تأصيل النسق التعليمي المعاصر: تحليل نقدي لبحث الدكتور عبد الله يوسف الغنيم، الموسوم بـ “التربية والتعليم في التراث العربي”

أ.د. بدر محمد ملك – أ.د. لطيفة حسين الكندري

توطئة

تنقسم هذه الورقة إلى قسمين؛ الأول يتناول عرض بحث تربوي جديد للأستاذ الدكتور عبدالله يوسف الغنيم، بعنوان “التربية والتعليم في التراث العربي”، ثم في القسم الثاني تعقيب إثرائي فيه نظرات تحليلية عامة تناقش هدف ذلك البحث وتبرز أهميته البيداغوجية في عالمنا اليوم.

يهدف تأصيل التربية والتعليم إلى تأسيس وبناء الوعي وفقا لمقتضيات أصول التربية المجتمعية ومصادرها المتنوعة، والإفادة النظرية والعملية من نفائس الموروث العربي العريق. يشجع التأصيل التربوي الصحيح على الانفتاح الواعي المتزن على ثقافات العالم كما يحث على تبني كل جديد نافع في إطار قيم المحافظة على استقلالية هوية المجتمع. هذا التأصيل المنشود يستند إلى دعائم النهضة، ويعزز النسق التعليمي للمجتمع ويوجهه توجيها صحيحا نحو التنمية، ويعطيه الاستقلالية والتميز من جهة، ويحميه من مصائب التبعية والتخلف والذوبان والغفلة من جهة أخرى.

نبذة مقتضبة عن البحث والباحث

في إصداره الجديد بعنوان: التربية والتعليم في التراث العربي: كيف علم القدماء أبناءهم، استهل أ.د. عبدالله يوسف الغنيم مقدمة بحثه بتساؤل جوهري، وهو: كيف علم القدماء أبناءهم؟ يقع البحث في 155 صفحة من القطع الصغير، وهذه الصفحات موزعة على تسعة محاور مع المقدمة ثم جاء الملحق بعنوان “سياسة الرجل ولده” لابن سينا، وخاتمة البحث مذيلة بالمصادر والمراجع والفهارس. الاصدار الحالي من منشورات مكتبة ذات السلاسل في الكويت (1441هـ-2020م)، ومؤلفه كان وزيرا سابقا للتربية والتعليم العالي، وحاصل على جائزة الملك فيصل فرع الدراسات الإسلامية للعام 2016، ويشغل حاليا منصب رئيس مركز البحوث والدراسات الكويتية، وللمركز دراسات متنوعة وغزيرة على مدار أكثر من ربع قرن، وتُعد إصدارات المركز ثروة وطنية ضخمة ترفد مسيرة النهضة الثقافية في الخليج العربي عموما.

ويتضمن متن البحث وغلافه الخارجي ثمان صور توضيحية لمخطوطات من علوم متنوعة تشهد بسعة علم الأوائل وحرصهم الدائم على كسب المعارف، وطرح التساؤلات الكبرى عبر بوابة التعلم الذاتي والتجربة العلمية والترقي الفكري. ومن اللوحات التراثية الواردة في تضاعيف البحث صورة من مخطوط كتاب المناظر لابن الهيثم، وصورة لإخوان الصفا كما تمثلهم إحدى المخطوطات. شكلت رسائل إخوان الصفا “في مجموعها موسوعة متكاملة لها نظرة فلسفية إلى الكون والنفس، وقد استمدت هذه الرسائل مصادرها من فلاسفة اليونان والفرس والهند وهم يأخذون من كل مذهب بطرف” كما كتب الباحث مما يدل على عمق التواصل الثقافي بين الحضارات.

المحاور الرئيسة للبحث

أشار الباحث إلى أن الغرض من بحثه “تسليط الضوء على مرحلة مهمة من مراحل نهضتنا العلمية، لا بد أن نعود إليها لنستخلص منها العبر التي قد نستفيد منها ونحن نبني ونطور تعليمنا الحديث”. ونستشف من نهج الباحث: إننا إلى الآن لا نستغني من جعل الثقافة الأصيلة مصدر قوة محركة للتوجيه الواعي من خلال الاستفادة من وافر معطياتها في نطاق تربية الأبناء، وتهذيب النفوس، والتأثير اللائق في قيمهم ووجدانهم الإيماني. لا يزعم البحث بتاتا أن نتقيد بما فعله القدماء دون إدراك للمتغيرات العصرية والمستجدات المتسارعة التي تعج بالإنتاجات العلمية العالمية.

أكد البحث الراهن على أن الجهود التربوية والثقافية التي قام بها علماء أجلاء من مفكري حضارتنا في تعليم الأبناء وتثقيفهم بحاجة لتوظيفها على نحو أفضل. وفي هذا السياق المتألق بالعطاءات الفكرية أشار البحث إلى ثلة من العلماء ممن قدموا دراسات طلائعية عن آداب المعلم والمتعلم مثل “رسالة المعلمين” للجاحظ المتوفى عام (255 هـ)، وكتاب “آداب المعلمين” لابن سحنون المتوفى (256 هـ) ثم توالت مساهمات القابسي ثم الغزالي في رائعتيه؛ أيها الولد، واحياء علوم الدين. وامتد نطاق البحث ليشير لمساهمات عدد كبير من العلماء إلى العصر الحديث ولكن للأسف أن ذلك التراث الخالد “لم يحظ في حاضرنا إلا بالنادر القليل من النشر والاهتمام والتطبيق، وكان حريا به أن ينال مكان الصدارة في مجال البحوث والدراسات التربوية وحسن توجيهها فكريا وعلميا” على حد تعبير الباحث.

لقد لاحظ أ.د. عبدالله الغنيم – من خلال خبرته العريقة في التعامل مع المتون التراثية التأسيسية وما يرتبط بها في زوايا عالم المخطوطات – أن الباحثين في الحقل التربوي اليوم لم يركزوا بما فيه الكفاية على بعض الكتب الفذة من مثل كتاب “الحيوان” للجاحظ، وقصة “حي بن يقظان” لابن الطفيل، ورسائل “إخوان الصفا”، و”كليلة ودمنة” لابن المقفع رغم أثرها الأكبر في التوجيه التربوي عند العرب وغيرهم عالميا عبر العصور فهي “تحرك فكر المتعلم، وتوسع مداركه، وتفتح له مجالات البحث”. قال الغنيم “والدراسات الحديثة حين تناولت التراث القديم المتعلق بالمعلمين والمتعلمين، لم يركز الباحثون فيها على بعض المصادر التي لم تأت تحت هذا العنوان”.

ومن ناحية أخرى انصب تركيز البحث على بيان مضامين التدرج في حفظ القرآن الكريم وتكوين الحس اللغوي الفصيح وترسيخ القيم. استعرض الباحث باقتدار النصوص المأثورة في فضل العلم والتعلم وكشف عن أهمية الفهم والاستنباط والتدبر والاعتبار في ضوء سرد سيرة بضعة علماء نوابغ من مثل الفيزيائي ابن الهيثم، والطبيب ابن النفيس، والفلكي ابن الشاطر. هؤلاء وغيرهم “من أعلام النهضة العلمية العربية الذين تركوا بصمات واضحة على الفكر العلمي في عصر النهضة الأوربية” هم نتاج المناهج العربية في تدريس الأبناء في إطار ثقافي واسع ومتنوع. يعد الجاحظ مثالا لحث الفكر على التساؤل والبحث في الرياضيات والفلسفة والموسيقى والأدب وغير ذلك من الموضوعات التي تنير درب وعقل المتعلمين.

أبرز البحث بوضوح مساهمات ابن الطفيل في قصته “حي بن يقظان” إذ طرح الأفكار المتعلقة بالبيئة والتشريح والتفكير وطبائع الحيوان والفلك في إطار تربوي فريد أساسه بناء ثقافة موسوعية فكانت محل اهتمام خاص من علماء الغرب في عصر النهضة. لقد أثرت قصة ابن طفيل بمناهج التربية الغربية لا سيما في فكر جان جاك روسو ، وبستالوزي حيث قاما بالتركيز على أهمية الارتباط بالطبيعة والتأمل والتجربة والقيام بأنشطة عملية بدلا من الاعتماد على حفظ المعلومات.

قام الباحث أيضا بانتقاء عدد من التوجيهات التربوية من التراث العربي للجاحظ وابن سحنون والقابسي والغزالي وابن الجوزي والزرنوجي والهيتمي والطهطاوي … ومن ضمن تلك التوجيهات والوصايا وصية ابن سينا التي وصفها الباحث بأنها “أبلغ نصوص التراث العربي في مجال التربية والتعليم”. يقول ابن سينا في “سياسة الرجل لولده”: “وينبغي أن يكون مؤدب الصبي عاقلاً ذا دين، بصيراً برياضة الأخلاق، حاذقاً بِتخريج الصبيان، وقوراً رزيناً بعيداً من الخِفة والسخف، قليل التبذل والاسترسال بحضرة الصبي غير كزٍ ولا جامد بل حلواً لبيباً ذا مروءة ونظافة ونزاهة، قد خدم سراة الناس، وعرف ما يتباهون به من أخلاق الملوك، ويتعايرون به من أخلاق السَّفلة، وعرف آداب المجالسة وآداب المؤاكلة والمحادثة والمعاشرة. وينبغي أن يكون مع الصبي في مكتبه صبية من أولاد الجلة (الطبقة المتميزة)، حسنة آدابهم، مرضيَّة عاداتهم، فإن الصبي عن الصبي ألقن، وعنه آخذ، وبه آنس. وانفراد الصَّبي الواحد بالمؤدِّب أجلب الأشياء لضجرهما، فإذا راوح المؤدِّب بين الصبي والصبي كان ذلك أنفى للسآمة، وأبقى للنشاط، وأحرص للصبي على التعلُّم والتخرج”.

ومن أطرف الرسائل التعليمية التراثية التي أشار إليها الباحث رسالة بعنوان “مختصر الأقاويل” لمؤلف مجهول كان موجودا عام 1070هـ وكتب عن حياة ” الطلاب المجاورين بالمدارس لتلقي العلوم ويتناول آداب سلوكهم في الحياة اليومية، فيما بينهم، وإزاء الأساتذة، وفي معاملاتهم على العموم. كما يعتني بما يمكن أن يمارسه الطلاب في أوقات الفراغ وخصص لهذه الغاية بعض الأبواب والفصول، منها باب أنظمة لعبة الكرة، وباب في طريقة اللعب بالشطرنج، وباب في التعريف بأصول الموسيقى الأندلسية، وقد تكرر نشر هذه الرسالة بعد طباعتها بالمطبعة الحجرية الفاسية عام 1300هـ”.

    على الجانب الآخر، كتب المربي الفاضل يوسف عبدالرحمن مقالا عن الإصدار الجديد فقال “لقد أخذنا د. عبدالله الغنيم في رائعته الجديدة القيمة إلى تعليم القدماء بين التلقين والتفكير والتوجيه نحو التخصص والتعلم الذاتي واكتساب المعرفة وتوجيهات ووصايا تربوية وتعليمية والتعليم والتأدب في كتب الحسبة والمنظومات والأراجيز التعليمية والكتب والموسوعات ودورها في تيسير سبل التعلم والتعليم الخاص… لقد أمتعني د. عبدالله الغنيم بكتابه القيم وكيف أنه سلط الضوء على مرحلة مهمة من مراحل نهضتنا التعليمية لنستشف منها الكثير من العبر والدروس ونحن نبني ونطور تعليمنا الحديث كما أكد المؤلف على أهمية المذاكرة والمناظرة والتأني والتأمل والبعد عن الغضب وضرورة شغل النظم التعليمية بمنهج وقد دلنا على ذلك مجموعة المخطوطات ودورها في حفظ المعلومات وتوثيق التاريخ التعليمي.” (صحيفة الأنباء، الأحد: 16 أغسطس، 2020، ومضات يوسف عبدالرحمن، باختصار). أشار الباحث إلى عدة منظومات وأراجيز تعليمية منها أرجوزة ابن سينا ومطلعها:

الطب حفظ صحة برء مرض        من سبب في بدن منذ عرض

وفي ختام عرض الأراجيز التي انتشرت عبر القرون الماضية علق الباحث بأنها “تساعد على تيسير سبل التعلم والإلمام بقواعد العلوم والفنون في احكام دقيق وإنجاز بليغ”.

يوجز الجدول التوضيحي التالي أبرز المدونات التي تناولت توجيهات ووصايا تربوية وتعليمية وفقا لمعطيات الكتاب:

الرقم اسم الكتاب أو الرسالة اسم المؤلف
1 كتاب المعلمين عمرو بن بحر الجاحظ المتوفى (255 ه – 868م)
2 كتاب آداب المعلمين محمد بن أبي سعيد سحنون (202 ه – 256 ه).
3 الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمينوأحكام المعلمين والمتعلمين أبي الحسن علي بن محمد القابسي القيرواني (324 ه/403 ه – 935م – 1012م)
4 كتاب السياسة الشيخ الرئيس: أبو علي الحسين بن عبدالله بن سينا (370 – 427 ه)
5 وصية أبي الوليد التجيبي الباجي إلى ولديه أبو الوليد التجيبي (403 ه – 474 ه)
6 رسالة أيها الولد أبي حامد الغزالي (450 ه / 505 ه)
7 رسالة لفتة الكبد إلى نصيحة الولد أبو فرج بن الجوزي (508 – 597 ه)
8 كتاب تعليم المتعلم طريق التعلم الإمام برهان الإسلام الزرنوجي المتوفى عام (600 ه – 1203م)
9 كتاب تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم ابن جماعة (639 ه – 733 ه)
10 كتاب تحرير المقال في آداب وأحكام وفوائد يحتاج إليها مؤدبو الأطفال الإمام ابن حجر الهيتمي (909 – 973 ه)
11 رسائل مغربية متفرقة عدد من المؤلفين
12 كتب ورسائل مشرقية حديثة عدد من المؤلفين (رفاعة الطهطاوي-علي باشا مبارك-عبدالعزيز الخويطر).

وفي نهاية رحلته البحثية المضنية المضيئة ختم الباحث أ.د. عبدالله يوسف الغنيم بحثه بجملة قصيرة توجز أعظم غاياته؛ “وما أحرانا اليوم أن نعود لمراجعة تلك الأعمال ونراجع مناهجها ونعيد إلى العلم والتعليم العربي والإسلامي هويته ونظامه مع عدم الإخلال بمتطلبات العصر الحديث العلمية، والأخذ بالنافع من معطيات العلم العالمية”.

تعقيب على البحث

تطرق البحث لقضية مهمة في عالمنا العربي تتعلق بفلسفة تربية الأبناء والمحافظة على محاسن العادات وفق مناهج تربوية وتعليمية قويمة تغذي مشاعرهم الدينية، وتنمي ثقافتهم العلمية ليصبحوا بناة حضارة مفعمة بالقيم والعطاء امتدادا لإسهامات أسلافهم، وترسيخا لأصالتهم العربية. وعليه فإن الأطر النظرية في بحث أ.د. عبدالله يوسف الغنيم تقود القارئ نحو التدبر المنهجي في كيفية تفعيل الفكر العربي كي يتجه نحو ترجيح نزعة العقل والموضوعية والتجربة والابداع لاسيما في تربية أبناء اليوم وفق معطيات العصر المقترن باستشراف شروط المستقبل.

لقد وعت الحضارة العربية في أوج ازدهارها أن “الحفظ” في تراثنا التعليمي طريقة لغاية أسمى وأعلى؛ الفهم والمناظرة وحفظ المنظومات والأراجيز التعليمية النافعة والاستكشاف وتعميق التجربة وتحقيق التقدم والرقي ماديا ومعنويا. وعندما تعطل الاجتهاد النابع من النزعة العقلية الحرة انحرف التفكير المنهجي، وأصبح الافراط في الحفظ، والتقليد والتسلط والجمود أساس التعليم ومحوره الأول والأخير فخسرت الأمة الكثير من مكتسباتها، وتقلصت العلوم والمعارف والفنون.

ورغم أن الباحث الغنيم يسير بنا بسرعة فائقة في بحثه الراهن فيذهب بالقارئ إلى محطات تاريخية متنوعة عبر العصور الغابرة ولديه استطرادات علمية موفقة، وشواهد تراثية موثقة إلا أن الأفكار – ذات الثقل المعرفي – جاءت في بحثه متناغمة ومتماسكة ولذا نراها في عامة محدداتها مترابطة موضوعيا؛ آخذة بعضها برقاب بعض بتسلسل منطقي، وترتيب زمني لتشكل لنا هذا الإصدار الرصين. لقد تتبع الباحث بطول أناة مشوار النزعة العلمية والأدبية في وسائل التعليم ووصف نشأة التحولات الثقافية الكبرى في التراث العربي واستنتج إمكانية توظيفها في تربيتنا الحديثة الموجهة للناشئة من أبناء لغة الضاد.

من المؤكد أن خزانة المكتبة العربية التراثية زاخرة ثقافيا إذا تم ترشيد وتفعيل منافعها حيث أنها في مجملها تُشكل مصدرا قوميا أمينا لتأسيس الحس التربوي الرفيع في وجداننا. يحفظ الإرث التربوي في طياته سجل آداب القوم الطيبة، ومناقبهم المرموقة، وأفكارهم الثاقبة فهي الذاكرة المجتمعية كما أن جذورنا المتشبعة بالعروبة من شأنها أن تمد أروقة الواقع بضياء الأصالة والتميز والانفتاح على طرائق الابداع وقيم التعليم. ولهذا فإن الدراسات الجديدة المعنية بالتربية والتعليم في تاريخنا العربي من الزوايا المهمة في بنائنا البحثي والمعرفي والقيمي والوجودي. تمثل نوادر تراثنا التربوي بوابة لصيانة هويتنا الأصيلة ورعاية مواهبنا العاشقة للعلوم والتفكر والتدوين والتعلم والتعليم. على امتداد تاريخنا العربي نحت علماؤنا الأوائل والتابعين لإبداعاتهم العديد من المصطلحات التعليمية في تهذيب وسياسة النفس ورياضة الصيبان وبث الوعي وايقاظ الضمير ورفد الإرادة فصاغت حياتهم، ونحتت مناهجهم في التفكير والتأليف والإنتاج والاستكشاف وهذا كله مستقر في أعماق الذاكرة العربية ولا يمكن اغفاله أو التفريط فيه.

من المعلوم أن تاريخ التربية والتعليم عبر العصور وفي كافة الأمم مليء بالتفاصيل والفرعيات والتناقضات لمواجه ضغوط الحياة. إرث الماضي بكل تعرجاته يمثل العمق المعرفي والهوية النابضة كما أنه حافل بالإنجازات المزخرفة بالإبداعات والقفزات المضيئة إلا أن الوجه الآخر للحقيقة أن الماضي مثقل بالإخفاقات، وأوجه الخلل والمعوقات. وهذا الشد والبسط في سنن التاريخ لا يعفي الباحث من ضرورة التحلي بالوعي الوسطي في تناول المسائل التراثية بفكر احترافي من خلال تسليط الضوء باتزان على الجانبين تفكيكا وتركيبا لأن ذلك أقوم سبيلا لاستنباط الدروس العميقة وتحديث البناء المعرفي للموروثات السابقة واللاحقة. موقف المثقف اليوم لترشيد مسيرة الحياة العصرية قائم على فحص التراكمات التاريخية واشكالياتها والتفاعل معها قراءة وبحثا وتحقيقا ونقدا لاستخلاص المحاسن وتنميتها، وتجنب المعوقات ونبذها حتى لا تتوقف أو تتراجع عقارب الساعة.

أشار البحث إلى الاهتمام الذي ناله تراثنا من العلماء والمستشرقين منذ فجر عصر النهضة الأوربية وكان لها أثرها في مناهج التربية الغربية، وفي الأعمال الفنية والثقافية. وأشار البحث – لا سيما في خاتمته – لعناية الغرب بأعمال ابن الهيثم وابن النفيس وابن الشاطر وابن طفيل والغزالي. وهذا ملحظ دقيق انتبه له الباحث في خضم عرض تفاصيل بحثه مما يعزز الأطروحات التربوية المعاصرة في بيان أهمية مثل هذه الدراسات التأصيلية الرائدة لقراءة وتحليل المتون العربية القديمة من منظور مختلف.

واستنادا لما سبق يحق للباحث العربي أن يقلب النظر في كنوزه التراثية الثمينة كيف لا وقد استقطب تراثنا اهتمام عباقرة العالم من مثل ويليام جيمس – أحد كبار مؤسسي الفلسفة البراغماتية ومن أبرز وأعمق رواد علم النفس– الذي وجد السيرة الذاتية للغزالي وهو يبحث مخلصا عن الحقيقة رحلة نفسية جديرة بالفحص. من المهم للباحث العربي أن يتلمس نفائس كنوزه الفكرية ويراجع انتاج أجداده مع التركيز العملي على مكامن القوة فيها لصياغة فلسفة إنسانية واقعية تعمل على “اتساع الكتلة الاستيعابية” التي تمزج تجاربنا السابقة بمعالجة تحدياتنا الحاضرة في سياق واسع يخدم البيداغوجيا؛ علوم التدريس والتربية (انظر جيمس، 2020م، ص 74، 448). وفي هذا الإطار التراثي المتنامي كتبنا كتاب: “تراثنا التربوي: ننطلق منه ولا ننغلق فيه” وختمناه بالدعوة إلى إحياء وتفعيل وتطوير وسائلنا التدريسية ومناهجنا التعليمية المعاصرة بممارسات تراثية حضارية من مثل تجلية واستثمار فكرة التعليقة: مذكرة الطالب والمعلم، والمنظومات: الشعر التعليمي وبما يتماشى مع المعايير العصرية.

ومن باب الاثراء التعليمي يجدر بنا هنا أن نشير إلى آلية حضارية استخدمها علماؤنا لضبط جودة التعليم إذ كانوا يعلمون المتعلم تدوين العلم وكان العلماء أنفسهم أيضا يحرصون على التدوين فظهرت التعليقة التعليمية في سماء حضارتنا. أشار ناجي معروف في كتابه تاريخ علماء المستنصرية أن التعليقة “التعليقة أو التعليق: الشروح والمذكرات التي يعدها المدرس” (ج2، ص 481). كتب جورج مقدسي: “إذا كان “التأريخ” وظيفة أساسية لطالب [علم] الحديث، فقط كان “التعليق” وظيفة أساسية لطالب الفقه. كان نشاط التأريخ “أي الوقت” نظيرا لنشاط “التعليق” (أي التقرير أو الإفادة، في التعليم بالنسبة للمستوى المتقدم لطالب الحديث وطالب الفقه تباعا. فطلاب الفقه “يعلقون” أي : يدونون التقارير، ويسجلون ملحوظاتهم التي يستقونها ، سواء من دروسهم على أيدي شيوخهم في الفقه، أو من خلال المناقشات حول المسائل الفقهية في الحلقات الدراسية، أو عبر الاجتماعات المنتظمة للفقهاء المشهود لهم للمناظرة أو من خلال قراءة الطالب الموسعة في الأعمال الفقهية أيضا” (يوميات فقيه حنبلي من القرن الخامس الهجري، 2019م، ص 235). كانت التعليقة كما ذكرنا في كتابنا تراثنا التربوي ركيزة من ركائز التعليم في حضارتنا العربية الإسلامية.

ومن زاوية أخرى أبرز الغنيم دور رفاعة الطهطاوي الاجتماعي فهو الذي كتب أول كتاب في التربية يتضمن دعوة صريحة إلى تعليم البنات العلوم العصرية وذلك في كتابه “المرشد الأمين في تربية البنات والبنين”. يعتقد بعض المتخصصين في الفكر التربوي الإسلامي اليوم – مثل سعيد إسماعيل علي- أن رفاعة الطهطاوي رائد التنوير العصري يشكل المحاولة الأولى للتأصيل الإسلامي في الأخذ بأسباب الحضارة الحديثة التي لا تتناقض مع أساسيات الحضارة الإسلامية وأصولها. وعليه فهو على حد تعبير سعيد إسماعيل علي “الرائد الحقيقي للتأصيل الإسلامي”.

وفي الختام، يظهر هذا البحث: “التربية والتعليم في التراث العربي: كيف علم القدماء أبناءهم” ليجدد الحديث عن الأصالة التاريخية التعليمية في حضارتنا في وقت حاسم يمر به عالمنا العربي الذي لا زال يبحث عن الروابط العميقة التي تشد من أزر لغته ووحدته العربية كي تذود الأمة عن حياض مصالحها المشتركة، وركائزها العربية، وتثري الفكر الإنساني بعطائها. البحث رغم وجازته فيه جهد ملموس بعد رحلة غوص في بطون المصادر والمراجع كما أنه يتضمن نظرات تعليمية عصرية عميقة مؤيدة بشواهد من روائع رواد التربية العربية طوال تاريخنا العربي. كثير من الكتب المعنية بجمع ونشر المتون التراثية التأسيسية تخلو أعمالهم من التحليل المنهجي والربط بواقع المناهج الدراسية اليوم ووسائل التعليم وهو نقص سلم منه بحث “التربية والتعليم في التراث العربي: كيف علم القدماء أبناءهم”. إن الاضاءات التراثية للمفكر الأستاذ الدكتور عبدالله يوسف الغنيم ذات قيمة نظرية وعملية لدعم مسيرة التربية والتعليم لا سيما في تحسين فن تعليم الناشئة من جهة، وترسيخ قيم التربية العربية الإسلامية من جهة أخرى.

تأسيسا على ما سبق، فإن إعادة اكتشاف وتجلية المتون التأسيسية لثقافتنا التربوية العربية الأصيلة مسعى لإثراء خبراتنا، وتوسيع نطاق “الكتلة الاستيعابية” ونظرياتها التربوية وأنساقها المعرفية التي ترسخ مصدرية هويتنا، وتعمل على استجلاء مكامن الابداع فيها والأخذ بعين الاعتبار ضرورة مراجعة مناهج التعليم المعاصر ورفدها على نحو أفضل.


مراجع

  • جيمس، ويليام (2020). تنويعات التجربة الدينية. ترجمة: إسلام سعد و علي رضا. ط1، مركز نهوض للدراسات والنشر: الكويت.
  • علي، سعيد إسماعيل (1430هـ-2009م). أعلام تربية في الحضارة الإسلامية. ط1، القاهرة: دار السلام.
  • الغنيم، عبدالله يوسف (1440هـ-2020م). التربية والتعليم في التراث العربي: كيف علم القدماء أبناءهم؟ ط1، ذات السلاسل: الكويت.
  • معروف، ناجي (1975م). تاريخ علماء المستنصرية. ط3، القاهرة: دار الشعب.
  • ملك، بدر محمد ، والكندري، لطيفة حسين (1434 هـ =  2013 م). تراثنا التربوي: ننطلق منه ولا ننغلق فيه. ط3، الكويت: مكتبة الفلاح.
  • ملك، بدر محمد- الكندري، لطيفة حسين (1441هـ-2019م). تطور الفكر التربوي: مقاربات فلسفية. ط1، مكتبة الفلاح: الكويت.
  • يوميات فقيه حنبلي من القرن الخامس الهجري: تعليقات ابن البناء الحنبلي لحوادث عصره. علقها لنفسه. أبو علي الحسن بن أحمد بن عبدالله بن البناء البغدادي الحنبلي (1441هـ- 2019مـ). قابله على أصله، وعلق عليه جورج مقدسي. نقله إلى العربية، وأعاد مقابلة النص على أصله واعتنى به أحمد العدوي. ط1. مدارات للأبحاث والنشر: القاهرة.

مقالات أخرى

تعدّد الطّرق الصّوفيّة

جماليّة التّناصّ في الشّعر الصّوفيّ

“زيارة” الضّريح بإفريقيّة مطلع العصور الوسطى

1 تعليق

فاطمه طارق الفيلكاوي 16 يناير، 2021 - 6:49 م
مقاله رائعه ومفيده .
Add Comment

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد