التّفكيكيّة ومضموناتها التّربويّة: قراءة في كتابات جاك دريدا

التّفكيكيّة ومضموناتها التّربويّة

 

ملخّص:

التّفكيكيّة نهج فلسفيّ وأدبيّ نقديّ، يتحدّى الافتراضات التّقليديّة السّائدة حول اللّغة والمعنى والحقيقة. وبعد تقديمها لأوّل مرّة في ستّينيّات القرن الماضي على يد الفيلسوف الفرنسيّ جاك دريدا، كان لها تأثير عميق في مجالات كثيرة، مثل النّقد الأدبيّ والفلسفة والدّراسات الثّقافيّة. وتسعى التفكيكية في جوهرها، إلى إظهار وتقويض التّناقضات الثّنائيّة والبنى الهرميّة التي تحكم تفكيرنا وطرق تواصلنا مع الآخرين. وتهدف من خلال تحليل التّناقضات الكامنة في النصوص واللغة، إلى زعزعة استقرار التّصوّرات الثّابتة والإقصائيّة التي تقوم عليها المعايير الاجتماعيّة والثّقافيّة، وتحثّ على استخدام مقاربات جديدة في النّظر إلى اللّغة والمعرفة والمجتمع.

وقد شهدت السّنوات الأخيرة اهتماما متزايدا من جانب التّربويين بكتابات جاك دريدا المتعلّقة بالتّفكيكيّة. وكان الدّافع وراء هذا الاهتمام متمثّلا في البحث عن مقاربات جديدة للتّفكير بما يخصّ التربية والتّحدّيات التي تواجهها في هذا العصر.

وتسعى هذه الورقة البحثيّة إلى تقديم نظرة عامّة شاملة عن التّفكيكيّة ومقولاتها الأساسيّة وعلاقتها بما بعد الحداثة، وتسليط الضّوء على مضموناتها التّربويّة، من خلال تحليل أفكار جاك دريدا، وإبراز الإشكاليات التي تثيرها هذه الأفكار حول العلاقة بين الترّبية والعالم، ومصداقيّة المعرفة التّربويّة، ومفهومات المعلّم والمتعلّم، وغير ذلك من القضايا المرتبطة بالخطاب التّربويّ المعاصر.

الكلمات المفاتيح: التّفكيكيّة، ما بعد الحداثة، البنيويّة، ما بعد البنيويّة، التّربيّة، جاك دريدا.

Abstract:

Deconstruction is a critical philosophical and literary approach that challenges traditional assumptions about language, meaning, and truth. First introduced by the French philosopher Jacques Derrida in the 1960s, deconstruction has had a profound impact on fields ranging from literary criticism and philosophy to architecture and cultural studies. In essence, deconstruction seeks to reveal and undermine the binary oppositions and hierarchical structures that govern our thinking and ways of communication. By analyzing the contradictions inherent in texts and language, deconstruction seeks to destabilize the fixed and exclusionary perceptions that underpin social and cultural norms, and to urge new ways of thinking about language, knowledge, and society. Recent years have witnessed an increasing interest on the part of educators in the writings of Jacques Derrida on deconstruction. This interest was motivated by the search for new approaches to thinking about education and the challenges it faces in this era. This paper seeks to provide a comprehensive overview of deconstruction, its basic categories, and its relationship to postmodernism, and shed light on its educational implications, by analyzing the ideas of Jacques Derrida, and their implications for the relationship between education and the world, the credibility of educational knowledge, the concepts of teacher and learner, and other issues related to contemporary educational discourse.

Keywords: deconstruction, postmodernism, structuralism, post-structuralism, education, Jacques Derrida.


1-    مقدّمة:

تعبّر التّفكيكيّة (Deconstruction) عن الرّوح الفلسفيّة لما بعد الحداثة أيّما تعبير، وتعدّ أكثر المشروعات المنهجيّة ارتباطا بفكر ما بعد الحداثة (Sim, 2012, p6؛ أبو دوح، 2010). ويرتبط مصطلح التّفكيك بكتابات عدد من الفلاسفة والمفكّرين المعاصرين أبرزهم جاك دريدا (Jacques Derrida)، الذي أصبح علما مستقلاًّ بذاته، لا بسبب مؤلّفاته الغزيرة فحسب، وإنّما بسبب إلهامه الفكريّ الهائل الذي أحدثه بكتاباته حول التّفكيك (عبد الجواد، 2002، ص420). فقد غيّرت كتاباته، حسب ما يرى نيكولاس رويل، “من الطّريقة التي ننظر بها إلى العالم، والحياة، والموت، والثّقافة، والفلسفة، والأدب، والسّياسة” (Royle, 2003, p21).

لقد ظهرت التّفكيكيّة في البداية بوصفها نظريّة أدبيّة، ثمّ تطوّرت لتصبح حركة جديدة في الفلسفة ما لبثت أن أضحت تمثّل الدّافع الفكريّ الأوّل للقضاء على مشروع الحداثة (Grenz, 1996, p. 5). وهي نظريّة وممارسة في الوقت ذاته، وتطبّق بشكل خاصّ على قراءة النّصوص (Taylor, 2003, p. 84). ويتمثّل هدف التّفكيكيّين في إظهار وكشف خرافة العلاقة الوثيقة بين اللّغة والعالم، أو كشف العلاقة المضلّلة بين اللّغة والواقع (Butler, 2002, p. 18). فالتّفكيك يعني فكّ الارتباط المفترض بين اللّغة وكلّ ما يقع خارجها؛ أي إنكار قدرة اللّغة على أن تحيلنا إلى أيّ شيء أو إلى أيّ ظاهرة إحالة موثوقا بها. والكلمة مستعارة بصورتها الحاليّة من الفرنسيّة (déconstruction) الموضوعة على أساس الألمانيّة Destruktion (عناني، 2003، ص131).

وإلى جانب إظهار عجز اللّغة عن وصف العالم، تسعى التّفكيكيّة أيضا إلى مقاومة الميتافيزيقا، حيث يشير مصطلح «التّفكيكيّة» إلى مشروع فكريّ نقديّ مهمّته تفكيك المفهومات التي تعمل بوصفها مسلّمات أو قواعد تؤسَّس عليها الأفكار والمذاهب الميتافيزيقيّة. وتبدو المضمونات السّلبيّة في مصطلح التّفكيك أقلّ حدّة من نظيراتها في مصطلحي الهدم (destruction) والانقلاب (reversal) اللّذين يُنسبان إلى كلّ من هيجل ونيتشه.

 بالإضافة إلى هدم وتفكيك الأسس التي تقوم عليها الميتافيزيقا، تعمل التّفكيكيّة أيضا على الكشف عن مصادر التّناقض والمفارقة داخل منظومة الفكر الحداثيّ، وداخل المسلّمات والبديهيات ذاتها التي تقوم عليها، وأيضا الإفصاح عن إمكانية إيجاد نوع جديد من التّأمل والفهم؛ إنّه فهم لا يقوم مرة أخرى على “ميتافيزيقا الحضور” (Derrida, 1984).

والجدير بالذّكر أنّ كتابات دريدا حول التّفكيك قد لاقت اهتماما كبيرا من جانب بعض المفكّرين العرب الذين “لم يتركوا عملا من أعمال دريدا إلاّ وتعرّفوا إليه، ولا جانبا من جوانب اهتماماته – بخاصّة المتأخّرة – إلاّ وأعملوا فيها النّظر قراءة ودراسة وترجمة ونقدا، حيث صار الآن مع ميشيل فوكو أكثر الفلاسفة المعاصرين استحواذا على القارئ والمثقّف العربيّ” (عطيّة، 2010، ص 128).

وللتّفكيكيّة، كنهج فلسفيّ، تأثيرات كبيرة على التّربية، حيث أنّها تتحدّى الافتراضات التّقليديّة حول المعرفة والمعنى ودور المعلّم. فمن خلال تقويض المسلّمات والمفهومات الثّابتة التي تنظّم آليات عمل اللّغة والتفكير، تشجّع أيضا المعلّمين والطّلبة على طرح الأسئلة وتحدّي المعرفة السّائدة وهياكل السّلطة الرّاسخة. كما تؤكّد أهمّية التفكير النّقديّ والإبداعيّ، وتقوّض فكرة ثبات المعرفة وقابليتها للتّعميم.

وتهدف هذه الورقة البحثيّة إلى استكشاف المضامين التّربويّة للتّفكيكيّة، وتوظيفها في تفكيك بعض المفهومات التي يقوم عليها الخطاب التّربويّ المعاصر، وإظهار كيف يمكن الاستفادة من أفكار جاك دريدا في تنمية قدرات الطّلبة على نقد الأفكار السّائدة، والتّحرّر من أسر المسلّمات الثّقافيّة والاجتماعيّة، وخلق بيئة تعليميّة أكثر شمولا وإنصافا تقدّر وجهات النّظر المتنوّعة وتعزّز الفضول الفكريّ.

2-    الجذور الفلسفيّة للتّفكيكيّة: البنيويّة وما بعد البنيويّة، وما بعد الحداثة:

لقد نشأت التّفكيكيّة، التي قدمها دريدا للنّاطقين بالفرنسيّة في ثلاثة كتب عام 1967، بوصفها امتدادا لنظريّة تسمّى في الأدب “البنيويّة” (Structuralism). لكن تفكيكيّة دريدا وسّعت مجال النّقد البنيويّ، حيث أصبح ممارسوه – بعد التّوسيع – يصفون الحركة “بما بعد البنيويّة” (post-structuralism) (عناني، 2003، ص132). ويستخدم مصطلح “ما بعد البنيويّة” للإشارة إلى الأعمال الفكريّة التي جاءت ردّ فعل على الاتّجاه البنيويّ الذي سيطر على الفكر الفرنسيّ في منتصف القرن العشرين. ومن بين تلك الأعمال الفكريّة لما بعد البنيويّة – إلى جانب “تفكيكيّة” دريدا –، نجد الأبحاث “التّاريخيّة” لميشيل فوكو (Michel Foucault)، والدّراسات “النّسويّة” لمنظّرين من أمثال لوسي إريجاراي (Luce Irigaray). وقد أصبحت ما بعد البنيويّة جزءا مهّما من المشهد الثّقافيّ في الغرب منذ السّتّينيّات. والآن يمكن النّظر إليها بوصفها جزءا من حركة “ما بعد الحداثة” التي تمثّل ردّ الفعل الأوسع المناهض للأيديولوجيّات التّسلّطيّة والأنظمة السّياسيّة الاستبداديّة في هذا العصر (Sim, 2012, p. ix).

ولذلك فهناك تشابك واضح بين مفهومات التّفكيكيّة وما بعد الحداثة وما بعد البنيويّة. “فالخطّ الفاصل بين ما بعد البنيويّة وما بعد الحداثة هو أبعد ما يكون عن الوضوح التّامّ، ومن المؤكّد أنّهما يشتركان في عدد جيّد من المقدّمات والمبادئ”(سبيلا وبنعبد العالي، 2007، ص76). لكن ما بعد البنيويّة (دريدا وأنصار الحركة النّسائيّة الفرنسيّة) تميل بصورة أكبر إلى أن تكون نظريّة في المعرفة واللّغة، أمّا ما بعد الحداثة (فوكو، بارت، ليوتار، بودريار) فهي نظريّة في المجتمع والثّقافة والتّاريخ (عبد الجواد، 2002، ص 427). لقد بدأ مشروع ما بعد الحداثة منذ السّبعينيّات يتطابق مع مشروع ما بعد البنيويّة الفرنسيّة، من خلال أعمال رولان بارت، وجاك دريدا، وجاك لاكان. ويرى بعض مؤرّخي ما بعد الحداثة أنّ ترجمة كتاب جان فرانسوا ليوتار “الوضع ما بعد الحداثيّ” إلى الإنجليزية عام 1984، هي لحظة التّطابق بين المشروعين ما بعد الحداثيّ وما بعد البنيويّ (صالح، 2001).

ويمكن القول إنّ كلمة “تفكيك” مرادفة لمصطلح “ما بعد الحداثة” أو على الأقلّ وجها آخر لهذا المصطلح (المسيري، 2010، ص 168). ولذلك تعتمد النّظريّة الاجتماعيّة ما بعد الحداثيّة على النّقد الذي وجّهه جاك دريدا إلى البنيويّة من خلال نظريّته حول “التّفكيك”. فقد سيطرت “الأنثروبولوجيا البنيويّة” لكلود ليفي ستروس (Claude Lévi-Strauss) و “الماركسيّة البنيويّة” للوي ألتوسير (Louis Althusser) (التي تناولت الدّور البنيويّ الذي تؤدّيه الطّبقة في الاقتصاد الرأسماليّ والإيديولوجيا الرّأسماليّة) على الحياة الفكريّة في فرنسا في السّتّينيات من القرن العشرين. وقد اعتمد كلا المنظّرين في اللّغة على النّظريّة البنيويّة التي أسّسها فردينان دي سوسير (Ferdinand de Saussure) في بداية القرن العشرين (Darity, 2008, p. 395).

وتتمثّل الفكرة الأساسيّة لنظريّة سوسير حول اللّغة في النّظر إليها بوصفها في المقام الأوّل: منظومة (system) تحوي مجموعة من القوانين (أو القواعد الدّاخلّية) التي تحكم كيفيّة عمل العناصر المختلفة للّغة. واللّغة في نظر سوسير تتكوّن من علامات (signes)، وكلّ علامة تتكوّن من جزأين: الدّال (signifier) أي الكلمة والمدلول (signified) أي المفهوم، ويرتبط الدّال والمدلول معا، بفعل الفهم العقليّ، لتكوين العلامة. ورغم عدم وجود علاقة حتميّة بين الكلمة والشّيء الذي تسمّيه في الواقع (إذ إنّ هذه العلاقة “تعسّفية” أو “اعتباطية” (arbitrary) كما سمّاها فرديناند دي سوسير، فإنّ الاتّفاق الاجتماعيّ حول هذه العلاقة يضمن عدم تغيّرها وفق هوى أيّ شخص أيًّا كان. ومن ثمّ يرى دي سوسير أنّ هناك، على الأقلّ، حالة من الاستقرار النّسبيّ للّغة ولعمليات إنتاج المعنى وتفسيره، وأنّ اللّغة منظومة من العلامات التي تستثير استجابات متوقّعة من جانب أفراد المجتمع (Sim, 2012, p. 4).

ورغم اعتماد دريدا على كثير من الأفكار التي طوّرها دي سوسير حول طبيعة اللّغة، فإنّه استطاع من خلال كتاباته حول التّفكيك أن يقدّم تصوّرا جديدا عن العلاقة بين اللّغة والواقع، وعن الكيفيّة التي نولّد من خلالها المعاني باستخدام اللّغة، وعن الكيفيّة التي تؤثّر من خلالها اللّغة في نظرتنا للعالم.

لقد كان لكتابات دريدا – التي يكتنفها قدر كبير من الغموض والتّعقيد – حول طبيعة اللّغة أثر بالغ في تطوّر العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بمختلف فروعها، كما أسهمت بشكل كبير في بلورة الرّؤية ما بعد الحداثيّة – أو بالأحرى تفكيك الرّؤية الحداثيّة – للعالم والمعرفة والإنسان.

من أبرز الموضوعات التي تعالجها التّفكيكيّة:

علاقة اللّغة بالعالم، حيث ترى أنّ اللّغة لا تعكس العالم بموضوعيّة ولا يمكنها تقديم وصف دقيق له، والنّتيجة المترتّبة على ذلك تتلخّص في مقولة دريدا الشّهيرة: “لا يوجد شيء خارج النّص“، أو بعبارة أخرى: لا توجد حقيقة موضوعيّة بمعزل عن السّياق. ونتيجة لفكّ الارتباط بين اللّغة والعالم، أو على الأقلّ التّشكيك في وجود علاقة مباشرة بينهما، فقد تحوّل مدار الاهتمام من البحث عن الحقيقة في العالم الخارجيّ إلى الغوص في أعماق النّص. ومن خلال إطلاق يد القارئ في تفكيك النّص وتفسيره كيفما شاء، فقد تمّ القضاء على سلطة المؤلّف في احتكار المعنى، فخفت صوته حتى “مات”، وأصبح النّص أفقا مفتوحا على عدد لا نهائيّ من التّأويلات. ولأنّ النّص، بمفهومه الجديد، أصبح هو العالم والعالم أصبح هو النّص، فإنّه قد أصبح لدينا بالتّالي عوالم كثيرة تتعدّد بتعدّد التّأويلات.

ونستعرض فيما يلي هذه الموضوعات بقدر من التّفصيل.

2 -1- اللّغة والعالم:

يرى دريدا وأتباعه أنّ الفلسفة والأدب في الغرب قد تبنّيا لمرحلة طويلة من الزّمن افتراضا خاطئا مفاده أنّ العلاقة بين اللّغة والعالم علاقة موثوق بها وقائمة على أسس سليمة. وهذه الثّقة المزيّفة في اللّغة بوصفها مرآة للطّبيعة نابعة من الاعتقاد الواهم أنّ معنى الكلمة يعود أصله إلى الواقع ذاته، ومن ثمّ فإنّه يجعل حقيقة هذا الواقع حاضرة مباشرة في العقل. ويطلق دريدا على هذا الافتراض المزيّف بوجود أشياء متعالية كامنة في الواقع مصطلح «ميتافيزيقا الحضور» (metaphysics of presence ) (Butler, 2002, p. 17).

و«الحضور» هنا معناه “التّسليم بوجود نظام خارج نطاق اللّغة وإطار عملها، حيث يبرّر ما تدّعيه من الإحالة إلى الحقائق أو الحقيقة” (Lucy, 2008, pp 101-104; عناني، 2003، ص135). لكن دريدا ينفي هذا الافتراض ويرى أنّ الوعي يتشكّل من خلال اللّغة ذاتها، وأنّه ليس ثمّة «حضور» خارجها. ويصف دريدا كلّ ادّعاء بوجود نظام أو كيان متعالٍ أو حقيقة خارج نطاق اللّغة بأنّه نوع من الميتافيزيقا.

ويقدّم دريدا لمحاولات الفلسفة الغربيّة منذ أفلاطون سردا أو افتراضا يعبّر عن وجود شيء يسمّى “الحقيقة”، أو ما يسمّيه هو بـ «المدلول المتعالي» (transcendental signified)، أي المعنى الذي يتعالى على (أو يتجاوز) نطاق الحواسّ، ونطاق الحياة بمفرداتها المحدّدة، حيث توجد هذه الحقيقة خارج نطاق اللّغة والتّاريخ والزّمن، ولا تتلوّث بأيّ منها. ويمكن، في رأي دريدا، الكشف عن هذه المحاولة أو هذه المحاولات من خلال رصد مجموعة كبيرة من “الكيانات” الميتافيزيقيّة التي احتلّت مركز الصّدارة في شتّى المذاهب الفلسفيّة (مثل eidos أي الصّورة، و arche بمعنى الأوّل أو المبدأ الأوّل أو الأزل أو القدم، و telos بمعنى الغاية أو النّهاية أو الكمال، و logos بمعنى الكلمة أو الفكر، و matter بمعنى المادّة، و God بمعنى الرّب أو الإله) إلى آخر هذه القائمة الطّويلة التي تتعاقب فيها “الكيانات” ويحلّ بعضها محلّ بعض فيها. ويرى دريدا أنّ اللّغة يمكن اعتبارها المرشّح الأخير للانضمام إلى هذه القائمة، وهو ما يعتبره هبوطا إلى درك الميتافيزيقا الأسفل. وبذلك يرى أنّ عليه أن يضع حدًّا لهذه المحاولة الدّائبة للبحث عن “اليقين”، وتقويض أسس هذه المحاولات في نظره هو هدف التّفكيكيّة. أي إنّ هدف دريدا هو تفكيك الفلسفة، وتفكيك تطلّعاتها إلى إدراك «الحضور» أو «المنطق» عن طريق ما حاول إثباته من أنّ عمل اللّغة نفسه يحول دون الوصول إلى تلك الغاية (عناني، 2003، ص135-136).

لكن ما الحجّة التي استند إليها دريدا في تبرير قوله إنّ طبيعة اللّغة تنفي إمكانيّة وجود كيانات أو حقائق خارج نطاقها؟

لقد اعتمد دريدا في تبرير ذلك على فكرة «دي سوسير» من أنّ ألفاظ اللّغة لا تملك القدرة على “إحالتنا” إلى شيء خارجها؛ فهي لا تحيلنا إلاّ إلى ألفاظ أخرى داخل منظومة اللّغة. “فمعنى الكلمة، وفقا لنموذج «دي سوسير» البنيويّ، يعتمد على موقعها داخل منظومة العلامات، وليس على الشّيء الذي قد تشير إليه في العالم الخارجيّ” (Stocker, 2006, p153).

إنّ كلّ شيء في المنظومة اللّغوية يُنظر إليه تقليديّا على أنّه نابع من العالم، أو يصف العالم، أو يعود إلى العالم. لكنّ ذلك لا يمكن أن يحدث؛ لأنّ اللّغة دائما ما تكون معزولة عن العالم نتيجة لطبيعتها التّكراريّة (repeatability) والاستبداليّة (substitutability). فالمنظومة اللّغويّة تعتمد على العلامات، وعلى مكان العلامات في عبارات اللّغة. ويمكن دائما استبدال علامات لغويّة بعلامات أخرى، ولن يكون هناك تطابق أبدا بين تلك العلامات في المدلولات التي تشير إليها (referents). فالدّال (العلامة أو اللّفظ) لا يمكن بأيّ حال أن يتطابق مع المدلول (المفهوم أو الشّيء الموجود في العالم الخارجيّ) (Stocker, 2006, p. 116).

ولكن إذا لم يكن هناك تطابق بين ألفاظ اللّغة وما تشير إليه من مدلولات في العالم الخارجيّ، فمن أين جاءت العلامات إذن؟ بطريقة أخرى: كيف تمّ تسمية أشياء معيّنة بألفاظ محدّدة؟ ومن أين تأخذ تلك الألفاظ معناها إذا لم تكن تأخذها من الشّيء الذي تسمّيه؟

تجيب التّفكيكيّة عن ذلك بالقول إّنه لا يوجد في الشّيء نفسه (the referent) ما يحتّم تسميته باسم معيّن، ولكنّ التّسمية تتمّ بصورة “تعسّفية” ( arbitrary)، بمعنى أنّها لا تُعَلَّل؛ حيث يتوافق عليها أعضاء المجتمع من دون أن يكون لذلك علاقة بالشّيء ذاته، ويضرب دريدا مثلا لذلك بالأرزّ وأسمائه التّسعة في لغة الصّين الجنوبيّة (عناني، 2003، ص134)؛ وهذا يعني أنّ علاقة الكلمة أو الإشارة بالمدلول أو بالشّيء الذي تشير إليه علاقة عرَضِيّة أو اعتباطيّة غير مقصودة.

واعتباطيّة الإشارة أو العلامة اللّغوية تعني انتفاء المناسبة التي تجعل من دال محدّد معبّرا عن فكرة محدّدة؛ الأمر الذي يعني الإمكان الكامل لأن يكون أيّ دالّ آخر معبّرا عن الفكرة نفسها التي عبّر عنها ذلك الدّال الذي جرت العادة على تعرّف الفكرة من خلاله. إذ ما من دالٍّ أفضل من غيره للتّعبير عن هذه الفكرة أو سواها. الأمر الذي يعني أنّ الدّال لا يحمل بداخله أيّما صفة ذاتيّة تسبّب اختياره هو بالذّات لأن يكون ممثّلا لهذه الفكرة بالذّات. بعبارة أخرى: إنّ الإشارة اللّغويّة، التي هي وحدة الدّال والمدلول، هي إشارة اعتباطيّة لا تمتلك أيّة قيمة ذاتيّة داخليّة تستمدّ منها حضورها وتميّزها واستقلالها عن غيرها (عبدالله، 2002، ص43).

ولأنّ التّسمية اعتباطيّة أو تعسّفية، فإنّ القيمة اللّغويّة للعلامة لا تعتمد على المدلول أو المفهوم الذي تشير إليه، وإنّما تعتمد على “اختلافها” مع العلامات الأخرى داخل منظومة اللّغة. أي إنّ الكلمات لا يمكن تعريفها إلاّ من خلال علاقتها بكلمات أخرى، وهو ما يعني أنّ الاختلافات بين العلامات اللّغويّة أو الكلمات هو ما يحدّد متى وكيف يمكن استخدام تلك الكلمات (Stocker, 2006, p24).

وهذا يجرّنا إلى الحديث عن مفهوم «الاختلاف» (difference) (see: Lucy, 2008, p25-27) الذي يفسّر لنا كيف تأخذ الألفاظ معناها داخل المنظومة اللّغويّة؛ “فالاختلاف هو الطّريقة أو الأسلوب الذي يتمّ فيه إطلاق طاقة النّص على صنع المعنى” (مصطفى، 2011، ص50).

يعتقد دريدا – سيرا على نهج دي سوسير – أنّ المنظومة اللّغويّة ليست مجموعة من الكلمات التي ترتبط بمجموعة من المعاني المحدّدة سلفا؛ فالمعنى ينشأ نتيجة “الاختلافات” التي توجد بين العلامات اللّغويّة. فنحن لا يمكننا أن نعطي قيمة لغويّة لعلامة ما أو نمنحها معنى إلاّ من خلال اختلافها مع غيرها من العلامات داخل منظومة اللّغة. والكلمة لا تحمل معناها عبر تعريف منعزل؛ فنحن لا نستطيع تعريف كلمة ما دون أن نستخدم كلمات أخرى. ونحن لا نستطيع تمييز الكلمات أو العلامات عن بعضها بعضا إلاّ من خلال الإشارة إلى “الاختلافات” التي توجد بينها، وليس من خلال جوهر الكلمات ذاتها. “فالشّجرة” تعني شجرة لأنّها لا تعني أيّ نوع من الأشياء الجامدة، ولا تعني أيّ نوع من الحيوانات، ولا تعني أيّ نوع من الحشائش أو الخضروات … وهكذا (Stocker, 2006, p29-30).

ويرتبط مفهوم «الاختلاف» بمفهوم آخر يلازمه دوما وهو «الإرجاء». و«الإرجاء» عكس «الحضور»، أي أنّنا حينما نعجز عن الإتيان بشيء أو بفكرة فنحن نشير إليها بكلمة، ومن ثمّ فإنّنا نستخدم العلامات مؤقّتا ريثما نتمكن من الوصول إلى الشّيء أو الفكرة. وعلى هذا فإنّ اللّغة هي حضور مُرْجِئ للأشياء والمعاني، ولا يمكن إذن افتراض حضور تلك الأشياء في وجود اللّغة (عناني، 2003، ص138-139)، أو كما يقول دريدا: “نحن نستعيض عن حضور الشّيء بالكلمة عندما نسمّيه” (Derrida, 2001, p86).

ومن أجل التّعبير عن التّرابط بين «الاختلاف» و«الإرجاء» بوصفهما مبدأين متلازمين في عمل اللّغة، فإنّ دريدا قد غيّر من هجاء الكلمة الفرنسيّة التي تعبّر عن الاختلاف (difference) ليجمع بين المعنيين: الاختلاف والإرجاء. يقول: الفعل “يختلف” (to differ) يبدو أنّه يختلف عن نفسه. فمن ناحية، يشير هذا إلى الاختلاف من حيث كونه نوعا من التّمييز، أو التّفريق، أو اللاّمساواة. ومن ناحية أخرى، يعبّر هذا الفعل عن التّأجيل والإرجاء، أو المماطلة التي “تُرْجئ” حتى وقت آخر ما يتمّ رفضه حاليا، أو الممكن الذي هو الآن غير ممكن. ولذلك فالفعل “يختلف” ( to differ)- أحيانا يشير (في الفرنسيّة) إلى “المختلف” ( different ) وأحيانا يشير إلى “المُرْجَأ” ( deferred )… ففي الحالة الأولى يعبّر الفعل “يختلف” عن اللاّهويّة؛ وفي الحالة الثّانية يعبّر عن الشّيء نفسه. ولذلك يجب أن يكون هناك جذر لغويّ مشترك يجمع بين هذين المعنيين؛ ولذلك فقد رأيت أن أنحت كلمة (difference) للتّعبير عن هذا التّشابه غير المتطابق(*) (Derrida, 1984, p129).

والاختلاف والإرجاء يعملان معا ويهبان اللّغة قدرتها على الانتشار. معنى ذلك أنّ كلّ عنصر لغويّ مكتوب أو منطوق يحدث تأثيره من خلال “الآثار” (traces) التي تخلّفها أو تشاركها فيه شتّى العناصر الأخرى، التي ترتبط بها داخل سلسلة معيّنة أو نظام ما. ومن ثمّ يقول دريدا إنّ عمل اللّغة يشبه عمليّة التّناسج الدّائبة، أي إنّ كلّ لفظ فيها يشارك في نسج صاحبه، ثمّ يُشَبِّه تأثيرها بالأمواج التي تنداح من المركز إلى الأطراف، ومن الماضي إلى الحاضر (عناني، 2003، ص139).

ونتيجة لذلك، فإنّنا سنبقى دائما محبوسين داخل الأنظمة اللّغويّة المجرّدة، ولن نستطيع أن نعرف شيئا عن الواقع إلاّ من خلال ما تسمح به تلك الأنظمة اللّغويّة. فكلّ ما نقوله يظلّ دائما داخل المنظومة اللّغويّة التي لا ترتبط بالواقع الخارجيّ كما نتصوّر، لأنّ كلّ كلمة داخل المنظومة اللّغويّة تشير أو تعتمد على وجود (أو “أثر”، بلغة دريدا) كلمات أخرى، ويظلّ المعنى منزلقا من كلمة إلى أخرى بصورة دائمة داخل السّلسلة اللّغويّة. ومن ثمّ فإنّ كلّ النّصوص ستشير دائما إلى نصوص أخرى، وليس إلى أيّ شيء في الواقع الخارجيّ؛ ولذلك فلن يكون هناك نصّ يقول شيئا عن العالم (Butler, 2002, p19).

هذه الأفكار تبدو غريبة على الفهم الشّائع، وبعيدة عمّا ألفناه في حياتنا اليوميّة حول طبيعة اللّغة والأشياء من حولنا. ولكن بإمعان النّظر ربّما نجد أنّ كثيرا من تلك الأفكار يبدو معقولا. ولتبسيط ما تريد التّفكيكيّة قوله فيما يتعلّق بطبيعة اللّغة وعلاقتها بالعالم، نستحضر السّيناريو التّالي:

فلنتخيل أنّنا نقف بالسّيارة في إحدى إشارات المرور. وإنّنا مجبرون الآن على الانتظار وعدم التّحرّك حتّى تتغيّر الإشارة الضّوئيّة من اللّون “الأحمر” إلى اللّون “الأخضر”. فإذا سألنا أنفسنا: هل في طبيعة اللّون “الأحمر” ما يحتّم تسميته بهذا الاسم؟ فتكون الإجابة بالطّبع لا؛ لأنّ اللّون نفسه يطلق عليه الأمريكيون (red)، والفرنسيون (rouge)، والإيطاليون (rosso)، إلى غير ذلك من التّسميات التي تتعدّد بتعدّد اللّغات. إذن فالتّسمية (أحمر) ليس لها علاقة بطبيعة المدلول (اللّون الأحمر)، وإنّما هي لفظ توافقنا عليه في مجتمعنا أو ثقافتنا.

وإذا لم يكن في طبيعة أو جوهر (اللّون الأحمر) ما يحتّم تسميته بهذا الاسم، فهل في طبيعته ما يحتّم علينا “التّوقّف” عند إشارة المرور؟ أو بطريقة أخرى: هل معنى “وجوب التّوقّف” نابع من طبيعة ذاك الشّيء الذي يوجد في الخارج أمامنا (اللّون الأحمر)؟ بالطّبع لا؛ (فاللّون الأحمر) في ذاته لا يفيد هذا المعنى، وليس له معنى يرتبط بجوهره، بل نحن من منحناه هذا المعنى في سياق تنظيم حركة حياتنا اليوميّة. إذن فنحن من نضفي المعاني على الأشياء الموجودة في العالم الخارجيّ حسب أهوائنا، وحسب ما تقتضيه مصالحنا، أمّا الأشياء ذاتها فليس لها معنى محدّد.

ولكنّ السّؤال الآن: هل كان بوسعنا أن نضفي معنى “وجوب التّوقّف” على (اللّون الأحمر) لو لم يكن هناك ألوان أخرى “تختلف” عنه؟ بطريقة أخرى: هل يمكن أن يكون (للّون الأحمر) في إشارة المرور معنى دون (اللّون الأخضر) و(اللّون الأصفر)؟ لو كانت الإشارة كلّها لونا واحدا، فهل كان بوسعنا ساعتها أن نولّد المعاني الخاصّة “بوجوب التّوقّف” و”وجوب السّير” و”وجوب تقليل السّرعة”؟ بالطّبع لا؛ لأنّ كلّ هذه المعاني يستحيل توليدها من دون وجود “اختلافات” بين (الألوان)، أو بالأحرى بين الألفاظ التي نستخدمها للتّمييز بين الألوان.

ولو افترضنا الآن أنّنا في مدرسة لتعليم قيادة السيّارات، وأردنا أن نُعلم شخصا ما أنّه عندما تضيء الإشارة (باللّون الأحمر) عليك أن تتوقّف، فهل يمكننا أن نفعل ذلك من دون أن نُعرّف (اللّون الأحمر)؟ وهل يمكننا تعريفه من دون الإشارة إلى ألوان أخرى؟ بالطّبع لا؛ لأنّنا مضطرّون إلى القول: إنّ هذا اللّون نسمّيه (أحمر) لأنّه ليس (أخضر) أو (أصفر) أو (أزرق) أو أيّ لون آخر. بعبارة أخرى: نحن مضطرّون إلى استخدام كلمات أخرى لتعريف كلمة (أحمر). فكلمة (أحمر) وحدها لا يمكنها أن تعرّف نفسها. إذن ألفاظ اللّغة “تحيلنا” دائما إلى ألفاظ أخرى، ولا يمكننا وصف (اللّون الأحمر) أو أيّ شيء في العالم الخارجيّ من دون استخدام اللّغة؛ لذلك نحن مجبرون على أن نظلّ داخل نطاقها.

وأخيرا، هل كلمة (أحمر) تشير إلى معناها فقط؟ أي هل (اللّون الأحمر) في إشارة المرور يشير إلى معنى “وجوب التّوقّف” فقط؟ لا، إنّه يشير إلى هذا المعنى والمعنى الذي “يناقضه”؛ فهو من جهة يشير إلى المعنى: “يجب أن تتوقّف”، كما يشير في الوقت ذاته إلى المعنى: “عندما ينطفئ (اللّون الأحمر) وتضيء الإشارة (باللّون الأخضر) يمكنك أن تنطلق”؛ فمن دون المعنى الثّاني المناقض ينتفي المعنى الأوّل المعبّر عن الهويّة. ولذلك فالشّيء لا يمكن أن يعبّر عن “هويّته” من دون أن يعبّر عن “لاهويّته”. وهو عندما يعبّر عن هويّته (ما يكون) فهو حينئذ “يرجئ” مؤقّتا المعنى المناقض (ما لا يكون). فالإشارة عندما تكون (حمراء) فإنّها تعني “يجب أن تتوقّف”، و”ترجئ” إلى حين من الوقت المعنى المناقض: “عندما ينطفئ اللّون الأحمر انطلق”. وما تلبث الإشارة أن تتغيّر إلى (اللّون الأخضر)، فيتحوّل (الأحمر) إلى معناه المناقض المعبّر عن “اللاّهويّة” (ما لا يكون).

2-2- لا يوجد شيء خارج النّصّ!

إذا سلّمنا بصحّة التّحليل السّابق لطبيعة اللّغة وعلاقتها بالعالم، فالنّتيجة المنطقيّة لذلك يمكن تلخيصها في مقولة دريدا الشّهيرة: “لا يوجد شيء خارج النّصّ” (There is nothing outside of the text)، وفي ترجمة أخرى: “لا يوجد نصّ خارجيّ” (There is no outside-text) (Derrida, 1998a, p158). ولكن ماذا تعني هذه المقولة؟ هل تعني أنّ العالم مجرّد كتاب، وأنّه ليس ثمّة أشجار أو جبال أو أكواب أو سيّارات؟ فإذا لم يكن هناك شيء خارج النّصّ، فليس لدينا إذن إلاّ النّصوص، وليس لدينا عالم خارج نطاق اللّغة، أو كما يقول جيمس سميث: “لا يوجد خارج النّصّ إلاّ فاصل من صفحات بيضاء في بداية الكتاب ونهايته، أي أوراق بلا نصّ” (Smith, 2005, p44). هل هذا حقّا هو ما يقصده دريدا بهذه المقولة؟

يبدو أنّ مقولة “لا يوجد شيء خارج النّصّ” قد أُوّلت على غير مراد صاحبها، ممّا حدا بدريدا إلى أن يقول في إحدى المقابلات التي أجريت معه: هناك عديد من التّأويلات الخاطئة لما أحاول أنا وبعض التّفكيكيّين عمله. فمن الخطأ تماما تصوّر أنّ التّفكيكيّة تعني إنكار الإحالة (إلى خارج النّصّ) … إنّني مندهش للغاية من النّقّاد الذين يرون أنّ كتاباتي تعلن أنّه لا يوجد شيء خارج نطاق اللّغة، وأنّنا مسجونون داخل جدران اللّغة. إنّ أعمالي، في الواقع، تقول العكس تماما؛ فنقد مركزيّة اللّوجوس (logocentrism) (الإحالة إلى معنى خارج النّصّ(*)) هو قبل كلّ شيء بحث عن “الآخر”، “الآخر بالنّسبة إلى اللّغة”. إنّني كلّ أسبوع أتلقّى تعليقات ودراسات نقديّة حول التّفكيكيّة تقوم على افتراض أنّ “ما بعد البنيويّة” تقول لا يوجد شيء خارج اللّغة، وأنّنا غارقون داخل الكلمات، إلى غير ذلك من الحماقات. بالتّأكيد، التّفكيكيّة تحاول أن تظهر أنّ قضيّة الإحالة (reference) أكثر تعقيدا ممّا تفترضه النّظريّات التّقليديّة. إنّها حتّى تتساءل عمّا إذا كانت كلمة “إحالة” مناسبة لتسمية “الآخر”. فالآخر، الذي يتجاوز اللّغة ويستدعيها في الوقت ذاته، ربّما لا يكون مدلولا أو شيئا (referent) بالمعنى الذي ألصقه اللّغويّون بهذا المصطلح. لكن عندما نتحدّى الافتراضات الشّائعة حول الإحالة وندعو إلى نظرة أكثر عمقا لها، فإنّ ذلك لا يعني القول إنّه لا يوجد شيء خارج اللّغة (Kearney & Ricœur, 1984, p123-124)

إذن دريدا لا يقصد بعبارة “لا يوجد شيء خارج النّصّ” أنّه لا يوجد عالم خارج نطاق اللّغة. وربما يرجع سوء تأويل هذه العبارة إلى التّباين في فهم مفهوم “النّصّ”. فمفهوم “النّصّ” بالنّسبة إلى دريدا يتجاوز الفهم المعتاد لهذه الكلمة، ولذلك يشرح ما يقصده بمفهوم “النّصّ” قائلا: “النّصّ” بالنّسبة لي يتضمّن كلّ البنى الواقعيّة، والاقتصاديّة، والتّاريخيّة، والاجتماعيّة، والمؤسّسيّة، باختصار: النّصّ يتضمّن كلّ المدلولات أو الأشياء (referents) الممكنة. ولذلك فعندما أقول: “لا يوجد شيء خارج النّصّ”، فهذا لا يعني أنّ كلّ المدلولات أو الأشياء قد تعطّلت، أو لم يعد لها وجود، أو حبست بين دفّتي كتاب كما تصوّر بعض النّاس … ولكنّ المقصود هو أنّ كلّ المدلولات والأشياء أو الواقع بأكمله تتألّف بنيته من آثار الاختلافات، وأنّه ليس بمقدور أحد أن يشير إلى هذا “الواقع” إلاّ من خلال خبرة تأويليّة (Derrida, 2000, p148).

نفهم من ذلك أنّ مفهوم “النّصّ” عند دريدا لا يشير فقط إلى اللّغة، بل يشير إلى العالم كذلك. وفهم هذا النّصّ (أو العالم) عمليّة تأويليّة مرتبطة بالسّياق. ولذلك فقد اقترح دريدا صياغة أخرى لهذه العبارة لعلّها تصبح أقلّ عرضة لسوء التّفسير، والعبارة في صياغتها الجديدة تقول: “”لا يوجد شيء خارج السّياق” (Derrida, 2000, p136)، وأحيانا أخرى يقول: “لا يوجد شيء سوى السّياق” (Derrida & Kamuf, 1989, p873). و”السّياق” هنا قد يكون اللّغة، أو الحياة، أو العالم، أو الواقع، أو التّاريخ. وفي هذه الحالة يقول دريدا: “التّفكيك هو أن نسعى لأخذ هذا السّياق اللاّمحدود في الحسبان، أن نعير أكبر قدر ممكن من الاهتمام للسّياق، ومن ثمّ لتقلّبات السّياق وحركته المتواصلة” (Derrida, 2000, p136).

وهكذا فربّما تكون القراءة الأدقّ لعبارة “لا يوجد شيء خارج النّصّ” هي أنّه لا يمكن تحديد المعنى خارج السّياق، ولكن في الوقت ذاته لا يوجد سياق يروى ظمئنا إلى الفهم (Royle, 2003, p66). وربّما تعني أيضا أن خبراتنا حول العالم ونظرتنا له تتشكّل في سياق اللّعبة اللّغويّة، وطريقتنا في تفسير وجودنا في العالم محكومة بمنطق اللّغة؛ فلا يمكن الوصول إلى العالم أو إلى أنفسنا من دون الخضوع إلى آليات الاختلاف والإرجاء المرتبطة باللّغة؛ ومن ثمّ لا يمكن أن يكون هناك “حضور” كامل أو بسيط للعالم أو للوعي كما يظنّ البعض (Smith, 2005, p44-45).

يبدو واضحا ممّا سبق أّن هناك تأويلات كثيرة لكتابات دريدا حول التّفكيكيّة، وخاصّة حول مسألة العلاقة بين اللّغة والعالم؛ فهناك قراءة متطرّفة تنكر قدرة اللّغة على إحالتنا إلى أيّ شيء خارج نطاقها وترى أنّه ليس هناك من شيء سوى النّصّ، وهناك قراءة أخرى معتدلة لا تنكر قدرة اللّغة على وصف العالم، ولكنّها في الوقت ذاته تنفي صفة “الموضوعيّة” عن هذا الوصف وتنظر إليه على أنّه عمليّة تأويليّة مرتبطة بالسّياق.

2- 3- النّص والمعنى:

النّصّ، إذن، مفهوم مركزيّ في التّفكيكيّة، وفي خطاب ما بعد الحداثة بصورة عامّة، ولكن شتّان ما بين رؤية ما بعد الحداثة لهذا المفهوم ورؤية الحداثة له. فالنّصّ من منظور الحداثة يُنظر إليه عادة على أنّه اتّصال مكتوب. إنّه محاولة لتوصيل رسالة دقيقة لمجموعة محدّدة من القرّاء. والقرّاء الحداثيّون “يستمعون” “بأدب” إلى النّصّ كما لو كان يتحدّث إليهم. والنّصّ له محتوى معروف، يتمّ تحديده بوساطة المؤلّف، الذي يمكن تحديد مقاصده ودوافعه الشّخصيّة من وراء كتابة النّصّ. أمّا في سياق ما بعد الحداثة، فقد أصبح للنّصّ حياة خاصّة بمعزل عن المؤلّف، كما أصبح النّصّ خاليا من أيّ محتوى حقيقيّ يمكن الإمساك به. وصار كلّ شيء يُنظر إليه على أنهّ نصّ، بما في ذلك أحداث الحياة، والحرب، والثّورة، والتّنافس السّياسيّ، والانتخابات، والعلاقة الشّخصيّة، والإجازة الأسبوعيّة، وحلاقة الشّعر، وشراء سيارة، والبحث عن وظيفة، وحتّى التّحدّث يوضع في منزلة النّصّ (نصّ شفهيّ) (Rosenau, 2002, p34-36).

والنّصّ من منظور ما بعد الحداثة ليس له مؤلّف معروف؛ فهو نصّ جماعيّ مفتوح (أو غامض) إلى الدّرجة التي ينتج عنها عدد غير محدود من التّفسيرات. وإذا ما استخدمنا مصطلحات رولان بارت (Roland Barthes)، يمكن تعريف نصّ ما بعد الحداثة بأنّه “نصّ موضوع للكتابة” (writerly text)؛ لأنّه نصّ يمكن إعادة كتابته مع كلّ محاولة لقراءته. وهذا يختلف عن مفهوم الحداثة حول “النّصّ الموضوع للقراءة” (readerly text)، الذي ينبغي قراءته لاستخلاص رسالة محدّدة موجّهة لقارئ سلبيّ، وهو نصّ مغلق يقاوم محاولات إعادة كتابته بوساطة القارئ. ويرى بارت أنّ النّصّ الموضوع للكتابة أرقى من النّصّ الموضوع للقراءة؛ لأنّه كلّما كان النّصّ مفتوحا، اتّسع نطاق التّأويلات الممكنة له. ولذلك فالنّص بمفهوم ما بعد الحداثة “هو آلة لإنتاج التّأويلات” (Barthes, 1991; Herman et al., 2012, p483-484).

ومن هذا المنطلق، يرى التّفكيكيّون أنّه لا يوجد نصّان متشابهان ولا توجد قراءتان متطابقتان لنصّ واحد. فقد “سعى دريدا من خلال مشروعه التّفكيكيّ إلى قلب المسلّمة التي تقول إنّ النّصّ يمتلك معنى ثابت ووحيد” (مصطفى، 2011، ص53). وهنا يكمن الفرق الجوهريّ بين البنيويّة والتّفكيكيّة؛ ففي حين يرى البنيويّون أنّ المعنى كامن في بنية النّص، يرى التفكيكيون أن المعنى ليس كامنا في النّصّ ذاته، لكنّه ينشأ نتيجة حوار القارئ مع النّصّ. ولأنّ معنى النّصّ يعتمد على رؤية القارئ الذي يدخل في حوار معه، فإنّ النّصّ يحوي معان متعدّدة تختلف باختلاف القرّاء (أو القراءات) (Grenz, 1996, p6).

وهكذا ترى التّفكيكيّة أنّ النّصوص، حتّى الفلسفيّة منها، ليست بسيطة أو ذات معنى واحد، إذ لا يجب حسب دريدا التّعامل معها بوصفها أنساقا مغلقة لأنّها تتضمّن قوى متناقضة ومرجعيّات متعدّدة مختلفة (مصطفى، 2011، ص52). فكلّ نصّ عبارة عن حلبة للخلاف في الرّأي؛ بمعنى أنّ ما يقال في الظّاهر لا يمكن فهمه من دون الإشارة إلى ما يخفيه سياق النّصّ من معنى ودلالة. وهذه المعاني الخفيّة في سياق النّصّ يمكن اعتبارها افتراضات يقوم عليها النّصّ. إلاّ أنّ هذه الافتراضات تطمس الحقيقة، وعادة ما يصرف القارئ نظره عنها (عبد الجواد، 2002، ص428).

ومن هنا فإنّ دريدا يدعو إلى أن تنصبّ الدّراسة التّفكيكيّة على النّصوص، وأن تحلّلها عن كثب للكشف عن أيّة ثغرات من القلق (aporia)، أو عدم اليقين، أو بمعنى أوضح ما لا يمكن الوثوق به، فهذه هي التي ينفذ منها الكاتب إلى ما يسمّيه المدلولات المتعالية (transcendental signifiers)؛ أي المفهومات التي يعتبرها ميتافيزيقيّة مثل الطّبيعة، والوجود، واللاّوعي وما إلى ذلك (عناني، 2003، ص142).

لهذا فمن الطّبيعيّ عدم الانسياق وراء المسلّمات التي تقول بوجود متّكآت أصليّة ميتافيزيقيّة للنّصّ، لأنّ فكرة الأصل ذات منحى ميتافيزيقيّ، وهكذا فالنّص يحمل بين طيّاته تعارضات بين دلالاته الظّاهرة والمستترة الباطنة، وهذا ما يساعد في استنطاقها من أجل الوصول إلى دلالات جديدة تتجاوز سياقها الأصليّ، وهذه الخصوصيّة التي يمتلكها النّص عن الاختلافات والتّناقضات ترتبط أساسا ببنيته بوصفها وحدة مركّبة من نصوص أخرى وهو ما يوحي بأنّ عمل التّفكيك يقوم بهدم الاعتقاد القديم القائل بوجود معنى ناجز وتامّ في النّصّ (مصطفى، 2011 ص52).

ويرى أنصار ما بعد الحداثة أنّ كلّ نصّ يرتبط بكلّ النّصوص الأخرى، وهذا يؤدّي إلى ما يطلق عليه رولان بارت “التّناص” (intertextuality). ويقدّم رولان بارت وصفا لهذا التّناص بالقول: إنّ تأثيرات النّصّ تتجاوز حدوده وتنتقل إلى كلّ النّصوص الأخرى. فكلّ النّصوص تعدّ تكرارا لنصوص أخرى، وكلّها تشير إلى بعضها بعضا وتعتمد على بعضها بعضا. وفي النّهاية يصعب علينا تحديد النّصّ الأصليّ في ظلّ هذا التّناصّ؛ فالمقتبسات التي تتشكّل منها النّصوص غالبا ما تكون مجهولة، ولا يمكن تتبّع مصادرها، ومن ثمّ فإنّ كلّ النّصوص ما هي إلا “مقتبسات من دون علامات تنصيص”. (Allen, 2012, p67; Barthes, 1980, p77).

2-  4- موت المؤلّف:

إنّ النّتيجة المباشرة لفكرة أنّ النّصّ لا يمتلك معنى ثابتا ووحيدا هي “موت المؤلف”، وهذا ما عبّر عنه رولان بارت عام 1968 في مقال قصير يحمل هذا العنوان The Death of The Author. ففي هذا المقال ذكر بارت أنّ “مصدر” النّصّ (أي المؤلّف) لا يمثّل أهمّية كبيرة، إنّما المهمّ هو “مصير” النّصّ (أي القارئ). وقال إنّه من خلال السّماح للقارئ بإضفاء معاني جديدة على النّص، يتحرّر النّصّ من طغيان المعنى الواحد الأوحد الذي يقصده المؤلّف، وفي تلك الحالة يكون المؤلّف قد مات. يقول بارت: نحن نعرف الآن أنّ النّصّ ليس سلسلة من الكلمات التي تفصح عن معنى أحاديّ “لاهوتيّ” (رسالة المؤلّف أو الإله)، ولكنّه مساحة مفتوحة متعدّدة الأبعاد، تمتزج فيها وتتصارع عديد من الكتابات والنّصوص غير الأصليّة … ووجود المؤلّف يعني فرض عبارة ختاميّة على هذا النّصّ، وتذييله بتوقيع ذاك المؤلّف، وإغلاق الباب أمام عمليّة الكتابة … لكنّنا عندما نرفض تحديد معنى نهائيّ للنّص (وللعالم بوصفه نصّا)، فإنّنا نطلق العنان لما يمكن تسميته بالممارسة اللاّهوتيّة، وهي ممارسة ثوريّة بامتياز؛ لأنّ رفض فكرة وجود معنى ثابت للنّصّ يعني في النّهاية موت الإله (المؤلّف) ورفض مقولاته المطلقة – حول العقل والعلم والقانون (Barthes, 1989, p52-54).

وتعدّ فكرة رولان بارت حول “موت المؤلّف” واحدة من الصّرخات القويّة التي أطلقتها التّفكيكيّة وما بعد البنيويّة لتأكيد أنّ المؤلّف لا ينبغي النّظر إليه بوصفه الحكم الأخير على معنى النّصّ. فقد ظلّ المؤلّف لمرحلة طويلة من الزّمن، حسب ما يرى بارت، متمتّعا بسلطة رفيعة، في حين كان القارئ دائما في منزلة أدنى. ومن ثمّ فقد نادى بارت بموت المؤلّف (أو بصورة أدقّ موت تصوّر معيّن حول المؤلّف: المؤلّف بوصفه مظهرا للسّلطة) من أجل تحرير القارئ وإطلاق إمكاناته الإبداعيّة، حيث بدا له أنّ ميلاد القارئ لن يكون إلاّ على حساب المؤلّف. وقد مثّلت هذه الفكرة طعنة نافذة في قلب الحداثة التي طالما تعاملت مع المؤلّف بوصفه أيقونة ثقافيّة (Sim, 2012, p221).

ففي سياق الحداثة، كان هناك دائما إجماع عامّ حول تعريف المؤلّف والدّور الذي يقوم به. فالمؤلّف بالنّسبة إلى معظم الحداثيّين هو شخص يعكف على إنتاج الكتب والمقالات، وإليه وحده يعود الحقّ في تحديد المعنى الذي يقصده؛ فهو الحكم الأوّل والأخير على معنى النّصّ. وبالتّالي يصبح معنى النّصّ تعبيرا مباشرا عن مقاصد المؤلّف، ومن ثمّ يحتاج القارئ فقط إلى استكشاف هذه المقاصد حتّى يتمكّن من فهم مضمون النّصّ (Rosenau, 2002, p26-27).

ونتيجة تمتّعه بهذه المكانة الرّاقية، فقد تقلّد دورا مهمّا في سياق الحداثة، يتمثّل في غرس القيم الأخلاقيّة، وتعليم أو تنوير القارئ (الذي لا يحظى بهذا القدر من الاحترام). وبالتّالي فالمؤلّف الحداثيّ لا ينظر إليه فقط على أنّه مجرّد شخص ينتج عملا مكتوبا، بل ينظر إليه أيضا بوصفه فاعلا أساسيا في تحريك الأحداث، وشخصا يصنع المواقف أو هو المسؤول عن صياغة الواقع الاجتماعيّ. هذا المؤلّف في المجتمع الحداثيّ هو “المُشَرِّع”، الذي يطلق عليه المتخصّص، أو المدير، أو المهنيّ، أو المفكّر، أو المربيّ. كلّ هؤلاء الأفراد يحتكرون التّعبير عن الحقيقة، والعقلانيّة، والمعرفة العلميّة؛ فهم الذين “يعلّمون” الآخرين ويتّخذون القرارات بعد تقدير الإيجابيات والسّلبيات، ويحدّدون “الصّواب”. وهؤلاء المؤلّفون (المشرّعون) الحداثيّون هم الذين يتّخذون القرارات بشأن الاختيار من بين وجهات النّظر المتعارضة، وما يقع عليه اختيارهم يصبح هو “الصّواب الذي يجب اتّباعه” (Bauman, 1991).

يبدو إذن أنّ مفهوم المؤلّف أكثر تعقيدا من مجرّد شخص ينتج كتابا أو مقالا، فهو مفهوم مفعم بالمضمونات السّياسيّة والاجتماعيّة والمعرفيّة المرتبطة بعلاقات السّلطة في المجتمع. ولذلك فقد تطلّب نقد هذا المفهوم من جانب أنصار التّفكيكيّة ومفكري ما بعد الحداثة القيام برحلة في أعماق التّاريخ للكشف عن جذور هذا المفهوم وأسباب نشأته. ويبدو أنّهم اكتشفوا أنّ مفهوم المؤلّف ليس فكرة طبيعيّة أو بديهيّة كما نتصوّر، لأنّها لم تظهر إلاّ في مجالات معيّنة، وفي لحظات تاريخيّة محدّدة.

فقد اهتمّ ميشيل فوكو بدراسة تاريخ ظهور مفهوم المؤلّف، ولاحظ أنّه لم يكن هناك مؤلّف في حياة الشّعوب البدائيّة؛ حيث كانت الرّوايات البدائيّة شفهيّة وذات طبيعة جماعيّة. وأشار فوكو إلى أنّ فكرة المؤلّف هي من اختراع البرجوازيّة الحداثيّة التي كانت تسعى إلى تحديد المسؤوليّات من أجل مراقبة ما يتمّ كتابته والسّيطرة عليه. لأنّه إذا لم يكن هناك مؤلّف، فكيف يمكن تطبيق العقاب أو تحديد المسؤوليّة القانونيّة إذا ما ظهر نصّ مثير للمشكلات؟ ويشير فوكو إلى أنّ التّأليف لم يظهر في الأدب أوّلا وإنّما في العلوم خلال العصور الوسطى. وقد استلزم الأمر إضفاء هالة من الاحترام والتّقدير على المؤلّف لتعزيز مصداقيّته، ومن ثمّ تأسيس سلطة المقولات العلميّة على هذه المصداقيّة. ولم يتغيّر هذا الوضع إلاّ بمجيء القرن السّابع عشر والثّامن عشر، عندما أصبحت النّصوص العلميّة تعتمد على الجماعة العلميّة وتستمدّ منها شرعيّتها وليس من الأفراد (Foucault, 1980, p113-138).

لقد مهّد هذا الاستقصاء التّاريخيّ الطّريق أمام نقد المفهوم الحداثيّ للمؤلّف من جانب أنصار التّفكيكيّة وما بعد الحداثة. لكنّنا نلحظ تفاوتا في المواقف بين المتشدّدين والمعتدلين حيال هذا الموضوع. فقد طالب المتشدّدون، المتأثّرون بالأفكار التّفكيكيّة، بموت المؤلّف صراحة أسوة بما نادى به رولان بارت. أمّا المعتدلون من أنصار ما بعد الحداثة فينظرون إلى مفهوم المؤلّف بصورة أقلّ تطرّفا؛ فهم لا يرفضون فكرة المؤلّف من حيث المبدأ، وإنّما يرفضون فقط فكرة أنّ مقاصد المؤلّف هي التي تحدّد المعنى بصورة كلّية. وهم يسعون من وراء ذلك إلى “الحدّ” فقط من سلطة المؤلّف، وليس التّخلّي عنه كلّيا. ولذلك فلا حرج، بالنّسبة إليهم، من أن يظلّ المؤلّف على قيد الحياة، ولكن بشرط إعادة صياغة دوره من جديد بصورة تضعف من سلطاته وتجعله أكثر تواضعا (Rosenau, 2002, p30-31).

وقد تمخّضت عمليّة إعادة الصّياغة تلك عن ظهور ما يسمّى “بالمفسّر” ما بعد الحداثيّ. والمفسّر، خلافا للمؤلّف (المشرّع)، لا يدّعي امتلاك حقائق عامّة، وليس لديه وصفات جاهزة يقدّمها للآخرين لعلاج مشكلاتهم. إنّه فقط يقوم بتوضيح الخيارات المختلفة، ويشارك في “الجدل العامّ” مثله مثل غيره من دون أن يدّعي لنفسه ميزة خاصّة. ووجهة نظر المفسّر ليس لها قيمة عامّة، وإنّما تقتصر قيمتها على المستوى الشّخصيّ. وبذلك تكون المعرفة نسبيّة؛ فهي صحيحة في ضوء معتقدات مجتمع ما، ولا تكون كذلك بالنّسبة إلى المجتمعات الأخرى؛ ومن ثمّ فأيّ قواعد للمعرفة لا تنطبق إلاّ في سياق اجتماعيّ محدّد. ويؤدّي المفسّر دور الوسيط بين مختلف أشكال الحقائق التي توجد داخل المجتمعات المختلفة، يشرحها و”يفسّرها” لأولئك الذين يعيشون في مجتمعات أخرى بحقائق مختلفة. وينصبّ اهتمام المفسّر هنا على منع تشويه المعاني عند عمليّة التّواصل، ولكن من دون أن يعلي من قيمة تفسير معيّن على غيره من التّفسيرات (Bauman, 1991).

2- 5- قارئ ما بعد الحداثة:

نتيجة تفكيك مفهومات الحداثة حول اللّغة والنّصّ والمؤلّف، سعى مفكّرو ما بعد الحداثة إلى صياغة مفهوم جديد للقارئ. فسواء مات المؤلّف أم ظلّ على قيد الحياة في رداء جديد، فقد توارى عن الأنظار، وأخلى السّاحة لقارئ ما بعد الحداثة الذي صعد على المنصّة الأساسيّة وحصل على استقلاليّة غير مسبوقة. فلم يعد القارئ ذاتا سلبيّة يتمّ إمتاعها، أو تثقيفها، أو تسليتها، بل منح حرّية خلع المعنى على النّصّ من دون رقابة أو مسؤوليّة. فالمعنى، بالنّسبة إلى أنصار التّفكيكيّة وما بعد الحداثة، “لا يأتي من إنتاج النّصّ (بوساطة المؤلّف)، ولكن من استقبال النّصّ (بوساطة القارئ). فالقارئ عندما يقرأ النّصّ فإنّه يعيد كتابته من جديد عبر المعاني والتّفسيرات التي يخلعها عليه” (Derrida, 1998b).

وهذا التّصوّر حول دور القارئ في سياق ما بعد الحداثة يختلف تماما عن دوره في سياق الحداثة. فالقارئ الحداثيّ عادة ما يؤدّي دور المتلقّي في العلاقة المعقّدة بين المؤلّف والنّصّ، وهو دور سلبيّ. ولم يكن للقارئ الحداثيّ إسهام إيجابيّ جادّ في عمليّة التّواصل سوى قيامه بدفع ثمن الكتاب والتّضحية ببعض الوقت لقراءته. ولقد كان الهدف الأساسيّ لدى المؤلّف الحداثيّ هو أسر القارئ والاستحواذ على اهتمامه إلى أقصى حدّ، ممّا حدا بالبعض إلى وصف القارئ في هذه الحال بأنّه “ضحيّة محتملة” (Rosenau, 2002, p37).

ونلاحظ هنا أيضا اختلافا بين مفكّري ما بعد الحداثة حول دور القارئ، ولكنّه في هذه المرّة اختلاف في الدّرجة وليس النّوع. فالمتطرّفون، من جهتهم، منحوا القارئ استقلاليّة تامّة وحرّية كاملة في قراءة النّصّ وتفسيره من دون أيّة قيود. فطالما كان النّصّ خاليا من أيّ محتوى موضوعيّ، فهو إذن مفتوح على عدد غير متناه من القراءات. وهنا يحظى دور القارئ ما بعد الحداثيّ بأهمّية غير مسبوقة من خلال القيام بتفسير النّصّ واستخلاص المعاني بطريقة ذاتيّة. ولذلك، ففي المحصّلة النّهائيّة، فالقارئ ما بعد الحداثيّ هو من يقوم “بكتابة النّصّ” (Derrida, 1998a).

أمّا المعتدلون من أنصار ما بعد الحداثة فقد حرصوا هم أيضا على منح القارئ سلطة واستقلاليّة كبيرة في قراءة النّصّ، لكنّهم لم يبالغوا في ذلك كما فعل المتطرّفون. وفي كلّ الأحوال يتّفق غالبيّة أنصار ما بعد الحداثة على أنّه عند قراءة نصّ من النّصوص، لا ينبغي علينا التّركيز كلّيا على ما يقوله النّصّ، بل على ما صمت عن قوله، أو ما يشير إليه تعريضا أو تلميحا. ويرى معظم أنصار ما بعد الحداثة أنّ المحتوى الصّريح للنّصّ لا يمثّل أهمّية كبيرة. ولذا فإنّهم لا يركّزون على الأفكار التي يفصح عنها النّصّ بصورة مباشرة، وإنّما يفكّكون النّصّ من أجل الكشف عمّا يخفيه أو يحاول طمسه. وعبر هذا النّهج، فإنّهم يولّدون “معاني عديدة” خاصّة بهم (Rosenau, 2002, p36-37).

ولذلك فإنّ قارئ ما بعد الحداثة لا يسعى من خلال قراءته التّفكيكيّة إلى معرفة مقاصد المؤلّف أو الوصول إلى الحقيقة كما كان يفعل قارئ الحداثة؛ حيث ترتبط القراءة التّفكيكيّة أساسا “بالقدرة على استجواب النّصوص، وسبر الغور في لعبة المعاني، أي العمل على تكملة المعنى من خلال تقويض سلطة المعنى الثّابت والعمل على فتح القراءة الحرّة للدّال بتفجير قدرة العلامة الخطّية على أفق التّأويل”. وبذلك فقد انتقل قارئ ما بعد الحداثة “من البحث عن الحقيقة وعن المعنى القارّ الوحيد إلى البحث عن المحتمل والممكن وعن المعاني المتعدّدة” (عبد الجواد، 2002، ص50).

ولكن إذا كان أنصار ما بعد الحداثة يعترضون على السّلطة المطلقة والصّلاحيّة الواسعة التي يتمتّع بها المؤلّف الحداثيّ، فلماذا إذن لا يعترضون على منح تلك الصّلاحيّات الواسعة والسّلطات المطلقة للقارئ؟

يجيب أنصار ما بعد الحداثة عن هذا السّؤال بالقول إنّهم لم يسعوا إلى جعل القارئ مؤلّفا جديدا، ولم ينصّبوه مركزا لنوع جديد من السّلطة، ولم يسمحوا له بصنع رواية كبرى أو وضع أساس جديد للمعرفة. ففي الوقت الذي يدّعي فيه المؤلّف الحداثيّ امتلاك الميزة الخاصّة والخبرة والأفضليّة، فإنّ جميع القرّاء ما بعد الحداثيّين متساوون لا يدّعي أحدهم لنفسه ميزة على الآخر. كما أنّ القارئ ما بعد الحداثيّ لا يطلق ادّعاءات بامتلاك الحقيقة فيما يتعلّق بتفسير النّصّ، بل إنّه يقرّ بأنّ التّفسيرات الأخرى تحظى بالقدر نفسه من الاهتمام والوجاهة. وهذا يعكس، بكلّ بساطة، فكرة أنّه لا يوجد عالم حقيقيّ وموضوعيّ بمعزل عن الذّات المراقبة لهذا العالم. ولذا فمن الطّبيعيّ أن يقدّم القرّاء المختلفون تفسيرات متباينة للنّصّ الواحد. وهكذا تكون القراءة عمليّة بناء للنّصّ أكثر منها عمليّة بناء للمعرفة (Rosenau, 2002, p39).

وهكذا فقد أصبح القارئ والنّص يتبادلان الأماكن والأدوار، كلّ منهما يحيل إلى الآخر؛ فقصّة القارئ الذي يبني النّصّ تتحول إلى قصّة النّصّ الذي يشكّل القارئ. أمّا المعنى فهو لا يكمن في النّصّ؛ بل يكمن بالأحرى في التّفاعل بين النّصّ والقارئ. وعلى الرّغم من أنّهما يبدوان في شراكة تحت الأضواء، فالعلاقة بينهما ليست دائما سلميّة. فالقارئ قد يبني النّصّ، لكنّ النّصّ في المقابل يتحكّم في القارئ. ومحصّلة كلّ تفاعل أو مواجهة بين القارئ والنّصّ مختلفة وفريدة، مؤقّتة وليست أبدا نهائيّة. أمّا المؤلّف فقد محيت آثاره، وغابت سيرته، وضاعت سلطته في عالم ما بعد الحداثة.

2- 6- العالم بوصفه نصّا:

لقد طبّق فلاسفة ما بعد الحداثة، التّفكيكيّة بوصفها نظريّة أدبيّة ولغويّة، على العالم كلّه، وأظهروا دور اللّغة بوصفها نافذة لرؤية العالم. فكما أنّ النّصّ يُقرأ بطرق مختلفة تختلف من قارئ إلى آخر، فإنّ الواقع كذلك “يُقرأ” بطرق متباينة تختلف من شخص لآخر عند رؤيتهم لهذا الواقع. وهذا يعني أنّه لا يوجد معنى واحد لهذا العالم، ولا يوجد تفسير أحاديّ يدّعي قدرته على وصف الواقع بصورة عامّة وشاملة (Grenz, 1996, p6). بمعنى آخر، “ليس ثمّة عالم حقيقيّ في الخارج، بل هناك بالأحرى أكثر من ستّة مليارات صورة للعالم بعدد البشر على الأرض” (Audi, 2008, p33).

كما أظهرت التّفكيكيّة أيضا أنّه ليس ثمّة فرق جوهريّ بين لغة الحياة اليوميّة ولغة الحياة الأكاديميّة، أو بين لغة الأدب والفنّ الرّوائيّ ولغة العلم والفلسفة؛ فجميعها يقوم على المجاز. لقد حظيت هذه النّظرة إلى اللّغة بقبول متزايد من جانب عديد من اللّغويّين، ممّا أدّى إلى تعزيز الاتّجاه نحو قبول فكرة أنّ النّظرة الموضوعيّة للعالم لا يمكن تحقّقها؛ فاللّغة التي تدّعي وصف العالم بموضوعيّة هي لغة مجازيّة حمَّالة أوجه. ومن ثمّ فإنّ نصوص العلم والفلسفة والتّاريخ، التي كانت تقرأ في سياق الحداثة بوصفها خطابات موضوعيّة تعبّر عن الحقائق، أصبحت تقرأ الآن في سياق ما بعد الحداثة كما لو كانت ضروبا من الأدب والخيال، والعكس صحيح. وقد أدّى ذلك إلى تغيير النّظرة إلى العالم؛ حيث اهتزّت الثّقة بإمكانيّة أن يكون هناك عالم موضوعيّ يمكن معرفته على وجه اليقين، إذ لا سبيل إلى ذلك بالاعتماد على لغة بطبيعتها مجازيّة (Butler, 2002, p24-25).

ومن هذا المنطلق فإنّ أهمّية تفكيكيّة دريدا تكمن في تأكيد فكرة النّسبيّة النّظريّة، والتّشكيك في أنّ الفلسفة أو العلم أو الأدب يمكن لأيّ منها أن يقدّم وصفا دقيقا للعالم، أو أنّ الرّواية التّاريخيّة يمكن أن تكون صحيحة بصورة مطلقة (Butler, 2002, p17). ولذلك يرى أنصار ما بعد الحداثة أنّ المنظّرين الاجتماعيّين الذين يدَّعون القدرة على “تمثيل” العالم بموضوعيّة قد أخفقوا في إدراك أنّ البشر لا يمكنهم رؤية “الواقع” بحياديّة، وأنّ تصوّرات الإنسان حول الواقع هي، حتما، محصّلة تأويلاته الذّاتيّة (Darity, 2008, p395).

ومن الأشياء المهمّة التي كشفت عنها التّفكيكيّة فيما يتعلّق بنظرتنا إلى العالم أنّها أبرزت أنّ العلاقات التي نقيمها بين ألفاظ اللّغة في أذهاننا قد تؤدّي إلى تشويه رؤيتنا للواقع، ومن ثمّ فما نعبّر عنه من علاقات بين مفهومات اللّغة في خطابنا قد لا يعكس بالضّرورة حقيقة العلاقة بين مدلولات هذه المفهومات في الواقع. ولقد كان لهذا النّوع من التّحليل اللّغويّ نتائج سياسيّة وأخلاقيّة اهتمّ بها أنصار ما بعد الحداثة اهتماما كبيرا.

فقد أظهرت التّفكيكيّة أنّنا نميل من خلال استخدامنا للّغة إلى الإعلاء من قيمة “المدلولات المتعالية” (مثل الله، الرّوح، الرّجل)، ونعتمد عليها في تنظيم خطابنا. لكنّنا لا نستخدم هذه المفهومات وحدها، بل نضعها طرفا في علاقة مع مفهومات أخرى، وهو ما يطلق عليه دريدا “المتقابلات المفاهيميّة” (conceptual oppositions) (التّحدّث في مقابل الكتابة، الرّوح في مقابل الجسد، الحَرْفيّ في مقابل المجازيّ، الطّبيعيّ في مقابل الثّقافيّ، الذّكوريّ في مقابل الأنثويّ). وتكمن المشكلة في أنّنا عبر استخدامنا اليوميّ لهذه المتقابلات المفاهيميّة، فإنّنا نقيم عددا كبيرا من العلاقات الخاطئة، أو على الأقلّ نحافظ على ثبات هذه العلاقات بصورة صارمة. فعادة ما نميل، بصورة خاصّة، إلى وضع أحد هذه المفهومات فوق الآخر، ونمنح أحدهما أفضليّة على الآخر؛ “فالمرأة”، على سبيل المثال، تقع في الطّرف الأدنى في العلاقة المفاهيميّة مع “الرّجل”، و”الإنسان الشّرقيّ” يبدو أدنى من “الإنسان الغربيّ” … وهكذا (Butler, 2002, p20).

وهذه العلاقات التي نقيمها بين المتقابلات المفاهيميّة قد لا تعكس بالضّرورة حقيقة الواقع، وبالتّالي فقد تكون مضلّلة ومشوّهة لهذا الواقع. وهنا يكمن الجانب التّحريريّ المبدع في التّفكيكيّة؛ حيث تسعى إلى تفكيك تلك العلاقات التي تربط بين المفهومات المتقابلة: فعندما ننظر إلى هذه العلاقات التي تدّعي أنّها تصف العالم بصورة صحيحة، يمكننا أن نلحظ أنّ هذه العلاقات الهرميّة التي نصنعها ونميّز من خلالها بعض المفهومات ونمنحها أفضليّة على مفهومات أخرى، ربّما لا تكون في ترتيبها الصّحيح، وسنكتشف أنّ هذه المفهومات تعتمد على بعضها بعضا بصورة أكبر ممّا نظنّ في إطار مبدأ “الاختلاف” الذي أرساه دريدا بوصفه آليّة أساسيّة في عمل اللّغة.

ولذلك فقد رفض العلم الاجتماعيّ المتأثّر بأفكار التّفكيكيّة وما بعد الحداثة “المتقابلات المفاهيميّة” أو الثّنائيّات التي تشكّل أساس الفلسفة الغربيّة (مثل: الذّات/الموضوع، الرّجل/المرأة، الواقع/المظهر، العقل/العاطفة، الحديث/الكتابة). فمن خلال هذا التّقسيم الثّنائيّ، وفي أثناء عمليّات الوصف والتّحليل السّببيّ، يتمّ عادة استبعاد الطّرف “الأضعف” في تلك الثّنائيّات، أو التّقليل من قيمته، أو تشويهه، أو وضعه في مرتبة أدنى. وهذا كلّه قد لا يعبّر عن حقيقة هذه العلاقات في الواقع. ولذلك يرى التّفكيكيّون أنّ الكشف عن الاعتماد المتبادل بين المفهومات يؤدّي إلى تفكيك العلاقات الهرميّة التي تربط بينها. ويؤدّي التّفكيك إلى كشف الزّيف والتّضليل من خلال قلب تلك العلاقات الهرميّة بين المفهومات أو وضعها في ترتيب معكوس من أجل إظهار ما تنطوي عليه هذه العلاقات من تناقض ومفارقة. فالحقيقة، مثلا، قد تكون نوعا من الخيال، والفهم قد يكون نوعا من سوء الفهم. وعبر هذا النّهج التّفكيكيّ، نصبح أكثر شكّا تجاه المسلّمات المنطقيّة والأخلاقيّة والسّياسيّة، ونخضعها للنّقاش والمساءلة (Darity, 2008, p396).

التّفكيكيّة إذن ليست مجرّد نظريّة في اللّغة والأدب، أو منهجيّة في قراءة النّصوص؛ فمضموناتها الفلسفيّة تؤثّر في مختلف مجالات المعرفة الإنسانيّة. إنّنا إذا أردنا وصف التّفكيكيّة فإنّنا لن نجد وصفا أفضل من ذلك الذي أطلقه دريدا عليها حين قال: “هنا يكمن جوهر ما يطلق عليه بعض النّاس التّفكيكيّة: إنّها زلزال يضرب الحقيقة” (Derrida, 2001a, p159). أو هي على حدّ وصف مطاع صفدي: “جريمة قتل السّلطان وإنزال الأفكار الإطلاقيّة من عليائها، و(هي) اغتصاب مشروع لكلّ الأطر المنهجيّة والمقولات الشّموليّة مدّعية الشّرعيّة المطلقة في مجال المنطق كما الرّياضة نفسها، كما الإبستمولوجيا بكلّ خلفيّاتها الأنطولوجيّة الباطنة أو الظّاهرة” (صفدي، 1996، ص199).

والتّفكيك بالنّسبة إلى دريدا هو “حقّ” ينبغي على العلوم الإنسانيّة ألاّ تفرّط فيه بوصفه أداة للنّقد والمقاومة في مواجهة كلّ سلطات الاستحواذ والدّوجماطيقيّة. يقول دريدا في محاضرة ألقاها في القاهرة عام 2000: أنا أشير إلى الحقّ في التّفكيك بوصفه حقّا غير مشروط لوضع أسئلة نقديّة، ليس فقط لتاريخ مفهوم الإنسان، ولكن أيضا لتاريخ فكرة النّقد، ولتاريخ تشكّل السّؤال وسلطته، وتاريخ الشّكل الاستفهاميّ للفكر … ومن وجهة النّظر هذه على الأقلّ، يكون للتّفكيك – ولا أستحي أن أقول ذلك وأطالب به – موقعه المتميّز في الجامعة وفي العلوم الإنسانيّة بوصفه موقعا للمقاومة التي تضمّ الجميع، وبوصفه مبدأ عامّا للعصيان المدنيّ أو الانشقاق باسم قانون سام أو باسم عدالة للفكر (دريدا، 2010، ص257-262).

إنّنا عندما نطبّق المنهج التّفكيكيّ على رؤيتنا للعالم، فإنّنا سنكتشف أنّ الواقع، والأنظمة الاجتماعيّة، وحتّى الهويّات الثّقافيّة، ليست مسلّمات أو حقائق بديهيّة، وإنّما هي إنشاءات لغويّة من صنعنا نحن، ولا تعبّر بالضّرورة عن واقع حقيقيّ يمكن وصفه بموضوعيّة. ولذلك فإنّنا لا نعيش في الواقع، بل نعيش في رؤيتنا له وتصوّرنا حوله، أو كما يقول دريدا في عبارته الشّهيرة: “لا يوجد شيء خارج النّصّ (السّياق)”؛ أي لا يوجد عالم بمعزل عن خبراتنا الذّاتيّة، وتصوّراتنا التّأويليّة، ومفهوماتنا اللّغويّة المشحونة بالمضمونات الثّقافيّة. ويمنحنا ذلك ثقة كبيرة لرفض الأيديولوجيّات المهيمنة، والنّظريّات التّعميميّة، والخطابات الإطلاقيّة التي تدّعي القدرة على وصف حقيقة ما يدور في العالم. ومتى ما تحرّرت عقولنا من هيمنة هذه المسلّمات، سيكون من السّهل علينا رؤية العالم من منظور مختلف، ومن ثمّ سنشعر بالحاجة إلى تغييره. فالطّريق إلى تغيير العالم يبدأ من تغيير نظرتنا له. وفي ذلك كلّه مضمونات تربويّة مهمّة تجعلنا نعيد النّظر في كثير من أفكارنا وممارساتنا التّربويّة الحاليّة، وهو ما سنسلّط عليه الضّوء فيما تبقّى من هذه الورقة.

3- المضمونات التّربويّة للتّفكيكيّة:

شهدت السّنوات الأخيرة اهتماما متزايدا من جانب التّربويّين بكتابات جاك دريدا حول التّفكيكيّة. وكان الدّافع وراء هذا الاهتمام هو البحث عن مقاربات جديدة للتّفكير بشأن التّربية وبشأن التّحدّيات التي تواجهها في هذا العصر. وفيما يلي سألقي الضّوء على المضمونات التّربويّة لكتابات دريدا، وبخاصّة أفكاره حول التّفكيكيّة وما تثيره هذه الأفكار من إشكاليّات حول العلاقة بين التّربية والعالم، ومصداقيّة المعرفة التّربويّة، ومفهومات المعلّم والمتعلّم وغير ذلك من القضايا.

إنّ أوّل ملاحظة جديرة بالذّكر عند الكتابة عن دريدا والتّربية هي أنّه لم يتحدّث بصورة مباشرة عن التّربية. ولذلك قد يُثار تساؤل: كيف نستفيد نحن التّربويّون من كاتب لم يتحدّث عن التّربية؟ وهنا تأتي الإجابة من جانب فلاسفة التّربية الذين اهتمّوا بكتابات دريدا، مثل أشر وإدواردز (Usher & Edwards, 2002, p119-121). فبالنّسبة إليهما الاستفادة من كتابات دريدا في مجال التّربية مشروطة بأن نتخلّى عن مناهجنا التّقليديّة في التّعامل مع النّصوص “ذات الصّلة بالتّربية”. فنحن لا يمكننا التّعامل مع كتابات دريدا انطلاقا من المرجعيّات التّفسيريّة والأطر التّحليليّة المألوفة التي نستخدمها عادة في أبحاثنا التّربويّة والأكاديميّة والفلسفيّة التّقليديّة؛ لأنّ مشروع دريدا يسعى في الأساس لهدم هذه الأطر التّحليليّة والمرجعيّات التّفسيريّة.

إنّ المعيار الذي تلجأ إليه الدّراسات التّقليديّة لتحديد النّصوص “المفيدة” أو “ذات الصّلة” بعملنا في مجال التّربية يرتبط غالبا بقدرة هذه النّصوص على كشف “حقائق” التّربية وقدرتها على تقديم حلول عمليّة لمشكلات التّعليم. ودريدا من جهته لا يهتمّ “بالحقائق” التّربويّة، ولا بتقديم حلول لمشكلاتنا التّربويّة. ولذلك فإذا تعاملنا مع كتابات دريدا بهذه الرّوح التّقليديّة، فإنّنا سوف نصاب بالإحباط؛ لأنّه لا يقدّم لنا شيئا يمكننا الاستفادة منه بصورة عمليّة وقابلة للتّطبيق في الواقع التّربويّ الحاليّ. إنّ كلّ ما نجده عند دريدا هو معالجات مغرقة في التّنظير لقضايا فلسفيّة مجرّدة. وبالتّالي فإنّه لا يقول لنا شيئا يفيدنا مثلا في “تطبيق المنهج التّعليميّ بصورة أكثر فعاليّة”، أو في “جعل المعلّمين أكثر كفاءة في التّدريس”، ولا يضيف إلى مخزوننا المعرفيّ شيئا يذكر حول “الحقائق” التّربويّة.

ولذلك فإنّ الباحثين التّربويّين الذين يغرفون من معين العقلانيّة الفنّية، ويروّجون لأفكارهم باستخدام مصطلحات “الكفاءة” و”الفاعليّة” و”الجودة” و”الحقيقة” … الخ، لن يجدوا شيئا في فلسفة دريدا، ولا غيره من فلاسفة ما بعد الحداثة، يمكن شراؤه بهذه العملة. أمّا إذا كان هدفنا هو إعادة النّظر في الافتراضات الأساسيّة التي تقوم عليها فكرة التّربية، وعلاقتها بالواقع، ومفهومات المعلّم والمتعلّم والمعرفة التّربويّة، ومراجعتها بصورة أكثر عمقا، فحينئذ يمكننا أن نستمع إلى دريدا ونجد في كلامه ما يفيد. ولذلك فقبل أن نجهد أنفسنا في قراءة نصوص دريدا المعقّدة، علينا أوّلا أن نعيد النّظر في فكرة أنّ إيجاد حلول عمليّة لمشكلات التّعليم هي القضيّة التّربويّة الأساسيّة. وعلينا أن نتخلّص من عادتنا الفكريّة التي ترى أنّ الهدف الأساسي من القراءة هو استخلاص الحقائق والمعارف العمليّة.

والتّربويّون الذين اتّبعوا تلك المقاربة في قراءة نصوص دريدا خلص بعضهم إلى نتيجة مدهشة مفادها أنّ “دريدا يعدّ واحدا من أهمّ فلاسفة التّربية”. يقول بيتر تريفوناس، الأستاذ بجامعة تورونتو الكنديّة، في مقال بعنوان “جاك دريدا بوصفه فيلسوفا للتّربية” (Trifonas, 2000, p271): “إنّ جاك دريدا هو بالفعل أكثر المفكّرين تعمّقا في معالجة القضايا التّربويّة، حيث تناول بطريقة مثيرة بعض القضايا الفلسفيّة الأساسيّة ذات الصّلة بالتّعليم والتّعلّم، عبر قراءته غير التّقليديّة لتاريخ الميتافيزيقا الغربيّة”. ويشير تريفوناس إلى ما قاله ميشيل فوكو وإدوارد سعيد، كلّ بأسلوبه، من أنّ “التّفكيكيّة ليست سوى تعبير دقيق عن فنّ التّربية؛ تربية ما بعد البنيويّة الخاصّة بالنّصوص”.

ولذلك فقد كانت كتابات دريدا محطّ اهتمام عدد لا بأس به من فلاسفة التّربية الذين أرادوا إعادة التّفكير في التّربية من منظور التّفكيكيّة (انظر على سبيل المثال: Biesta & Egéa-Kuehne, 2005; Lather & Lather, 1991; Peters & Biesta, 2009; Usher & Edwards, 2002; باركر، 2007).

وحول أهمّية التّفكيكيّة بالنّسبة إلى التّربية، يقول بيستا وإيجيا-كيني (Biesta & Egéa-Kuehne, 2005, p4-5): إنّ ما تقدّمه التّفكيكيّة ليس مجموعة من التّوجيهات، أو القواعد، أو الوصفات التي يمكن تطبيقها على التّربية لإصلاح ما اعتراها من عطب. فالمسألة لا تتعلّق باختزال الأفكار العميقة التي تكشف عنها أعمال دريدا في مجموعة من المقولات التّافهة التي تستخدم في الحديث عن المضمونات ذات الصّلة بمشكلات التّعليم. إنّ قراءة دريدا في سياق التّربية تعني تناول القضايا التّربويّة من خلال مقاربة دريدا ومنهجه في التّفكير والتّحليل. وبذلك تفتح التّفكيكيّة أمام القارئ الرّصين آفاقا واسعة لإعادة التّفكير في التّربية، وتحليل الافتراضات الخفيّة التي تنطوي عليها القضايا الفلسفيّة والأخلاقيّة والسّياسيّة ذات الصّلة بالتّربية. أي إنّ دراسة كتابات دريدا تجعلنا ندرك الحاجة الماسّة إلى أن نفكّر من جديد في التّربية من خلال التّصوّرات الجديدة التي قدّمتها التّفكيكيّة حول مفهومات: اللّغة، والعدالة، والآخر، والمسؤوليّة.

وبالرّجوع إلى ما سبق عرضه من أفكار حول التّفكيكيّة، يمكن تحديد ستّ قضايا تربويّة مهمّة تنطوي عليها هذه الأفكار، تجعلنا نعيد التّفكير في بعض الافتراضات والمسلّمات السّائدة حول التّربية في فكرنا التّربويّ. وتنبثق هذه القضايا التّربويّة من تصوّرات دريدا حول ميتافيزيقا الحضور، ومفهوم الاختلاف، والنّصّ والمعنى، وموت المؤلّف، والمتقابلات المفاهيميّة. وفيما يلي مناقشة موجزة لهذه القضايا الستّ.

3- 1- المعرفة التّربوية وإشكاليّة الإحالة إلى الواقع:

تنكر التّفكيكيّة قدرة اللّغة على أن تحيلنا إلى أيّ شيء أو إلى أيّة ظاهرة في الواقع إحالة موثوقة، ومن ثمّ فإنّها ترى أنّ اللّغة لا يمكنها وصف العالم بدقّة، ولا يمكن الاعتماد عليها وسيطا شفّافا وأمينا لمعرفة العالم. وتثير هذه الفكرة أسئلة كثيرة حول التّربية: كيف يمكن للتّربية أن تنقل للمتعلّمين رؤيتها حول العالم والأشياء إذا كانت اللّغة مضلّلة وغير مأمونة؟ هل يمكن الوثوق بالمعارف التي تقدّمها التّربية إذا كانت تلك المعارف سوى تمثيلات لغويّة لا تتطابق مع الواقع؟ ألا يثير كشف التّفكيكيّة للعلاقة المضلّلة بين اللّغة والواقع، شكوكا كبيرة حول مصداقيّة المعارف التّربويّة، وحول قدرة هذه المعارف على تمثيل العالم بدقّة كما تدّعي؟

إنّ التّربية لا يمكنها، وفقا للتّفكيكيّة، أن تبرّر معارفها بالإحالة إلى الواقع والأحداث؛ فالسّعي إلى تأسيس المعاني أو الحقائق بالإحالة إلى شيء خارج اللّغة هو نوع من الميتافيزيقا. ومن الأهداف الأساسيّة للتّفكيكيّة هدم ميتافيزيقا الحضور، أي التّشكيك في وجود أنظمة أو حقائق أو كيانات متعالية خارج نطاق اللّغة. فالمعنى حاضر فقط في اللّغة وليس ثمّة حضور للمعنى خارجها، ولا يمكن تبرير المعنى بالإحالة إلى أيّ مدلولات متعالية خارج النّصّ، فالطّريقة التي تعمل بها اللّغة تحول دون ذلك. وإذا صحّ هذا القول فإنّنا، إذن، نخدع أبناءنا عندما نقدّم إليهم المعارف التّربويّة بوصفها حقائق دقيقة حول الواقع.

إنّ الإشكاليّة الكبيرة التي تواجه التّربية هنا هي أنّه ما من وسيلة أخرى أمامها للتّحدّث عن العالم سوى من خلال اللّغة، وليس ثمّة طريقة لتمثيل المعارف التّربويّة إلاّ عبر اللّغة. ولأّنه دائما ما تكون هناك فجوة بين التّمثيلات اللّغويّة والواقع الفعليّ، فالمعرفة التّربويّة ستبقى دائما في دائرة الشّكّ، ولن ترقى أبدا إلى درجة الحقائق اليقينيّة. وأيّ محاولة لتصوير المعارف التّربويّة على غير هذا النّحو ستكون نوعا من الخداع والتّضليل، وضربا من ضروب الميتافيزيقا.

وهكذا فإنّ الدّرس المهمّ الذي تقدّمه لنا التّفكيكيّة هو ضرورة إعادة النّظر في أفكارنا التّقليديّة حول العلاقة بين اللّغة والواقع، وحول قدرة اللّغة على تمثيل حقيقة العالم، ومن ثمّ حول فكرة أنّ المعارف التّربويّة تقدّم حقائق موضوعيّة متطابقة مع الواقع. وهذا درس مهمّ بالنّسبة إلى تربيتنا الحداثيّة التي لاتزال تقوم على ميتافيزيقا الحضور، وتقدّم المعرفة للمتعلّمين كما لو كانت حقائق مطلقة، ولا تنفكّ تبرّر تلك “المعارف” التي تقدّمها بالإحالة إلى ظواهر وأحداث وأشياء في الواقع تدّعي أنّها حقيقية وموضوعيّة. خلافا لذلك، لا ينبغي أن ننظر إلى المعرفة التّربويّة بوصفها صورة متطابقة مع الواقع، أو تمثيلا دقيقا لحقائق العالم، بل هي مجرّد تأويلات لهذا الواقع وحقائقه في سياق ثقافيّ واجتماعيّ معيّن.

ويقدّم ريتشارد سميث (Smith, 2010, p147) مثالا على ذلك من واقعنا التّربويّ الحاليّ. فقد لاحظ أنّه عندما نتحدّث عن التّعليم، فإنّنا دائما ما نبرّره بالإحالة إلى صورة معيّنة عن الواقع، ندّعي صراحة أو ضمنا، أنّ لدينا معرفة وافية عنها. فعادة ما يقال إنّ الهدف من التّعليم هو تزويد الشّباب بالمهارات اللاّزمة لعالم الواقع، كما لو كان هناك بالفعل عالما واقعيّا يمكن معرفته بصورة قاطعة ويمكن معرفة المهارات اللاّزمة للتّعامل معه على وجه اليقين. وأحيانا يُنظر إلى الواقع في هذا السّياق بوصفه فضاء اجتماعيّا، وهنا تكون المهارات المطلوبة هي تلك التي يحتاجها المواطن الصّالح للحياة في المجتمع والتّعامل بانسجام مع الآخرين. وأحيانا أخرى يُنظر إلى الواقع بوصفه نظاما اقتصاديّا، وفي هذه الحالة يجب تعليم الأفراد كيف يمكنهم الإسهام في تحقيق التّقدّم الاقتصاديّ.

ويعقّب سميث على ذلك متعجّبا: “لكنّي ألاحظ أيضا أنّ النّاس في عالم الواقع (إذا نظرنا إلى هذا العالم على أنّه يتضمّن كلّ ما يفعله البالغون بعد أن ينهوا التّعليم الرّسميّ) يزرعون الزّعفران، ويقرؤون الشّعر، ويعزفون على القيثارة. وعندما أستفسر بأدب: لماذا لا يُعدُّ التّعليم الشّباب لهذا الواقع؟ فإنّ الإجابة التي أتلقّاها عادة هي أنّني لا أعيش في عالم الواقع. وعندما يطالبني الآخرون بأن أعيش في عالم الواقع، فهذا يعني عادة أنّهم يريدون منّي أن أفعل شيئا لا أفعله ولا أريد أن أفعله” (Smith, 2010, p147).

الفكرة الأساسيّة هنا هي أنّ التّربويّين يتحدّثون عن الواقع في أهدافهم التّعليميّة، وفي مقرّراتهم الدّراسية، كما لو كان حقيقة مطلقة لا مجال للشّك فيها، ويريد سميث أن يثبت لهم أنّ هذا الواقع الذي يتحدّثون عنه هو واقع من صنعهم هم، ومن صنع أمانيهم وأحلامهم، وهو محكوم بمنطق اللّغة التي يستخدمونها في وصفه، وبالتّقسيمات الثّنائيّة التي يقوم عليها هذا المنطق. ويرجع سميث الفضل إلى كتابات دريدا حول التّفكيكيّة في تحريرنا من تلك الافتراضات الخادعة لتربية الحداثة: وهنا تكمن أهمّية كتابات دريدا؛ حيث تمثّل تحدّيا كبيرا لهؤلاء التّربويّين الذين يدّعون أنّهم يملكون معرفة كافية عن “الواقع” التّعليميّ، ويمنحون أنفسهم الحقّ في إخراس الآراء الأخرى … إنّ اتّجاه ما بعد البنيويّة في الفكر ما بعد الحداثيّ – بتركيزه على النّصوص، وإنكاره وجود أيّ شيء يمكن الإحالة إليه بسهولة خارج النّصّ، ورفضه فكرة العالم “الواقعيّ” “الحقيقيّ” المنفصل عن أماني وطموحات الأفراد – يفتح آفاقا واسعة للتّحرّر، ويوقد شعلة للضّوء في هذه العصور المظلمة بالنّسبة إلى التّربية (Smith, 2010, p149).

3- 2- التّربية والنّصّ المفتوح:

ومن المضمونات التّربويّة المهمّة في التّفكيكيّة فكرتها حول مفهوم “النّصّ” وتصوّرها حول علاقة النّصّ بالمعنى. فالنّصّ من منظور التّفكيكيّة، كما أسلفنا الذّكر، لا يقتصر على النّصوص اللّغويّة، بل يتّسع ليشمل كلّ الأشياء أو المدلولات الموجودة في العالم، وأصبح للنّصّ وجود خاصّ بمعزل عن المؤلّف، فلم يعد للنّص مؤلّف معروف، وأصبح ينظر إليه من زاوية “التّناص” على أنّه نصّ جماعيّ مفتوح وتكرار لنصوص أخرى، ولم يعد للنّص محتوى حقيقيّ يمكن الإمساك به أو معنى ثابت ووحيد. وعندما ننطلق من هذا التّصور حول النّصّ، سواء كان النّصّ بمعناه اللّغويّ أو العالم بوصفه نصّا، هل يمكن أن تبقى فكرتنا عن التّربية كما هي الآن؟

عندما تقول التّفكيكيّة إنّه لا يوجد نصّان متشابهان ولا توجد قراءتان متطابقتان لنّصّ واحد، وأنّ المعنى ليس كامنا في النّصّ ذاته، لكنّه ينشأ نتيجة حوار القارئ مع النّصّ، وأنّ النّصّ يحوي معاني متعدّدة تختلف باختلاف القرّاء، كيف يمكن أن يغيّر ذلك من فهمنا للنّصوص التّربويّة؟ وكيف يمكن أن يغيّر ذلك من ممارساتنا التّربويّة؟ وبالنّظر إلى تصوّر التّفكيكيّة حول “النّصّ الموضوع للكتابة”، هل يمكننا أن نتخيّل الفرق بين نموذجين للتّربية، الأوّل ينطلق من مفهوم للنّص بوصفه “موضوعا للقراءة”، والثّاني ينطلق من مفهوم للنّص بوصفه “موضوعا للكتابة”؟

إنّ النّموذج الأوّل يمثّل تربية الحداثة؛ تلك التّربية السّائدة في مدارسنا حاليا، التي تقدّم نصوصا تربويّة أحاديّة المعنى، تتضمّن رسالة محدّدة وثابتة، تعبّر عن مقاصد المؤلّف التي يجب على المتعلّم معرفتها. إنّه نصّ مغلق، لا يسمح بتعدّديّة المعاني. وأيّ انحراف عن مقاصد المؤلّف يعدّ تحريفا للمعنى وتشويها للحقيقة. ومن ثمّ على المتعلّم أن ينصت جيّدا إلى رأي المؤلّف الذي تعبّر عنه كلمات النّصّ بوضوح وبصورة لا خلاف عليها. وبعد ذلك إذا كان للمتعلّم رأي آخر غير رأي المؤلّف فتلك مسألة أخرى لا علاقة لها بقراءة النّصّ. وعلى المتعلّم ألاّ يخطئ في قراءة هذا المعنى الوحيد الكامن في النّص، لأنّه إذا قدّم قراءة أخرى للنّصّ في “الامتحان” فسوف يلقى عقابه ويخسر الدّرجة؛ لأنّه في هذه الحالة قد أثبت أنّه لا يمتلك مهارة تحديد “المعنى الدّقيق للنّصّ”، وبالتّالي فشل في بلوغ “الحقيقة”.

النّموذج الثّاني يمثّل تربية ما بعد الحداثة التي تتعامل مع النّصّ وفقا للأفكار التّفكيكيّة. فالنّصّ هنا نصّ مفتوح، “آلة لتوليد التّأويلات”. إنّه نصّ بلا مؤلّف، بلا رسالة محدّدة، مادّة بين يدي المتعلّم يفعل بها ما يشاء. المتعلّم هنا هو الذي يُضفي على النّصّ معناه بعد أن يطبّق عليه استراتيجيات القراءة التّفكيكيّة؛ أي إنّه يكتبه من جديد وفق تأويله الخاصّ. وبالتّالي فالنّصّ الواحد يمكن أن يحوي عددا من التّأويلات بعدد طلبة الصّفّ. والسّؤال الآن: هل يمكن أن تقبل تربيتنا الحاليّة بهذا؟ هل يمكن للسّلطة التي تهيمن على الخطاب التّربويذ في مجتمعنا أن تمنح المتعلّمين حرّية تأويل النّصوص التّربويّة كيفما شاؤوا؟ وما النّتائج التي يمكن أن تترتّب على ذلك فيما يتعلّق بشخصيّات الطّلبة، وهويّاتهم، وأنماط تفكيرهم، وأسلوبهم في التّعامل مع الأفكار والخطابات المحيطة بهم؟

لا ينبغي على التّربويّين أن تساورهم الرّيبة من تلك الدّعوات التي تطالب بمنح المتعلّم قدرا أكبر من الحرّية في تأويل النّصّ وتحديد المعنى. ففي سياق التّعليم، كما يقول بول ستانديش (Standish, 2005, p95)، دائما ما يتجاوز المتعلّمون المعاني الثّابتة للنّصوص، والأهداف المرسومة للمنهج، والغايات المحدّدة للتّربية، ومن ثمّ السّلطة المستقّرة للمعلّم. ولا ينظر ستانديش إلى هذا “التّجاوز” بوصفه يمثّل تهديدا للمعنى وبالتّالي تهديدا للتّربيّة، بل يعتبره بالأحرى شرطا مركزيّا من شروط التّعلّم؛ لأنّ التّعلّم الحقيقيّ لا يتحقّق ولا يمكن أن يوجد إلاّ عبر هذا التّجاوز والانعتاق من جانب المتعلّم. أمّا الانشغال الزّائد بوضوح المعنى وثباته، والسّيطرة على المتعلّمين وضبطهم، فلا يؤدّي سوى إلى خنق أهمّ ما يمكن أن تمتاز به التّربية: وهو “تجاوز” القوالب الجامدة للمعاني وتشكيل الأفراد المبدعين.

إنّ القضيّة الأساسيّة هنا هي أن يدرك التّربويّون أنّ النّصّ – أيّ نصّ، حتّى النّصوص “العلميّة” التي تقدّمها المعرفة التّربويّة– ليس منظومة بسيطة ومغلقة، بل هو، كما توضّح التّفكيكيّة، نسق شديد التّعقيد والتّركيب، قائم على المجاز، ومملوء بالتّناقضات، ويتّكئ دائما على افتراضات خفيّة، ويقوم على مرجعيّات وخلفيّات لا يفصح عنها، وتوجد بين ألفاظه الظّاهرة مفهومات مستترة، ويخفي في باطنه مثل ما يقوله في ظاهره وربّما أكثر. مثل هذا النّصّ لا يمكن إلاّ أن يكون حلبة للخلاف في الرّأي، وساحة للصّراع على المعنى. وتقديمه في مدارسنا للمتعلّمين في صورة بسيطة ومغلقة، هو أمر ينطوي لا محالة على قدر كبير من التّزييف والخداع. وهذا ما يجب على تربية ما بعد الحداثة أن ترفضه.

ولذلك يجب أن تتعامل تربيتنا مع النّصوص التّربويّة بوصفها “نصوصا موضوعة للكتابة” وليست “نصوصا موضوعة للقراءة”. وهذا يجعل من تلك النّصوص “آلة لإنتاج التّأويلات”، ويجعل من المتعلّم قارئا مفكّكا، وينمّي لديه القدرة على التّفكير النّاقد. وتلك من المهارات الفكريّة المهمّة للغاية التي يحتاجها الإنسان في هذا العصر، حتّى يصبح أكثر وعيا في التّعامل مع الكمّ الهائل من النّصوص ذات المرجعيّات المتباينة، والرّسائل المتناقضة، والفتن المدسوسة، التي تفيض بها وسائل الإعلام ومواقع التّواصل الاجتماعيّ بصورة يوميّة.

3-3- موت المعلّم:

من الموضوعات الأساسيّة في التّفكيكيّة قضيّة “موت المؤلّف”، واضمحلال سلطته أمام سلطة القارئ في التّعامل مع النّصّ. وتثير هذه القضيّة أسئلة مهمّة بالنّسبة إلى التّربية: إذا كان “المعلّم” وفقا لنموذج التّربية الحداثيّة يقوم مقام “المؤلّف”، فهل موت المؤلّف يقود إلى موت المعلّم؟ إذا كان المعلّم، أو “المربّي” بصورة عامّة، هو الذي يملك سلطة تحديد معنى النّصّ في تربية الحداثة، وإذا كان النّصّ وفقا للتّفكيكيّة قد أصبح بلا مؤلّف، وبلا معنى محدّد، ألا يعني ذلك زوال سلطة المعلّم واختفاء دوره؟ بطريقة أخرى: إذا كان المعلّم يستمّد سلطته من موقعه بوصفه حكما يفصل في الخلاف حول معنى النّصّ، ويميّز الإجابة الصّحيحة من الخاطئة، ويمنح الدّرجة لمن قدّم القراءة الدّقيقة، ويعاقب من انحرف عن المقصد وفشل في تحديد المعنى المراد، فكيف له أن يمارس تلك السّلطة عندما لا تكون هناك محكمة للفصل في الخلاف حول المعنى؟ هل ستكون هناك حاجة إلى المعلّم عندما ينفتح النّصّ على آفاق التّأوّل بلا حدود، وعندما يمتلك المتعلّمون حرّية تأويله كيفما شاؤوا، بلا خوف من عقاب، أو تزلّف لنيل الرّضا؟

لقد فتحت مثل هذه الأسئلة باب الجدل في الفكر التّربويّ ما بعد الحداثيّ حول مفهوم “المعلّم” وحدود دوره في تربية ما بعد الحداثة. ووصل الأمر بالفعل إلى ظهور تيّار ينادي بموت “المعلّم” أسوة بموت “المؤلّف”. ويشير سامي نصّار (نصّار، 2005، ص120) إلى أنّ حركة ما بعد الحداثة لم تبلور موقفا واحدا من المعلّم، ومن ثمّ تتعدّد صور المعلّم فيها. ويشير تحديدا إلى ثلاثة مواقف تتراوح بين الرّاديكاليّة التي يمثّلها “ليوتار” الذي يرى أنّ الظّرف ما بعد الحداثيّ يعني موت المعلّم، والوسطيّة التي يمثّلها “رورتي” الذي يرى أنّ الظّرف ما بعد الحداثيّ يمنح دور المعلّم أهمّية خاصّة، والموقف النّقديّ الذي يمثّله “هابرماس” وغيره ممّن يُعْلُون من أهمّية المعلّم. ولقد بنى ليوتار موقفه القائل بموت المعلّم على أساس فكرة موت المؤلّف التي نادى بها رولان بارت. وموت المعلّم بالنّسبة إلى ليوتار يعني تراجع سلطته المعرفيّة بعد أن فقدت النّظريّات الكبرى مشروعيّتها، وسادت العقلانيّة الفنّية التي تركّز على الأداتيّة ومعايير الكفاءة والجودة في الأداء.

إذن يقدّم ليوتار تبريرا تاريخيّا لموت المعلّم؛ فموت المعلّم يرتبط عنده بالظّرف ما بعد الحداثيّ، وتحديدا بظهور تكنولوجيا المعلومات، التي يمكن الاعتماد عليها في نقل المعرفة إلى الطّلبة عوضا عن المعلّم. ولكن من هذه الزّاوية يمكن اعتبار أنّ المعلّم قد مات منذ اختراع الكتابة؛ أي عندما أصبح في مقدور النّاس أن يتعلّموا بأنفسهم من الكتب مباشرة من دون الحاجة إلى معلّم. إذن الكتب أيضا قد أسهمت في قتل المعلّم وليس أجهزة الحاسوب فقط. وهذا ما دفع بعض التّربويّين إلى القول “إنّ موت المعلّم لا يرتبط فقط بعصر المعلومات” (Nola & Irzik, 2006, p381).

ويمكن وضع هذه التّفسيرات التّاريخيّة لموت المعلّم في سياق الحديث عن دور المعلّم بوصفه “ناقلا للمعرفة”، ولكن هناك بالتّأكيد أدوار أخرى للمعلّم، وللتّربية بصورة عامّة، غير نقل المعرفة، ومن بينها “الوصاية على المعنى”. فالنّصوص المعرفيّة لا يتمّ فقط نقلها، وإنّما يتمّ أيضا تأويلها وإضفاء المعنى عليها. ومن هذه الزّاوية تحديدا يمكن أن نقدّم تفسيرا فلسفيّا – وليس فقط تاريخيّا – لموت المعلّم؛ فالمعلّم قد مات، ليس لأنّه لم يعد يشارك في نقل المعرفة، بل لأنّه لم يعد وصيّا عليها، ومحتكرا لتفسيرها، ومهيمنا على معناها.

إذن، التّفكيكيّة تؤّكد لنا تراجع سلطة المعلّم وانتهاء وصايته على المعنى في عصر ما بعد الحداثة، مثله في ذلك مثل المؤلّف. وعلى الرّغم من ذلك، لا يزال المعلّم في تربيّتنا الحداثيّة يهيمن على معنى النّصّ التّربويّ نيابة عن “المؤلّف” المتمثّل في السّلطة السّائدة في المجتمع. فالمعلّم هو وكيل هذه السّلطة في حجرة الدّراسة، المفوّض من قِبلها بغلق النّصّ وتقليص أيّة مساحة يمكن للطّلبة من خلالها التّلاعب بالمعنى أو “الخروج عن النّصّ”. بل يُحظر على الطّلبة في بعض الأحيان الاستعانة بنصّ خارجيّ بديل يكمّل معنى “النّصّ المدرسيّ” فضلا عن أن يعارضه. فكم من مرّة سمعنا فيها أعلى مسؤول في السّلطة التّربوية عندنا يؤكّد أنّ أسئلة الامتحان لن تأتي إلاّ من “كتاب الوزارة”. وبالتّالي يجب أن تكون الإجابة من “كتاب الوزارة”. وهذا نموذج صارخ “للبطريركيّة التّربويّة” التي تقوم على فكرة “النّصّ الموضوع للقراءة”، النّصّ المغلق المعزول عن النّصوص الأخرى، المرجع الأوحد الذي يحتكر “الحقيقة” والمعرفة “الشّرعيّة”.

لكن لا يمكن لهذا النّموذج أن يصمد طويلا أمام تحوّلات عصر ما بعد الحداثة وتحدّياته. فمع الانفجار المعرفيّ وثورة الاتّصال والمعلومات ظهر “النّصّ الأعظم” الذي خرج عن نطاق السّيطرة عبر شبكات الألياف الضّوئيّة التي غمرت الكوكب بأسره. وبظهور هذا النّصّ العملاق الذي يفيض، بكلماته ورموزه وصوره وموادّه المسموعة والمرئيّة، عبر الوسائط الرّقميّة والإعلاميّة وبيئات التّعلّم الافتراضيّة ومواقع التّواصل الاجتماعيّ المختلفة، والذي تتعدّد فيه مصادر المعرفة وتتشابك مع بعضها بعضا في “تناصّ” غير مسبوق، اختفت فكرة “المؤلّف” المهيمن على المعنى والوصيّ على شؤون الحقيقة. ومن ثمّ فقد أصبح الحديث عن “كتاب الوزارة” بوصفه المصدر الوحيد للمعرفة “الشّرعيّة” جزءاً من الماضي الذي تجاوزته حركة التّاريخ.

وهكذا ينبغي أن يدرك التّربويّون في مجتمعنا – بالنّظر إلى تصور التّفكيكيّة حول موت المؤلّف، وبالنّظر أيضا إلى السّياق التّاريخيّ لعصر ما بعد الحداثة الذي يؤّكد هذا الأمر – أنّ دور المعلّم “البطريرك”، الوصيّ على المعنى، الحكم على الصّواب والخطأ، في سبيله إلى الزّوال. وعليهم أن يبحثوا من الآن فصاعدا عن أدوار جديدة للمعلّم في تربية ما بعد الحداثة، إذا أرادوا لهذا المعلّم أن يبقى على قيد الحياة. وكثير هم الذين يؤمنون برسالة المعلّم وضرورة بقائه على قيد الحياة، ولكن بأدوار جديدة تواكب تطوّرات العصر، ومنهم جاك دريدا ذاته الذي يقول: “نحن نشهد نهاية صيغة ما للأستاذ ولسلطته المفترضة، ولكنّني أؤمن بضرورة الأستاذيّة” (دريدا، 2010، ص292).

ربّما علينا أن نعيد صياغة دور المعلّم، حيث يتحوّل من “المعلّم المتيقّن أو المشرّع” الذي يتولّى إصدار الأحكام المطلقة ونقل الحقائق العامّة، إلى “المعلّم المعلّق أو المفسّر” الذي يحرص على استمرار الحوار وتيسير التّواصل بين المتعلّمين، وتشجيعهم على استكشاف الجوانب المتعدّدة للحقيقة ووجهات النّظر المختلفة حولها، وتحليلها بصورة نقديّة. مثل هذا المعلّم سيتيح مجالا لتعدّديّة الآراء داخل حجرة الدّراسة، وسيمنح المتعلّمين مساحة للتّفكير، والتّعبير عن آرائهم الخاصّة. ويشكّل ذلك مطلبا مهمّا من أجل بناء الإنسان الواعي، القادر على بناء مواقفه الفكريّة الخاصّة بصورة مستقلّة.

3- 4- المتعلّم بوصفه قارئا مفكّكا:

إنّ العلاقة بين التّعلّم والقراءة علاقة عضويّة؛ فلا يمكن أن يحدث تعلّم من دون قراءة. وباختلاف أهداف وطرق واستراتيجيّات القراءة، تختلف أنواع التّعلّم. فعندما تكون القراءة من أجل “اكتساب” المعرفة، و”تحديد” المعنى الحقيقيّ للنّصّ، وفهم “مقاصد” المؤلّف، و”حفظ” نصوص الحكماء، يصبح التّعلّم معاودة لإنتاج المعنى، وممارسة خاضعة لإرادة السّلطة، ونشاطا يكرّس هيمنة النّظام السّائد للحقيقة. ولكن عندما تكون القراءة من أجل “التّهكّم” و”إساءة القراءة”، و”استجواب” النّصّ، و”التّلاعب” بالحضور المفقود فيه، و”تأويل” النّصّ بردّه إلى نّص آخر، والتّركيز على “هوامش” النّصّ أكثر من النّصّ ذاته، وطمسه عبر النّقش عليه، و”إعادة كتابته” مرّة أخرى لإضفاء معان جديد عليه، نكون أمام نوع آخر من التّعلّم؛ تعلّم يقاوم إرادة السّلطة الأبويّة، ويهدم أنظمة الحقيقة المهيمنة، ويفتح المعرفة على آفاق التّعدّديّة، ويكسر احتكار المعنى بحجّة العقلانيّة أو العلميّة أو غير ذلك من السّرديّات الكبرى.

تلك هي القراءة التّفكيكيّة التي تسعى إلى قلب العقلانيّة الصّريحة أو المضمرة في النّصّ على نفسها، لإحداث خلخلة في بنائها العقلانيّ والكشف عن أدوات التّمويّه والتّعمية في النّصّ عندما يفشل في الوفاء بالمعايير التي وضعها لنفسه. والمادّة الخامّ لعمليّة التّفكيك موجودة بالفعل داخل النّصّ متمثّلة في القواعد المنطقيّة أو العلميّة التي يقيم عليها حججه. وبصرف النّظر عن قوّة المنطق أو ضيق التّفكير، فإنّ التّفكيك يعمل مثل الفيروس في الجهاز المناعيّ للنّصّ، قالبا منطقه رأسا على عقب (باركر، 2007، ص163).

وقد اهتمّ بعض التّربويّين بتوضيح كيفيّة توظيف استراتيجيّات القراءة التّفكيكيّة في عمليّات التّعليم والتّعلّم. ومن بين هؤلاء روبرت شولز الذي تناول ذلك في إطار تحليله لمفهوم “السّلطة النّصيّة” في التّربية (انظر: Aronowitz & Giroux, 1991, p106-107). فوفقا لشولز، يجب التّعامل مع النّصوص التّربويّة بوصفها موادّ تاريخيّة متغيّرة، وليس بوصفها موادّ مقدّسة لإنتاج الحقائق المطلقة. وتأسيسا على ذلك، يرى شولز أنّه بدلا من تزويد الطّلبة بالمعلومات من خلال النّصوص المدرسيّة، ينبغي على التّربويين أن يتخلّوا عن تلك النّصوص ويعتمدوا بدلا من ذلك على ما يطلق عليه “التّناصّ” (textuality). و”التّناصّ” هو عمليّة لدراسة النّصوص تنطوي على ثلاثة أشكال من الممارسات التّربويّة:

  • القراءة (القراءة داخل النّصّ)

وتعني تحديد القوانين والشّفرات الثّقافيّة التي ينطلق منها المؤلّف في كتابة النّصّ. ويمارس الطّلبة هذه المهارة من خلال إعادة رواية “قصّة” المؤلّف أو أفكاره، وتلخيصها، وشرحها بالتّفصيل.

  • التّأويل (القراءة فوق النّصّ)

ويعني قراءة النّصّ عبر تأويلات مختلفة تضيف تعليقات أخرى على النّصّ. والعنصر الأساسيّ في هذا النّشاط التّربويّ هو مساعدة الطّلبة على تحليل النّصوص من خلال ربطها بنصوص أخرى. وهنا تتّضح أمام الطّلبة منظومة العلاقات النّصيّة التي تربط بين النّصوص المختلفة، بما في ذلك تلك النّصوص التي ينطلق منها الطّلبة أنفسهم في رؤية العالم.

ومن خلال المرحلتين السّابقتين – القراءة داخل النّصّ وفوق النّصّ – يمتلك الطّلبة القدرة على الاشتباك مع النّصّ وتمزيقه. ويرى شولز أنّ هذا الأمر مهمّ للغاية من أجل مساعدة الطّلبة في فتح آفاق النّصّ على عدد واسع من القراءات، حيث لا يكون النّصّ مجرّد مرآة للمواقف الذّاتيّة للطّلبة.

  • النّقد (القراءة في مواجهة النّصّ)

ويعني قيام الطّلبة بهدم القوانين والشّفرات الثّقافيّة التي ينطلق منها النّصّ، مؤكّدين بذلك “سلطتهم النّصّيّة”. وهنا يقوم الطّلبة بتحليل النّصّ في ضوء ما صمت عن قوله، أو ما حاول إخفاءه، وبالتّالي يتمكّنون من صياغة مواقف تتعارض مع الافتراضات التي يقوم عليها النّصّ.

وفي ضوء هذه الإمكانيّات الكبيرة التي تنطوي عليها استراتيجيّات القراءة التّفكيكيّة، يمكننا أن نتحدّث عن رسالة جديدة للتّفكيكيّة: رسالة تتجاوز “تفكيك التّربية” في عالم الحداثة إلى بناء “تربية تفكيكيّة” لعالم ما بعد الحداثة. فالفرصة ما تزال سانحة أمام التّربية في مجتمعنا كي تصنع لنفسها رسالة ذات معنى في هذا العصر، وذلك بأن تجعل من أهدافها الأساسيّة تعليم الطّلبة استراتيجيّات ومناورات القراءة التّفكيكيّة.

ولذلك يمكن القول إنّ الإسهام الأكبر للتّفكيكيّة يتمثّل في أنّها تقدّم إلى التّربية إحدى أهمّ الأدوات التي تحتاج إليها في هذا العصر: منهج نقديّ. فكثيرة هي الكتابات التي يزخر بها فكرنا التّربويّ، التي تطالب بتوجيه التّربية نحو بناء العقليّة الناقدة، لكنّها لا تقدّم منهجيّة عمليّة يمكن من خلالها بناء هذه العقليّة، ولا تزوّد المتعلّمين بأدوات تمكّنهم من ممارسة النّقد في عالم الواقع. وهنا تتجلّى قيمة التّفكيكيّة وأهمّيتها من خلال ما تقدّمه من استراتيجيّات عمليّة يمكن للتّربية الاعتماد عليها في تعليم الطّلبة مهارات التّفكير النّاقد، والتّدرّب على مناورات القراءة التّفكيكيّة، على النّحو الذي سبق بيانه.

وما أحوج الإنسان في عصر ما بعد الحداثة إلى التّمكّن من مهارات التّفكير النّاقد والقراءة التّفكيكيّة. فمن التّحدّيات الكبيرة التي تواجهها التّربية في هذا العصر إعداد الإنسان بصورة تمكّنه من التّعامل الواعي مع بيئات التّعلّم الافتراضيّة القائمة على التّكنولوجيا، ومع الكمّ الهائل من النّصوص ذات المرجعيّات المتباينة، والأفكار المتناقضة، في عالم الصّور والواقع الافتراضيّ. ففي ظلّ هذه الفضاءات التّربويّة الجديدة، لم يعد مقبولا أن تقوم ممارساتنا التّربويّة على فكرة إعداد “القارئ المتلقّي”، بل يجب عليها أن تستهدف بناء “القارئ المفكّك” عبر جعل التّفكيك جزءا من استراتيجيّاتها الخاصّة بالتّعلّم.

فتلك هي الطّريقة التي يصبح طلبتنا من خلالها أكثر وعيا في التّعامل مع مختلف النّصوص التي يصادفونها في حياتهم اليوميّة، سواء كانت تلك النّصوص مقالا في جريدة أو نشرة للأخبار أو مسلسا تلفزيونيّا أو مشاركة مصوّرة على مواقع التّواصل الاجتماعيّ … إلخ. ويتجسّد هذا الوعي في قدرة هؤلاء الطّلبة على تفكيك الثّنائيّات المتقابلة، وكشف المدلولات المتعالية، والمفهومات الميتافيزيقيّة التي تتّكئ عليها هذه النّصوص، وتعتمد عليها في تبرير مقولاتها. ولا يمكن أن يتحقّق ذلك من دون أن تبادر مدارسنا بتشجيع طلاّبها على تفكيك النّصوص التّربوية ذاتها، عبر مقاربة نقديّة يمكنهم من خلالها كشف الافتراضات الضّمنيّة والمسلّمات المضمرة التي تنطلق منها، وتكون لديهم القدرة على تقويمها في ضوء آرائهم الخاصّة، ورفضها إذا ما ثبت بطلانها.

إنّ اعتماد التّربية على منهج التّفكيك واستراتيجيّاته يعزّز دورها في مواجهة التّحدّيات التي تفرضها التّحوّلات المعاصرة. فهذه التّربية التّفكيكيّة هي التي يمكنها أن تعصم أجيالنا من الانجراف وراء المذاهب الشّموليّة والمعتقدات الدّوجماطيقيّة التي أصبحت تشكّل خطرا داهما على مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة في الآونة الأخيرة. فالخطابات الخاصّة بهذه المذاهب والمعتقدات المهيمنة لا تجد رواجا إلاّ في البيئات الفكريّة التي يسود فيها مفهوم “النّصّ الموضوع للقراءة” ونموذج “القارئ المتلقّي” وفكرة “المعلّم المتيقّن”. وعندما تجد هذه الخطابات من يُخضع نصوصها للنّقد والتّفكيك وإعادة الكتابة، تنكشف عوراتها للعيان، وتنفضح ما تنطوي عليه من تناقضات، ويصبح من السّهل مواجهتها. وتلك غاية أساسيّة ينبغي أن تأخذها تربيّتنا في الحسبان.

4- الّتربية والمسؤوليّة الأخلاقيّة تجاه الآخر:

من المفهومات الأساسيّة في التّفكيكيّة التي استفاد منها منظّرو تربية ما بعد الحداثة مفهوم “الاختلاف”. فالتّفكيك في نهاية المطاف هو أداة لإظهار الاختلاف، وإسماع صوت الآخر، أو هو كما يقول دريدا “حقّ” ينبغي على العلوم الإنسانيّة ألاّ تفرّط فيه بوصفه أداة للنّقد والمقاومة في مواجهة كلّ سلطات الاستحواذ والدّوجماطيقيّة (دريدا، 2010).  وكما ذكرنا من قبل، فإنّ تصوّر دريدا حول اللّغة يقوم على مفهوم “الاختلاف/الإرجاء” (difference)، وهو مفهوم يرتبط بمركزيّة “الآخر” في فلسفة دريدا، وبالمسؤوليّة تجاه الآخر. وينطوي هذا المفهوم على مضمونات مهّمة للغاية فيما يتعلّق بالجوانب الأخلاقيّة لتربية ما بعد الحداثة.

فمهنة التّعليم، بالنّسبة إلى دريدا، لا يمكن التّفكير فيها بمعزل عن المسؤوليّة الأخلاقيّة. ولذلك يربط دريدا بين التّعليم والمسؤوليّة فيقول: “إنّ التّعليم هو أن نعطي عهدا ضالعين فيه بمسؤوليتنا”. ويرى أنّ خطاب التّعليم يعدّ بمثابة “شهادة إيمان”، ومن ثمّ يجب أن يدرك المعلّم أو الأستاذ عظم المسؤوليّة الأخلاقيّة التي يتحّملها وهو يدلي بهذه الشّهادة. ومفهوم التّعليم بوصفه “شهادة إيمان” لا يعني أن التعليم يعدّ فقط خطابا تقريريّا (نظريّا) لا يترتّب عليه فعلا أدائيّا (عمليّا). وتوضيحا لذلك يقول دريدا: هذا الالتزام بالمسؤوليّة لا يقبل الاختزال لا إلى النّظريّة ولا إلى التّطبيق. إنّ التّعليم يتمثّل دائما في كلام أدائيّ حتّى إذا بقيت المعرفة، والموضوع، والمحتوى، الذي نعلّمه وندرّسه أو نمارسه، على مستوى نظريّ أو تقريريّ. وبما أنّ فعل التّعليم هو الكلام، وبما أنّ الحدث الذي يمثّله أو ينتجه لا يقوم إلاّ على هذا الوعد اللّغويّ، فإنّ قرابته للحكاية وللخرافة وللخيال ولـ “كأنّ” ستكون دائما مهيبة (دريدا، 2010، ص272).

ومن هنا تنبع خطورة المسؤوليّة الأخلاقيّة التي يتحمّلها من يتصدّى لفعل التّربية. إنّها مسؤوليّة نابعة ممّا قد يترتّب عن التّربية من ترويج لسرديّات كبرى تزيّف وعي المتعلّمين، وتجعلهم يعيشون في عالم من الأوهام الخادعة، والشّعارات اللّغويّة التي لا تمتّ إلى الواقع بصلة. كما أنّها مسؤوليّة نابعة ممّا قد يترتّب عن التّربية من ظلم للمتعلّمين، واستغلال لضعفهم، ومتاجرة باحتياجاتهم. ويحدث هذا الظّلم والاستغلال عندما يسقط المعلّم أو المربّي “الآخر” من حساباته. هذا “الآخر” قد يكون المتعلّم بآماله وأحلامه وآرائه وحقوقه، وقد يكون “وجهة النّظر الأخرى” التي تمثّل الجانب الآخر “للحقيقة” غير المعترف بها. أي إنّ الظّلم هو النّتيجة الحتميّة لرفض مبدأ “الاختلاف” والتّماهي مع الذّات.

ولذلك يوضّح أشر وإدواردز (Usher & Edwards, 2002, p133-135) أنّ أهمّية دريدا بالنّسبة إلينا نحن التّربويّون تكمن في مساعدته إيّانا على إدراك مفهومات الاختلاف واللاّيقين واللاّتحديد؛ وبالتّالي فقد علّمنا أن ندرك محدوديّتنا أمام الإمكانات التي قد يملكها الآخر المختلف. وبالتّالي فقد وجّه دريدا أنظارنا إلى خطورة السّلطة التي نتقلّدها عندما نتحدّث باسم الآخرين من خلال التّربية. فالتّربية، عادة ما تتّخذ صورة التّحدّث باسم الآخرين ومن أجل الآخرين، وبخاصّة التّربية الحداثيّة المتأثّرة بتراث التّنوير.

5-    التّفكيكيّة أداة للتّربية التّحريّريّة:

يتّضح ممّا سبق أنّ التّربية يمكن أن تكون فعلا تسخيريّا وعملا لا أخلاقيّا، عندما تُخلّ بمقتضى “شهادة الإيمان” ولا تضطلع بمسؤوليّتها تجاه الآخر المختلف. لكنّها يمكن أيضا أن تكون فعلا تحريريّا وعملا أخلاقيّا عندما تجعل من التّفكيك أداة أساسيّة من أدواتها. وهذا بالفعل ما دعا إليه دريدا صراحة في المحاضرة التي ألقاها في القاهرة في شهر فبراير من عام 2000 حول التّفكيك والعلوم الإنسانيّة. فقد طالب دريدا بأن يكون التّفكيك أداة الجامعة والعلوم الإنسانيّة في المقاومة من أجل العدالة والمبادئ السّامية، حيث قال: يجب أن “يكون للتّفكيك – ولا أستحي أن أقول ذلك وأطالب به – موقعه المتميّز في الجامعة وفي العلوم الإنسانيّة كموقع للمقاومة التي تضمّ الجميع، كمبدأ عامّ للعصيان المدنيّ أو الانشقاق باسم قانون سام أو باسم عدالة للفكر” (دريدا، 2010، ص262).

ولذلك فقد اعتمد بعض منظّري تربية ما بعد الحداثة، من ذوي التّوجّهات النّسويّة والنّقديّة، على كثير من المفهومات الخاصّة بالتّفكيكيّة في تعزيز مشروعاتهم التّربوية التي تستهدف تحقيق التّغيير الاجتماعيّ والثّقافيّ. ومن أهمّ هؤلاء المنظّرين باتي لاذر (Lather & Lather, 1991) التي استعانت بالأفكار والمفهومات التّفكيكيّة في هدم تصوّرات الحداثة حول العلاقة بين السّلطة واللّغة والمعنى، من أجل صياغة مقاربة تحريريّة يمكن للباحثين التّربويّين والمعلّمين استخدامها في بناء المعرفة.

ومن الأفكار المهمّة التي استفاد منها التّربويّون النّسويّون والنّقديّون في تحقيق أهدافهم التّحريريّة، هدم التّفكيكيّة لأنظمة التّفكير القائمة على منطق المتقابلات المفاهيميّة أو الثّنائيّات المتعارضة (binary oppositions). فكما أشرنا من قبل، ترفض التّفكيكيّة هذه التّقسيمات الثّنائيّة، على اعتبار أنّها دائما ما تكون مضلّلة ولا تعكس حقيقة الواقع، وعادة ما تستخدم للإقصاء والتّهميش واستبعاد الآخر المختلف. “فالبناء الذي تستند إليه هذه الثّنائيّات المفاهيميّة لا يمتّ بصلة إلى الضّرورة، أو المنطق، أو العقل، أو أيّ شرط إمبيريقي، ولكنّها قوّة بلاغيّة طاغية ذات أدوات نصّية تماما مثل المجاز والكناية، تشجّعنا على أن نكون مهيّئين إلى أن نرى الواقع بطريقة معيّنة” (باركر، 2007، ص170).

وانطلاقا من هذه الآراء التّفكيكيّة، اهتمّ بعض التّربويّين بإظهار المنطق الثّنائيّ الذي تقوم عليه تربية الحداثة، وما يترتّب عليه من ممارسات تربويّة تؤدّي إلى إقصاء وتهميش فئات عديدة من الطّلبة. فكذلك يبيّن باتريك سلاتاري (Slattery, 2006, p4)، أنّ تربيّتنا الحاليّة عادة ما تقسّم الأطفال إلى ناجحين وراسبين، متفوّقين ومتأخّرين، موهوبين ومتخلّفين، رياضيين وأكاديميين، مطيعين ومشاغبين. وهناك غير ذلك كثير من الثّنائيّات التي تقوم على أساس خلفيّات الطّلبة الثّقافيّة والاجتماعيّة، وأساليب التّعلّم، وأنواع الذّكاء، ممّا يتسبّب في كثير من الآلام التي يعاني منها عدد كبير من الطّلبة.

ومن المتقابلات المفاهيميّة الرّاسخة في تربية الحداثة ثنائيّة المعلّم/الطّالب، وهي الثّنائيّة التي سعى بعض فلاسفة تربية ما بعد الحداثة إلى تفكيكها في سياق إعادة النّظر في علاقة السّلطة بين المعلّم والمتعلّم (انظر على سبيل المثال: (Brooker & Humm, 2013, p84-85; Kilgore, 2004, p48-49; Usher & Edwards, 2002, p80). فهذه الثّنائيّة تشير ضمنا إلى أنّ الطّرف الأوّل يعرف كلّ شيء بينما الطّرف الثّاني لا يعرف شيئا، وهذا ليس صحيحا؛ فالطّالب لا يأتي إلى المدرسة كالصّفحة البيضاء بلا معرفة، بل قد تكون لديه معرفة لا توجد لدى المعلّم. كما أنّ المعلّم لا يبقى معلّما على طول الخطّ، بل إنّه يتحوّل إلى متعلّم في كثير من المواقف التّربويّة، وكذلك الطّالب قد يتقلّد أدوارا داخل المدرسة يصبح فيها هو المعلّم، بالنّسبة إلى زملائه على الأقل. ولذلك فالفرق بين المعلّم والطّالب في تربية ما بعد الحداثة ليس حاسما كما هو سائد في تربية الحداثة.

6- الخاتمة:

هكذا نخلص إلى أنّ آراء دريدا حول التّفكيكيّة تعدّ مصدرا ثريّا لفلاسفة التّربية الذين يتصدّون لمهمّة إعادة التّفكير في المسلّمات والافتراضات الأساسيّة التي تقوم عليها التّربية المعاصرة. وأهمّية التّفكيكيّة لا تنبع من حديثها بصورة مباشرة عن التّربية ومشكلاتها، بقدر ما تنبع من تقديمها لمجموعة من التّصوّرات الجديدة حول اللّغة وآليات عملها، تجعلنا نعيد التّفكير في كثير من تصوّراتنا حول غايات التّربية في مجتمعنا، وحول المعرفة التّربويّة وعلاقتها بالواقع، وحول مفهومات المعلّم والمتعلّم والأدوار المنوطة بهما. كما تقدّم مجموعة من الأدوات والاستراتيجيّات المرتبطة بالتّعامل مع النّصوص، التي يمكن أن تكون جزءا مهمّا من الممارسات التّربويّة التّنويريّة.

إنّ الإسهام الأكبر للتّفكيكيّة يتمثّل في أنّها تزوّدنا بأدوات مفيدة لنقد الممارسات التّربويّة الحاليّة القائمة على أدلجة المتعلّمين والهيمنة على عقولهم، وتفكيك الافتراضات والمسلّمات الإيديولوجيّة التي تقوم عليها هذه الممارسات، ومساعدة المتعلّمين على تطوير مهارات التّفكير النّقديّ، وتعزيز وعيهم بالطّرق التي تشكّل بها اللّغة والنّصوص التّراثيّة فهمنا للعالم وحركتنا فيه. لكنّ الاستفادة الكاملة من التّفكيكيّة في تطوير أفكارنا وممارساتنا التّربويّة في مجتمعاتنا، تتطلّب من التّربويّين مزيدا من الاهتمام بجاك دريدا وتراثه الفكريّ، وبخاصّة هؤلاء الذين يؤمنون بأهمّية التّربية النّقديّة في مواجهة الرّجعيّة والتّخلّف ونشر ثقافة التّنوير.


قائمة المصادر والمراجع:

المراجع باللّغة العربيّة

  • باركر (ستيوارت) (2007): التّربية في عالم ما بعد الحداثة، ترجمة سامي نصّار، تقديم حامد عمّار، القاهرة، الدّار المصريّة اللّبنانيّة.
  • دريدا (جاك) (2010): التّفكيك والعلوم الإنسانيّة في الغد، ترجمة أنور مغيث ومنى طلبة. في: أحمد عبد الحليم عطية (محرر)، جاك دريدا والتّفكيك (ص ص 255-297). بيروت: دار الفارابي.
  • أبو دوح (محمود فتحى) (2010): استراتيجيّة التّفكيك أداة المنهج في الفكر ما بعد الحداثيّ. الحوار المتمدّن (العدد 2999). من موقع الإنترنت: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=214645
  • سبيلا (محمد) وبنعبد العالي (ععبد السلام (2007): ما بعد الحداثة: فلسفتها (الجزء الثّاني)، الدّار البيضاء: دار توبقال للنّشر.
  • صفدي (مطاع) (1996): نقد العقل الغربيّ: الحداثة وما بعد الحداثة، منشورات مركز الإنماء القوميّ، بيروت.
  • صالح (فخري) (2001): الأسس النّظريّة لما بعد الحداثة. مجلّة نزوى (العدد 28).
  • عبد الجواد (مصطفى خلف) (2002): قراءات معاصرة في نظرّية علم الإجتماع، مركز البحوث والدّراسات الاجتماعيّة، القاهرة.
  • عبد الله (عادل) (2002): التّفكيكيّة إرادة الاختلاف وسلطة العقل، دار الكلمة للنّشر والتّوزيع، دمشق.
  • عطيّة (أحمد عبد الحليم) (2010): دريدا والفكر العربيّ المعاصر، في: أحمد عبد الحليم عطيّة (محرر)، جاك دريدا والتّفكيك (ص ص 25-136)، دار الفارابي- بيروت.
  • عناني (محمّد) (2003): المصطلحات الأدبيّة الحديثة، الشّركة المصريّة العلميّة للنّشر – لونجمان، القاهرة.
  • المسيري (عبد الوهاب) (2010): دريدا في القاهرة: التّفكيكيّة والجنون، تحرير أحمد عبد الحليم عطيّة، دار الفارابي، بيروت- لبنان.
  • مصطفى (معرف) (2011): النّص ودلالة الغياب في تفكيكيّة جاك دريدا، مجلّة نزوى (العدد 68)، 49-54.
  • نصّار (سامي) (2005): قضايا تربويّة في عصر العولمة وما بعد الحداثة، الدّار المصريّة اللّبنانيّة، القاهرة.

المراجع باللّغة الأجنبيّة:

  • Allen, Graham. (2012). Intertextuality. London: Taylor & Francis.
  • Aronowitz, Stanley, & Giroux, Henry (1991). Postmodern Education: politics, culture, and social criticism. Minneapolis: University of Minnesota Press.
  • Audi, Robert. (Ed.). (2008). Cambridge Dictionary of Philosophy. Cambridge: Cambridge University Press.
  • Barthes, Roland. (1980). From Work to Text. In Josué V. Harari (Ed.), Textual Strategies: Perspectives in Post-structuralist Criticism. London: Routledge.
  • Barthes, Roland. (1989). The Rustle of Language. Oakland: University of California Press.
  • Barthes, Roland. (1991). S/Z. New Jersey: John Wiley & Sons.
  • Bauman, Zygmunt. (1991). Legislators and Interpreters: On Modernity, Post-Modernity and Intellectuals. New Jersey: John Wiley & Sons.
  • Biesta, Gert, & Egéa-Kuehne, Denise. (2005). Derrida and Education. London: Taylor & Francis.
  • Brooker, Peter, & Humm, Peter. (2013). Dialogue & Difference. London: Taylor & Francis.
  • Butler, Christopher. (2002). Postmodernism: a very short introduction: Oxford University Press.
  • Darity, William. (2008). International encyclopedia of the social sciences (Vol. 6). New York: Macmillan Reference USA.
  • Derrida, Jacques, & Kamuf, Peggy. (1989). Biodegradables Seven Diary Fragments. Critical Inquiry, 15 (4), 812-873.
  • Derrida, Jacques. (1984). Speech and Phenomena: And Other Essays on Husserl’s Theory of Signs (David Allison, Trans.). Evanston: Northwestern University Press.
  • Derrida, Jacques. (1998a). Of grammatology. Baltimore: Johns Hopkins University Press.
  • Derrida, Jacques. (1998b). White mythology: Metaphor in the text of philosophy (F. C. T. Moore, Trans.). In Charles E. Winquist Victor E. Taylor (Ed.), Postmodernism: Foundational essays (pp. 235-299). London: Taylor & Francis.
  • Derrida, Jacques. (2000). Limited Inc. Evanston. Evanston: Northwestern University Press.
  • Derrida, Jacques. (2001a). Acts of Religion. London: Taylor & Francis.
  • Derrida, Jacques. (2001b). Writing and Difference. London: Taylor & Francis.
  • Foucault, Michel. (1980). Language, Counter-Memory, Practice: Selected Essays and Interviews (Donald Bouchard Ed.). New York: Cornell University Press.
  • Grenz, Stanley. (1996). A primer on postmodernism. Grand Rapids: William B. Eerdmans Pub. Co.
  • Herman, David, Jahn, Manfred, & Ryan, Marie-Laure. (2012). Routledge Encyclopedia of Narrative Theory. London: Taylor & Francis.
  • Kearney, Richard, & Ricœur, Paul. (1984). Dialogues with Contemporary Continental Thinkers: The Phenomenological Heritage: Paul Ricoeur, Emmanuel Levinas, Herbert Marcuse, Stanislas Breton, Jacques Derrida. Manchester: Manchester University Press.
  • Kilgore, Deborah. (2004). Toward a Postmodern Pedagogy. New Directions for Adult & Continuing Education (102), 45-53.
  • Lather, Patti, & Lather, Patricia Ann. (1991). Getting Smart: Feminist Research and Pedagogy With/in the Postmodern. London: Routledge.
  • Lucy, Niall. (2008). A Derrida Dictionary. New Jersey: Wiley.
  • Nola, Robert, & Irzik, Gürol. (2006). Lyotard,Postmodernism and Education. In Gürol Irzık Robert Nola (Ed.), Philosophy, Science, Education and Culture (pp. 355-388). Berlin: Springer.
  • Peters, Michael, & Biesta, Gert. (2009). Derrida, Deconstruction, and the Politics of Pedagogy. Pieterlen and Bern: Peter Lang.
  • Rosenau, Pauline. (2002). Postmodernism and the social sciences: insights, inroads, and intrusions. Princeton: Princeton University Press.
  • Royle, Nicholas. (2003). Jacques Derrida. London: Taylor & Francis.
  • Sim, Stuart. (2012). The Routledge companion to postmodernism. London and New York: Routledge.
  • Slattery, Patrick. (2006). Curriculum development in the postmodern era. London and New York: Routledge.
  • Smith, James. (2005). Jacques Derrida: Live Theory. London: Bloomsbury.
  • Smith, Richard. (2010). Poststructuralism, Postmodernism and Education. In Richard Bailey, Robin Barrow, David Carr & ChristineMcCarthy (Eds.), The SAGE Handbook of Philosophy of Education (pp. 139-150). California: SAGE Publications Ltd.
  • Standish, Paul. (2005). The Learning Pharmacy. In Gert Biesta & Denise Egéa-Kuehne (Eds.), Derrida and Education. London and New York: Routledge.
  • Stocker, Barry. (2006). Routledge Philosophy Guidebook to Derrida on Deconstruction. London: Taylor & Francis.
  • Taylor, Victor. (2003). Encyclopedia of Postmodernism. London: Routledge.
  • Trifonas, Peter. (2000). Jacques Derrida as a Philosopher of Education. Educational Philosophy&Theory, 32(3), 271-281.
  • Usher, Robin, & Edwards, Richard. (2002). Postmodernism and Education: Different Voices, Different Worlds (2 Ed.). London: Routledge.

(*) هنا نلاحظ أنّ دريدا قد غيّر هجاء كلمة (difference) باستبدال حرف (a) بحرف (e) كي تجمع الكلمة الجديدة المنحوتة (differance) بين المعنيين: الاختلاف (differ) والإرجاء (defer).

(*) يشير مصطلح Logocentrism (الإحالة إلى معنى خارج النّصّ) إلى النّظّم الفكريّة أو عادات التّفكير التي تستند إلى ما يسمّيه دريدا ميتافيزيقا الحضور، ويعني به الاعتقاد بوجود مركز أو حضور خارج النّصّ أو خارج اللّغة يكفل ويثبت صحّة المعنى دون أن يكون هو قابلا للطّعن فيه أو البحث في حقيقته (عناني، 2003، ص51).

مقالات أخرى

أيّ نموذج إيتيقي للإنسانيّة المعاصرة

معطّلات الفهم في الشعر العربي المعاصر

شعريّة اللّباس

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد