إضاءة نقدية على قصة الروائي الكبير حسن حميد “العودة إلى البيت”

 عندما بدأت بقراءة قصة الروائي حسن حميد ( العودة إلى البيت)  استوقفتني عند دخولي إلى هذا العالم الحكائي الجميل  ليس فقط لفنيتها المميزة لكن لزخم المشاعر الكبير الذي تعشق مفرداته واستهوى المكوث فيها على مدار السرد والحوار والتصوير فرافقت عباس الحسيني في رحلة الحلم الأجمل الذي مازال يدق نواقيسه كي يستيقظ فجره الآتي في العودة إلى البيت وأي بيت!!! كل البدايات تحمل المجهول إلا هذه البداية فهي تعرف كيف تجس بأقدامها ما تريد ( ها. قد خلفت كل شيء ورائي. ) ثم يقول ( حبست دمعي وتجلدت) فقد حسم امره على السفر لكن هذه المرة بمرارة وألم حيث هو مفارق لأخوته وامه العجوز الذي تعرف على رضيت على مضض بسفره …فهو كما وصفته(عباس طير روحه في الرفرفة ) لكن ودعته بدمع حار ( بعينيها المحمرتين ووجهها الكابي) لكن حاله لم يكن احسن من حالها في الوداع ( ذعر عيني…. ورجفة شفتي ويباس فمي) ولاشك ان الوصف لدى كاتبنا لم يقتصر على اصول التقنية السردي لكن أراد من ذلك أن يحمل القارئ رسالة وهي إيصال مشاعره ورد فعله على هذا المشهد من خلال الدمج العاطفي المتظاهر في عنصر ي الفعل ورد الفعل حيث يحس بأمه كأنها طفلة بوجهها الوضاء فيحتويها بين يديه ويستمر الكاتب برصد حركة الابن بتتابع( أمرر أصابعي أمسح أبادلها ..أهزها بقوة اتجاسر في النظر في وجهها واهمهم….) إذا هو ليس مرد وصف بل هو إحساس عميق بقلب أمه ووصف لمشاعره هو حيث اعتبر امه ابنته الصغيرة البريئة التي تحتاج لحنانه…. تفاصيل حركية جميلة وفق مشهد واحد متكامل يؤطره بمشهد الفراق الأكبر( فتغص بدمعها…وتبلع ريقها وتعيدني إلى صدرها مرة أخرى فلا افلت نفسي منها إلا عندما أقبلها خمس . .ست مرت فيرتخى طوق ذراعيها تفلتني فاقبل يدها و انسلُّ بعيدا) هذا المسار العاطفي المحتدم  يجعل من البطل لا يقوى على المسير ذلك لقسوة الفراق وضعفه أمام الأحبة وخصوصا أمه التي أحرقته بطيبها وعاطفتها كما صورها لنا…عباس ذلك الطير الذي يجفله أي مكان يسافر إليه لا يطيق المكوث فيه فترة إلا ويفكر بمغادرته لأنه لايجد نفسه في أي مكان غير موطنه الحلم لكن روحانة اثرت بالبطل عباس واستلمت قياد روحه لأنها وافقته حلمه ورافقته إليه قد جاء إليها صدفة لأن( دلال البيوت) هداه إلى بيتها حيث هناك غرفة  لديها  معدة  للإيجار فقال له مخاطبا

وهو في طريقه إلى البيت ( السماء تحبك فأنت ستسكن عند امرأة استثنائية في كل شيء) فاعتقد عباس أنه يبالغ في وصفها إلى ان وصل إلى البيت ورأى أم روحانة وطيبها وحنانها وعرفت هذه المرأة ان هذا الرجل سيكون زوج ابنتها من طيب ملامحه وروحه المنسجمة مع روحها الطيبة فحين عّرف الدلال عليه قال: ( السيد عباس الحسيني طالب هندسة من بلاد ألف ليلة وليلة ……) فقالت العجوز:( سيكون نعمة للبيت وهبة لروحانة) ثقتها بأنه سيكون هدية وعطاء لابنتها ليس لشكله او لقلة الرجال في حياة ابنتها ..لكن ابنتها من النوع الشفيف الذي لا يحب السيطرة او القيود . فعندما قال من بلاد ألف ليلة وليلة تيقنت ان هذا الرجل يكره التسلط وعذب المعشر وهذا رمز له دلالات نفسية واجتماعية وانتمائية تراثية أسقطها الكاتب وبجدارة على هذا الحوار المختزل لمعان عدة ..وعند تتبعنا للحدث السردي والحوار لاحظنا تأكيد الكاتب على هذه الدلالات بتكرار الرمز على لسان روحانة فيما بعد عند ترحيبها بعباس الحسيني فقالت ( أهلا سيد عباس انا احب ألف ليلة وليلة) …. فعندما تنبأت العجوز وبهدوء شديد بأن عباس سيكون نعمة وهبة لابنتها ارتبك عباس من تلاقي روحه مع روح هذه المرأة العجوز الطيبة لأنه رأى فيها طيبة أمه وحنانها والوطن الصغير الذي يحتويه في غربته فعندما ارتعشت يده ودلق القهوة على أصابعه هبت إليه تتفحص أصابعه ولم تلو على شيء غير ذلك( وإنما اخذت أصابعي وراحت تبللها بالماء وتقلبها وتتفحصها) ثم قالت( هذا فأل طيب لا تقلق اصابعك تشربت قهوتي) وعند العرب القهوة تعني اصالة المنبت و الخلق و العادات النبيلة والوفاء فهذه العجوز واثقة بحدسها أن هذا الرجل الأصيل يناسب ابنتها واخلاق ابنتها…. فاختصر الدلال وصف هذه المرأة  فقال

( هذه امرأة مدهشة أشبه بالغابة) ونرى الوصف الماتع للمكان على لسان البطل حين جاء إلى بيت روحانة بعد أن استأجر  الغرفة عائدا بحقيبته من الفندق فقال( مشيت لا رفيق لي سوى المطر

ووجه أمي وتلك التلويحة الحيية الراجفة ، أمتدح المطر الذي يطوي دمعي برذاذه اللامع فلا يلفت انتباه المارة إلي أصل إلى البيت أواقف الباب وأشجار الليمون المزهرة اتمتم يا إلهي أليمون هنا أيضا؟!) اشجار الليمون شيفرة القلوب المملوءة بالحنين إلى فلسطين هي الهوية التي تهدهد الروح بالأمل واليقين فقصة الاغتراب ليست مجردُ بعد أو مسافة إنها حكاية تشتت وفقد وبحث دائم عن ذاك الوطن الحاضر في الذاكرة والقلب دائما …. وصف  شاعري  رائع  لاختلاجات النفس

العاشقة وللروح المعذبة وللقلب الحزين الباكي( واعرف حزني الكسير أيضا.. يفتح الباب ..فتضبطني أم روحانة متلبسا برؤية الأشجار وقد فضحني دمعي…)

ويستوقفني الكاتب في اعتماده على عنصر التعجب الإنشائي و أدواته في إظهار دهشته المباغتة لمشاعره المتوقدة فيوقف القارئ معه كي يتنفس شعوره الجميل وجمال اللحظة ( يا إلهي أي كائن هذا….أي روحانة هذه يا خالقي.. يالبكورة اللحظات الأولى .. ما أجملها. …) جمل متفرقة جميلة تغذي العاطفة بدهشة الشعور المنسجم مع ارواح تلاقت فجأة لتجد ضالتها وآلية الوصف لديه لاتقف هنا لكننا نجده يعتمد سرد التفصيلات وتعدادها وتكرارها احيانا لضرورة التوكيد على الحس العاطفي عندما وصف روحانة وأمه وكذلك لتوكيد الالتصاق بالبيئة وذلك عندما وصف موجودات بيته في فلسطين تعبيرا عن ذاكرته القوية وارتباطه بالمكان إلى حد التماهي …لكننا سنسير معه خطوة خطوة  لنستشعر  جمال  سرده الانيق  فها  هو يسبغ  على البطل  صفة الرقي

والنفور من الجلافة بطريقة بليغة تلخصت بجملة( فأوافقها .. …….وأنا اتمتم الرجال فطرة الجلافة) فبدون ان يشعر بنفسه هز رأسه موافقا ورمشت عينيه للموافقة على كلام ام روحانة حين حدثته عن روحانة وزوجيها السابقين حيث نظرا إليها كامرأة جميلة او ديكور فاخر دون النظر إلى جمال فكرها وروحها فهو الاهم لذلك لم تتوافق معهما وتم الانفصال تجربتان فاشلتان للزواج جعلتها ترغب عن الزواج مرة أخرى … فحماسه لكلام وفكر هذه المرأة جعله يستشعر جمالها أكثر ويقترب منها منذ اللقاء الأول حين عادت من عملها مساء فوجدته  مستأجرا الغرفة ويجلس مع امها يتحادثان( فتشكرني وأشكرها ونمضي هونا في مساء من فضة لاشيء فيه سوى سكر الكلام …كم قربنا ذلك المساء وكم وحّدنا ذلك الكلام) مؤكدا تعجبه وعاطفته بتكرار الاداة كم

ثم ينتقل القاص المبدع فجأة إلى اختصار الحدث بعد بلاغة التعبير بهذه الجمل السابقة اعلاه ليصل إلى ما بعد الزواج فيختصر المدة الزمنية وينطلق إلى هدفه المنشود دون إطالة او حشو او شطط

فيسافر مع روحانة المجنونة مثله بعشقه الازلي( وبعدما تزوجت من روحانة وبعدما اخذت جنسية بلدها) ( روحانة التي عرفت الكثير عن امي واخوتي الذين يعيشون في مخيم صغير اشبه بالعش بعد ان اقتلعنا جميعا من أرضنا وطردنا..) البطل هو الراوي والبطل اخذ من روح الكاتب الكثير وألبسه ثوبا يليق به ليحمل مشاعر الانتماء الراقي والوفاء الذي يتجلى في كل كلمة او وصف للديار والأم الانتماء الروحي الذي لا يضاهيه انتماء فكل مكان هو مغترب جاف لا يرويه فيه سوى ذكرى الاحبة وحلم العودة إلى الوطن وهذا هاجس كل مبدع فلسطيني ان كان قاصا او روائيا او شاعرا او رساما الخ…) الذاكرة لدى هذا الراوي البطل لاتقبل سوى الصور والوجوه نفسها والتفاصيل والملامح ذاتها وفي كل وصف يكرر ملامح معشوقته ويزيد من وصفها بذكر ملامح ومعلومات اكثر فالإصرار على الحديث عن المحبوب حاجة ملحة عند المحب يستلذ بذكرها ..هي بصمة الروح والقلب ( وأضيف : بلدتنا قريبة من نهر الاردن فيها بيارات وينابيع وسهول وخيول وناس طيبون واقول لها ان المسيح مر من هنا فبارك اهلها لذلك سميت ارضنا بأرض الجليل) ويستهل بعد ذلك ب ( الآن) ليؤكد وصوله إلى حاضر اراده( وادرك انني حققت كل احلامي كل خططي عدا حلمي الاول) نعم فالحلم الاول لديه لم يتحقق ألا وهو العودة إلى البيت ( إلى فلسطين) الحلم مازال يعتمل جمره في حرق كبده فلا ينسى ادق تفاصيله ففي رحلة الحلم يجس تفاصيل المكان بيديه وقلبه وحواسه الرائحة الصوت اللون المشهد الحركة…كل هذا حاضر لديه يعيده ويكرره على لسانه كي يحفظه من بسكن روحه وقربه فهو يتناول بالذكر كل شيء كل شيء كي لايبقى اي شيء وحيدا في البيت غريبا دون اصحابه فيعدد( ان ارى قبر والدي في حاكورة الدار ..ان ألمس على حيطان البيت المطلية بالكلس الابيض …ان اسقي قبر والدي….ان آكل برتقال البيارة . .ان اجمع توت العليق من فوق السياج ..ان اتفقد جرار الزيت …ان ارى كواير القمح والذرة والسمسم..أن امر بالمنحلة. وأخذ دامر امي صندوقها رقعة المخمل. عرجتها….اتفقد كلبنا( هجرس ) …..ويستمر بسرد التفاصيل الدقيقة وتعداد الموجودات كي لايبخس أي شيء حقه أويغفل عن اي تفصيلة طبعا هذا عن قصد لذاته وليدل على عمق انتمائه بقوة ارتباطه وحدة ذاكرة المكان لديه المرتبطة بحبه الشديد لوطنه ومنبته واصله ونراه يصل في كل ليلة إلى بيته فيقص علينا وصف مشاعره بطريقة اليقين التصوري للحدث المنافي للشك والوهم أنه يقينية العودة وبهاء الامل فيخاطب روحانة زوجته بقوله ( روحانة : اخاف ان تخذلني رجلاي عند الرؤية الاولى للبيت عند العتبة الاولى اخاف ان اصعق بالمشهد …كوني سندي كي لا اسقط امام أشجار الحاكورة قرب عتبة البيت….) ثم يعود مجددا ليعدد مايملكه في بيته       ( أمام المذاود والأبقار …قرب جوادنا الاسود…امام كلبنا هجرس من مدخل قن الدجاجات…..كوني معي ياروحانة لكي تنقذي روحي من غيبوبة الشوق من غواية المكان…)

هاقد وجد من يوافقه على السفر كل يوم وكل آن مجنونة مثله هذه الرفيقة ( مجنونة روحانة!

توافقني فتعد حقيبتها وحقيبتي وتساهرني الليلة الأخيرة في بلدهم ليلة صيف انسامها اشبه باحتشاد اعواد القصب قرب جداول الماء تفرش الليل بالحركة والكلام والصور والذكريات لاتدع لي مجالا لكي افكر بالرحلة القابلة…روحانة هي وحدها من عطب مديد الليلة الفائتة بكلامها الجميل…)  ففي هذا الوصف الشاعري نراه يرتكز على عناصر الطبيعة في التشبيه ( أعواد القصب_ الجدول_) ليغذي عنصر الحركة بحاسة السمع والشم فريح القصب مع تمايلها فوق الماء تبث رائحة صيفية رطبة مفعمة بالرطوبة والطيب ..وصورة اخرى هنا تشخص لنا المعنوي بشيء مادي وهي العطب (انطفاء وتعطيل اشتعال الوقت الليلي) فقد انهت بحضورها الجميل وكلامها اللطيف مديد العتمة مما جعل وجهها الباسم كالطفلة التي تستقبل الفجر كأنها تستقبل العيد بثوب جديد

( مثل طفلة تستقبل أول العيد) فالحلم هو الإصرار القائم وليس في نفس البطل إلا هذا الحلم   ( فأقول لها سأرتب حقيبتي) سين المستقبل حاضرة لترتيب الحقيبة دائما…وعندما راته ام روحانة

لا شغل له إلا ترتيب الحقيبة وانتظار عودة روحانة زوجته من عملها رقت لحاله كثيرا وازدادت عاطفة وشجونا ومع هذا تبتسم له وتقول: ( حقيبتك مرتبة انت تريد الاختلاء بنفسك انت تريد ان تختلي بنفسك روحانة  أوصتني ألا اتركك  وحيدا .. دعك من  التفكير يابني  و لا تستعجل

الامور …ارجوك) ومن هذا الحوار نلاحظ انعكاس الحالة النفسية المزرية التي ألمت بالبطل كما وصفه الكاتب مجسدا مشاعره بكتلة من لحم ودم تحضر الحقيبة في كل لحظة والارض لاتتسع لحضوره والروح لاتستكين لديه والذاكرة القائمة لا تنام والقلب الذي يعتصر حنينا وشوقا وحبا .والجسد المتحمس دائما للسفر …كل هذه انعكاسات مترجمة لتشتت وضياع واسى وولوع اصاب البطل وانعكس عمن حوله بشكل واضح عند وصف الشخصيات الاخرى بتأثرها وموافقته على الحلم ومساعدته فيه ( روحانة ووالدتها) حين قال واصفا رد فعل العجوز ام روحانة( وتخرج وهي ترامقني بنظرتها الحزينة الأسيفة) الحزن والأسف مترادفان في المعنى لتأكيد العاطفة( لعلها خائفة قلقة) الخوف والقلق تأكيد للاضطراب وعدم الاستكانة …إلى ان يقول في حواره الاخير مع ذاته ( المونولوج الداخلي) ….( لا ادري ..ما ادريه حقا هو انني حفنة شوق انتظر عودة روحانة …من اجل ان اذهب وإياها بعد ساعات في رحلة الحلم رحلة العودة إلى البيت) من هذه المشاعر الجميلة نخلص إلى القول ان الكاتب وبشاعرية جميلة القى خمار الشوق على كل صورة تمس ذاته وكل حركة وكل صوت وكل لون وقد وظف حواسه في خدمة هذا الحلم الذي وصفه بالأول حيث لا منازع له في احتلال المرتبة الاولى في نفسه فلا الأم وحدها ولا الاخوة ولا زوجته

روحانة أثروا فيه أثرا ابلغ من تأثير معشوقته فلسطين ذلك الحب الازلي والحلم الأول و البادئ على كل مشاعره وذلك للرقي الكبير لدى الكاتب في معالجة النص السردي الحكائي وتوظيف القص لرصد مشاعر اللإنتماء الجميلة التي وسمت اعماله وشكله بصمته… اضف إلى ذلك إصرار الكاتب على هذا الهدف في كتاباته وتغليبه على أي هدف مهما كانت مغريات السرد بالنسبة للقارئ فالهدف الأسمى يحتاج إلى الرجل الأسمى ذاك هو الاديب الكبير .د حسن حميد

مقالات أخرى

إبراهيم مشارة : فؤاد زكريا والحركة الإسلامية

العنف الديني : مقاربة ثقافية

الإمام عبد الحميد بن باديس رائد النهضة العربية الإسلامية  في الجزائر – بقلم الدكتور علي القاسمي

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد