ما لم يقله الفنّ

ما لم يقله الفنّ

 

ملخّص:

يعدّ النّقد أحد مظاهر استخدام الإنسان للعقل في القراءة، وبحكم ما تنطوي عليه مادّته اللّغويّة (نقد) من دلالات أوّلية، كالبيع والشّراء، أو الأخذ والعطاء الذي يقتضي وجود طرفين يمكن الوقوف على هذا الطّابع الاتّصاليّ المميّز لها؛ فمن هذه الثّنائية الأثيرة (الإنسان والعالم) تتولّد علاقتان:

 تنطلق هذه المعالجة في عملها من السّؤال التّالي : كيف يمكن لعالم الفنّ بصفة عامّة ونموذجه فنّ القصّة القصيرة – بناءً على التّصوّر الخاصّ بها المتعارف عليه منذ منتصف القرن الماضي – أن يقيم علاقة بينه وبين نسق الواقع تقوم على الاتّصال والانفصال معًا، فيما يشبه بنية التّشبيه التي تعتمد على وجود طرفين بينها رابط يتأسس على التّماثل و يحتفظ في الوقت نفسه كلّ طرف بمسافة من الخصوصيّة والاستقلاليّة تميزه عن غيره؟

وتفترض هذه الدراسة أنّ ما يسمّى بما وراء الحكاية، أو التّجربة الشّعورية للفنّان عمومًا التي تقف وراء تشكيله لعمله تُعَدّ الفاعل المضمر الحقيقيّ للنّصّ، الذي يشغل المؤلّف أمامه موقع المنفّذ أو المؤدّي لمقتضيات هذا المضمر ولما يفرضه عليه، هذه التجربة الشعورية بمكوناتها التي تحيل إلى عالم المرجع والمكون الثقافي له بأبعاده الفكرية المتنوعة.

 ويعتمد الإطار المنهجيّ الرّئيس لهذه المعالجة على ما يتّصل بالنّظريّة المعرفيّة لعلم السّرد الحديث من مفاهيم؛ بحكم طبيعة المجال التطبيقي وتركز في مجالها التطبيقي على فن القصة القصيرة، معتمدة على قصّة ” بعيدًا عن الأرض ” للأديب المصريّ إحسان عبد القدّوس الذي عرف من خلال كتاباته بولائه للتّيار الرومانسي

وقد قسّمنا هذا العمل إلى عناوين فرعيّة كالتّالي: آليّات التّأليف العربيّة التّراثيّة ومصطلح ما وراء الحكاية.

  • الرّاوي الإطار.
  • الحكاية الافتراضيّة: ويتم معالجته من خلال طرح الأسئلة.
  • علاقة الحكاية الإطار بالحكاية المتولّدة عنها.

الكلمات المفاتيح: الفنّ، السّرد، القصّة القصيرة، التّشكيل، الدّلالة.

Abstract:

Criticism is one of the manifestations of a person’s use of the mind in reading, and by virtue of the initial connotations of its linguistic material (criticism), such as buying and selling, or giving and taking, which requires the presence of two parties, this distinctive communicative nature of it can be identified; From this ethereal duality (man and the world), two relations are born:

The question from which this treatment is based in its work is: How can the world of art in general and its model, the art of the short story – based on its own conception that has been known since the middle of the last century – establish a relationship between it and the reality system based on the two opposites, connection and separation together, in a similar structure The analogy that depends on the presence of two parties between them is a link based on symmetry and at the same time each party maintains a distance of privacy and independence that distinguishes it from others?

This study assumes that the so-called beyond the tale, or the emotional experience of the artist in general that stands behind his formation of his work, is the real implicit subject of the text, in front of which the author occupies the position of the outlet or the performer of the requirements of this implicit and what it imposes on him, this emotional experience with its components that refer to a world The reference and its cultural component with its various intellectual dimensions.

As for the main methodological framework of this treatment, it depends on the concepts related to the epistemological theory of modern narration. Due to the nature of the field of application This treatment focuses in its field of application on one of the arts of literature; It is the art of the short story, through a revealing model, represented in the story “Away from the Earth” by the Egyptian writer Ihsan Abdel Quddus, who was known through his writings – in general – and in the field of story and novel – in particular – for his loyalty to the romantic trend

The study has been divided into a number of sub-headings:

– Mechanisms of heritage Arabic authorship and the term beyond the story.

– Narrator frame.

– Virtual story: It is addressed through a main idea is to ask questions.

The relation of the tale frame to the tale generated by it.

Keywords: art, narration, short story, morphology, semantics.


1- مقدّمة في متوالية العمليّة النقديّة:

ترتبط شخصيّة الإنسان بثلاثة عناصر تسهم في بنائه على النّحو الذي يبدو عليه داخل سياق الحياة.  يتمثل العنصر الأوّل في الزمن الذي ظهر خلاله ذلك الكائن وما كان فيه من معطيات.  ويتّصل الثّانيّ بالمكان الذي يعبّر عن البيئة من النّاحية الجغرافيّة التي احتضنت هذه الذّات في غالب فترات حياتها، أمّا العنصر الثّالث فيتعلّق بالبناء الحضاريّ الذي تنتمي إليه الذّات الإنسانيّة.

وتُعدّ هذه العناصر بمثابة روافد تتحرّك إلى جوار بعضها بشكل متوازٍ لتصبّ في النّهاية في هذه الأرض البشريّة (الإنسان/الكاتب) التي تحوي عقلًا وروحًا وتعطيها معنى على نحو خاصّ يميّزها عن أراضٍ أخرى مشابهة لها في صفة الإنسانيّة.

إذًا يجب أن يراعي المنظور الذي يحكم عمليّة متابعة الذّات الإنسانيّة – بصفة عامّة – والمبدعة – بصفة خاصّة –هذا الطّابع الاستقباليّ للعنصر البشريّ؛ فلا ينبغي أن تكون الرؤية مقصورة على عملية الإرسال الخاصّة بما ينجزه هذا العنصر من أفعال يتلقّاها من عالمه المحيط، إنمّا لابدّ أن ينضاف إليها ما يستقبله هذا العنصر من رسائل يبعثها إليه السّياق في تجلّياته الزّمانية والمكانيّة والحضاريّة.

بناءً على التّصوّر السّابق يمكن القول إنّ الكائن الإنسانيّ عبارة عن مدخلات ومخرجات، وتتوقّف طبيعة المخرجات الصّادرة عنه على شكل المدخلات التي تفد إليه من العالم الخارجيّ وتؤثّر في تكوينه على نحو بعينه.

 ولكلّ ذات مبدعة سياقان: الأوّل يشكّلها على المستوى الثّقافيّ من خلال روافد عدّة: تاريخيّة واجتماعيّة وسياسيّة، والثّاني سياق تنتجه – هو سياق الإبداع على اختلاف تجلّياته – ويمثّل – بدرجة كبيرة – مظهرًا من مظاهر شخصيّتها على عدّة مستويات في مقدّمتها الفكريّ والنّفسيّ،  ولا شكّ  أنّ السّياق الثّاني هو – إلى حدّ كبير – نتاج معادلة تفاعليّة تمّت بين الذّات المبدعة وسياقها الثّقافي، ويبقى لكلّ عمل فنّي قدرة ذاتيّة خاصّة على الاحتفاظ بما يمكن تسميته احتمالات دلاليّة لا يتسنّى إدراكها إلاّ بالارتحال الواعي داخل أجزائه؛ فالمبدع واقع بينما عمله عالم على درجة من الخيال، ومن الاثنين معًا: الواقع والمجاز يتشكّل – إلى حد كبير –  وعيّ الشّخصيّة المتلقّيّة؛ فالعمل الإبداعيّ أيًّا كان نوعه هو في الحقيقة منظومة تتكوّن من عناصر أربعة، سياق الذّات المنتجة الذي شهد ظهور هذا العمل والبناء الفكريّ لهذه الذّات الذي لا يعد وليد هذا السّياق وحده بل تسبقه مراحل ومؤثّرات عدّة أسهمت في تكوينه، ثمّ بعد ذلك يأتي عمل المبدع نفسه بوصفه – في الغالب – محصّلة هذين العنصرين معاً، وأخيرًا تأتي شخصيّة (المتلقى) التي تستقبل هذا العمل وتحاول الوقوف على ما يمنحه من آفاق دلاليّة.

من هذا التّصوّر يتّضح أن للعمل الفني فاعلان يتحرك في إطارهما؛ الأوّل: يتجسّد في الواقع والنّسق الثّقافيّ الذي تصدر منه الذّات المبدعة. والثّاني: هذه الذّات الفنّانة التي تستلهم – بوعي منها أو من خلال منطقة اللاّوعي داخلها – من هذا الفاعل الأوّل بعض المفردات التي ترتكز عليها في عملها الذي يشغل منطقة المفعول بالنّسبة لهذين الفاعلين.

وفي ضوء هذه الثّنائيّة (الفاعل والمفعول) يتحرّك المتلقّي الذي يؤدّي دور النّاقد في مداره الخاصّ محاولاً إنتاج نصّه الخاصّ.

يمثّل النّقد أحد مظاهر استخدام الإنسان للعقل في القراءة. وبحكم ما تنطوي عليه مادّته اللّغويّة (نقد) من دلالات أوّليّة، كالبيع والشّراء، أو الأخذ والعطاء الذي يقتضي وجود طرفين يمكن الوقوف على هذا الطّابع الاتّصالي المميّز لها؛ فمن هذه الثّنائية الأثيرة (الإنسان والعالم) تتولّد علاقتان:

  • الأديب والعالم ومن حاصل تفاعلهما يخرج النّص (شعر ونثر).
  • النّاقد والنّصّ، ومن ناتج الصّلة بين الطّرفين يخرج منتج معرفيّ تتضافر في تشكّله مكوّنات تنتسب وتعود لأصول فكريّة متنوّعة، ويتوقّف ذلك على الرّصيد الخاصّ بشخصيّة النّاقد وعلى أسلوب تعامله مع النّصّ وصاحبه وعلى طبيعة النّصّ ذاته.

بالطّبع يمكن القول إنّ كلّ ما أنجزته الذّات الإنسانيّة من معارف على في رحلة الحياة الممتدّة قد خرج من رحم هذه الثّنائية، ومما لا شكّ فيه أن للتّيمة/الفكرة (نقد) أثرًا فاعلاً في مجمل ما أنجزته يد هذا الإنسان من معرفة.

2- النّقد: الدّال ومحاور الاهتمام:

إنّ الانطلاق من هذا الدّال (نقد) إلى طبيعة العمل يأخذنا إلى محاور عدّة:

  • الاقتراب البريء بالجوارح (التّصدّي لما يجري في العالم من خلال الالتقاط الأوّلي لها عبر وسائل الرّصد المتاحة لدى هذا الإنسان: سمع، بصر، لمس، …إلخ
  • الصّعود خطوة في سلّم العمليّة التّفاعليّة من خلال محاولة تحليل استقرائيّ للظّاهرة الموجودة في العالم محلّ المتابعة. وتمارس العقليّة النّاقدة في هذه الخطوة دورها في البحث والتّشريح وإحالة المجمل الكلّيّ الذي تم إدراكه عبر الحواس في المرحلة الأولى إلى أجزاء صغيرة تخضع للدراسة بشكل يبدو شبه مستقل عن غيرها داخل هذا المجمل. وفي هذه المرحلة تبدو قضيّة الفيزيقيّ الظاهر هي الشّغل الشّاغل لآلة الفكر النّاقد.

يلي ذلك مرحلة الوصول إلى جواهر دلاليّة تعكس رغبة في إحالة هذا الظّاهر – الذي خضع لعمليّة اقتراب أوّليّ بالجوارح ثمّ إلى محاولة تشريح وتقطيع تثبت أنّ العالم وما هو كائن فيه هو بمثابة كلّ مركّب من أجزاء، ومحاولة اكتشافه لابدّ أن تمرّ أوّلا على هذه المرحلة بالغة الحساسيّة؛ ألا وهي مرحلة الاستقراء – إلى معنى، أو لو شئنا قلنا نتيجة أو حكما.  وفي هذا المحور الثّالث ، نستطيع أن نقول بالإفادة من مبحث الجملة الاسميّة في حقل النّحو العربيّ، إنّنا أمام  (خبر) لمبتدأ يشغل موقعه الجانب الظّاهر من العالم محلّ الرّؤية ببعديها البصريّ المعتمد على العين والعقليّ المعتمد على التأمّل الذّهني.

والسّؤال الذي تنطلق منه هذه المعالجة في عملها هو: كيف يمكن لعالم الفنّ بصفة عامّة والسّرد بأشكاله المتنوّعة بصفة خاصّة أن يقيم علاقة بينه وبين نسق الواقع تقوم على الاتّصال والانفصال معًا، فيما يشبه بنية التّشبيه التي تعتمد على وجود طرفين بينها رابط يتأسّس على التّماثل وفي الوقت نفسه، يحتفظ كلّ طرف بمسافة من الخصوصيّة والاستقلاليّة تميّزه عن غيره؟

وتفترض هذه الدّراسة أنّ هذه البنية السّرديّة لإحسان عبد القدّوس، في تشكّلها الجماليّ الظّاهر المنتمي إلى فن القصة القصيرة، بمثابة منجز لغويّ فني ناقص أو نواة لعمل روائيّ لم يكتمل. هذا العمل الروائيّ الذي لم يظهر مكتملا، يعكس جانبًا من السّيرة الذّاتيّة الكاشفة عن شخصيّة صاحبه. ويشجّع على هذا الطّرح ما جاء في مقدّمة هذه البنية السّرديّة “بعيدًا عن الأرض” بقلم الكاتب صراحةً، وما ورد في كتاب له يتضمّن جانبًا من سيرته الذّاتية يحمل عنوان ” أيّام شبابي”.  لذلك، تسعى الدّراسة إلى الإفادة من مفهوم ما وراء الحكاية الذي يأخذنا إلى التّجربة الشّعوريّة للفنّان التي تقف وراء تشكيله لعمله وتُعَدّ بمثابة فاعل مضمر مسؤول عن خروج المنجز التّعبيريّ في هيأته التي يبدو عليها أمام متلقّي النّصّ. هذا الفاعل المضمر الذي يشغل المؤلّف أمامه موقع المنفّذ أو المؤدّي لما يفرضه عليه، هذه التّجربة الشّعوريّة بمكوناتها التي تحيل إلى عالم المرجع والمكون الثقافي له بأبعاده الفكرية المتنوعة.

إنّ السّؤال الذي تسعى الدراسة إلى البحث في جوابه يتحدّد كالتّالي: هل يمكن النّظر إلى هذه البنية السّرديّة التي تنتمي في بنيتها الظّاهرة إلى فنّ القصّة القصيرة بوصفها بنية قلقة تقف في منطقة وسط بين فنّين: القصّة والرّواية، أو بوصفها غلافا جماليّا يخفي وراءه نسقًا روائيًّا مجرّدًا لم يقدّر له الظّهور في تشكيل فنّي ملموس.

أمّا الإطار المنهجيّ الرّئيس لهذه المعالجة، فيعتمد بدرجة رئيسة على ما يتّصل بالنّظرية المعرفيّة لعلم السّرد الحديث من مفاهيم بحكم طبيعة المجال التّطبيقيّ.

وتركّز هذه المعالجة في مجالها التّطبيقيّ على منجز سرديّ ينتمي إلى فنّ القصّة القصيرة، هذا النّموذج  يتمثّل في قصّة ” بعيدًا عن الأرض ” للأديب المصري إحسان عبد القدّوس الذي عرف من خلال كتاباته بولائه للتّيّار الرّومانسيّ،  وتنقسم قصّته القصيرة على مستوى الفضاء النّصيّ إلى مقدّمة جاءت تحت عنوان ” كلمة ” تليها بعد ذلك القصّة، وقد ركّز فكرته في هذه المقدّمة على الأدب السّينمائيّ، وعرّج في ثنايا تناوله لها على قصّة “بعيدًا عن الأرض” في ظهورها الأوّل موضّحا أنّه كتبها في الخمسينيّات من القرن الماضي لهدف سياسيّ هو أنه لا يوجد عداء طبيعيّ بين أهل الانتماءات الدّينيّة المختلفة،  لكن المنظّمات السّياسيّة هي المسئولة عن افتعال صراعات من هذا النّوع بهدف تحقيق غايات معيّنة. لذلك جاء تكوين القصّة في شكلها الأوّل عبارة عن ” شابّ عربيّ مسلم يلتقي على ظهر باخرة تعبّر المحيط بفتاة يهوديّة في طريقها إلى إسرائيل ويجمعهما الحبّ، إلى حدّ أن يتّفقا على أن يظلاّ في الباخرة بعيدًا عن الأرض”[1]

لكنّ الكاتب تراجع عن إظهار القصّة بالطّريقة التي أرادها لضغوط تعرّض لها من داخل السّياق المحيط[2]، وقد أعاد كتابتها في الذي تم تداوله لتعكس تجربة ذات طابع مأزوم تقوم باسترجاعها ذات أنثوية اسمها نوال هي صاحبة هذه التجربة[3].

وقد قُسّمت الدّراسة إلى عناوين فرعيّة:

  • آليّات التّأليف العربيّة التّراثيّة ومصطلح ما وراء الحكاية.
  • الرّاوي الإطار.
  • الحكاية الافتراضيّة: ويتّم معالجتها من خلال طرح الأسئلة.
  • علاقة الحكاية الإطار بالحكاية المتولّدة عنها.  

2- 1- آليّات التّأليف العربيّة التّراثيّة:

إنّ تقسيم الفضاء النّصيّ الخاصّ ب ـ”بعيدًا عن الأرض” إلى مقدّمة ثمّ بعد ذلك القصّة يقرب إحسان – بدرجة كبيرة – من كثير من المصنّفين العرب القدامى في أعمالهم ذات الطّابع الحكائيّ حيث يستهلونها بمقدمة يجد فيها القارئ نفسه في مواجهة مباشرة مع ذات المؤلّف التي تروي عن نفسها وهي تتناول الظّروف التي أحاطت بسياق تشكيل مصنّفها، وإذا توقفنا – على سبيل المثال لا الحصر – مع نماذج لهؤلاء كالأصفهاني (أبو الفرج علي بن الحسين) – متوفى سنة 356هـ – نجده في مقدمة كتابه “الأغاني” يخاطب قارئه على هذا النحو “..ولعل بعض من يتصفّح ينكر تركنا تصنيفه أبوابا على طرائق الغناء أو على طبقات المغنّين في أزمانهم ومراتبهم.. والمانع من ذلك والباعث على ما نحوناه علل.. المغزى في الكتاب ليس ترتيب الطبقات وإنّما المغزى فيه ما ضمنه من ذكر الأغاني بأخبارها.. والذي بعثني على تأليفه أنّ رئيسًا من رؤسائنا كلّفني جمعه له..”[4].

وهذا مثال ثان نتوقّف من خلاله مع الميداني (أبو الفضل أحمد بن محمد بن إبراهيم) – المتوفى 518هـ – الذي تحدّث في مقدّمة مصنّفه” مجمع الأمثال” عن السّياق المحيط بعمليّة الإنتاج، من مفرداته أنّ أحد ملوك عصره ويدعى أبا علي محمد بن أرسلان دفعه إلى وضع كتاب جامع في الأمثال.. وأنّ كتابه هو حصيلة رحلة في القراءة قام بها المصنّف لأكثر من خمسين كتابا سبقت مصنّفه، وأنّ البناء المنهجيّ لمجمع الأمثال الذي يقوم على تقسيمه أبوابا بعدد حروف الهجاء يعود إلى توخّي صاحبه جانب السّهولة الذي يجب أن يلمسه المتعاملون معه من المتلّقين[5].

من هذه النّماذج يتّضح أنّ خطاب المقدّمة – في الغالب – هو أحاديّ الصّوت تظهر من خلاله ذات المصنّف الحقيقيّة وهي تحاول استقطاب قارئها – بدايًة -إلى سياق الحاضر المحيط بعمليّة التّشكيل. ويؤثّر هذا الأمر في ما سيترتب على تفاعل المتلقّي مع العمل من رؤى.. ولا تتوقّف هذه الآليّة من قبل إحسان عند هذا الدور التواصلي مع الماضي فحسب، بل تأخذنا إلى مصطلح ((Metafiction أو(ما وراء القصّ) المرتبط بأدب الحداثة وما بعده؛ فحضور الأنا الواقعيّة (ذات المؤلف) على هذا النّحو في عملها كما هو الحال بالنّسبة إلى إحسان ومن يحاكيهم من القدماء يشدّ انتباه المتلقّي إلى ضرورة الوعي بالحدّ الفاصل بين الواقع من جانب والإبداع –المصطبغ بصبغة خياليّة – من جانب آخر[6].

ولجوء المؤلّف إلى شرح ما يرى أنه أبعاد تتعلّق بطبيعة عمله القصصيّ تتيح للمتلقّين التّمييز بين أمور ثلاثة قبل الدّخول في مكوّنات هذا المنتج من الدّاخل:

  • أوهام الحقيقة في إشارة إلى الواقع الذي يتم تقديمه بطريقة متخيّلة من خلال الفنّ.
  • فكرة الرّاوي الفاعل المسؤول عن تقديم هذا العالم المتخيّل.

– المباشرة التي يلمسها القارئ عبر هذا الخطاب الموجّه إليه من المؤلّف دون اللّجوء إلى وسيط بينهما أو أيّ مظهر من مظاهر التّخفّي بفضل رغبته في التّأكيد أنّنا أمام ناتج مصطنع قوامه: مؤلّف وقارئ[7].

ولا تبتعد هذه الآليّة عمّا هو عليه الحال في مسرح القرن العشرين الذي لا يدع المتلقّي ينسى أنه أمام عمل مصنوع أو لعبة[8]. ويبدو هذا جليّا عند أديب مسرحيّ مثل بيرتولد بريخت، الذي كانت إبداعاته في النّصف الأوّل من القرن العشرين علامة عاكسة لهذ الاتجاه. فقد كان حريصًا على إيجاد مسافة فاصلة بين جمهور المستقبلين والفنّ المعروض بطريقة تجعل من الأوّل إيجابيّا على الدّوام تعتمد علاقته بالثّاني على الحوار القائم على قدر من الجدل، على عكس ما كان عليه الحال في المسرح اليونانيّ والمسرح الأرسطيّ على وجه التّحديد حيث الجمهور يشغل موقع المشاهد السّلبيّ كلّ ما يعنيه هو حالته العاطفيّة والذّهنية النّاجمة عن تقاربه مع عالم الفنّ (نظريّة التّطهير)[9].

ويُعَدّ توقيع إحسان باسمه في نهاية المقدّمة[10] أحد أشكال هذا الوعي بضرورة الانتباه إلى أنّنا في حياتنا على الدّوام نعيش الواقع ولا يمكن أن ننفصل بشكل مطلق عنه، ولعلّ سلطة الواقع في مصر في فترة الخمسينيّات من القرن الماضي وما شهدته من تحوّلات سياسيّة واجتماعيّة فرضت نفسها على النّخبة المثقّفة بدرجة كبيرة قد تركت أثرًا لها تجلّى فنًّا من خلال هذه الآليّة التي اعتمدها إحسان في تشكيله لقصّة “بعيدًا عن الأرض”، وبالوقوف عندها تظهر قراءته المعتمدة على محاكاة شكل تراثيّ من جانب وإلمامه ببعض ما هو موجود في الأدب العالميّ من جانب آخر.

إذًا فإنّ حديث المؤلّف في المقدّمة عن منجزه السّردي في شكله الثّاني، الذي جاءت استجابة لإملاءات تعرض لها داخل سياقه الواقعي، يقارب – بدرجة كبيرة – ما كان يسمّيه القدماء أمثال الأصفهانيّ والميدانيّ رئيسًا من الرّؤساء أو أحد ملوك العصر . ومن ثمّ جاء إنتاجهم مرتبطًا بسلطة واقعيّة نجدها تتحوّل على مستوى الفنّ إلى سلطة من نوع آخر يمكن تسميتها بـ (سلطة الشّكل) ممثّلة في البناء المنهجيّ الخاصّ بتكوين عمل الكاتب. وتعني هذه العلاقة في مستواها العميق بين الكاتب وسلطة سياقه أنّ الرّجل الملتزم بأدبيّات المعرفة. فهو ينطلق في سلوكه الاجتماعيّ والإبداعيّ محافظًا بدرجة كبيرة على هذه القواعد متّخذًا من رموز أبجديّتها البناء المنهجيّ لعمله وتشير إلى ذلك الصّلة التي جمعت إحسان عبد القدّوس بمن سبقه من المصنّفين القدامى.

إذن يتبيّن – وفق البنية الظّاهرة لفكر الكاتب – أنّنا أمام سلطة في الواقع تحتّم عليه إظهار عمله بطريقة معيّنة تمثّلت عند إحسان في نسق ثقافيّ سائد. ويسعى الكاتب بهذه الآليّة التّأليفيّة إلى وضع فضاء التّلقّي في مواجهة مع ذات أخرى غير ذاته الفرديّة يحرص على إظهارها أمام هذا المتلقّي بوصفها فاعلاً مؤثّرًا قد أسهم سلوكه في إخراج العمل بكيفية محددة.  وتعكس هذه الآليّة أيضا مراوغة من جانبه لإضفاء مزيد من الحيويّة على النّصّين: الغائب المرجوّ انتشاره داخل فضاء الاستقبال والحاضر الموجود بالفعل من خلال تفعيل منظومة الحوار بينهما وبين المتلقّي بعيدًا – إلى حدّ كبير – عن ذات المبدع. ومن ثمّ فالكاتب بهذه الآليّة يحاول التّخفّي ليبدو أمام قارئه حاضرًا مسموع الصّوت، وكأنّ هذا الوجود الواقعيّ لذات المؤلّف في المقدّمة قد جاء ليكون بمثابة قرار للانسحاب ليصبح طرفا عمليّة الاتّصال هما هذا القارئ والنّصّ ومن خلفه طبيعة النّسق الثّقافيّ التي كانت سببًا في وجوده.                  

2-2- الراوي الإطار:

   إنّ الصّوت النّاطق في مقدّمة القصّة الذي يحيل صراحة إلى ذات المؤلّف الحقيقيّة يتناول بنيتين حكائيّتين: الأولى لم يكتب لها الحضور الذي ترغبه هذه الذّات داخل فضاء التّداول، والثّانية هي التي تشغل مكانًا لها بعد المقدّمة وتعدّ بمثابة إعادة تأليف لجأ إليها إحسان. “وقد أثارت هذه القصّة عندما نشرت ضجّة ضدّي، وبعد تردّد طويل قبلت أن أتولّى كتابة القصّة من جديد”[11]. إنّ تجربة المؤلّف مع الإبداع ذات المرجعيّة الواقعيّة قد أفضت به إلى هذا التّشكيل الذي يجعل منه راويًا إطارًا يحتوي منطوقه الصّوتيّ تجربة أخرى قائمة على الخيال[12] .

إذًا فنحن، من خلال المقدمة، أمام سيرة ذاتيّة موسّعة تتجاوز في بعدها الكمي سياقًا قصصيًّا محدودًا. في هذه السّيرة تتجلّى ملامح شخصيّة إحسان على المستوى الفكريّ والعاطفيّ في ضوء علاقته بالسّياق المرجعيّ الذي يحيط به. وفي ضوء تجربته الحياتيّة ونظرته للعالم بصفة عامّة، هذه السّيرة[13] لها كما قلنا مرجعيّة واقعيّة، ومنها يمكن التّمييز بين:

  • مقدّمة: تتضمّن أنا حقيقيّة تؤدّي دور السّارد الشّارح لأبعاد حكاية لم يكتب لها الظّهور المرجوّ داخل فضاء الاستقبال (النّتيجة: حضور صريح لشخصيّة المؤلّف في مقابل غياب فنّي للقصّة القصيرة).
  • القصّة من الدّاخل: تتضمّن أنا متخيَّلة(المرأة/نوال) تؤدّي دور السّارد الحاكي لتجربته التي كان لها فرصة الحضور داخل فضاء التّلقّي (النّتيجة: حضور فنّي لعالم القصّة في شكلها الثّاني كاملا في مقابل غياب لهذه الأنا الواقعيّة التي ستعاود الظّهور من جديد بعد نهاية القصّة تماما لتضع توقيعها كما وضعته في نهاية مقدّمتها؛ أي القصّة[14] .

وجود الرّاوي الإطار (الظّهور اللّغوي للمؤلف من خلال اسمه) في مقدمة العمل وبعد نهايته تأكيد للحضور الواقعي التي يلحّ عليها إحسان بهذه الآليّة (Metafiction/ما وراء القصّ) وتعكس في الوقت نفسه غياب هذا العالم الخياليّ الذي يحلم الكاتب بظهوره ولم يتحقّق بعد ولا يوجد منه إلاّ علامات لغويّة مختزلة تتضمنّها المقدّمة، وقد عبّر الرّاوي الإطار عن هذا الحلم بقوله “وعلى الرّغم من ذلك، فقد بقيت مؤمنًا بهذه القصّة إلى حدّ أنّي حاولت أن أنتجها فيلما سينمائيّا.. إنّ كلّ ما أتمنّاه هو أن يتحقّق إنتاج القصّة الأصليّة. لأنّي مؤمن بها ومؤمن بأنّنا في حاجة إليها باعتبارها تعبيرًا فنّيا يخدم قضيّتنا وأعيش عمري كلّه ومعي هذه الأمنية”[15].

إنّ الحديث عن هذا العالم السّرديّ المسكوت عنه الذي بقي في هيأة مجرّدة في خاطر المؤلّف (فضاء الحلم/الأمنيات) بصيغة القصّة، رغم رغبته في أن يحيله فيلما سينمائيّا يبقى مرضيّا وملبّيًا لوعي القارئ الذي يطالع كلمات المؤلّف في المقدّمة، لكن عينه على الملموس أو المشاهد؛ ألا وهو النّسق السّرديّ الظّاهر في ثوبه القصصيّ القصير؛ إنّ الرّبط بين كلمات إحسان في المقدّمة وقناعاته التي عاش عليها عمره  تعكس بجلاء جانبا من سيرته الذّاتيّة تجعل المسكوت عنه أو النّسق السّرديّ في هيأته المجرّدة الميتافيزيقيّة التي بقيت ساكنة فضاء الخاطر بمثابة عالم روائيّ موسع يحفل بحشد من الأحداث والتّفاصيل التي تجنح به في اتّجاهه من الذّروة إلى التّنوير ناحية حالة رومانسيّة طوباويّة أو لو شئنا القول يوتوبيّة لا مكان فيها لحواجز أو لتمييز أو لصراع منطلقه الاختلاف الذي يستحيل بفعل النّزعة العدوانيّة لدى الإنسان إلى صراع أو وقتل وتدمير.

إذًا فإنّ البناء القصصيّ الموجود الآن بين يدي المتلقّي لا يمثّل البديل المرضيّ بالنّسبة إلى الرّاوي الإطار الحامل لوجهة نظر[16] لا تنسجم وهذا البناء.

يدعم هذه الرّؤية ما تحدّث به إحسان عبد القدّوس صراحةً عن نفسه في كتابه ” أيام شبابي” عندما قال: ” أفكاري ولدت معي وهي ترفض الاستسلام للواقع متطلّعة إلى المستقبل.. ترفض القديم.. ترفض التّقيد بالتّقاليد.. ترفض الخوف الاجتماعي.. ولذلك فمهما طال الأمد عليها، فهي لا تزال أفكارًا جديدة”[17]

2- 3- الحكاية الافتراضية:

  يقود هذا المنطوق المعبّر عن التمنّي في مقدّمة “بعيدًا عن الأرض” وهذا الرّفض الذي يشير إلى إحسان عبد القدّوس وسيرته في الواقع (وعبّر عنه في ” أيام شبابي”) إلى العلاقة التي يمكن أن تجمعه بفضاء التّلقّي؛ فهي علاقة تقوم على قدر من الاحتياج. إنّ الرّاوي بموقعه في مقدّمة “بعيدًا عن الأرض” لا يبحث في الحقيقة عن قارئ لمفردات عالمه الفنّي الظّاهر الذي تؤدّي فيه المرأة “نوال” دور البطولة، إنّما يبحث عمّن يحوّل هذه الحالة الميتافيزيقيّة (الغياب) للبنية السّرديّة الأصليّة إلى حضور (فيزيقيّ) ملموس؛ فسياق الواقع كما يرى ذاك الرّاوي يعاني نقصًا ومن ثمّ فلابدّ من إنجاز فعل ما يمكنه مواجهة النّتائج التي قد تترتّب على هذا النّقص، وهذه عمليّة يبدو أنّ الرّاوي الإطار قد نفض يده منها معلنًا أنّها مسؤوليّة طرف آخر على استعداد للتّعامل الواعي مع منطوقه والاستجابة له[18].

هذا الحضور الفيزيقيّ الملموس المرجوّ أن يتحقّق سيتقاطع بلا شكّ مع سيرة إحسان، وكأنّنا بهذا سنكون على موعد مع نسق سرديّ سيريّ موسّع، منطلقه حالة فرديّة خاصّة لها قناعاتها الفكريّة والعاطفيّة التي تولّدت داخلها في ظلّ ظرف زمانيّ ومكانيّ محدّد، لكن منتهاه حالة إنسانية فرودسية عامة تقوم على تذويب الحواجز بين أفراد الجنس البشريّ. لا مكان في هذه الحالة لقيم سلبيّة، الصّراع والإفساد فيها هو السّلوك الإنسانيّ الغالب.

ويعتمد عمل هذا المتلقّي المنشود على طرح عدد من الأسئلة تجليها بنيتان استفهاميتان، الأولى: كيف نظهر هذا البناء الغائب عن فضاء التّداول؟ الثّانية: لماذا ؟ والسّؤال الأوّل هو – بدرجة كبيرة – سؤال الخطاب (Discourse)[19]؛ أي سؤال الوسيلة التي من خلالها يتقاطع عمل المتلقّي مع حلم الرّاوي الإطار، وإلى جانبه يأتي سؤال الغاية: لماذا نظهر؟ أو ما يمكن تسميته بـ(سؤال المفعول لأجله) الذي يحاول أن يفسّر لنا – بصفة عامّة – العلّة في أداء فعل معيّن، هل المقصود فقط هو إشباع النّاقص عند ذلك الرّاوي، أم إنّ فعل المتلقّي سيتجاوز هذه الغاية الغيريّة وصولا إلى فضاء الاحتياجات الخاصّ به هو الذي يحثّه دائما على الحركة والبحث عن آليّات لإشباعها وربّما تكون قدرته على استحضار هذا الغائب إحدى هذه الوسائل[20].

وقد تلتقي وجهة نظر المتلقّي مع ما يراه الرّاوي الإطار ويكون الوصول إلى العالم الحكائيّ المرجوّ بمثابة علامة دالّة على صداقة قد انعقدت بين الطّرفين عبر الفنّ.           

2- 4- توازي الخطوط:

 إنّ العالم السّرديّ الذي سيعمل المتلقّي على إظهاره ليس بمعزل عن حكاية نوال المتخيّلة في ” بعيدًا عن الأرض”، ويعود ذلك في المقام الأوّل إلى الرّاوي الإطار المسؤول عن الاثنين معًا ممّا يعني أنّ هناك مدارات أربعة تسير فيها العمليّة الحكائيّة برمّتها:

  • الأوّل: الأنا الواقعيّة وتجربتها في إنتاج القصّة الأولى.
  • الثّاني: المتلقّي الذي تنشده هذه الأنا ويضع في دائرة اهتمامه تحويل حالة الغياب أو الحالة المجرّدة لهذه الحكاية إلى الحالة النّقيض.
  • الثّالث: مدار البنية القصصيّة المتخيّلة التي أفرزتها علاقة الرّاوي الإطار بالقصّة في شكلها الأوّل.
  • الرابع: مدار قرائيّ محض يخصّ فضاء التّلقّي – أيضا – لكنّه يعكس ما يمكن تسميته بالدّور التّقليديّ له الذي يعتمد على فعل القراءة المعايشة للنّصّ وما يطرحه عليه من دلالات، ويرتبط هذا المدار عند إحسان – بدرجة كبيرة – بالقصّة في تكوينها الثّاني.

في هذا التكوين الثّاني، يمكن رصد تجربة (نوال / البطل) من خلال مشهدين رئيسين: الأوّل “..إنّ عادل وسعاد في فراشي عريانان(كذا).. ولم أصرخ ولم أتحرّك من وقفتي تجمّدت.. وربّما حاول عادل أن يتكلّم ولم أسمع شيئا وربما شهقت سعاد شهقة كان يمكن أن تقتلها ولكني لم أحس بها.. عدت إلى بيت أهلي وأنا مصمّمة على الطّلاق.. وأخيرا قرّرت أن أسافر إلى أخي الأكبر الذي هاجر منذ سنوات إلى كندا..”[21].

إلى جوار هذا المشهد المأزوم هناك مشهد آخر “.. قرّرت أن أسافر إلى أخي في كندا بطريق البحر.. وكنت واقفة أطلّ على البحر عندما سمعت صوتا بجانبي.. والتفتّ إلى الصّوت إنّه رجل.. وكنت أملأ عيني منه، إنّه مختلف عن عادل تماما.. في نظرته شيء آخر غير نظرة عادل.. وفوجئت به يقول لي: أنا لازم أقدم لك نفسي.. أنا اسمي أحمد عزمي.. ده اسمي اللّي اتولدت بيه دلوقت.. عقلي يحاول اكتشافه، إنّه ولا شكّ لا يحاول خداعي، ولو كان يخدعني لما صرّح لي بأنّه يخفي نفسه عن نفسه عنّي.. عندما أطلّ على البحر وتقفز صورة عادل أمامي تقفز صورة أحمد كأنها تغرقه في بحر النّسيان.. كلّ ما تعطيه لي الأمواج صورة أحمد.. لم نكن سعداء على الأرض سعادتنا في البحر.. قال وقد بدأ الحزن والخجل يبدو في صوته هو الآخر: أنا.. يا نوال متجوّز ومخلّف اثنين.. قلت في بحة أكتم بها صراخي: إنّما إنت ما قلتليش خبيت عليَّ ليه؟.. أنا ما خبتش، إحنا اتفقنا إننا نتولد من جديد.. قفزت أمام عيني صورة سعاد التي استولت على زوجي عادل وعلى بيتي، أنا – أيضا – أصبحت مثلها أستولي على زوج وأهدم بيتا..لا.. لا يمكن أن أرى نفسي ويراني النّاس كسعاد..”[22] (إنّ اعتماد “نوال” على طريقة الرّواية بضمير المتكلّم تجعلنا أمام سيرة ذاتيّة، لكنّها من النّوع الخياليّ تأتي إلى جوار هذه السّيرة ذات البعد المرجعيّ الخاصّة بالرّاوي الإطار في المقدّمة.. وقد توفّر لنوال في سيرتها دوران: الرّواية والتّمثيل؛ فقد جمعت بين كونها الصّوت المتكلّم العارض لتجربة والعين التي رأت هذه التّجربة وعاشتها؛ فهي لم تكن مجرّد جزء من العالم المعروض، بل هي الفاعل الرّئيس فيه[23].

وتتشكل أزمة (نوال/البطل) من خلال محور ذكوريّ يقوم على شخصيّتين: عادل وأحمد عزمي فالاثنان معًا يمثّلان عالمًا معيبًا يكتشف البطل مواطن الخلل فيه بفضل تفاعله مع مفرداته. فعادل نموذج مجسّد لمنظومة أخلاقيّة سقطت؛ إنّه يؤدّي دور الزّوج الخائن، وقد دفعت هذه الخيانة البطل إلى الرّحيل.. وفي أثناء رحلته يلتقي بشخصيّة أخرى هي أحمد عزمي الذي وجد في ارتباطه به تعويضًا عن أزمته الأولى، لكن نوال تكتشف بعد ذلك ما تراه عيبًا فيه. فهو متزوّج بأخرى وعنده أولاد ومن ثمّ فإنّ لقاءها الاجتماعيّ به (الزّواج) يعني ألمًا لإحدى بنات جنسها وتفكيكًا لكيان أسري قائم. ليس هذا فحسب، بل والحركة بعيدًا عن حلمها الذي تتمنّى لو تدركه؛ ومن ثم يصبح فعل الابتعاد وفق منظورها الخاصّ محمّلاً بدلالة سلبيّة لا ترغبها.

إنّ عادل وأحمد عزمي يرمزان لأزمة متعدّدة ومتنوّعة في مظاهرها، وتغييرها يقوم بدايةً على رفضها. فكان انفصال نوال عن عادل في المشهد الأوّل (الطّلاق) وقرار الرّحيل عن أحمد عزمي في المشهد الثّاني فعلين دراميّين يعكسان هذا الرّفض الذي يأخذ القارﺉ إلى عنوان عمل إحسان ” بعيدًا عن الأرض”. إنّ هذا الابتعاد هو بمثابة تأكيد فنّي للطّبيعة التي تميّز سياق الواقع – بصفة عامّة – على المستوى المرجعي المتمثّلة في كون الأزمة المرادفة لما به من عيوب جزءًا من تكوينه، ونوال هي صوت الفنّ الناطق الذي يعبّر بطريقته عن هذه الطّبيعة التي تجعل من الدّال “الأرض” بناء رمزيّا للواقع الذي تشغل الأزمة على اختلاف أشكالها وتعدّد درجات تأثيرها مكانًا واضحًا فيه.

كما تأخذنا بنية العنوان إلى هذه الكلمات التي نعاود ذكرها مرة أخرى، هذه الكلمات التي يمكن أن تؤهلها قراءتها لتكون بمثابة مرآة نستطيع أن نرى من خلالها إحسان عبد القدّوس على المستوى الذّهنيّ والنّفسيّ “أفكاري ولدت معي وهي ترفض الاستسلام للواقع متطلّعة إلى المستقبل.. ترفض القديم.. ترفض التّقيّد بالتّقاليد.. ترفض الخوف الاجتماعيّ.. ولذلك فمهما طال الأمد عليها فهي لا تزال أفكارًا جديدة”[24].

هذه النّظرة الرّومانسيّة ذات الطّابع المثاليّ تعدّ إطارًا فكريّا يحتضن عددًا من إبداعات إحسان. فقد تحوّل هذا الرّفض (الابتعاد) إلى نفي يتّخذ لنفسه مظهرين:

  • الأوّل، صريح تجلّى في أعمال مثل: لا أنام، حتى لا يطير الدّخان، لا شيء يهمّ، ولن أعيش في جلباب أبي.
  • الثّاني، غير صريح يبدو في أعمال مثل: أنا حرّة، الطّريق المسدود، وقصّة بعيدًا عن الأرض.

وتفسّر لنا هذه الأيديولوجيا  بدرجة كبيرة سلوك الرّاوي الإطار في المقدّمة الذي يبدو حريصًا على التّرويج لفكره من خلال منبر الفن، وفي الوقت ذاته، يقدّم أمام فضاء التّلقّي شكلاً من أشكال الصّراع الذي يمكن أن ينشب إذا ما تعارضت أيديولوجيا الفرد مع الطريقة التي تحكم فكر السّياق المحيط ذي الطّابع الجمعيّ في الغالب؛ فها هي  قصّة “بعيدًا عن الأرض” في شكلها الثّاني تعدّ بمثابة انعكاس فنّي لهزيمة مُنِيت بها هذه الذّات واقعا أمام منطق جمعي مهيمن لذلك ، فالنّتيجة بقاء الحلم كما هو واستمرار الحالة النّفسيّة للرّاوي الإطار المبنية على التّمنّي كما هي؛ ومن ثمّ حضور جليّ لصوت الواقع قد اتّخذ مظهرا له في عالم الفنّ تجلّى بدايةً بهذا التّوظيف لتقنيّة( Metafiction/ ما وراء القصّ).   

وها هو ذا التّشكيل الدّراميّ لنوال يؤكّد أنّنا مازلنا على الأرض، دليل ذلك أنّها لم تتخلّص من أزمتها، أي من هذه الطّبيعة المميّزة للواقع الإنسانيّ عمومًا. وقد جاءت خاتمة القصّة انعكاسا لهذا الحال “يا ربّ أريد أن أدري كيف أعيش على الأرض”[25]. إنّ هذه الأرض المتمنّاة هي في الحقيقة دالّ يرمز إلى الحلم بعالم مثاليّ لم يصل إليه البطل. وسيأخذ هذا الحلم المتلقّي حتما إلى عكسه ممثّلا في أنّ صوت السّياق الواقعيّ لايزال عاليا، ومن خلاله ندرك أنه من الصعب على النّماذج المشابهة لأحمد عزمي داخل هذا السّياق أن تحقّق نفسها بالدّخول في علاقات حب جديدة تكلّل ب بالزّواج. ومن خلاله ندرك – أيضا – أنّه من الصّعب على نظائر عادل الواقعيّين أن يعيدوا حياتهم سيرتها الأولى بعدما ارتكبوه من مخالفات. وهذا يعني أن نوال وعادل وأحمد عزمي إلى جانب سعاد ليسوا إلاّ أدوات جماليّة تثبت للمتلقي أن الفن من هذا الجانب ما هو إلاّ نافذة نعيد من خلالها النّظر إلى الواقع لكن بطريقة تبدو مغايرة، أو نرى منها ما قد لا يتاح لنا إدراكه داخل هذا الواقع الممتدّ.

وهكذا تأخذنا  آليّة الحكاية الإطار عند إحسان  بشكل متدرّج من الواقع حيث الفكر إلى الفنّ الذي يحاول أن يعبّر عنه لتصبح هذه الآليّة بمثابة التّكوين الجماليّ العاكس لما قد ينجم عنها من نتائج؛ فقصّة “بعيدًا عن الأرض” في شكلها الأوّل تحاول أن تكون مظهرًا فنيّا لفكر إحسان، لكن النّتيجة كانت تشكيلاً فنّيا مغايرًا يشير إلى صراع ربّما كان في الأصل داخل الذّات الفرديّة نفسها بين ما هو كامن داخلها وما تراه في واقعها قبل أن يتحوّل في مرحلة تالية إلى صراع خارجيّ ينتهي بتوقّف أحد الطّرفين كما حصل لإحسان.؛ ومن ثمّ بالارتكاز على عمله ” بعيدًا عن الأرض”، يتّضح أنّ الحركة الدّراميّة للحكاية الإطار عنده تبدأ من واقع يمكن تلمّس إطاره الزّمنيّ من خلال كلماته السّابقة التي تحيل – بدرجة كبيرة – إلى مراحل حياته الأولى، ثمّ تتّجه بعد ذلك  زمنيّا – أيضا – وصولا إلى الفنّ حيث “قصّة بعيدا عن الأرض” التي ينعتها إحسان بـ “الأصليّة” وقد حاول أن يخرجها كما يقول في فترة الخمسينيّات من القرن الماضي، ومنها خرجت قصّته في شكلها الثّاني.

 يتبيّن إذن أنّ فضاء الاستقبال – في مجمله – في ضوء هذه الآليّة يتحرّك في مداره مع الكاتب من إطاره الفكريّ الواقعيّ إلى الفنّيّ المترتّب عليه وصولا إلى ما يمكن تسميته(ما بعد الفنّي) في بناء متسلسل ذي طرفين، الأوّل: حكاية الواقع والهزيمة الفردية التي نجمت عنها، وحكاية من داخل عالم الفنّ جاءت نتيجة لهذه الهزيمة (الطّرف الثّاني). 

2- 5- علاقة الحكاية الإطار بالحكاية المتولّدة منها:

يكون الوقوف على طبيعة العلاقة بين الحكاية الإطار والحكاية المتولّدة عنها من خلال الأنا الواقعيّة التي تشغل مكانها في مقدّمة العمل وهذه الأنا المتخيّلة “نوال” في القصّة من الدّاخل، وعبر تجربة كل واحد منهما يتسنّى معرفة مواطن الاتّفاق والاختلاف.

إنّ أوّل ما يشدّ الانتباه هو الصّوت الفرديّ النّاطق بضمير المتكلّم في المقدّمة وبه يحكي صاحبه تجربة مرّ بها في سياقه الواقعي. وقد نتج عنها بناءً خياليّا يقوم على تقديمه صوت واحد يعتمد الطّريقة نفسها(الرّواية بضمير المتكلّم) الموجودة في خطاب المقدّمة؛ ومن ثمّ فكلا الاثنين يوظّف آليّة واحدة.

يقدّم كلّ من الحكاية الإطار والقصّة التي أفرزتها لفضاء التّلقّي ذاتًا متمنّية تنشد حلمًا تسعى لأن يكون واقعًا ملموسًا؛ فالأنا الواقعيّة تقول في خاتمة الحكاية الإطار:” إنّ كلّ ما أتمنّاه هو أن يتحقّق إنتاج القصّة الأصليّة.. “والأنا المتخيّلة “نوال” تقول في خاتمة قصّتها ” يا ربّ أريد أن أدري كيف أعيش على الأرض”.. فالرّاوي الإطار يبحث عن عالم مثاليّ يراه مختبئًا خلف هذا الجماليّ (الحكاية الأصليّة) إذا قدّر له الظّهور بطريقة معيّنة داخل فضاء التّداول، وهذه الأنا المتخيّلة تبحث هي الأخرى عن عالم جميل يرادف فكاكها من أزمة تميّز طبيعة الواقع المعيش.

بمتابعة قصّة نوال، يتّضح أنّها ما زالت على الأرض، وهذا يعني أنّ العنوان الحقيقيّ لتجربتها هو (على الأرض). أما عن العنوان ” بعيدًا عن الأرض” فقد أراد له الرّاوي الإطار أن يكون شاهدًا على حلمه المرجوّ من جانب، وأن يكون مرتكزا يتحرّك منه المتلقّي المنشود الذي من شأنه تحويل حالة الغياب للحكاية الأصليّة إلى حضور ملموس.

إذًا فنحن أمام قصّة تبحث عن عنوان يعبّر عن عمق تجربتها، ألا وهي قصّة “نوال”، وأمام عنوان ينشد من يحقّق له حكايته، على النّحو الآتي:

  • “بعيدًا عن الأرض”: عنوان موجود يبحث عن حكاية يكون ظهورها بالطّريقة التي يتمناها الرّاوي الإطار.
  • تجربة نوال: هي انعكاس لقصّة موجودة بالفعل تبحث عن العنوان الذي يناسبها (على الأرض)

في ضوء هذا التّصوّر تصبح العلاقة القائمة بين التّجربتين قائمة على (الضّدّية)، هذه الضّدّيّة الحكائيّة مردّها في النّهاية إلى مصدر واحد هو هذا الرّاوي الإطار الذي يضحى عمله في إبداع إحسان امتدادًا لعلاقة التّضادّ الموجودة في عالم اللّغة عندما يكون للدّالّ معنيان متعاكسان في الوقت نفسه. ولعلّ اختيار الرّاوي الإطار لاسم الأنا المتخيّلة “نوال” هو اختيار مقصود – إلى حدّ كبير – يعبّر من خلاله عن العلاقة القائمة على الاتّفاق والاختلاف الخاصّة بكلا التّجربتين في آن واحد؛ فنوال دالّ يعبر عن ذات أنثويّة، بينما الرّاوي الإطار يحيل إلى ذات ذكوريّة، ونوال تعبير عن رؤية تقوم على فكرة البحث عن عالم مثاليّ يشغل مكانه في فضاء الحلم الخاصّ بكل منهما لما يرتبط بمدلوله من طابع حركيّ يشير إلى السّعي من أجل نيل غاية.

في النّهاية يتضح من خلال الفضاء النّصّيّ لـ” بعيدًا عن الأرض” أنّنا أمام واقع يبحث عن خيال. هذا الواقع في حقيقته هو حال كلّ ذات تظلّ طيلة حياتها توظّف عملها في البحث عن الجماليّ كما تحلم به . وبمرور الوقت، تتحوّل هذه العمليّة إلى غاية في حدّ ذاتها، بعد أن تعيش الذّات متوهّمة أنّها وسيلة – أو ربّما تكون كذلك – لتصبح السّعادة الحقيقيّة في العمليّة نفسها المقترنة بحلم الوصول وليس بالالتقاء بالغاية المتمنّاة في حد ذاتها. ومن ثمّ يصير الدّال “بعيدًا” ظرفا يعكس على مستوى الفنّ كلّ حال إنسانيّ من هذا النّوع يلتقي من خلاله الحقيقيّ بالمتخيّل الحامل لهذا الحلم المجرّد عند ذات فاعلة واحدة تبقى معايشة لهما في خطّين متوازيين كما هو الشّأن بالنّسبة لـ(على الأرض) و” بعيدًا عن الأرض” عند إحسان عبد القدوسّ.

3- العمل الفنّي: التّنازع والاشتغال:

إنّنا عبر الفنّ – ونموذجه هذا العالم السّردي لإحسان عبد القدّوس– بصدد عمليّة تعتمد على التّقريب دون الوصول إلى درجة التّماهي الكامل بين المرجعيّ والمتخيّل. يسعى الكاتب من خلال الرّاوي صنيعته وفق هذه العمليّة، إلى إقامة كيان جماليّ بمنظورين؛ منظور يتّصل بعالم المرجع المعيش الملموس، ومنظور فنّي يعيد رؤية الواقعيّ المعيش وفق هيأة مخصوصة تعتمد على التّشفير/الرّمز.

 وبلا شك، فإنّ النّزعة السّيميائيّة للقراءة التي تتجاوز عتبة الرّصد الوصفيّ المحض القائم على استقراء أجزاء العالم الفنّيّ التي يتكوّن منها دون أن يتعدّاها إلى ما سواها، وصولا إلى تتبّع القيم الدلالية التي تسكن خلف هذا الظاهر الفيزيقي المدرك بالعقل والشعور وبالحواس تتيح للمهتمين بهذا الطابع (النزعة السيميولوجية في قراءة النصوص) قدرةً على تبيان مواضع الاتصال والانفصال بين ما يمت للحقيقة المعيشة بصلة وما يتصل بالفن وقوانينه.

يمثّل العمل الفنّي إذًا على تنوّع الصّيغ التّعبيريّة التي يتجلّى من خلالها، حالة مفعوليّة يتنازعها عاملان يسهمان في صياغة هويّته؛ الأوّل: صاحب هذه الصّيغة الذي يجعل منها أداة أو مطيّة للوصول والحضور وتسجيل المواقف داخل عالمه ألا وهو الفنّان مبدع العمل. والثّاني: القارئ المتوسّل بأدوات منهجيّة وبرصيد من المعارف والخبرات في إضاءة ما يتضمّنه من قيم جماليّة تتمثّل في العناصر الظّاهرة التي يتشكّل منها، وما يظنّه مخبوءًا وراء هذه القيم الجماليّة من دلالات تتّصل بالسّياق المرجعيّ الخارجيّ الذي يأوي إليه كلّ من المبدع والنّاقد معًا.

إننا ههنا في معالجتنا للفنّ بأشكاله التّعبيريّة المتنوّعة بصدد ثنائيّة (الثّابت والمتغيّر) أو (الأحاديّة والتّعدّد)؛ فالعالم المرجعيّ بمثابة هيأة بملامح محدّدة، لكن العيون التي تتناوبها وتقوم برصدها تضفي عليها طابعًا سمته التّغيّر والتّنوّع؛ بحكم المنطلقات النّفسيّة والذّهنيّة الحاكمة لهذه الرّؤية؛ فعلى  سبيل المثال الأديب عين ترى العالم وتصدر حكمها عليه من خلال الصّيغة التّعبيريّة التي يتخيّرها لهذه الرّؤية ولهذا الحكم المترتّب عليها، والنّاقد أيضًا عين ترى العالم، ورؤيتها له تأتي من خلال النّافذة التي يتيحها له المبدع، ومن خلال رصيد الخبرات والتّجارب والمحصول المعرفيّ والثّقافيّ الخاص بهذا النّاقد؛ ومن ثمّ فإنّ محاولة الوقوف على هويّة تتعلّق بكلّ عمل فنّي مسألة ليست رهينة بأحد طرفي عمليّة الاتصال دون الآخر؛ فالمكوّن الرّمزيّ الذي ينطوي عليه عالم الفنّ ليس إلا وسيلة جذب وأداة غواية تدفع أطرافًا أخرى للاقتراب والمعايشة، ولهذه الأطراف مآرب قد لا تكون متطابقة؛ فشتّان بين قارئ حظه من العمل الفنّي المتعة  التي تتحقّق من خلال حالة الانفصال النّفسيّ والذّهنّيّ التي يكفلها له العمل الفنّيّ بحكم عوامل الغرابة والإدهاش التي ينطوي عليها في تشكيله، وقارئ متدثّر بثياب النّاقد؛ العمليّة الفنّيّة بالنّسبة إليه وسيلة لغايات تتعلّق بالرّصد الوصفيّ والتّطبيق والتّحليل والمقارنة وإصدار الأحكام. لذا فإنّ مبدأ اللّذّة الذي ينشد حصوله هذا النّاقد ليس مقصورًا بالطّبع على قراءة سلبيّة أو على حالة من التّلقّي المحض. لكنّه بمثابة غاية ضمن شبكة غايات قد تضمّ الإضاءة المنهجيّة والكشف عبر التّطبيق عن إطار نظريّ يتبنّاه النّاقد ويسعى للتّرويج له والانحياز له من خلال نشاطه في قراءة الأعمال الأدبيّة والفنّيّة بصفة عامّة، يدعم هذا المنحى من جانبه انشغاله بنوع فنّيّ بعينه يجعل له حظًّا وافرًا من جهده النّقديّ. وتبقى مسألة استكشاف المعنى بناءً على مطيّة التّشكيل الجماليّ للنّصّ التي يعرج فوقها النّاقد بمثابة غاية علويّة للنّاقد الذي يفتح مجال العمليّة النّقديّة واسعًا على الحالة المرجعيّة الكائنة خارج العمل الفنّيّ يحاول فهمها ووضع قيم دلاليّة إزاءها من خلال اتّصاله في ظرف زمانيّ بعينه بعمل الفنّان. ولا شكّ أنّ هذا الجمع بين الشّكليّ الوصفيّ والاستكشافيّ التّأويليّ يضفي على فعل القراءة الخاصّ بالنّاقد ثراءً ونضجًا يأخذنا إلى التّيّار السّيميائيّ في معالجة عوالم الإبداع. فمنجز المبدع والعالم الخارجيّ المحيط بمثابة ثنائيّة مميّزة لهذه النّزعة النّقديّة التي تفتح عمل النّاقد على شريحة أكبر من القرّاء يمكنهم النّظر إلى الكتابات النّقديّة نظرة تخرج بها من الحيّز الأكاديميّ التّعليميّ الضّيّق إلى رحابة التلقي التي قد ترى في مثل هذه النّوعيّة من الكتابات – أي كتابات النّقّاد – مادّة معرفيّة وتثقيفيّة وثيقة الصّلة بسياق واقعيّ وحضاريّ يخصّ جماعة إنسانيّة بعينها.

4- خاتمة:

في ضوء الطّرح السّابق يتبيّن الآتي:

– للمرجع الخارجيّ الذي تسكنه تجربة المبدع الشّعورية دور سلطوي في توجيه البنية الجمالية على مستوى الصّياغة الظّاهرة وعلى مستوى ما تحتضنه من قيم دلاليّة يتولّى مهمة الكشف عنها المتلقّي مرتديًا رداء المؤوّل الذي يتصدّى لها بالقراءة.

– مقتضيات السّياق الزماني المكاني تعدّ بمثابة نسق مضمر يشغل موقع الفاعل بالوقوف على أبعاده التي تمثّل هويّته يتسنى للقارئ تحديد هويّة المنجز الفنّي الذي أنشأه المبدع.

– القراءة النّاقدة التي تتغيّا قدرًا من الإحاطة والشّمول عليها أن تتعامل مع العمل الفنّي وفق محورين: شكليّ يتعلّق بعناصر العمل من الدّاخل والعلاقات الرابطة فيما بينها، ومحور يتّصل بالمعنى؛ بوصف ذلك غاية تضفي على فعل القراءة قيمة تتجاوز به رتبة المتعة والتّسلية فقط إلى رتبة أرقى تتّصل بالرّصيد المعرفيّ الذي يمكن للقارئ أن يضيفه إلى ما عنده من فكر، وترتقي بالعمل الفنّي في الوقت نفسه؛ فلا يقتصر على كونه ممثلا لمنطقة الاستراحة والرّفاهية في حياة الإنسان فحسب، إلى كونه يحمل رسالة وينطوي على منفعة قد تسهم في توجيه الواقع والتّأثير فيما يجري فيه.

– العمل الفنيّ لإحسان عبد القدوس محلّ الدراسة يعدّ قصة قصيرة مكتملة التّأليف في بنيتها الظّاهرة، لكنّه في بنيته العميقة رواية لم تكتمل فصولها بعد، وفي ضوء ثنائية الفيزيقي والميتافيزيقي نحن أمام عنوان ملموس يبحث عن رواية لم يتم تأليفها، هو” بعيدًا عن الأرض”، وعنوان ميتافيزيقي غير ملموس لبنية قصصية حاضرة أمام العيون القارئة هو (على الأرض).

– تجربة محمد عبد الحليم عبد الله الواقعيّة بمثابة نص تاريخي تسجيلي انتقى منه المؤلف مادّة أحالها إلى عالم يتقاطع عنده الخياليّ مع المرجعي، لكنّه إلى الخيالي أقرب؛ ألا وهو مجموعته القصصيّة “أشياء للذكرى”، وفي ضوء هذا الطّرح يمكن العروج إلى رؤية عامّة مفادها أنّ كل عمل فنّي سمته الخيال يعدّ بمثابة حالة تعتمد في تشكيلها على الانتقاء والاختيار من نصّ تاريخي تسجيلي أكبر تجليه حياة المبدع الفنّان وواقعه الذي عاشه، وما كان فيه من أحوال.

قائمة المصادر والمراجع:

باللّغة العربيّة:

  • إحسان عبد القدوس، أيام شبابي، طبعة 1997م، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
     -بعيدًا عن الأرض، المقدمة، طبعة 1998م، مطبوعات أخبار اليوم، القاهرة.
  • الأصفهاني (أبو الفرج علي بن الحسين)، الأغاني، الجزء الأول، المقدمة، الطبعة الثانية،1371هـ، 1952م، دار الكتب المصرية، القاهرة.
  • جيرار جينيت، خطاب الحكاية، ترجمة: محمد معتصم وآخرون، الطبعة الثانية،1997م، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.
  • جيرالد برنس، المصطلح السردي، ترجمة: عابد خزندار، طبعة 2003م، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.
  • صالح سعد، الأنا الآخر (ازدواجية الفن التمثيلي) ، طبعة 2001م،سلسلة عالم المعرفة، الكويت.
  • فلاديمير بروب، مورفولوجيا الحكاية الخرافية، ترجمة: أبو بكر أحمد باقادر، أحمد عبد الرحيم نصر، طبعة 1499هـ،1989م.
  • فولفجانج أيرز، فعل القراءة (نظرية في الاستجابة الجمالية)، ترجمة: عبد الوهاب علوب، مجلة فصول، عدد60، صيف- خريف 2002م.
  • محمد مندور، الأدب ومذاهبه ، طبعة مكتبة نهضة مصر ، القاهرة، دون تاريخ.
  • الميداني (أبو الفضل أحمد بن محمد بن إبراهيم)، مجمع الأمثال، الجزء الأول، المقدمة ، طبعة 1961م، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت.
  • والاس مارتن، نظريات السرد الحديث، ترجمة: حياة جاسم محمد، طبعة 1998م، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.

باللّغة الأجنبيّة:

  • Chris Baldick, The concis of oxford, Dictionary of literary terms, p. g,133, Oxford university press, New
  • A. Cuddon, A Dictionary of literary terms and literary, Third edition, Blackwell reference  Theory,
  • Martin Gray, A Dictionary of literary terms, (Metafiction, Metanovel), p. g 173, Longman, york press.
  • Wanda Rulweicz, AGrammer of Narrativity, www.Arts.Gla.Ac.Uk
  • Deutsche-welle.de
  • wikipedia.org

[1]– إحسان عبد القدوس، بعيدًا عن الأرض، المقدمة، ص10، طبعة 1998م، مطبوعات أخبار اليوم، القاهرة.

[2]– إحسان عبد القدوس، بعيدًا عن الأرض، مرجع سابق، ص10.

[3]– انظر: القصة القصيرة من الداخل، من ص15 إلى ص44.

[4]– الأصفهاني (أبو الفرج علي بن الحسين)، الأغاني، الجزء الأول، المقدمة، ص3،4،5، الطبعة الثانية،1371هـ، 1952م، دار الكتب المصرية، القاهرة.

[5]– انظر: الميداني (أبو الفضل أحمد بن محمد بن إبراهيم)، مجمع الأمثال، الجزء الأول، المقدمة، ص11 ، 12 طبعة 1961م، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت.

[6]–  Martin Gray, ADictionary of literary terms, (Metafiction, Metanovel), p.g 173, Longman, york press

[7]– Chris Baldick, The concis of oxford, Dictionary of literary terms, p.g,133, Oxford university press,     

[8]– انظر: www.Wikipedia.org

[9]– انظر: د. صالح سعد، الأنا الآخر (ازدواجية الفن التمثيلي)،ص128، طبعة 2001م،سلسلة عالم المعرفة، الكويت.

– بيرتولد بريخت: رائد المسرح الملحمي www.Deutsche-welle.de

[10]– انظر: إحسان عبد القدوس، بعيدًا عن الأرض، ص12.

[11]– إحسان عبد القدوس، بعيدًا عن الأرض، مرجع سابق، ص10،11.

[12]– الراوي الإطار يرتبط بما يسمّى اصطلاحًا في علم السّرد الحديث بـ( Frame story ( أو القصة الإطار، أي القصة التي تتضمن داخلها قصة أخرى أو القصة التي بداخلها قصة أو سلسلة من القصص المتتالية.. أشهر مثال على هذا النوع الليالي العربية (ألف ليلة وليلة)، وهي غير محدّدة التاريخ بدقّة، لكنّها ظهرت في القرن التّاسع الميلادي، والليالي العشر (الديكاميرون) لبوكاتشيو (1349م) وحكايات كانتربري في القرن الرابع عشر الميلادي.

– انظر: J.A Cuddon, ADictionary of literary terms and literary, p.g,354,Third edition, Blackwell reference Theory, 

[13]– تسمى هذه الطريقة في علم السرد الحديث بـ( سرد الشخص الأول/السرد الذاتي) (First person narrative)هي عبارة عن سرد يكون فيه السارد شخصية منتمية إلى الوقائع والمواقف المحكية وبهذه الصفة يشار إليه بضمير الـ(أنا).

– انظر: جيرار جينيت، خطاب الحكاية، ترجمة: محمد معتصم وآخرون، ص198، الطبعة الثانية،1997م، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.

-جيرالد برنس، المصطلح السردي، ترجمة: عابد خزندار، ص85، طبعة 2003م، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.

[14]– انظر: إحسان عبد القدوس، بعيدًا عن الأرض، ص44.

[15]– المرجع السابق، ص12.

[16]– لهذا التعبير على المستوى الفكري (الأيديولوجي) مفهومه في علم السرد؛ إذ يعني “مجموعة من المواقف والآراء والاهتمامات الشخصية التي تكون الموقف العقلي والعاطفي لشخص ما في علاقته بالعالم”.

والاس مارتن، نظريات السرد الحديث، ترجمة: حياة جاسم محمد، ص196، طبعة 1998م، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.

[17]– إحسان عبد القدوس، أيام شبابي، ص15، طبعة 1997م، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.  

[18]– يطلق على هذه الحالة بما يسمّى في نظرية التلقّي مصطلح “الاستجابة الجمالية”، ويشير إلى” العلاقة الجدلية بين النصّ والقارﺉ والتفاعل بينهما، وتسمّى جمالية لأنّها تثير قوى الإدراك والتخيّل لدى القارﺉ مع أنها تنبع من النص”.

فولفجانج أيرز، فعل القراءة (نظرية في الاستجابة الجمالية)، ترجمة: عبد الوهاب علوب، ص409، مجلة فصول، عدد60، صيف- خريف 2002م.

[19]– يشير هذا المصطلح إلى الكيفية التي تقدم بها المادة القصصية المشكلة من حدث وزمان ومكان وشخصيات إلى المتلقي.. والخطاب بهذا المفهوم يتضمن نوعًا من الإشارة إلى عملية التلفظ وتنطوي على وجود مرسل ومتلق.

انظر: جيرالد برنس، المصطلح السردي، ترجمة: عابد خزندار، ص62 ،63 .

إلى جوار مصطلح الخطاب هناك مصطلح الصّيغة الذي يحدد بدقّة نوع الخطاب الحكائيّ وفق الهيئات المتعلقة بالرّاوي أثناء تشكيله للمادّة الحكائية..

انظر: جيرار جينيت، خطاب الحكاية، ترجمة: محمد معتصم وآخرون، ص 40، 198،200.

[20]– سؤال المفعول لأجله يقترب في الحقيقة من أحد الأدوار الدراميّة التي تؤدّيها الشّخصية وفق منظور علم السّرد الحديث استنادًا إلى رؤية اللغويّ الروسيّ فلاديمير بروب ومن بعده المنظّر السيميائي جوليان جريماس، هذا الدّور هو “المرسل إليه” الذي يتضمّن بين معانيه إشارة إلى الغاية، وقد عبّرت عنها الحكاية الشّعبية من خلال شخصيّة “الأميرة” التي يلتقي بها البطل عبر فعل الزّواج في نهاية المطاف.

انظر: فلاديمير بروب، مورفولوجيا الحكاية الخرافية، ترجمة: أبو بكر أحمد باقادر، أحمد عبد الرحيم نصر، ص 16، طبعة 1499هـ،1989م.

-Wanda Rulweicz, AGrammer of Narrativity,www.Arts.Gla.Ac.Uk

[21]– إحسان عبد القدوس، بعيدًا عن الأرض، ص 21 ،22 ، 24.  

[22]– المرجع نفسه، ص24،25 ،27 ،28 ،30،31، 38، 39

[23]– انظر: جيرار جينيت، خطاب الحكاية، ترجمة: محمد معتصم وآخرون، ص 198 ،200 ،201.

[24]– إحسان عبد القدوس، أيام شبابي، ص15.

[25]– إحسان عبد القدوس، بعيدًا عن الأرض، ص44.

مقالات أخرى

نظريّة العدالة كأنصاف عند” راولز”

لمحة عن مظاهر التّسامح والتّطرّف بين المكوّنات الدّينيّة  في المغرب

تسريد القيم

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد