قراءة نقدية في كتاب “محمد رسول الإرادة” لمؤلفه الدكتور ميثم الجنابي

 هناك نمطان من الكُتاب الأكاديميين، نمط تقليدي تتوقف مهارته عند تقليد الآخرين والنقل عنهم وضبط الهوامش، والحرص علي أن يكون النقل أميناً، وكلما كان من مصادر ومراجع أجنبية كان أفضل، وكلما قل فيما يقولون، فإن ذلك هو الصواب عينه؛ ونمط مبدع يسخر قراءته لإبداء الرأي أو للتدليل علي صواب الاجتهاد العقلي الشخصي، وبالطبع فإن النمط الثاني هو الأقرب إلي النمط الفلسفي الحق، فالتفلسف ينتج الإبداع ولا يتوقف عند النقل وإثراء الهوامش .

  ولا شك في أن الأستاذ الدكتور” ميثم محمد طه الجنابي (أستاذ العلوم الفلسفية في الجامعة الروسية وجامعة موسكو الحكومية، من هؤلاء الذين ينتمون إلي النمط الثاني، فهو صاحب موقف فلسفي ونقدي واضح من كل ما يقرأ ولا يكتب إلا في حول، أو في قضايا معاصرة  بغرض بلورة موقف مبدع ومستقل عن كل المواقف ومختلف عن كل الآراء المطروحة حول نفس الموضوع سواء قيل من قبل .

  واعتقد أنه في نظر الدكتور “ميثم الجنابي” فإن البحث الفلسفي، هو تعبير خالص عن الموقف الفكري المستقل الخالص بالباحث، وليس مجرد مجموعة من النقول والشروح والتعليقات المفتعلة. وعلاوة علي ذلك فإن جدية “ميثم الجنابي” وأصالته تتكشف عندما يطرح القضايا الفكرية والسياسية، حيث نجد الغاية من هذا الطرح ليست مجرد تكرار للأفكار، وإنما يسلط الضوء علي أفكار وقصايا بعينها، من أجل أن يكشف عن المجتمعات العربية عموماً، والمجتمع المصري خصوصاً، وكذلك من أجل أن يستقي القارئ العربي منها مصادر خلاصة من مشكلاته التي تؤرقه؛ وخاصة مشكلة وجوده كإنسان له كرامته الأصلية.

   ويعد ميثم الجنابي واحداً من أبرز الوجوه الثقافية من أساتذتنا المعاصرين، وهو يمثل قيمة كبيرة وشعلة من التنوير الفكري التي بدأها منذ ربع قرن، باحثا،ً ومنقباً عن الحقيقة والحكمة . إنه الباحث عن سبيل يحفظ للإنسان حريته وكرامته، فهو ينقب في ثنايا الفكر العربي القديم والحديث والمعاصر، لكنه لا يسلم بما يكتبه عنه من قبل زملائه الباحثين في الشرق والغرب، بل لديه قدرة عظيمة علي أن يلقي بنفسه في خضم المشكلات المطروحة، ويشق لنفسه طريقه الخاص غير عابئ بما يقوله “أشباه الباحثين” .

  وإذا ما أكتب اليوم عنه هذه  الورقة ، فما ذلك إلا نقطة في بحر فكره، وقد آثرت أن تكون ورقتي منصبة حول أحد إسهاماته في تراثنا العربي الإسلامي، وقد اخترت كتابه (هذا الذي بين يدي) وهو بعنوان : (محمد رسول الإرادة)؛ وقد صدر هذا الكتاب عن (دار العارف) ، بيروت ، 2018 ، وعدد صفحاته 238 ، وينقسم هذا الكتاب إلي قسمين ، الأول وتحت عنوان (أرادة الروح)، والثاني (روح الإرادة) ؛ ويتضمن القسم الأول ستة محاور؛ وهي على التوالي:  الصيرورة الروحية للإسلام،  الإسلام – مجاز الحكمة الخالدة، الصيرورة الروحية للنبي محمد، النبوة- إرادة الحق، الجهاد والاجتهاد النبوي، القرآن- قراءة الأبعاد المتجددة للوجود الإنساني.. أما القسم الثاني فيحتوي على أربعة محاور وهي على التوالي: الإسلام وفكرة التحدي التاريخي، إرادة البديل الشامل، النفي والبدائل، العقل الإسلامي الجديد).

 وقبل أن أتحول لقراءة هذا الكتاب أقول : لقد علمتني التجارب البحثية أن هناك أكثر من طريق لقراءة الأعمال الفلسفية قراءة نقدية ، وأكثرها عفوية وسذاجة أن نلخص العمل الفلسفي أبواباً وفصولاً ثم لا شئ ، وأعمقها أن نحاول تحديد مقولات العمل أولاً حتي نضع المتلقي معنا علي أرضية واحدة مشتركة ، ثم نخلص من ذلك إلي تجسيد رؤيتنا النقدية لهذه المقولات وإحالة هذه الرؤية النقدية في النهاية إلي قضايا وظاهرات.

 وقد اخترت في قراءتي النقدية لكتاب الأستاذ الدكتور ميثم الجنابي (محمد رسول الإرادة) ، تلك الطريقة الأخيرة التي ترفض الهشاشة وتكابد في طريقها إلي محاولة التنظير والتأصيل .. أولاً : لأن هذا الكتاب عمل علمي جاد يستحق بالفعل أن يعاني الناقد في قراءته وتقويمه، وأزعم أن هذا الكتاب سوف يضيفه التاريخ إلي أمهات الكتب الخوالد ، لأن هذا المضاف يفتح السبُل أمام النظر، وإعمال العقل، وأمام البحث ومناهج العلم .. وثانياً الميزة التي يتميز بها الكاتب “ميثم الجنابي” في هذا الكتاب ، وهي هذه الجدية في النظر ، وهذه الصرامة في المنطق ، وهذا العكوف في العمل ، وهذا الاحترام للنفس كاتباً وللغير قارئاً هو ما في نظري ما تعودت عليه أنا شخصياً مع ميثم الجنابي (في هذا الكتاب) ، يحتشد للموضوع الذي يبحثه من جوانبه التي تخصص فيها ، ويتقدم للقارئ لا بالموضوع الذي يبحثه فقط ، ولكن بالأدوات المنهجية التي يتعامل مع موضوعه بها ، فيعرضها واضحة بما تستدعيه من منطق ، ومن أسلوب تدليل ومن ترتيب سياق.

 ويمثل كتاب (محمد رسول الإرادة) معلماً بارزاً من معالم خطاب الدكتور ميثم الجنابي الداعي إلي قراءة تراثنا العربي الإسلامي قراءة علمية وموضوعية، بقصد التعرف علي الثقافة التي أنتجها هذا التراث ، وإدراكها في إطار سياقها التاريخي والاجتماعي سعياً لمزيد من الفهم لواقعنا الثقافي المعاصر عن طريق استخلاص مغزي الدلالات المختلفة لهذا السياق ، ولما كان التراث في رأيه هو مجموع النصوص التي أنتجت عبر العصور المختلفة من تاريخ أمتنا ؛ فإن فهم هذه النصوص يصبح السبيل الوحيد لخلق وعي علمي بهذا التراث وبآليات إنتاجه .

 والواقع أنه إذا كان صحيحاً القول بأن للفيلسوف حدثاً واحداً يتكرر كل عدة سنوات كما قال الفيلسوف الفرنسي المعاصر ” هنري برجسون” ؛ فإنه صحيح أيضاً القول بأن للمفكر المتميز خطاياً واحداً يتكرر دائماً عبر مستويات عديدة تعكس كلها رؤية واضحة ومتفردة، كتلك التي نجدها متضمنة في جميع أعمال الدكتور “ميثم الجنابي” : كتاباً كانت .. أم مقالات ، أو حتي حوارات صحفية ..!

  ومن هنا يقع كتاب (محمد رسول الإرادة)  الذي نحن بصدده الآن ضمن الدوال الرئيسية علي معالم هذا الخطاب الذي يمثل بحق اتجاهاً معرفياً جديداً في حقل الثقافة العربية المعاصرة .. اتجاها احتل مكانته في قلب هذه الثقافة عن جدارة واستحقاق بصرف النظر عن مدي الاتفاق أو الاختلاف مع ما يمثله من قيمة معرفية ومنهجية في دراسة علوم التراث ونصوصه ، وهي قيمة ولا ريب عظيمة ولو كره الشائنون..!

  ومن عادتي عند قراءة كتاب لا أعرف محتواه، أن أخمِّن موضوعه من عنوانه، وغالباً ما يكون تخميني صحيحاً؛ فحسب علمي لم يكتب قبله كتاب في موضوع “محمد رسول الإرادة”، وشرح أفكاره بطريقة نقديَّة، وهذا واضح من خلال التوجّه التي سار عليه الدكتور” ميثم الجنابي” عندما أعلن بأن:” الفكرة الرئيسية لهذا الكتاب تقوم في تبيان أثر الشخصية المحمدية في وضع أسس اللحظة التأسيسية للمراجعات الثقافية المتسامية التي أدت إلي نقل العرب من المرحلة الثقافية الدينية إلي المرحلة الدينية السياسية ، وما استتبعها من تأسيس لاحق للثقافة الإسلامية وحضارتها . وبالتالي الكشف عن أنه كلما جري الغوص في حقيقتها التاريخية كلما تعمق الباحث في حقيقتها الما فوق التاريخية . ومن ثم البرهنة علي أثرها الجوهري في تحدي الوجود التاريخي بإرادة البدائل الكبرى . من هنا بقاءها الحي وقدرتها علي الإلهام العقلي والروحي بوصفها شخصية تاريخية وما فوق تاريخية ، أي كل ما جري وضعه في مفهوم النبي محمد والنبوة المحمدية ، والرسول والإرادة الإسلامية (1).

   ومعني هذا أن الكتاب يقوم علي فقه المراجعة، وهذا الفقه يعد فلسفة أصيلة في فكرنا الإسلامي ، ولهذا ظلت العلوم الإسلامية طيلة تاريخها تخضع للمراجعة من قبل المتخصصين فيها من العلماء ، وهي تلك المراجعة التي ينظر فيها كما يقول الدكتور “عبد المجيد النجار” :” اللاحق فيما أنتجه السابق فيتناوله بالتمحيص ؛ يلائم بينه وبين مقتضيات ما استجد من أوضاع المسلمين لتنتهي إلي تعديل ما ينبغي تعديله ، وإضافة ما ينبغي إضافته ، وربما إسقاط ما ينبغي إسقاطه ، وبسبب ذلك نري هذه العلوم تتطور باطراد في كمها وكيفها ، ومهما يأتي عليها من زمن تخلد فيه غلي الركود ، فإنها لا تلبث أن تنبعث فيها الحياة من جديد ، وذلك بفعل هذه الفلسفة التي انبتت عليها الثقافة الإسلامية في تطور العلوم، وهي فلسفة المراجعة المستمرة من أجل التطوير والتنمية لمجابهة ابتلاءات الواقع”  (2).

  في هذا السياق يأتي كتاب (محمد رسول الإرادة) لمؤلفه الدكتور ميثم الجنابي لينخرط في مسلسل المراجعات الاجتهادية التي تتوخي تحريك ديناميكية الفكر الإسلامي، ويجيب عن أسئلته الإشكالية التي يفرضها منطق الواقع ومنطق التاريخ.  

  وبالتالي فإن هذا الكتاب ليس رواية من نسيج الخيال ، ولا سرد لأحداث تاريخية ، وإنما هو عبارة عن مراجعة لمئات المصادر والمراجع ، وكذلك البحث بصورة نقدية لكل من كتب عن النبي الخاتم ” محمد صلي الله عليه وسلم” ، وقد جاء الكتاب علي قسمين كما قلنا : الأول ويحمل عنوان (إرادة الروح )، بينما الثاني يحمل عنوان (روح الإرادة) ، وبمجموعهما كل واحد . مهمة الأول تتبع فعل الإرادة النبوية لمحمد في تحقيق المبادئ الإسلامية في نواحي الحياة بمستوي الطبيعي والما وراء طبيعي من أجل نقل العرب (ولاحقا المسلمين) إلي المرحلة التاريخية الثقافية الجديدة ( الدينية السياسية) . وكلاهما كل واحد بمعايير التاريخ والحقيقة (3).

  وهذا يعني أن ” محمد رسول الإرادة” يختلف اختلافا عما سائد في أصناف الكتابة المتنوعة عن ” السيرة النبوية” ؛ إذ ليس للكتاب علاقة، كما يقول الدكتور ” ميثم الجنابي”  بهذا الصنف من التأليف ؛ بمعني أنه ليس كتاباً عن ” السيرة النبوية” و ” حياة النبي محمد” بالمعني المنتشر والسائد من الكتب التأريخية والعقائدية والوظيفية ( التعليمية والتربوية والأدبية والسياسية وما شابه ذلك ) (4).

 إنه كتاب فلسفي صرف يستند من حيث الأسس النظرية لفهم حقيقة الشخصية النبوية والرسالة لمحمد صلوات الله وسلامه عليه ، وأثرها التاريخي العربي والإسلامي والعالمي إلي فلسفة الدكتور “ميثم الجنابي” التاريخية والثقافية . وبالتالي فهو كتاب تفتقده المكتبة العربية والإسلامية ، إذ فكلاهما كما يذكر المؤلف لم يتمرسا بعد في فهم حقيقة الشخصية المحمدية بمعايير الفكرة النظرية بشكل عام والفلسفية بشكل خاص ؛ لاسيما وأنه الأسلوب الأدق من أجل إرساء أسس النظرية المجردة والمتسامية والواقعية في الوقت نفسه عن الشخصية المحمدية والنبي محمد نفسه ؛ ومن ثم إزالة الصيغ المبتذلة والظاهرية عن ” توظيف ” المعلومات عنها وعنه ، أو ” توظيفهما” هو من أجل ” البرهنة ” عن رؤيتها العقائدية والمحلية (5).

إن حقيقة الشخصية المحمدية في نظر “ميثم الجنابي” تتطابق كما يقول مع المعني القائم في عبارة ” عين الحقيقة” ، وهذه بدورها لا تحاج إلي توظيف جزئي أو متجزأ ، لأن الحقيقة لا تتقبل التوظيف . إنها كافية بذاتها من أجل تنوير العقل والضمير الفردي والاجتماعي والإنساني (6) ؛ إذ ليس هناك من شخصية في تاريخ الإسلام جري تصوير ورسم وتتبع كل دقائق حياتها، وأفعالها، وأقوالها ، بل وحتي خلجات نفسها ، إضافة إلي أصلها ونسبها وحيثيات وجودها من المهد إلي اللحد أكثر من محمد (7).

وهنا نجد “ميثم الجنابي” يعلن أنه يرغم أن كتابه يجمع بين ينتمي إلي وحدة الرؤية النقدية والمنهج الفلسفي ، إلا أنه يجمع بين الرؤية التاريخية الواقعية ، والنقدية العقلية ، والنظرية الفلسفية ؛ وبالتالي ، فهو الكتاب الأول في الثقافة العربية والإسلامية في كيفية تناوله لشخصية محمد ، والشخصية المحمدية ، والنبي محمد والنبوة المحمدية ، والرسول والرسالة الإسلامية (8).

 وهنا الدكتور ” ميثم الجنابي”  أراد أن يطبع كتابه بخصائص جعلته يرقي إلي مستوي علمي رفيع ، ومكنته من الوصول وبذلك يمكن قراءة أهداف المؤلف في هدفين أساسيين ، أو جعلهما في دافعين :

الدافع الأول : نظري معرفي ، يقوم علي ضم الفروع والجزئيات بعضها إلي بعض ، والتماس الروابط بينها ، وصياغتها في صيغة نظرية فلسفية ، وهو ما لا يعلم ” ميثم الجنابي”  أن أحدا قام به من قبل ، لا في شئ محرر ، ولا في كتاب مصنف ، بل لم ير أحداً حام حوله طائر فكره ، أو جعله غاية بحثه ونظره ، فرسخ في ذهنه أن هذا أمر مستحسن إظهاره ، وإبراز تعم فائدته ، وبيان خفيت معالمه ، وهذا الدافع قد نصفه بالهدف الأول لتأليف الكتاب ، أو الدافع الظاهري أيضا.

الدافع الثاني : واقعي دعوي ، يقوم كما يقول ” ميثم الجنابي”  :” .. يمكن فهم المعنى الحقيقي الكامن فيما أسميته بمحمد رسول الإرادة، أي حياة وفناء الشخصية المحمدية في الصيرورة التاريخية والكينونة الثقافية للعرب (والمسلمين)، التي لا تشكل النبوة فيها سوى أسلوبها العملي ونموذجها التاريخي. وقد كان الجاحظ على حق عندما قال بأن حقيقة الإنسان إرادة. والنبي محمد هو أولا وقبل كل شيء إنسان، وبالتالي فإن حقيقته إرادة، لكنها إرادة البدائل الكبرى. ومن ثم ينبغي قراءة وفهم ما في الكتاب ضمن هذه الرؤية المنهجية وهذا السياق التاريخي والثقافي لصيرورته وكينونته وديمومته أيضا (9).

 والسؤال الذي أود أن أسأله للدكتور” ميثم الجنابي”  : لماذا اختار محمد رسول الإرادة، ولم يختار مثلاً” محمد رسول الحرية”، مثل الكاتب المصري “عبد الرحمن الشرقاوي” ،أو”الإنسان الكامل محمد صلى الله عليه وسلم”  ، مثل الشيخ “محمد متولي الشعراوي” ، أو “إنسانيات محمد”، مثل “خالد محمد خالد” ، أو “حياة محمد” ، مثل محمد حسين هيكل، أو “محمد الرسول” ، مثل  “أنور الجندي” .. وهلم جرا ؟

  وهنا يجيبنا ” ميثم الجنابي” فيقول :” لأن رسول الإرادة يستند إلي فلسفتي التاريخية الثقافية ؛ وبالأخص ما له علاقة بفكرتي المنهجية عما أدعوه بالمسار التاريخي ومنطق الثقافة والاحتمال العقلاني للبدائل. والمقصود بالمسار التاريخي هنا هو  مسار التاريخ الطبيعي الذي يمر ويتحقق بمراحل سبع أساسية، الثلاثة الأولى “طبيعية” صرف، والرابعة والخامسة بينية، بينما (السادسة والسابعة) “ما وراء طبيعية”. وهي كما يلي: المرحلة الاثنية – الثقافية؛ المرحلة الثقافية – الدينية؛  المرحلة الدينية – السياسية؛ المرحلة السياسية – الاقتصادية؛ المرحلة الاقتصادية- الحقوقية؛  المرحلة الحقوقية – الأخلاقية؛  المرحلة الأخلاقية –  العلمية.. إن جميع هذه المراحل انتقالية، بمعنى أن التاريخ عملية مستمرة تحتوي على احتمالات متنوعة من الصعود والهبوط، لكنها لا تنفي مضمون القانون الطبيعي للتاريخ، بل تؤكده بوصفه احتمالا عقليا وإرادة حرة (10).

ويستطرد المؤلف ” ميثم الجنابي” فيقول : ومن ثم يمكن التوصل إلى استنتاج مفاده، إن الكينونة التاريخية للأمة هي كينونة إرادتها. والإرادة هي ليست فقط ما تريده، بل وما تعيه بمقاييس الواجب التاريخي للوجود والمثال. فاقتران كينونتها التاريخية بصيرورة إرادتها المثلى يكشف عن ضرورة جهادها واجتهادها بمعايير وعيها الذاتي، أي بمعايير الكلّ الثقافي المتراكم في مجرى تجاربه المتنوعة من أجل تذليل الحدود الذاتية في تجاربها التاريخية. وفي الحالة المعنية تذليل الكينونة العربية لصيرورتها التاريخية الثقافية في المرحلة الدينية السياسية عبر نقلها إلى المرحلة السياسية الاقتصادية من خلال تذليل فكرة وحالة الهيمنة الظاهرية والباطنية لفكرة الأصول الدينية (اللاهوتية) في كافة مجالات الحياة ومستوياتها النظرية والعملية (11).

  ولعل من المفيد إلي أهم التوجهات الضابطة في مسيرة المؤلف الفكرية عبر قسميه ؛ وأبرز هذه التوجهات وهو ما ظهر للمؤلف” ميثم الجنابي” بأن الشخصية الواقعية هي شخصية تاريخية؛ ومحمد واقعي فهو تاريخي. والصورة الأكثر صدقا هي القادرة على رؤية الصيرورة التاريخية والواقعية للشخصية، ومن ثم رؤية أفكارها ومواقفها وعقيدتها ضمن هذا السياق. فهو الأساس الضروري لبناء الصرح الفعلي لعالمها الذاتي. حينذاك فقط يمكن الكشف عما فيه من دهاليز وطرق قادرة على إيصال البحث فيها عما كان محمد نفسه يدعو إليه: الخروج من الظلمات إلى النور! بمعنى كيفية تراكم وتحديد مهمات وغاية التحدي للواقع التاريخي وشحذ الإرادة وعقلها الذاتي من اجل رسم ملامح وحدود البديل التاريخي (12).

 بيد أن النبي محمد صلوات الله عليه في نظر ” ميثم الجنابي” لم يفكر ولم يضع أمام ناظريه ما ندعوه الآن بمهمات الحاضر والمستقبل، وذلك لأن المرجعيات الممكنة والمحتملة بالنسبة لنقل الأقوام والأمم إلى المرحلة الدينية السياسية تظل دوما محكومة بفكرة الواحد المتسامي والوحدة الخالصة لروح الجماعة النقية والتقية. وهي مرجعية قادرة على إبداع مختلف النماذج العملية الضرورية لحل المشاكل والقضايا التي تواجه الأمة والدولة؛ بمعنى أنها تمتلك الصيغة النظرية المجردة للاجتهاد النظري والعملي. الأمر الذي يجعل من تحرير الرؤية العلمية من غشاء العقائد الدينية واللاهوتية أسلوبا لإرجاع محمد الحقيقي وحقيقة محمد إلى أصل وجذر واحد، ألا وهو كفاحه الذاتي وبناء شخصيته في مجراه. وضمن هذا السياق يمكن القول، بأن المصدر الأكثر دقة لإدراك شخصية محمد وحقيقتها هو القرآن. وبالتالي، فإن إعادة ترتيب آياته بما يتوافق مع زمن “نزولها”، أي بما يتوافق مع ما أطلقت عليه الثقافة الإسلامية عبارة “أسباب النزول” سوف يساهم في رؤية شخصيته التاريخية والواقعية كما هي، ومن خلالها تتبين ملامحها ومعالمها الفعلية. وذلك لأن الرؤية الواقعية والعلمية الدقيقة هي أكثر “قدسية” من تقديس اللاهوت الأجوف (13).

وثمة توجه آخر لميثم الجنابي يتمثل في أن النبي محمد صلوات عليه وسلامه، استطاع أن يجمع بين الإنسان والنبوة، أو أن النبوة امتداد للإنسان فيه واستكمال له وتحقيق ما فيه من خصال وتجارب. إذ لم يتحول محمد إلى نبي بل صار إياه. والنبوة، شأنها شأن كل حالة نوعية في الاحتراف الإنساني لها مقدماتها وخصوصيتها. فالأنبياء كالعلماء والشعراء والفلاسفة والأدباء وقادة الحروب وأهل السياسة والدولة، لكل منهم خصوصيته وموقعه فيما ينتمي إليه وصار جزءا منه، وأثره في تقاليد احترافه وخارجها (14)؛ علاوة علي أن النبي محمد حقق بذاته صيغة ما أسماها الكاتب “بلوغ مصاف المرجعية المطلقة لاتباعه (المسلمين) مما أدى الى أن تقتطف هذه الصيغة من كل الأنواع الأخرى ما يمكّنها من تعزيز قيمتها المرجعية الروحية والفكرية الدائمة. لاسيما وأنها تغلغلت جميعا في مسام المعركة التاريخية الكبرى التي قادها في نقل العرب من الطور الثقافي الديني إلى الطور الديني السياسي، أي إرساء أسس الانتقال الأكبر والأعقد في تاريخ العرب ولاحقا المسلمين بمختلف أقوامهم وشعوبهم وأممهم. وهي العملية الثقافية الكبرى التي أسست للطابع الثقافي للقومية العربية والأمة الإسلامية ككل (15).

 أما التوجه الثالث فيتمثل في ربط المؤلف بين شخصية النبي محمد صلي الله عليه وسلم وبين حضوره في الثقافة النظرية الإسلامية (16) ، وعلم الكلام (17)، والفلسفة الإسلامية (18) ، والتصوف (19) ، والتاريخ الإسلامي في القرن السابع والثامن الهجري (20) ، والتأليف الحديث (21).

  علي أن هذه التوجهات قد صاحبها ثلاث نزعات للمؤلف: إحداها نفسية والثانية أخلاقية ، والثالثة عقلية. أما الأولي من هذه النزعات، فتتمثل في إفراط ” ميثم الجنابي” في القول بأن : الشخصية المحمدية هي وجود جوهري في الوعي التاريخي (العربي والإسلامي). ومن ثم فهي غير قابلة للتكرار، لكنها قابلة للاستعادة المطلقة. وإذا كان الصوفية أكثر قربا في إدراك كليته، فإن قربهم ظل محصورا في ميدان الذوق. بينما تتبعوا في سلوكهم آلية التجزئة، بحيث جعلوا من شخصيته المتعددة الجوانب نموذجا أخلاقياً مطلقاً. بينما جعلت منه السلفية المتحجرة صنما. بمعنى قبوله للتمثل وفقدانه للحياة. وترتب على ذلك حصره في أحادية هشة، ومسخه الميتافيزيقي، وابتذاله المذهبي، بحيث أدى إلى إخلاء الصراع من الأرضية التاريخية القلقة التي بلورت شخصيته الفعلية (22).

  وأما التوجه الثاني فتتبدي لنا بجلاء في مواضع عديدة من الكتاب يعزف فيها “ميثم الجنابي” لحن الوفاء للنبي محمد صلي الله عليه وسلم ؛ حيث يقول :” لقد كشف النبي “محمد” صلي الله عليه وسلم عن قدرة عملية هائلة في مختلف ميادين الحياة وعن مساع نقدية ظهرت في البداية برفض ما هو مخالف للحق. غير أن هذا الموقف النقدي والرافض لما هو سائد لم يتبلور بين ليلة وضحاها. انه نتاج أربعين عاما من العيش والتأمل العميق، اللذين استندا بدورهما إلى التقاليد العربية، والتي ظل أثرها بارزا في كلامه وفعله. ولم يجد حرجا في ذلك. على العكس فقد كان نشاطه بينها من أجل توحيدها يجري من خلال نفي التجزئة القبلية نفسها. وكان لا بد من أن تتلألأ هذه “القبلية” أحيانا في أفضل تجلياتها وأسماها. إلا أن ظهورها في سلوكه هو مجرد تمظهرها الخارجي، بوصفها البقايا الضرورية لإرث صيرورته الشخصية (23).

  وأما النزعة العقلية فتبدو لنا واضحة في حديث “ميثم الجنابي” عن فقدان ” المواد الوثائقية” للنبي صلي الله عليه وسلم ؛ حيث يقول ميثم الجنابي:” إن فقدان “المواد الوثائقية” عن حياته السابقة للدعوة هو نتاج لانعزاله الفردي. إذ لا تحتوي كتب السير والتاريخ سوى معلومات قليلة عنه، بينما تسهب عن أهله وأسلافه، ابتداء من قصي وانتهاء بعبد المطلب. لاسيما وإن الموقع الاجتماعي لأجداده وأسلافه والأخبار المنقولة عنهم عبر ذاكرة الأجيال، يجعل من الصعب تجاهل قيمة أخبار البيت الهاشمي حتى في مراحل ضعفهم الاقتصادي والاجتماعي. وقد أدى هذا الضعف على خلفية اليتم المبكر والفقر إلى أن تكون العزلة والانعزال ملاذه الأخير. ونعثر في القرآن على دفاع شديد عن الأيتام، بحيث وضع إهمال اليتيم في مصاف الكذب بالدين كما في الآية: “أرأيت الذي يكذب بالدين. فذلك الذي يدع اليتيم”، أو أن يجعل من إطعام اليتيم إحدى “ضمانات” دخول الجنة كما في قوله “وما أدراك ما العقبة. فك رقبة. وإطعام في يوم ذي مسغبة. يتيما ذا مقربة” .. الخ (24).

 إن هذه النزعات وما صاحبها من توجهات قد أسهمت في تشكيل رؤي ” ميثم الجنابي” وتنظيراته التي ضمنها كتابه الذي بين أيدينا.

وينهج الدكتور “ميثم الجنابي” في معالجته لقضية منهج الكتاب خلال أقسامه ، منهجا نقديا في كل أقسامه ، مع استخدام منهج تحليلي تركيبي ، بمعني أنه كان معنيا بتحليل أقوال الآخرين فيما يتعلق بالمنهج ووسائله ووسائل التحقق به عند كل الطوائف والأفكار الأخرى.

 لقد استطاع المؤلف “ميثم الجنابي” الوصول إلي نتائج ترفع من مستوي القارئ ، وتجعله يقترب بسهولة من الكتاب إلي درجة الألفة والاستئناس ، ويمكن إيجاز هذه الجوانب الإيجابية من المؤلف ما يلي :

 أولاً: الجانب المعرفي : لقد جاء الكتاب مفعماً بالجانب المعرفي من حيث أن المؤلف وقف في الوصول إلي المعارف الضرورية لإنجاز هذا الكتاب ، فقد تتبع المسار التطوري للفهم الصحيح للإسلام وحديث المؤلف عن الفهم هو حديث عن المعرفة ، وعن نظرية المعرفة ؛ لأن المعرفة والبناء المعرفي لا يمكن أن يتحققا إلا بقاعدة ثابتة من الفهم ، ومن الأمثلة علي ذلك قول “ميثم الجنابي” في الإرادة الإلهية :” لكن المنطق يكشف ويبرهن على حقيقة جوهرية ألا وهي أنَّ غلبة الإرادة في التحدي الشامل جعلت من “إرادة الله” الملجأ الأول والأخير لاختيار الفعل بوصفه تحدياً. وبالتالي، فإنَّ “إرادة الله” تعني الإرادة المطلقة، أي إرادة اختيار الفعل بمعايير الحق، التي ستجد منفذها الجلي بالنسبة للوعي الديني والسياسي والأخلاقي في ما يسمى بأسماء الله الحسنى، بوصفها مؤشرات على الفضائل العملية. بينما يشكل اختيار أي منها تحقيقاً للإرادة. وضمن هذا السياق يمكن فهم تنوع واختلاف المواقف من الشدة إلى الرحمة، ومن الهجوم إلى الصبر وكثير غيرها، على وحدة الثبات في التغير. وذلك لأنَّ عدم اقتران الفعل المختار بمعايير الحق يؤدي بالضرورة إلى زعزعة اليقين وخلخلة الإرادة. فالإرادة الحقيقة بلا رغبة. بينما الإرادة المقيدة بالرغبة مجرد أهواء عابرة. ومن ثم ليست قادرة على الصمود أمام التحديات الكبرى. فقد جعل النبي محمد من كل تحد درجة قصوى، وانه لا صغائر في الأمور، انطلاقا من أنَّ الأشياء بالنسبة لله كلها سواء. الأمر الذي يجعل من الأشياء كلها سواء بالنسبة للإرادة المتسامية (25) ؛ ثم يؤكد قائلا: ونعثر على هذه الصيغة في شخصية محمد وإرادته حالما تجسدت في حالة “شخصية نبوية وإرادة متسامية”. ولعل الحادثة الشهيرة عن رفضه المساومة على نبوته وإرادتها الفاعلة مهما كلفه الأمر بالعبارة الشهيرة “حتى يظهره الله أو اهلك دونه”. ففي هذه العبارة والموقف نعثر على باعث اليقين بوصفه جوهر الإرادة المحمدية. فالإرادة المتسامية تعادل على الدوام فكرة اليقين. إذ يتغلغل اليقين في الإرادة ويتماهى معها بالشكل والمضمون، بحيث لا يمكن التفريق بينهما. فقد ظهرت عنده منذ البداية فكرة “حق اليقين” و”عين اليقين”. وهو يقين يختلف عن يقين العلم والمعرفة، ويقين التقليد، ويقين البلادة والغباء. فالأول يحتمل الشكوك، بينما الثاني لا يعرف الشك، أما الثالث فهو يقين التقليد بمختلف مظاهره وأشكاله، والذي كان يطغي على تقاليد الوثنية العربية. أما اليقين المحمدي فهـو يقين متفائل، وذلك لأنه يقين النبوة أو حدس الوجدان الخالص. من هنا تداخل التفاؤل بالمعاناة العميقة التي تضعه أحيانا أمام هاوية اليأس والقنوط، ثم تعيده من جديد إلى تفاؤل مغر. فالإنسان الذي يدرك إرادته على أنها الحلقة الرابطة بين الأزل والأبد لا يصاب باليأس والقنوط، أو على الأقل أنَّ هذه الأحوال تظهر وتضمحل بوصفها شفرات القطع الحادة لما هو عالق وعابر، أو حجر المبرد الذي يقطع الشكوك بيقين الإحساس الجديد بنعومة “الأذى”!(26).  

ثانياً : التتبع الدقيق للحقائق التاريخية للنبي ، فقد وفق المؤلف في الوصول إلي الحقائق التاريخية للنبي صلوات الله وسلامه عليه وتقديمها في صورة لا يجد القارئ صعوبة في إدراكها والإلمام بها ، فقد اختار الوسائل المساعدة لذلك ، من عرض نظري لنقد نصوص المؤرخين  ، إلي مجال تطبيقي معتمدا في ذلك علي نقد جملة من النصوص التاريخية التراثية ، والتي توصل المؤلف من خلالها إلي حقيقة مهمة ، ومن الأمثلة علي ذلك قوله :” بلورت الثقافة الإسلامية مختلف الصيغ النموذجية عن النبي محمد. بحيث ارتقى فيها إلى مصاف النبوة المتسامية، أو نبوة التشريع وخاتمة الشرائع والأديان. الأمر الذي جعل من التعامل معه بمعايير النبوة، كما بلورتها الثقافة الإسلامية في مجرى تطورها، ميدانا للاختلاف والاجتهاد، لكن المشترك فيها وبينها هو جعله نموذجا، ومثالا، ومرجعية مطلقة، وميزانا توزن به الأقوال والأعمال. بحيث لم تتورع الثقافة هذه نفسها، على الأقل في بعض تياراتها، من أن تبتدع أحاديث مزورة من حيث الصياغة لكنها معقولة من حيث المعنى كما نراه، على سبيل المثال، فيما ينسب إليه من قول: “إذا أنا مت كانت وفاتي خيرا لكم، تُعرَض عليّ أعمالكم”، و”إني أوشك أن ادعى فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وأهل بيتي” (27).

  وهنا ينتقد هذا القول فيقول :” لكن مفارقة هذه الظاهرة تقوم في أن كتب “السيرة النبوية” بدأ من عروة بن الزبير (ت-93 للهجرة) مرورا بإبان بن عثمان (ت- 101 للهجرة)، وشرحبيل بن سعد (ت-121 للهجرة)، وابن شهاب الزهري (ت-124 للهجرة)، وانتهاءً بمحمد بن إسحاق (ت-151 للهجرة)، وبعدها أخذ منه وعنه ابن هشام (ت-213 للهجرة) في كتابه المشهور (السيرة النبوية) ولاحقا يضيف لها أو يتوسع في بعض جوانبها محمد بن سعد (ت-230 للهجرة) في (كتاب الطبقات)، هي تجميع كمي للمعلومات فقط (28).

ثالثا: الإحاطة الجيدة لحدود الموضوع المدروس ، لقد أبان المؤلف عن حسن تبصر ، وعن رؤية واضحة للموضوع المدروس ، مما جعله متمكناً من المعلومات التي يعرضها ، حتي استطاع أن يوجهها لخدمة الغرض الديني الذي وُضع من أجله الكتاب ، ويتضح لنا ذلك من خلال مناقشة ميثم الجنابي لتقييم شخصية محمد عند الغربيين، حيث يقول المؤلف :” اما بالنسبة لدراسات والابحاث التي كتبت عنه في الثقافات غير الإسلامية، وبالأخص عند الأوربيين فقد اختلفت فيه الآراء والمواقف والأحكام. وفي اختلافاتها وتنوعها تعكس اولا وقبل كل شيء اختلاف مراحل الأحكام، ومستوى تطور المعرفة وتدقيق العلوم، ونوعية المناهج، إضافة إلى مختلف الصيغ الظاهرية والمستترة لانتماء الباحثين الديني والقومي والثقافي.. ثم يعطسنا إشارات كثيرة لبعض الكتب “النموذجية” بهذا الصدد، مثل: المؤلفات القديمة التي كتبها بيوتر الموّقر (ولد عام 1594)، الذي ألف كتابان، الأول تحت عنوان (سيرة النبي وحياته) والثاني (جدل بين مسلم ونصراني). وكلاهما مليئان بالتشويه والكذب.()12 ، ومثل كتاب كوسين دي بيرسيفال(1795-1817) عام 1846-1848 عن (تاريخ الاسلام وحياة محمد) بثلاثة أجزاء. وتبعه أو تزامن معه كتاب ميولر عام 1858 بأربعة مجلدات ضخمة عن حياة محمد هي من بين أفضل الأعمال المكتوبة آنذاك بالإنجليزية وصدرت تحت عنوان (حياة محمد وتاريخ الاسلام منذ الهجرة، مع مقدمة خاصة بالمصادر الأصلية المتعلقة بسيرة محمد). () 13، وكذلك  مثل كتاب بيل، ر. (أصل الإسلام في بيئته النصرانية) عام 1928 بالإنجليزية، وكتاب سويتمان ج. (الاسلام واللاهوت النصراني) بثلاثة أجزاء (1945-1955) بالإنجليزية، وكتاب المؤلفان فيول ف.، وشنايدر (حياة محمد) بالألمانية 1955، وأخيرا كتابات واط مونتغومري واط (محمد في مكة) (1953) و(محمد في المدينة) (1956) وكلاهما بالإنجليزية. والأخير من بين أكثر الكتب موضوعية ودقة وتتبعا لحياة محمد العملية (29). 

   والسؤال الان هو : هل نجح المؤلف ” ميثم الجنابي” في تحقيق هذا الهدف الذي نذر كتابه له؟

  في اعتقادي أن المؤلف تمكن – إلي حد كبير – من تحقيق هذا الهدف ، إذ يلحظ القارئ – المنصف- أن المؤلف ظل يطرح الأسئلة الكبرى ، ثم يقدم الإجابة عنها بطريقة المحاججة العقلية البعيدة عن التعسف والاتهام ، كما ظل يتكئ علي أكثر من شاهد وأكثر من دليل حتي يجلو الفكرة ويؤكدها ، دون الاعتماد علي الشوارد من الشواهد أو المفرد من الأدلة ، وخير مثال علي ذلك قوله : لقد أجبر النبي محمد العرب الوثنية على التفكير و”الإبداع” بالشكل الذي يخرجهم عن مألوف ما تعودوه من صيغ الكتابة والتفكير. وشأن كل إجبار “متسام” اتخذ في بادئ الأمر صيغة الإمكان أو الاحتمال المعقول. وحالما تصبح الإمكانية واقعا مقبولا في التأمل والتفكر حينذاك يصبح الخروج على المألوف جزءا من العقل والإيمان. من هنا يمكن اعتبار استعدادهم على أن “يقولوا مثل ما يقوله” إقرارا ضمنيا بإمكانية وقبول الارتقاء عن تقليد الأسلاف، أي انه أجبرهم على الخروج من قيود العادة وأوهامها. وليس مصادفة أن يتوصل الفكر الإسلامي لاحقا للقول، بأن المعجزة هي “خرق العادة”، بمعنى الخروج عن المألوف. بمعنى الإبقاء على إمكانيتها بوصفها إبداعا ممكنا. بعبارة أخرى، ليست “المعجزة” ما هو مستحيل بالطبع، بل ما هو خارق للمألوف. وقد تمتعت هذه الفكرة بقدر هائل من الاستعداد للتغير والتجسد والبرهنة والتحقيق في مختلف الميادين. لكن الميدان الأكبر والأكثر جوهرية بالنسبة لمحمد كان يقوم في استبدال “الجاهلية” بالإسلام، والبرهنة على انه أمر ممكن بما في ذلك تحقيقه في مشروع كوني جديد (30).

  كما راح ” ميثم الجنابي” يعلق بين الفينة والأخرى ، ويحاور القارئ ويشركه في الحوار ، ويبدي غضبه أحياناً ممن يمس عقيدته أو ثوابته ، حتي ليجعل بعض العبارات القرآنية لازمة تتكرر عنده كعبارة ، كما نراها في الآية القائلة:{إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية، حمية الجاهلية، فانزل الله سكينة على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى}؛ وهنا يقول ميثم الجنابي:” إننا نعثر في هذه الآية على وداع رمزي للجاهلية، يتضمن في الوقت نفسه نفيها الشامل، من خلال نفي حمية الدماء بسكينة الروح، والجاهلية بالتقوى. كما نعثر فيها أيضا على تمثل فعلي سوف يظهر لاحقا في تحويل الجاهلية إلى مرحلة ضرورية بالنسبة للوعي الديني والتاريخي والثقافي، عندما أدرجتها الثقافة الإسلامية في فلك الإيمان والعقل والمعرفة والتاريخ، أي عندما حولتها إلى معيار الإدراك اللغوي الدقيق والحقيقي لمعان القرآن، وجعلت من نتاجها الأدبي نموذجا “كلاسيكيا” للمقارنة والاقتداء، بحيث جعلت من فضائلها الكبرى فضائل الإسلام نفسه. ولم يكن بإمكان هذا التحول أن يحدث إلا بعد تذليل الجاهلية بوصفها نموذجا وأسلوبا في التربية والفكر والسلوك والنفسية والقيم” (31).

 كذلك يحسب للمؤلف قوله :” كان الحدس النبوي الأول لمحمد يقوم في تعلم قراءة الوجود وليس خطوط القلم. فقد كان الخطاب الأول من أعماق حراء أو من أعماقه يَصْبّ في هذا الاتجاه، بمعنى أن يتعلم قراءة الوجود بقلم “الإبداع الإلهي”، الذي خلق الإنسان وغرس في أعماقه مهمة تعلم ما لا يعلم. وليس مصادفة أن يطلق النبي محمد على وجود العرب آنذاك لفظة الجاهلية، بسبب عنادهم في الأعراض عن التعلم وبالتالي البقاء فيما كان وبَقى. وهذا هو  عين الجهل. وقد كان ذلك بداية ما يمكن دعوته بالجهاد الأول، أي تحدي الجاهلية بالفكر والفكرة، والذي نعثر عليه في اغلب الآيات القرآنية عن الدعوة للتفكر والتأمل والعلم والمعرفة عبر مخاطبة القوم والإنسان بشكل عام بعبارات “ذوي العقول والأفئدة”.  الأمر الذي جعل فكرة المجاهدة في العلم مقدمة العمل بوصفها إرادة حية تجاه الحاضر (32) ؛ وأيضا قوله :” قدّم محمد في نبوته الإسلامية ديناً جديداً وتشريعاً خاصاً له رؤيته المتميزة تجاه كل الإشكاليات والقضايا التي واجهها في مجرى صراعه ضد الوثنية العربية أولا، ثم اليهودية ثانيا، والنصرانية ثالثا (33).

كما نجد ” ميثم الجنابي” يجمل آراءه باختصار شديد وهدوء لافت ، مدافعاً عن منهجه ، مبرزاًً حقه في الجدل والنقاش ليس بغرض التجريح الشخصي ، بل بحثاً عن الحقيقة العلمية ، وفي إشارة من إشاراته الدالة النادرة يكبر المؤلف في صاحب المشروع اعتداده برأيه والجهر فيه بلا مواراة أو تمويه ، مؤشراً إلي ضرورة أن علماءنا المعاصرين عن بنية معرفية تبني ولا تهدم ، ومن ذلك قوله : صنعت الإرادة الفردية لمحمد شخصيته النبوية، كما صنعت شخصيته النبوية إرادة تاريخية أو طاقة تاريخية ثقافية كبرى وجدت تعبيرها وتحقيقها في الثقافة الإسلامية اللاحقة وحضارتها. بعبارة أخرى، لقد جعلت الإرادة الفردية المتسامية من محمد نبياً، بينما جعلت إرادته التاريخية الكبرى من النبي محمد رسولاً ذا رسالة وشريعة؛ وجسّدت الشخصية المحمدية وحققت فكرة الإرادة التاريخية، بوصفها الإرادة المتفائلة تجاه المستقبل، وذلك لأنها كانت منذ بداية النبوة مليئة باليقين. ونعثر على هذه الحالة النفسية والعقلية للإرادة المحمدية من ناحيتها الفكرية المجردة في ظهور عبارات “عين اليقين” و”حق اليقين” في الآيات الأولى للوحي القرآني. ووجد ذلك تعبيره العملي الدقيق والواضح والجلي والمستميت من أجل تحقيقه في العبارة العميقة والمباشرة التي واجه بها طلبات وتحديات قريش من أجل ترك النبوة والتخلي عنها: “لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أنْ اترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه” (34).

 ويسرني في نهاية هذه القراءة أن أبارك للأستاذ الدكتور ميثم الجنابي  تأسيسه لموضوع جديد يهم الكاتب والمؤلف؛ خاصة وأنه يعد في نظري الفيلسوف العراقي الكبير الذي استطاع أن يكون له في كل الشرق والغرب صوت، وفي كل ناد رأي، وفي كل صحيفة بحث، حتي اشتهر أمره، وذاع ذكره في روسيا وسائر الأقطار الأوربية والعربية، وهو عالم بكل ما في هذه الكلمة من معني، وكاتبا، تملأ مقاله  من قوة الحجة آيات بينات، وسياسياً وطنياً، صادق العزم ما وقعت الغرامات ـ وأستاذا في فنه، لا تستعصي عليه منه المشكلات، وهو نعم الرجل الوفي، الذي يضحي في سبيل صداقته، ونعم الباذل للجهد والفكر في سبيل سعادة الوطن وسعادة بنيه. وهو من الرجال الذين تجدهم  من ثبات علي المبدأ، واستقلال في الرأي، وإدراك  لمعني الحياة الحرة البريئة، علاوة علي أن حياته تعد درساً بليغا لمن شاء أن يتعلم : يتعلم الصلابة في القومية، والإخلاص للوطن، والدفاع عن وادي الرافدين مسقط رأسه ، ويفني في خدمة قومه، وفي خدمة وطنه.

  لقد كان ميثم الجنابي عالما في الفلسفة، وحجة في السياسة، وكاتبا  حكيما،  وكان علي كثرة متاعبه، وتعدد مشاغله، وتنقلاته من ساحة إلي ساحة، ومن تخصص إلي تخصص، يختلس من الليل ساعات، ومن الراحة فترات .. وكثيراً ما كنت استشعر أنه كان صحفيا بطبعه وسليقته، فكم امتلأت الصحف بأخباره، وأفكاره، ونوادره، وتحفه، وكم نقلت عنه أروع ما ينقل عن الوطني، عن الفنان، عن المبتكر، عن المجدد  .. وتلك هي ثروة الأفذاذ العباقرة ، كبار النفوس، كبار القلوب.

علاوة علي كونه يمثل شعلة وهاجة، وحركة دائمة، وعربيا صميما، وجرئياً صريحاً ، لا يداهن ولا يرائي، يصدر عن عقيدة، ويعمل في غير جلبة، عرفه الكبير والصغير، ولمس فضله الوزير ورجل الشارع وهو والله صورة فريدة من صور الرجال، بعلمه وبيانه وعمله ووطنيته، فطر علي صفات نادرة، سيرته في مراحل عمره سيراً حفل معه بالطيبات، واتجهت قواه منذ صباه لخدمة المصلحة  العامة، وعمل علي هيئته في تواضع خال من التمجيد والتبجح، وما طلب العوض والمكافأة عما أجهد  نفسه فيه، ذلك  أنه كان متشبعاً بروح النهوض، ويعرف كيف يرضي ضميره بأداء فرض لا بد من قضائه. قل أن رأيت من أهل صناعة هذا الرجل العظيم من هضم علمه مثله، أو جمع إلي علمه معارف تمثلها، وهي ليست بحسب الظاهر من اختصاصه أو شارك في مسائل كثيرة مشاركة المستقصي الحصيف، لا مشاركة النتفة.

 وفي النهاية لا أملك إلا أن أقول بأن كتاب ” محمد رسول الإرادة” ، كشف لي بأنني إزاء نموذج نادر يصعب أن يتكرر، لمثقف واسع الثقافة، وكذلك لمفكر حر نزيه لا يقيم وزناً ولا يحسب حساباً إلا للحقيقة العلمية وحدها، وفوق ذلك وأهم من ذلك بالنسبة لنا، أنه كان يقدم مادته العلمية فى أسلوب بالغ الجاذبية والتشويق تجعلها أشبه ما تكون بالعمل الفني الممتع دون أن تفقد مع ذلك شيئا من دقتها الأكاديمية ، ولهذا لم أكن مبالغاً حين قلت عنه في أحد مقالاتي بأن ميثم الجنابي نموذج كبير لـ “الفيلسوف والإنسان”.


الهوامش

(1) ميثم الجنابي : محمد رسول الإرادة ، دار العارف ، بيروت ، 2018، ص 9.

(2) أنظر عبد المجيد النجار : مراجعات في الفكر الإسلامي ، الطبعة الأولي، دار الغرب الإسلامي، 2008، ص351.

(3) ميثم الجنابي : نفس المصدر، ص9.

(4) نفس المصدر، ص 10.

(5) نفس المصدر، ص 10.

(6) نفس المصدر، ص 10.

(7) نفس المصدر، ص 11.

(8) نفس المصدر، ص 19.

(9) نفس المصدر، ص 23.

(10) نفس المصدر، ص 19.

(11) نفس المصدر، ص 19-20.

(12) نفس المصدر، ص 24.

(13) نفس المصدر، ص 24.

(14) نفس المصدر، ص 24.

(15) نفس المصدر، ص 26.

(16) نفس المصدر، ص 17.

(17) نفس المصدر، ص 38.

(18) نفس المصدر، ص 41.

(19) نفس المصدر، ص 42.

(20) نفس المصدر، ص 45.

(21) نفس المصدر، ص 48.

(22) نفس المصدر، ص 52.

(23) نفس المصدر، ص 62-63.

(24) نفس المصدر، ص 67-68.

(25) نفس المصدر، ص 178.

(26) نفس المصدر، ص 179.

(27) نفس المصدر، ص 8.

(28) نفس المصدر، ص 9.

(29) نفس المصدر، ص 14.

(30) نفس المصدر، ص 114.

(31) نفس المصدر، ص 116.

(32) نفس المصدر، ص 131.

(33) نفس المصدر، ص 162.

(34) نفس المصدر، ص 172-173.

 

 

مقالات أخرى

الإيهامُ في القصيدة العربيّة الحديثة

خطاب المقدمات في النقد العربي القديم

الصّوت والمعنى من خلال كتاب جاكوبسون

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد