناة اللاّجئين وأحاسيسهم ويناضل من أجل تحقيق حلم العودة.

وهو ما يتجلى في رواية عائد إلى حيفا. فهي تصوّر بدايات التّهجير. فهم يتسلّلون. يقصفون المدينة وإحياءها العربية ثم يفتكّون منازل الناس:

“الاربعاء 21 نيسان1948 حين غادر سعيد س حيفا على متن زورق بريطاني دفع إليه دفعا مع زوجته وقذفه بعد ساعة عل شاطئ عكة الفضي وبين يوم الخميس 29 نيسان 1948 حين فتح رجل من الهاغاناه معه رجل عجوز له وجه يشبه الدجاجة باب منزل سعيد س في الحليصة ووسع الطريق أمام إفراتكوشت وزوجته القادمين من بولونيا، ليدخلا إلى ما صار منذ ذلك اليوم منزلهما…”[43].

وتبدو ثنائية العودة والرحيل بارزة في هذه الرواية. فيطالعنا الشخصية الرئيسية وزوجه وهما بصدد العودة وهي حدث يشدّنا إليه السارد منذ بداية الرواية.

هدا الرحيل سرعان ما يلوح في رواية “ما تبقى لكم فإذا نحن أمام مشاعر الغياب والفراق والنفي وإذا الشاب الفلسطيني يغادر تاركا غزة:

“عندها فقط عرف أنه لن يعود وبعيدا وراءه. غابت غزة في ليلها العادي. غابت مدرسته بادئ الأمر ثم غاب بيته وانطوى الشاطئ الفضي، متراجعا إلى قلب الظلام وبقيت أضواء الشوارع معلّقة هنيهة، متعبة وواهنة ثم انطفأت بدورها واحدا وراء الآخر”[44].

ولعلّنا في العراء نجد أنفسنا أمام رحلة جماعية هي الرحلة الفلسطينيّة من بيروت إلى بنزرت.

لقد حافظت الرواية الفلسطينية على تيمة كتابة تيمة المهجر والمنفي دعما لحقّ العودة. ومازالت هذه الصّورة تتردّد في الروايات العربية المعاصرة. ففي رواية العراء كتابة للرحلة الفلسطينية نحو تونس بعد حصار بيروت. فها هو غسان يصف انطلاق الباخرة القبرصية من تونس نحو بيروت” صفرت السفينة نعيبا طويلا غامرا. انتشر صداه في كل الأفاق وارتفعت أيادي الشباب الملوّحة للمودّعين…”[45].

ويتابع تفاصيل الرّحلة ومشاعر الركاب “عاد البحر هادرا يضرب جنبات الباخرة القبرصية يضرب قلوبنا وأحشاءنا يضرب أمعاءنا. مرحلون، مهجرون من جديد، من أرض ارتوت بدمائنا مخلفين الأطفال والنساء في الملاجئ المهددة…”[46].

ويصف لحظة الوصول إلى تونس وما فيها من استقبال جماهيري:

“أطلّت الأرض ولاحت من بعيد البيوت البيضاء تحت سماء شديدة الصفاء توحي بالهدوء الذي يغمر المدينة…”[47].

هذه المقاطع لا تصف رحلة خيالية عاديّة. فهي تحيل على رحلة تاريخية مشهودة وعلامة في التاريخ العربي الحديث تتعلّق برحلة المقاتلين الفلسطينيين إلى تونس على متن باخرة قبرصيّة، إثر أحداث حصار بيروت الشهيرة[48].

وفي رواية حنظلة يضطرّ هذا الأخير إلى الإقامة في لندن، تاركا وطنه وهو يصادفنا في بداية الرواية مغتربا “سار هائما على وجهه. لا يعلم وجهته في مدينة لا تنام، شوارعها لا تزال تعجّ بالناس… تذكّر مدينته التي بيعت عذريتها على أرصفة تختلف عن هذه…”[49].

فهذه الروايات لا تخلو من صورة المهجّر الفلسطيني الذي يترك وطنه مضطرا، كاتبة الشتات الفلسطيني.

ولعلّه يمكن اعتبار السرد المقاوم من أجل فلسطين، سردا قائما على جدلية النفي والعودة، النفي والطرد والتهجير فعل وقع وقام به العدو على امتداد عقود ومحطات كثيرة والعودة حلم يراود الشعب الفلسطيني المشرّد. ولكنّ السرد المقاوم لا يرضخ للهزيمة والوجع، بل يحتفي بالبطولة والصمود ويصوّر الوجه الآخر، وجه الشعب الصامد الذي يتحدّى المحتلّ ويقاومه بأشكال مختلفة، ممارسا بذلك خطاب رفع المعنويات.

7- خطاب رفع المعنويات:

يمارس السّرد الروائي المقاوم في نفس الوقت تحريضه الخاص من خلال رفع معنويات الشعب الفلسطيني و إبراز بطولاته وصموده والإشارة إلى تاريخه المشرف وصموده في مقاومة العدو وذلك عبر كتابة نوعية للشخصية الفلسطينية واحتفاء متواصل بثقافة المقاومة التي ساندت القضية ووقفت في صفّ الوطن منذ بداية الاحتلال.

7- 1- الشّخصيّة الفلسطينيّة الصّامدة:

تحتفي هذه الفئة من الروايات بثقافة المقاومة وبالمقاومين الفلسطينيين طوال عقود الاحتلال. فتقدم شخصيات صامدة تواجه الاحتلال. ولعلّنا نسجّل ذلك في رواية بديعة النعيمي من خلال مواقفا لمعتقلات في سجون الاحتلال ، الصامدات رغم الألة القمعي، مؤمنات بالقضية وبالنصر وهنّ يقلن للعدوّ:” فلسطين أم وحبيبة ونحن مرتبطون معها بحبل سري لا ينقطع، لرحم ولّاد لن يصل يوما لمرحلة اليأس ونحن لن نساوم عليها أبدا حتى لو كسروا عظامنا كما فعلوا الليلة…”[50].

وتواجه السجينة محقّقها ببسالة وتحدّي، متمسّكة بالقضية، صارخة فيه وصافعة له أحيانا. ها هن صامدات متحدّيات رغم التعذيب. يجبن المحققين بكل شموخ. فإذا دلال تقول للمحقق “لن اعترف بشيئ لم أفعله ولن أكون تلك السمكة التي تلقي بنفسها في مقلاتك الحارة وأن أردت أطلق على صدري رصاصة وأرحني…”[51] وها هي تردّ الفعل لما حاول أحد السجانين إهانتها والاعتداء على شرفها:

“أدخل أحدهم يده داخل صدرها. هرص ثديها. صرخت وعضّت ذراعه. صفعها على وجهها فسقطت على الارض”[52].

و يتجلّى الخطاب المقاوم والاحتفاء بذاكرة صمود الشعب الفلسطيني في انخراط المعتقلات بإضرابات في السجون واجتهادهن لفضح العدو والتعريف بقضاياهن:

“دخل المعتقل بعد اجتماعات سرّية مع بقية الغرف إضرابا، حمل بين طياته الهزيمة والانتصار، الموت والحياة، المرض والشفاء، الضعف والقوة. تجربة تعرّي الرّوح الثائرة لدى الاسيرات ، الانتماء للأرض والمسير نحو التحرير أو الشهادة..”[53].

وللصمود قصص أخرى في روايات غسان كنفاني وقصصه أيضا. فهو يقدّم شخصيّات فلسطينيّة مناضلة وصامدة في وجه الاستعمار. فكثيرة هي البطولات التي صوّرها الأدب المنتصر للقضية. هذا الأدب الذي يظلّ دوما نبراسا مضيئا وشاهدا على دور الكلمة في النضال وعلى الفعل الثقافي المقاوم الذي لم تتجاهله هذه الروايات.

7- 2- المقاومة الثقافية:

تظهر استعادة الروح المقاومة أيضا من خلال استعادة المقاومة الثقافية. فاستحضار اسم ناجي العلي وشخصياته المعروفة مثل حنظلة والسمين والجندي الصهيوني طويل الأنف وسيرة الاغتيال في لندن توحي بهذا التوجه. فالرّواية تلتحم في هذا المستوى بشخصية ناجي العلي وتصنع منها لحظة الماضي ولحظة الحلم. فتصنع من بعض شخصيات رسومه الشهيرة شخصيات لها مثل شخصية السمين وحنظلة:

“اسم الأب: ناجي مكان الولادة: يافا

اسم الأم: حياة مكان الولادة: القدس

للدولة فلسطين

المهنة : مهندس

العملية: تفجير ديمومة والاشتراك مع ثلاثمائة مجاهد في انتفاضة.

النتيجة: زوال الكيان الصهيوني[54].

ولعلّها أيضا تكتب حكاية الرسام ناجي العلي الذي تمّ اغتياله في لندن.

هذه الثقافة المقاومة تلوح أيضا في رواية العراء. فالكاتبة تقحم نصوص العديد من الشعراء الذين ارتبطت تجربتهم الشعرية بلحظات خاصة من المعركة الفلسطينية مثل معين بسيسو ومحمود درويش وغيرهم. فهي تعيد تصوير ما جرى تاريخيا في فلسطين وتونس بشخصيات أخرى متخيلة تتقاطع مع الشخصيات التاريخية وتشبهها، منحوتة من عمق التاريخ ومن مكونات الشخصية الفلسطينية ورحلتها الطويلة. وهذا ما يجسده الشاعر غسان وهو شاعر ومسؤول فلسطيني في نفس الوقت وهو منحوت من لوعة التهجير والنفي والغربة ومن صورة الفلسطينيين الذين جاءت بهم الباخرة إلى تونس بعد حصار بيروت وعاشوا سنوات هامة في تونس شهدت تواصل المطاردة الصهيونية والاغتيالات فهو يعتبر شخصية مركبة من الذاكرة الفلسطينية ولعله يجسد صورة المثقف الفلسطيني التي ارتسمت في أدهاننا التونسية. فهو ذو سيرة شبيه بشعراء فلسطين الكبار ويتقمّص شخصيّة شعراء فلسطينيين مثل معين بسيسو وتنسب إليه قصائدهم. وهو ما يستدعي قصائد مختلفة لمعين بسيسو ومحمود درويش وسميح القاسم وغيرهم من الأصوات. ويعدّ ذلك استدعاء للنص الشعري المقاوم الذي عاش القضية من داخل، احتفاء بالتجربة النضالية للشعر الفلسطيني والتحامه بأحداث الشعب الفلسطيني. فلقد أسهم الشعراء والمثقفون الفلسطينيون إسهاما متميّزا في الدّفاع عن القضيّة وحمل لواء المقاومة بالكلمة.

والحقيقة أنّ استدعاء رموز الثّقافة المقاومة في بعض الرّوايات يلعب أكثر من دور. فهو اعتراف بهؤلاء المثقفين وبنضالاتهم وحرص على عدم نسيانهم وتوثيق اللحظات الإبداعيّة الشّعريّة.

8- خاتمة:

صفوة القول إن السّرد الروائي المقاوم يسير عبر دربين: درب الدفاع عن القضية وإبراز المأساة الفلسطينية، مصوّرا جوانب منها ومذكّرا بما وقع، فاضحا نوايا المستعمر وجرائمه، مبرزا عقيدته العنصريّة تجاه الإنسان العربي والفلسطيني، محاولا التّصدّي للتّزييف الذي تمارسه الخطابات الصهيونيّة المختلفة. وأما الدّرب الثّاني فهو درب لرفع المعنويات وتحية الشعب الفلسطيني الصامد، عبر تصوير نماذج مختلفة من الشخصيات الفلسطينية الصامدة وعبر التذكير بصوت المثقف الذي كان في الخندق المقاوم واستطاع في مرحلة ما تحمّل مسؤوليته. فللمبدعين الفلسطينيين عبر التاريخ دور مهم في التعريف بالقضية والدفاع عنها. فالفعل السردي المقاوم يحاول أن يكون صوت القضيّة، حاملا أوجاع الشعب الفلسطيني وجراحه، ومعبّرا عن إرادته الصامدة.

المصادر والمراجع:

المصادر:

  • بيبان حفيظة قارة: رواية العراء، تونس، نقوش عربية، ط1، سنة2012.
  • النعيمي بديعة: حنظلة، الأردن، دار فضاءات، ط1، 2021 .
  • غسان كنفاني، عائد من حيفا، قبرص، منشورات الرمال،2015.
  • غسان كنفاني، ما تبقى لكم، قبرص، منشورات الرمال،2014.

المراجع:

  • إبراهيم عبدالله: التخيل التاريخي السرد والامبراطورية والتجربة الاستعمارية، بيروت، المؤسسة العربية للنشر ، ط1،2011.
  • حزين صلاح: إضاءات على الأدب الإسرائيلي الحديث، بيروت المؤسسة العربية للنشر ط1، 2012
  • سليمان خالد: في أدب ونقد ما بعد الكولونيالية، جدة، مجلة علامات،ج54 م14، 2004.
  • سعيد إدوارد: الثقافة والامبريالية، تعريب كمال ابو ديب، بيروت، دار الآداب، ط4، 2014.
  • شطاح عبد الله، تخييل الزمن الكولونيالي، مجلة تبيين العدد 21/5 ، صيف2017.
  • فانون فرانز: المعذبون في الأرض، تعريب سامي الدروبي وجمال الأوتاسي، مصر، مدارات للنشر، ط2، 2015.
  • كنفاني غسان: في الأدب الصهيوني، دار الرمال، 2013.

المراجع الأجنبية:

  • Dadvar hmira :Etude de langue et littérature française, étude des caractéristiques de la littérature postcoloniale dans les soleils des indépendances D’ahmadou Kourouma ,volume 5 issue2.
  • Durand Jean-François ; Littérature coloniales d’empire; romantisme, éditions Armond Golin N139 ,2008.
  • Moura-Jean-Marc ; dans regards sur les littératures coloniales ; université Paul Valéry l, harmattan, 1999.

[1]– خالد سليمان: في أدب ونقد “ما بعد- الكولونيالية“، جدة، مجلة علامات ،ج54 م14 ،2004، ص88.

[2]-Jean-François Durand; littéreture coloniales d émpire, romantisme, éditions Armond Golin, N139; 2008, P58.

[3]– Jean-Marc Moura; dans regards sur les littératures coloniales université Paul Valéry; l’harmattan 1999, P22.

[4]– Hmira Dadavar; étude des caractéristiques de la littérature postcoloniale dans les soleils des indépendances D’Ahmadou Kourouma ;étude de langue et littérature française, Volume5; Issue2, p50.

[5]– عبد الله شطاح، تخييل الزمن الكولونيالي، مجلة تبيين، العدد 21/5 صيف2017، ص83.

[6]– إدوارد سعيد، الثقافة والامبريالية، تعريب كمال ابو ديب، بيروت، دار الآداب، ط4 ، سنة 2014 ص270.

[7]– غسان كنفاني، في الأدب الصهيوني، دار الرمال2013، ص7.

[8]– إدوارد سعيد: الثقافة والامبريالية، ص58.

[9]– المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[10]– المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[11]– عبد الله ابراهيم، التخيل التاريخي: السرد والامبراطورية والتجربة الاستعمارية، بيروت، المؤسسة العربية للنشر ط1، ص282.

[12]– غسان كنفاني: في الأدب الصهيوني، ص119.

[13]– المرجع نفسه، ص124.

[14]– في منتصف ماي أنهت الحكومة البريطانية وجودها في فلسطين، وقبل إنهاء الانتداب بساعات أعلن المجلس اليهودي في تل أبيب قيام دولة يهودية في فلسطين بمجرد إنهاء الانتداب، دون إعلان حدود لهذه الدولة. وتمّ الشروع في تهجير الفلسطينيين وطردهم من وطنهم ويسمى هذا التاريخ يوم النكبة.

[15]– غسان كنفاني: عائد إلى حيفا، ص10.

[16]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[17]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[18]– المصدر نفسه، ص57.

[19]– بديعة النعيمي، حنظلة، الأردن، دار فضاءات، ط1، 2021، ص43.

[20]– المصدر نفسه، ص44.

[21]– حفيظة قارة بيبان، العراء، تونس، نقوش عربية، ط1سنة2012، ص16.

[22]– المصدر نفسه، ص43.

[23]– بديعة النعيمي، حنظلة، ص204.

[24]– المصدر نفسه، ص61.

[25]– حفيظة قارة بيبان، العراء، ص66.

[26]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[27]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[28]– حفيظة قارة بيبان، العراء، ص65.

[29]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[30]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[31]– المصدر نفسه،ص99.

[32]– بديعة النعيمي، حنظلة، ص68.

[33]– المصدر نفسه، ص129.

[34]– فرانز فانون: طبيب فرنسي عمل مع الجيش الفرنسي أثناء احتلاله الجزائر ثم تخلى عن مهنته وجنسيته وانتقل للعمل مع جبهة التحرير الوطني في الجزائر والدفاع عن شعوب المستعمرات وترك أـعمالا كثيرة تشكل مرجعا مهما لدراسات ما بعد الكولونيالية منها: بشرة سوداء… أقنعة بيضاء/ المعذبون في الأرض/ من أجل الثورة الأفريقية.

[35]– فرانز فانون: المعذبون في الأرض، تعريب سامي الدروبي وجمال الأوتاسي، مصر، مدارات للنشر ، ط2، 2015ص199.

[36]-صلاح حزين: إضاءات على الأدب الإسرائيلي الحدبث، بيروت، المؤسّسة العربية للنّشر ط1، 2012 ص53.

[37]– بديعة النعيمي: حنظلة، مرجع سابق، ص100.

[38]– حفيظة قارة بيبان، العراء، ص101.

[39]– المصدر نفسه، ص73.

[40]– حفيظة قارة بيبان، العراء، مرجع سابق، ص74.

[41]– غسان كنفاني: عائد من حيفا، قبرص، منشورات الرمال،2015 ص43.

[42]– غسان كنفاني: في الأدب الصهيوني، ص122.

[43]–  غسان كنفاني: عائد من حيفا، ص38.

[44]– غسان كنفاني: ما تبقى لكم، قبرص، منشورات الرمال،2014، ص10.

[45]– حفيظة قارة بيبان: العراء، ص 67.

[46]– المصدر نفسه، ص63.

[47]– حفيظة قارة بيبان العراء، ص53.

[48]– حصار بيروت 1982 الذي انتهى بترحيل القيادة الفلسطينية ومقاتليها نحو اليونان ثم تونس في نهاية أوت.

[49]– بديعة النعيمي، حنظلة، ص9.

[50]– بديعة النعيمي، حنظلة، مصدر سابق، ص160.

[51]– المصدر نفسه، ص27.

[52]– المصدر نفسه، ص144.

[53]– بديعة النعيمي، حنظلة، مصدر سابق، ص155.

[54]– بديعة النعيمي، حنظلة، مصدر سابق،ص189.

مقالات أخرى

استشكال الليبراليّة عند دومينيكو لوسوردو

أيّ نموذج إيتيقي للإنسانيّة المعاصرة

الفروق الثقافية في التعليم:

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد