نظرية العوالم المُمكنة

نظرية العوالم المُمكنة

الملخص:

تهدفُ هذه الدراسة إلى النبش في التُراث السردي القديم بمعاول بحث حديثة، وتحدُونا رغبة عميقة في دراسة أصول نظرية العوالم المُمكنة والبحث في خصائص العوالم القصصيّة التي يُصورها الراوي، محاولين في الآن ذاته إثارة قضيّة المرجع والإحالة في النصّ الأدبي، فالرّاوي في النصّ الأدبي لا يُحيلُ على المرجع (أمكنة، أشخاص، أشياء) بقدر ما يُحيلُ على معنى المرجع. ويرتبطُ معنى المرجع في النادرة بالصياغة الفنيّة التي صِيغ بها، وبالمقام الذي ورد فيه.

الكلمات المفاتيح: العوالم المُمكنة ـــ المرجع ــــ الإحالة ـــ العالم المرجعي ـــ الراوي. 

Abstract:

The target of this study is to dig in the ancient heritage narration with modern materials research.  We have a deep desire to study the origin of the Theory Possible Worlds, and search the characteristics of the narrative world that the narrator formulated trying at the same time studying Referent and reference in the literary text.  The narrator in the literal text did not transmit to the reference as well as he refers to the meaning of the reference. The meaning of the reference is related to the technical drafting that it was drafted with and the context that comes in.

Key words: Possible worlds, reference, Actual Reality, narrator.


1- مُقدّمة:

لقد سعى العديد من الباحثين إلى دراسة النادرة من جهات عديدة، فهناك من اهتم بالبناء القصصي والشخصيات والأفعال التي تنهضُ بها في إطار مكاني وزماني مُحدّد[1]. وهناك بعض الدارسين من ولّى وجههُ شطرَ خطاب الراوي وخطاب الشخصيات، فدرس مسألة الحجاج وثُنائية الجد والهزل في النادرة[2]. ولكن رغم كثرة الدراسات الأدبيّة حول النادرة، فإنّ جُلّها ظلّت رهينة محبس السرديات النصيّة (المنهج الإنشائي البنيوي)، فقلّ الاهتمام بمسألة العوالم القصصيّة، ودور الذات في تشكيلها.

ومن هذا المُنطلق آثرنا دراسة عوالم النادرة مُستهدين بإسهامات السرديات الاستدلالية ومُنظّري نظريّة العوالم المُمكنة ( Theory  Possible Worlds ) ، وهي نظريّةٌ دلاليّة ومنطقيّة وسيميائيّة، تعترفُ بوجود عوالم مُمكنة أخرى تُقابل عالمنا الواقعي الذي نعيشُ فيه. ويعني هذا أنَّ الواقع (Reality)  ينقسمُ إلى قسمين: أوّلهما واقع مرجعيّ (Actual Reality)، وهو الواقع المعيش، وثانيهما واقع مُمكنٌ (Possible Reality)، وهو واقع تخييليّ[3].

تهدفُ دراستنا إذن، إلى النبش في التُراث السردي القديم بمعاول بحث حديثة ذات مشارب معرفيّة مُختلفة، وتحدُونا رغبة عميقة في دراسة العوالم القصصيّة ورصد مظاهر القصصيّة مُحاولين في الآن ذاته إثارة قضيّة المرجع والإحالة، ودور الراوي في تشكيل العوالم القصصيّة.

 ونُشيرُ إلى أنَّ اعتمادنَا على هذهِ المناهج الحديثةِ، لا يعني أنّنا نُسلّطُها على النص، إنّما نسعى قدر الإمكان إلى الاستئناسِ بها لاستقرائه وسبر أغواره. فما المقصود بنظريّة العوالم المُمكنة؟ وكيف نشأت هذه النظرية واستوتْ على سُوقها؟ وهل أنّ العوالم المرويّة في النادرة تُحيلُ فعلاً على المرجع أم أنّها تُحيلُ على عوالم مُمكنة؟ وهل لزِم الراوي الحياد فعلاً إزاء ما ينقلُ أم أنّهُ انخرط في عمليّة تشكيل العوالم القصصيّة؟

2- في مُقاربة نظريّة العوالم المُمكنة:

تُعتبرُ نظريّة العوالم المُمكنة من أهمّ النظريّات المنطقيّة والدلالية التي” تعترفُ بوجود عوالم مُمكنة أخرى، بمُوازاة عالمنا الحالي الذي نعيشُ فيه تجاربنا الذاتيّة والموضوعيّة مع الآخرين. ويعني هذا أنَّ الواقع (Reality) ينقسمُ إلى الواقع الحالي (Actual Reality)، والواقع المُمكن( Possible Reality )، فالواقع الأوّل هو واقع مادّيّ حسّيّ خارجيّ، نُدركُهُ ونتلمّسهُ ونراهُ بالعين والبصر بينما الواقع الثاني هو واقع تخييليّ وافتراضيّ واحتمالي بالأساس، يُمكن أن يُوجد خياليا أو ذهنيا أو إبداعيًّا، أو يتحقق فنيًّا وجماليًّا انطلاقًا من منظور الكاتب أو المُتلقي معًا”[4]. وقد اختلف الباحثون في أصل هذه النظريّة، فهناك من يرى أنَّ أصولها عربيّة، وهناك من يعتبرُ أنّ أصولها غربيّة، وسنُحاول في هذا السياق تتبّع نشأتها.

2- 1- نظريّة العوالم المُمكنة في الفكر العربي:

يرى طه عبد الرحمن أنّ نظرية العوالم المُمكنة لها أصولٌ في الفكر الإسلامي، ذلك أنّ مسألة العوالم المُمكنة وقع الخوض فيها في مُختلف مدارس الفكر الإسلامي من نحو مسألتيْ ” الصّلاح والأصلح” و”دليل الجواز”[5]. ويستندُ عبد الرحمن في ذلك إلى الغزالي الذي كان سباقًا في الحديث عن عوالم الإمكان، فاعتبر الإمكان “كلّ ما قدرهُ العقل ولم يمتنع عن تقديره”[6].

وقد وضع الغزالي شُروطًا عقلية للإمكان، أوّلها الاتّساق أي عدم التّناقض بين عالم الواقع وعالم الإمكان، أمّا ثانيها، فهو التّمام أي أنّ كلّ إمكان قابل للوقوع يجبُ أن يكون تامًا ومُكتملاً. وبالإضافة إلى الشروط العقليّة وضع الغزالي ثلاثة شروط وجوديّة: أوّلها التّساوي أيّ أنّ العالم الذي تحقّق في الواقع يجبُ أن يكون مُساويًا للعالم الذي يُمكنُ أن يتحقّق. وثانيها اللّامتناهي أي أنّ العوالم المُمكنة غير مُتناهية تتزايدُ في كلّ وقت، فالعالم الواقعيّ لهُ عدد لا محدود من النظائر. أمّا ثالثها، فهو العمران، ويعني أنّ كلّ عالم من العوالم الممكنة هو من إنشاء الذات، فهي التي تسكنه وتعرف تفاصيله الدّقيقة[7].

ونحنُ في هذا السّياق نتفقُ مع طه عبد الرحمن من جهة، لكنّنا نختلفُ معهُ من جهة أخرى، فصحيحٌ أنَّ مسألة العوالم الممكنة موجودةٌ في الثقافة العربيّة الإسلاميّة. ولعلّ ما نلفيه من اختلاف في تأويل عالم الآخرة عند مفسّري القرآن، وما نقفُ عليه كذلك من تباين واضح في الإحالة على الواقع المرجعيّ في كتب السيرة والتاريخ خيرُ مثال على ذلك[8]. لكن رغم هذه الإرهاصات لا يُمكنُ القول إنّ نظرية العوالم المُمكنة هي نظريّة عربيّة، فما وقفنا عليه من إشارات في التُراث العربيّ الإسلامي هي مُجرّد مجموعة من التأويلات والتصوّرات للماضي أو للمستقبل، ولا يُمكنُ بأيّ حال من الأحوال أن نطلق على هذه التأويلات اسم النظريّة لأنّ من أوكد مبادئ النظرية أن يكون لها منهج صارمٌ وأسس معرفيّة واضحة.

2-2-  نظريّة العوالم الممكنة في الفكر الغربي:

يرى بعض الدارسين أنّ نظرية العوالم المُمكنة ظهرت أوّل مرّة مع الفيلسوف الألماني لايبنتز (Leibniz) في القرن السابع عشر، واعتبر أنَّ في عقل الإله توجدُ عوالم مُمكنة مُتعدّدة، وقد انتقى الاله عالمًا واحدًا من جملة هذه العوالم المُمكنة ليكون عالمًا مرجعيًّا[9]. ومع تقدّم الزمن حاول العديد من الباحثين مثل هانتيكا (Hintikka) وبلانتيكا (Blantiga ) ودافيد لويس  (David lewis )وامبرتو ايكو (Emberto Eco)إعادة دراسة نظريّة العوالم المُمكنة من جديد، فحرّرُوها من ربقة عقل الإله شيئًا فشيئًا، وجعلوها مرتبطة بعقل الإنسان، وما تُنتجه هذه الملكة من خيال وفرضيات وقصص مُتخيّلة وأمنياتٍ مُختلفة.

وقد ميّز جُلُّ الباحثين بين العالم المرجعي والعالم الممكن، فالأوّل هو العالم الذي تحقّق على أرض الواقع ونعيشه، أمّا الثاني، فهو عالم لم يتحقّق، لكنّه يُمكن أن يتحقق، ولا يُمكنُ إدراكهُ إلا عن طريق الذهن، وقد تتجسّدُ عوالم الإمكان إبداعًا من نحو العوالم التخييليّة  التي نجدُها في الرواية والأقصوصة والمسرح والنادرة، فعوالمُ بُخلاء الجاحظ هي عوالمٌ تخيليّة، قد تُحاكي المرجع، لكنّها لا تُحيلُ عليه إحالة حقيقيّة، إنّما هي نُسخ مُمكنة للعالم المرجعي[10] وعندها، فإنّ الإحالات التي يقوم بها الراوي في نُصوص الأدب والأعمال القوليّة التي ينهضُ بها الراوي هي إحالات مُفرغة من المعنى الحقيقي.

ولم تبقَ هذه النظريّة رهينة الفلسفة وعلم المنطق، إنّما وقع استقطابها من لدُن بعض الدارسين إلى مجال الأدب. ويُعتبرُ توماس بافيل (Thomas Pavel) من الباحثين الأوائل الذين اهتمّوا بمسألة الصّدق في نُصوص الأدب والإحالة[11]، إضافة إلى دافيد لويس (David lewis) الذي أعاد طرح سؤال سول كريبك وجان ماري شافيز ودوليزال الذين أجمعوا على أنّ العالم المُمكن لا يُمثل الواقع، إنّما هو نظيرٌ منه[12].

وفي السياق ذاته ميّزت ريان بين العالم الفعلي النصيّ والعالم المُمكن النصيّ، فاعتبرت أنّ العالم الأوّل هو “العالم الذي توجد فيه الشخصيات في مكان مُحدّد وزمان معيّن، ويتشكّل هذا العالم انطلاقا من سلسلة الأفعال التي تمنح للعالم التخييلي هويّته وحقائقه، وتهَب للشخصيات صفاتها من خلال علاقتها بالعالم من جهة أولى وعلاقة الشخصيات فيما بينها من جهة ثانية”[13]. أمّا العالم الثاني، فهو ناتج عن الأعمال العقليّة للشخصيات من نحو الأحلام والتذكر والتنبؤ وغيرها من الأعمال الباطنية الأخرى[14].

ولما كانت هذه العوالم مقدودة من اللغة، تناول توماس بافيل وريان مسألة الإحالة وعلاقتها بالعالم، فجعلت ريان مُقابل العالم الفعليّ النصيّ عالما إحاليًا نصيًّا، “وهو العالم الذي يُشكّلُ منه النصّ صُورة العالم الفعليّ النصيّ […] ولا تُهمل ريان صفة النوع الذي قد يكون مُلازما للتخييل، وهو من جهة كونه نصّا سرديّا فتبتكر مُصطلحا لا نظير له في الفلسفة وهو العالم الفعلي للرّاوي (Narratorial actual World) من خلال راوي النص التخييلي ّويحدد بالمقام التلفّظي للرّاوي”[15].

والناظرُ في هذه النادرة يُلاحظُ أنّها تُحاكي الواقع، ذلك أنّ الأصل في المُحاكاة أن يُنشئ الكاتبُ “في نطاق حبكة قصصيّة دقيقة مُتخيّلة، أحداثًا تُوهمُ أنّها من الواقع وقد ذهبت كات هامبورغر ( Käte Hamburge)   إلى أنّ ما يقوم في النصّ السرديّ المُتخيّل من أحداثٍ تُحاكي الواقع مُخالفٌ لما هو في عالم الناس”[16].

3- العوالم القصصيّة بين المرجعي والتخييليّ:

تستوجبُ منّا دراسة العوالم القصصية الوقوف على مُكوّنات هذه العوالم مثل الأحداث والشخصيات والمكان والزمان، إذ تُعدُ هذه العناصر ركيزةً أساسيةً يستعملها الراوي لبناء عوالمه المرويّة[17]. وليس هدفُنا في هذا السياق استعراض مُكونات العوالم القصصيّة للنادرة، بل نسعى إلى البحث في مدى إحالة العالم القصصيّ على المرجع. فهل أنّ العالم القصصيّ في النادرة يُحيلُ فعلاً على ما وقع في العالم المرجعي أم أنّه يُحيلُ على ما يُمكنُ أن يكون؟

3- 1- العوالم القصصيّة والإحالة على المرجع:

تُنجزُ الإحالة بطُرق عديدة من نحو أسماء الأعلام والتراكيب الاسميّة والأماكن وبعض الضمائر المُتّصلة، وقد تتجسّدُ الإحالة كذلك في المُشيرات “ولهذا التنوّع في مفهوم الإحالة دور خطير في صياغة المراجع […] لا سيما أنّ الإحالة الأولى لا تتصورُ مُنقطعة عمّن يقوم بها، أو لنقل عمّن يُدركُ المُحال عليه. أي الذي يُسمّيه “آلان رابتال” (Alain Rabatel )الذات المُدركة (Sujet percevant) التي لا تنفصل عمّا تدركهُ من مدركات”[18]. ويُميزُ فراغ  (Frege) في هذا السياق بين العبارة الإحاليّة والعبارة الحمليّة، ويرى أنَّ العبارة الإحالية تُحيلُ على المرجع، أمّا العبارة الحمليّة فتُسند فقط[19].

والمُتأملُ في هذا النص الذي نحنُ منه بسبيل يُلاحظُ أنّ الراوي يحرصُ على الإحالة على العالم المرجعي، ويتوضحُ ذلك من خلال عدة قرائن نصيّة، أهمّها الشخصيات المُتحدث عنها مثل زُبيدة والنديم، ويدخل إيراد الراوي لأسماء الأعلام في سياق “تقيّد الحدث بأصحابه وعوامله وظروفه، فتقرّر حقيقته وتُزيلُ إيهامهُ”[20]. وتتحققُ الإحالةُ كذلك انطلاقًا من الأحداث التي تنهضُ بها هذه الشخصيات، فهي أحداثٌ تُحيلُ على الواقع، من نحو سُكر زبيدة وإهدائه قميصه لنديمه، ثم مُحاولته استرجاع القميص.

إذن فهذه الأفعالُ التي تنهضُ بها الشخصيات هي أفعالٌ مرجعيّة وقعت في زمن الجاحظ، وقد نقلها لنا راو غير مُشارك في الأحداث دون أن يخُوض في التفاصيل الدقيقة، فكان سردُهُ للأحداث مُجملاً في كثير من الأحيان.

وتتجلّى إحالة الراوي على المرجع انطلاقًا من بعض المُشيرات الزمانية مثل “ليلة”، وبعض المُشيرات المكانية من نحو “عند الصباغ”، وهي جميعها قرائن تُؤكدُ أنّ العالم القصصي يُحيلُ على الواقع المرجعي. ويُمكنُ كذلك أن تكون الأقوال التي تتلفظُ بها هذه الشخصيات المُتكلّمة علامة دالة على المرجع، فهي تستعملُ أحيانًا أقوالاً مأثورةً في كلامها، ومثال ذلك استشهاد زبيدة بقول النبي صلى الله عليه وسلم ” جُمع الشرّ كلّه في بيت، وأغلق عليه، فكان مفتاحه السكر”[21].

وفضلاً عن القرائن النصيّة، يُمكنُ أن تتحقّق الإحالةُ كذلك، إذا نظرنا في القرائن غير النصيّة، ونقصدُ تلك الخلفيّة الفكرية والثقافيّة التي يشتركُ فيها الراوي والمروي لهُ، وتعدُّ اللُغة من أوكد المعارف المُشتركة، “فلُغة الرّاوي هي ذاتُها لغة المرويّ له بكلّ ما تحمله من دلالاتٍ تُحيلُ على العالم المُشترك بينهما. ولهذا سنجدُ أنّ الرّاوي لن يقول كلّ شيء عن العالم، وإنّما سيعتمدُ على بُنى ذهنية تكون مُشتركة بين الرّاوي والمرويّ لهُ […] وهي لا شكّ في أنّها مُتعلّقة بالعالم الإحالي النصيّ المُجاور للعالم الفعلي النصيّ”[22]، وحسبُنا كلمة “قميص”، فالراوي عندما ذكر هذه الكلمة استند إلى ما يعرفهُ المروي لهُ مُسبقًا عن كلمة “قميص”، ولعلّ في تكرار هذه الكلمة أكثر من مرّة وعدم تفسيرها دليل على أنّ الإحالة مُشتركة بين الراوي والمروي لهُ.

بيد أنّ الإحالة لا ترتبطُ دائمًا بالمُحال عليه فحسب، إنّما ترتبطُ كذلك بالذات المُدركة، وما تحملهُ من مُعتقدات وآراء إيجابيّة أو سلبيّة تُجاه المُحال عليه، فيُمكنُ أن يسرُد الراوي حدثًا قامت به شخصيّة مُعينة ويعتبرهُ حدثًا طريفًا. لكن يُمكنُ أن يسرُد راو آخر الحدث ذاته ويعتبرهُ حدثًا عاديًا.

جليٌّ من خلال ما تقدم أنّ العوالم القصصيّة في النادرة هي عوالمٌ تُحيلُ على العالم المرجعي، وهو ما استنتجناهُ من القرائن النصيّة وغير النصيّة. لكن ما يُثيرُ انتباهنا أنّ بعض مكوّنات العوالم المرويّة مثل الشخصيات[23] والأشياء تلتبسُ أحيانًا بجهات اعتقاد الراوي والمروي له، فتخرجُ بذلك من الإحالة على المرجع إلى الإحالة على عوالم الإمكان.

3- 2- العوالم القصصيّة وإحالتها على عوالم التّخييل والإمكان:

لقد ارتبط مفهوم التخييل عند فلاسفة اليونان بالإحساس والإدراك، وهو يتوافق حسب أرسطو (Aristote ) مع مفهوم المُحاكاة(Mimesis) في حين يرى الفلاسفة المسلمون أنّ الخيال ” قوّة للنفس تحفظ ما يُدركه الحسُّ المُشترك من صور المحسوسات بعد غيبوبة المادة […] وقد قرن الفارابي وابن سينا التخييل بالوهم الذي سُمّي قوة وهميّة يستخدمها الخيال ويُعارضها العقل. وتحدّث كل من الفارابي وابن سينا عن قوّة الإدراك الباطنيّة التي من ضمنها القوة المُتخيّلة أو المُفكرة، وتتولّى هذه القوة استعادة صور المحسوسات المُختزنة من الخيال أو المُصوّرة، إلا أنّ وظيفتها لا تقتصرُ على الاستعادة فحسب، وإنّما تتعدّى ذلك إلى وظيفة ابتكاريّة مُتميّزة”[24]، فتُصبح بذلك عمليّة التخييل إعادة خلق جديد على سمت مخصوص للتأثير في المُتلقي.

ونفهمُ من ذلك أنّ المُؤلف في النصوص الأدبيّة لا ينقلُ الواقع مثلما حدث، إنّما ينقلُ واقعًا آخر مُمكنا يُشكّلهُ حسب رؤيته الخاصة. ويتجلّى التّخييل في النص الأدبي من خلال استعمال الراوي قرائنُ عديدة أهمها استعماله الخطاب غير المباشر والمونولوغ والتبئير من الداخل[25]. ويُسهمُ ذلك في اكتساب مكوّنات العوالم القصصيّة معاني جديدة غير المعاني الأصليّة التي تُحيلُ عليها في الواقع.

ويرتبطُ معنى المرجع في النادرة بالصياغة الفنيّة التي صِيغ بها، وبالمقام الذي ورد فيه، فقميص زبيدة في النصّ له وجهان: أوّلُهما ماثل في القميص المرجع الذي تمّت الإحالة عليه، وثانيهما قائم في ما ظفر به هذا القميص من قيمة تجلّت خاصة في سعي زبيدة إلى استرجاعه بشتّى الطرق بعد التفويت فيه من جهة أولى، وإصرار النديم على إبقائه عندهُ، وعدم إرجاعه لزبيدة من جهة ثانية، وقد ترتّب عن هذا الحوار الجدليّ[26] القائم بين زبيدة ونديمه اكتساب القميص معاني جديدة، إذ أصبح القميصُ وبضرب من المفارقة موضوع نزاع بين صديقيْن بعدما كان علامة  دالّة على المودّة والصداقة ” سكر زبيدة ليلة، فكسا صديقا له قميصا”[27].

وأسهمت الأساليب القوليّة التي استعملها زبيدة ونديمه مثل الأمر والاستفهام والنداء والدُعاء في ترسيخ معنى جديد للقميص، وهو تقريبا ما أشار إليه فريجه حين ميّز بين المرجع الحقيقي الذي نُحيلُ عليه، ومعنى المرجع الذي يُصاغُ باللغة في سياق مُعين[28].

ويأخذنا هذا التبايُن الواضحُ في مستوى الإحالة على المرجع إلى الحديث عن مسائل أعمق من قبيل وجهة نظر الراوي للعالم والأشياء. فهل أنّ الراوي مُحايدٌ في عملية تشكيله للعوالم القصصيّة أم أنّه منخرطٌ فيها وموجّه لها توجيهًا مخصوصًا؟ 

4- الراوي والعوالم القصصيّة في النادرة:

4- 1- الراوي مُوهما بالحياد:

إنّ الناظر في موقع الراوي يُلاحظُ أنّهُ راو غير مشارك في الحكاية، يسردُ أحداثًا غير مُشارك فيها مُستعملاً ضمير الغائب، وهو ما نستجليه من بعض الأفعال مثل “كسا” و “بَعث” و “أقبلَ”، وما دام ذلك كذلك، فإنّ رؤيته للعالم والأشياء هي رؤية من الخارج  (Vision from outside) وعادةً ما يكون فيها الرّاوي أقلَّ علمًا ومعرفةً من الشخصيات(زبيدة والنديم)، فلا ينقُلُ للمروي لهُ إلا ما يراهُ أو يسمعُهُ دُون أن يخوض في أفكار الشخصيّات وبواطنها[29]، أي أنّ الأحداث تُقدّم مثلما وقعت، لا بحسب تأويل الرّاوي وتقديره وأهوائه.

وقد حرِص الراوي على عدم إبداء رأيه تُجاه الأحداث والشخصيات المُتكلّمة والأشياء، وحاول كذلك طمس المُشيرات التي تكشفُ انحيازهُ عبر التخفّي وراء أقنعة مُختلفة، منها نُزوعه إلى سرد أفعال الشخصيّات، ونقل أقوالهم دون التدخّل فيها باستعمال الخطاب المُباشر “وقوامُ هذا الخطاب قول يصدُرُ عن إحدى الشخصيّات فيُنقل بحرفيّته. وتكمُن مهمّة الرّاوي في إيراد كلام الشخصيّة الذي ينتهي إلى المرويّ له بطريقة مباشرة، أي دُون وساطة هذا الرّاوي”[30]، ومثال ذلك ما نقفُ عليه من حوار(Dialogue )[31] بين زُبيدة ونديمه، إذ يقومُ الراوي بتعيين الشخصيَة المُتكلّمة، ثم يوردُ أقوالها بطريقة مباشرة مستعملاً أفعال القول مثل “قال” و”قالوا”.

وقد اكتفى الرّاوي بسرد أفعال الشخصيّات ونقل أقوالهم، ووصف هيآتهم دون الولوج إلى بواطن الشخصيّات إلا تأويلاً لما يظهر في وجوههم من ملامح حُزن أو خوف، وهذه الطرائقُ في الإدراك تندرج “ضمن ما يُسميه فاولر بالنمط التبئيري من صنف (د). وهي قرائن تدلُّ على أنّ الذي يُدركُ يُوهمُ أنّهُ لا يستطيع إدراك المكامن والسرائر بطريقة مُباشرة”[32]. غير أنّ هذا الحرص الشديد من لدُن الراوي على الظُهور في هيأة المُحايد يعكسُ في حقيقة الأمر انخراطهُ في عملية تشكيل عوالم النادرة.

4- 2- الراوي مُوجّها للعوالم والأشياء:

لقد اعتبرَ العديدُ من النُقاد أنَّ الرؤية من الخارج هي رؤية موضوعيّة لأنّ الرّاوي غير مُشارك في الحكاية، وهو ما يجعلهُ يرى العالم والأشياء من الخارج دُون التّعبير عن أراءه آرائه، لكن مهما سعى الراوي إلى التخفّي والإيهام بالحياد، فإنّهُ سُرعان ما ينكشفُ انخراطه في بناء العالم، ووكدنا ما وجدناهُ من انتقائية في تشكيل الأحداث، فالرّاوي يُفصّل القول في حدث التفويت في القميص ومُحاولة زبيدة استرجاعهُ، ويُضخّمه، لكنه في مُقابل ذلك يوردُ أحداثا أخرى مُجملة من قبيل سُكر زبيدة وإهداء القميص، ويدعم هذا التفاوتُ في طريقة تقديم الأحداث توجيهَ الراوي.

وقد يعمدُ الرّاوي إلى الإحالة المُتكرّرة على الحدث الواحد، فيُعيدهُ أكثر من مرّة. ويدخُلُ ذلك ضمن ما يُسميه سيرل (Searle)بالعمل المرجعي، وهو “عزل شيء من الأشياء والتعريف به، دُون الاهتمام بأشياء أخرى. وقد انخرط القائل فيما تقدّم في قول بعض الأشياء. وتكرار الصور في أشكال شتى، إنّما يدخل في توجيه المُدركات بالقول”[33]، فتكبرُ بذلك قيمة المرجع (القميص) في العالم القصصي شيئًا فشيئًا، وتكتسبُ معاني أخرى غير المعنى الأصلي.

بيد أنَّ ما يشُدُّ انتباهنا، هو تدخّل الرّاوي في تركيب الأحداث وتشكيلها وفق منطق سببيّ، فالسُّكر كان سببًا في إهداء زبيدة قميصهُ لصديقه، وقد تسبّب فعل زبيدة في خوف النديم وقلقه من استرجاع زبيدة للقميص بعد حالة السكر، وساهم كل ذلك في تحوّل القميص (لباس خاص بالرجال) إلى برنكان (لباس خاص بالنساء)، وتحوّل زبيدة من هادٍ إلى مُطالِب باسترجاع ما أهدى لنديمه، وتُسهمُ إعادة التشكيل في دعم قصصيّة النادرة.

وقد يُحيلُنا هذا الربطُ بين الأسباب والمُسببات في مستوى تشكيل الأحداث إلى موقف الرّاوي، ومن ورائه الجاحظ، الذي يُؤمنُ مثل بقية المعتزلة بأنّ الحقيقة تتطلّب الكشف عن العلل والأسباب وفق منطق عقليّ، وقد أسهم ذلك في تشكيل مخصوص للمرجع خاضع لإيديولوجيا المؤلّف ومُعتقداته الدينيّة والفكريّة.

ولم يكتف الرَّاوي بإعادة تشكيل الأحداث على هيأة مخصوصة فحسب، وإنّما نقل بواطن الشخصيات، وعبّر عن بعض اللحظات النفسيّة التي عاشتها الشّخصيّات مثلما يتوضحُ في الجدول الآتي:

اللحظة النفسية التي نقلها الراوي

الشاهد

 خوف النديم من استرجاع زبيدة القميص منه

“فلما صار القميص على النديم خاف البدوات. وعلم أن ذلك من هفوات السكر. فمضى من ساعته إلى منزله، فجعله برنكانا لامرأته”[34]

تصميم النديم على عدم إرجاع القميص لزبيدة

“فلما رآه صمم أقبل عليه فقال: يا هناه! إنّ الناس يمزحون ويلعبون ولا يؤاخذون بشيء من ذلك، فرُد القميص عافاك الله” [35]

 

وفضلاً عن نقل بواطن الشخصيات، قد يقومُ الراوي أحيانًا بتحويل أقوال بعض الشخصيّات المُتكلّمة إلى أفعال تُسردُ، فتتّسع الهُوّة بين الكلام الذي تلفّظت به الشخصيّة وما نقله الرّاوي عنها، ومن ذلك قولهُ “فلمّا أصبح سأل عن القميص، وتفقّده”[36]، فأصل الكلام في هذا المثال أنّ زبيدة قال: “أين قميصي؟ ولمن أعطيتهُ؟” لكنّ الراوي حوّل كلام زبيدة إلى أفعال تُروى “سأل” و “تفقّد”، فما كان في الأصل كلامًا تلفّظ به زُبيدة تُجاه عائلته أضحى حدثًا يُروى، وهنا تكمنُ عمليةُ ابتداع الراوي، فهذا الخطابُ المرويّ هو خطابٌ مُمكن من جملة مُمكنات مُختلفة ناتجٌ عن تأويل الراوي لما تلفّظ به زبيدة في العالم المرجعي، وهو تأويلٌ يكشفُ عن انخراط الراوي وتوجيهه للخطاب من جهة وللعوالم القصصيّة من جهة أخرى.

وقد يختزلُ الراوي كذلك كلام الشخصيّة تُجاه ذاتها، ومن ذلك قولهُ “علِم أنَّ ذلك من هفوات السُكر”، فالرّاوي في هذا السياق لم ينقل لنا قول الشخصيّة مع ذاتها، إنّما اكتفى باختزاله في فعل “علِمَ” وهو فعل مُوجَه توجيهًا معرفيًا (Epistemic Modality )  ساهم في إرساء عالم مُمكن في ذهن النديم.

ويُمكنُ أن نقفُ في هذه النادرة على أكثر من مضمون قضوي، ولكنّ الجهات تختلف، فالحديثُ عن رغبة زبيدة في استرجاع القميص تكرّر أكثر من مرّة، فكان الحديث في المرة الأولى مُوجهًا توجيهًا تقويميًا أي ما يُبديه المُتكلّم في كلامه من أحكام وتقويمات للمضامين القضويّة ” أما علمت أنّ هبة السكران وشراءهُ وبيعهُ وصدقتهُ وطلاقهُ لا يجوز؟”[37].

وكان الحديثُ في المرّة الثانية مٌوجّها توجيها إلزاميا (Appreciative Modality )  ، وهو ما نستصفيه من استعمال زبيدة أسلوب الأمر” إنّ الناس يمزحون ويلعبون ولا يُؤخذون بشيء من ذلك فرُد القميص عافاك الله”[38]. أمَّا في المرة الثالثة، فقد كان الحديث مُوجّهًا توجيها تعبيريًا  (Expressive Modality )، إذ نجدُ انطباعًا للشخصيّة المُتكلمة، ويعتبرُ زبيدة أنَّ القميص يصلحُ لزوجته كما يصلُحُ لزوجة النديم، ويُعدُّ هذا التوجيه وجها من وجوه الذاتية.

أمّا المضمون القضوي الثاني، فيتمثلُ في عدم إرجاع النديم القميص والتمسّك به. وقد وُجّه الحديث في المرّة الأولى توجيهًا معرفيا، فكان النديم بين الشك واليقين ” خاف البدوات وعلِم أنّ ذلك من هفوات السكر. فمضى من ساعته إلى منزله، فجعلهُ برنكانًا لامرأته”[39] ووُجّه الحديث في المرة الثانية توجيهًا تقويميًا، إذ نجدُ في كلام النديم بعض التقويمات ” إني والله قد خفتُ هذا بعينه”[40].

 ورغم حرص الرّاوي على الظُهور في صُورة الرائي الموضوعي، فإنّ حيلتهُ سُرعان ما انكشفت، فتجلّى لنا انخراطه في تشكيل العالم القصصيّ من خلال تركيزه على حدث مخصوص، وهو مُحاولة زبيدة استرجاع القميص، لكنهُ في مُقابل ذلك يطرحُ أحداثًا أخرى. ويُعتبرُ ذلك وجهًا من وجوه القصصيّة في النادرة.

إنَّ ما يسرُدُهُ الراوي خاضعٌ في نهاية الأمر لرؤية راوي الرواة، فهو الذي تخيّر أحوال الشخصيات والأشياء، فجعل زبيدة نادمًا، وجعل من قميص زبيدة محلّ نقاش وكلام وجدال، “وهو حُضور المُنفعل بما ينقل، يرويه مرات شتّى، أو يُصوّرُهُ تصويرا بديعًا”[41].

ويظهرُ انخراطُ الراوي كذلك انطلاقًا من كيفية تشكيل صُور طريفة للشخصيات في مستوى أفعالها وأقوالها، وحسبُنا مُحاولة زبيدة إقناع النديم باسترجاع قميصه مُستعملاً كلّ السُبل المُتاحة، فخاطب زبيدة في مرحلة أولى عقل النديم، فقال ” أما علمت أنّ هبة السكران وشراءهُ وبيعهُ وصدقتهُ وطلاقه لا يجُوز”[42] ، وخاطب في مرحلة ثانية قلب النديم، فنحا منحى الإغراء “رُدّهُ إليّ حتى أهبه لك عن طيب نفس”، ثم يمّم وجههُ نحو الإثارة “يا هناه إنّ الناس يمزحون ويلعبون، فرُدّ القميص عافاك الله”[43]، وفعل “عافى” هو فعل في صيغة الماضي الدّالة على الانقضاء، إلا أنّها في سياق الدُعاء تدلّ على طلب انقضاء الفعل في الزمان المُستقبل.

بيّنٌ من خلال ما تقدّم أنّ الراوي يفعلُ فعلهُ في تشكيل العوالم القصصيّة، فرغم مُحاولته الإيهام بالظهور في هيأة الراوي المُحايد الذي ينقلُ الأحداث من الخارج دون الانخراط في عملية تشكيلها وإخراجها، فإنّ حيلتهُ سُرعان ما تنكشفُ، وهو ما استنتجناهُ من خلال عدة قرائن نصيّة وغير نصيّة، لعلّ أهمّها تنظيم الأحداث وفق منطق سببيّ، إضافة إلى التدخّل في تشكيل أحوال الشّخصيّات وأقوالها، وإكساب المرجع معاني جديدة غير التي يُحيلُ عليها في العالم المرجعي، وتُسهمُ مثل هذه القرائنُ في دعم قصصيّة النادرة.

5- خاتمة:

سعينا في هذا البحث إلى دراسة العوالم القصصيّة في النادرة ومدى إحالتها على المرجع، فتبيّن لنا منذ الوهلة الأولى أنّ هذه العوالم تُحيلُ على المرجع، وقد تجسّدت هذه الإحالة بجملة من القرائن، منها ما هو نصيّ من قبيل التعبيرات الإحاليّة والتعبيرات الإشاريّة، ومنها ما هو غير نصّي، ويتعلّق بالذهنيّة المُشتركة بين الرّاوي والمرويّ له، ومنها كذلك ما هو مُرتبطٌ بالمؤلّف نفسه، فهو لا ينقلُ أحداثًا عجيبة وغريبة من قبيل ما نجدهُ في “ألف ليلة وليلة”، وإنّما ينقلُ أحداثًا واقعيّة. لكن تبيّن لنا أنّ عوالم النادرة تنزاحُ في كثير من الأحيان عن الإحالة على العالم المرجعي، وتنحو منحى المُحاكاة، فتلتبسُ بجهات اعتقاد الراوي، وعندها تخرج العوالم القصصيّة من الإحالة على ما هو كائنٌ إلى الإحالة على ما يُمكنُ أن يكُون، من جنس ما وقفنا عليه من تباين جليّ في الإحالة على قميص زبيدة.

إنّ ما وجدناهُ من تباينٍ في مسألة إحالة العوالم القصصيّة على المرجع جعلنا ندرسُ صورة الراوي من خلال هذه العوالم، فألفيناهُ يتظاهرُ بالحياد في عملية نقل الأحداث والأقوال. بيد أنّ عملية الإيهام سُرعان ما انكشفت فظهر انخراطهُ في تشكيل عوالم النادرة على نحو مخصوص من خلال عدّة قرائن، لعلّ أهمّها تلك المُتعلقة بإكساب المراجع معاني جديدة خاضعة للسياق القصصيّ، وبذلك فإنّ عملية الحكي التي ينهضُ بها الراوي هي عمليّة تأويلية يُراعي فيها الراوي أقدار المروي لهُ.


المُلحق (النص):

وسَكَرَ زُبيدة ليلة، فكسا صديقا له قميصا، فلما صار القميص على النديم خاف البدوات . وعلم أن ذلك من هفوات السكر. فمضى من ساعته إلى منزله، فجعله برنكانا لامرأته. فلما أصبح، سأل عن القميص، وتفقده. فقيل له: إنّك قد كسوته فلانا. فبعث إليه، ثم أقبل عليه، فقال: ما علمت أن هبة السكران و شراءه وبيعه وصدقته وطلاقه لا يجوز؟ وبعد فإني أكره ألاّ يكون لي حمد، وأن يُوجّه الناس هذا مني على السُّكر، فرُدّه علّى حتى أهبه لك صاحيا عن طيب نفس، فإني أكره أن يذهب شيء من مالي باطلا . فلما رآه صمم أقبل عليه فقال : يا هناه ! إن الناس يمزحون ويلعبون ولا يُؤاخذون بشيء من ذلك، فرد القميص عافاك الله. قال له الرجل: إنّي والله قد خفت هذا بعينه، فلم أضع جنبي إلى الأرض حتى جيبته لامرأتي. وقد زدت في الكمين وحذفت المقاديم. فإن أردت بعد هذا كله أن تأخذه فخذه. فقا: نعم آخذه، لأنه يصلح لامرأتي كما يصلح لامرأتك . قال : فإنه عند الصباغ . قال : فهاته . قال : ليس أنا أسلمته إليه. فلما علم أنه وقع. قال : بأبي وأمي رسول الله ـــــ صلى الله عليه و سلم ـــ حيث يقول : جُمع الشر كله في بيت، وأغلق عليه ، فكان مفتاحه السكر.     

الجاحظ، البخلاء، دار المعارف، سوسة، 1989، ص 36.

قائمة المصادر والمراجع:

المصادر:

  • الجاحظ، البُخلاء، دار المعارف، سوسة تونس،1989.

المراجع العربية:

  • الحمداوي (جميل)، العوالم المُمكنة بين النظريّة والتطبيق، قصة الموناليزا لأحمد المخلوفي أنموذجًا، ط1، 2016.
  • الخبو (محمّد بن محمّد)، قراءات في القصص، مكتبة علاء الدين، صفاقس، ط1، 2002.
  • الخبو (محمّد بن محمّد)، مداخل إلى الخطاب الإحالي في الرواية، مكتبة علاء الدين، صفاقس تونس.
  • الخبو (محمّد بن محمّد)، هل التبئير من الخارج قائم على الحياد؟، ضمن كتاب جماعي : وجهة النظر في الرواية، إشراف محمد نجيب العمامي، دار محمد علي الحامي،ط1، 2015.
  • الخبو ـــــ مجنون بني عامر من الشخص إلى الشخصية: بين متباين النصوص والمقامات، ضمن: مجلّة بحوث جامعية، جامعة صفاقس، كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بصفاقس، عدد 8، سنة 2010.
  • شارودو (باتريك) ومنغنو (دومينيك)، معجم تحليل الخطاب، ترجمة عبد القادر المهيري وحمادي صمود، المركز الوطني للترجمة، تونس دار سيناترا.
  • الطرابلسي (محمد الهادي) ، خصائص الأسلوب في الشوقيات، منشورات الجامعة التُونسيّة، (د ت)
  • عبد الرحمن (طه) ، المناظرة، تجديد النظر في إشكالية السببية عند الغزالي ونظرية العوالم الممكنة، العدد1، 1989.
  • عبد الرحمن (طه)، اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، المركز الثقافي العربي، ط1، 1998.
  • عبد الرحمن (طه) ،في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، المركز الثقافي العربي، المغرب ــ الدار البيضاء، ط2، 2000.
  • عبد الحليم محمد حسين (السيد) ، السُخرية في أدب الجاحظ، الدار الجماهيرية للنشر والإعلان، الجماهرية العربية الإشتراكية العظمى، ط 1، 1988.
  • عبد اللاوي (وليد) إشكالية التكلم في أخبار التاريخ، بحث لنيل شهادة الدكتورا في اللغة والآداب والحضارة العربية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس، جامعة صفاقس، تونس، إشراف الأستاذ محمد بن محمد الخبوّ، السنة الجامعية 2019- 2020، (بحث مرقون موجود في قاعة الدوريات بمكتبة الكليّة).
  • العمامي (محمّد نجيب) ، “العالم الحكائي في الدراويش يعودون إلى المنفى“، موقع الكتروني: الجمعيّة الدوليّة للمُترجمين واللغويين العرب،http://www.wata.cc/forums/showthread.php?954-
  • القاضي (مُحمد) معجم السرديات، إعداد مجموعة من الباحثين، إشراف محمد القاضي، الرابطة الدوليّة للناشرين المستقلين، دار محمد علي للنشر، تونس، ط1، 2010.
  • مشبال (محمد) ، البلاغة والسرد جدل التصوير والحجاج في أخبار الجاحظ، جامعة عبد المالك السعدي، مطبعة الخليج العربي ، تطوان المغرب، 2010.
  • مشبال (محمد) ، بلاغة النادرة، دار أفريقيا الشرق، المغرب، 2006.
  • محمّد عقيلة (نوارة)، الشخصيّة القصصية للأنبياء بين النص القرآني ونصوص قصص الأنبياء، مكتبة علاء الدين، صفاقس ــــ تونس، ط1، 2018.
  • المسدي (عبد السلام)، قراءات مع الشابي والمُتنبيّ والجاحظ وابن خلدون، دار سعاد الصباح، ط4، 1992.

المراجع الاجنبية:

  • Cohn (Dorrit), Le propre de la fiction, traduit de l’Anglais par Claude Harry, Schaeffer, editions du Seuil.
  • David (Lewis), ‘Truth in Fiction’, American Philosophical Quarterly, volume 15, Nunber1, January 1978.
  • Dolezel (Loubomir), Heterocosmica, Fiction and Possible worlds, published by, the Johns Hopkins university press, Baltimore and London, 1998.
  • Dolezel (Loubomir), Possible Worlds of Fiction and History, by the Johns Hopking university press Baltimore, printed in U.S.A, 2010.
  • Duboit (Jean), Dictionnaire de linguistique, librairie Larousse , Paris, 1973.
  • Genette (Gérard), Fiction et diction, éd, seuil, Paris,1991. 
  • Lintvelt,(Japp), Essai de Typologie Narrative, Ed, librairie José Corti 1989.
  • Pavel (Thomas), Inconplete Worlds, Ritual Emotions, Fhilosophy and literature, oct, vol 7, n2,1983.
  • Pavel (Thomas), Univers de la fiction,Paris ,seuil,coll, « Poétique » 1988.
  • Pouillon, Temps et Roman, éd Gallimard, Paris 1946.
  • Ryan, (Marie – Laure) Possible Worlds, Artificial Intelligence, and Narrative Theory, USA, Indiana, University, Press Bloomington, IN, 1991.
  • Sylvie (Durrer), Le dialogue dans le Roman, Nathan, université, 1999.

[1]– انظر: عبد السلام المسدي، قراءات مع الشابي والمُتنبيّ والجاحظ وابن خلدون، دار سعاد الصباح، ط4، 1992 ص ص 95 ــ 140.

[2]– انظر على سبيل المثال:

محمد مشبال، البلاغة والسرد جدل التصوير والحجاج في أخبار الجاحظ، جامعة عبد المالك السعدي، مطبعة الخليج العربي، تطوان- المغرب، 2010.

محمد مشبال، بلاغة النادرة، دار أفريقيا الشرق، المغرب، 2006.

السيد عبد الحليم محمد حسين، السُخرية في أدب الجاحظ، الدار الجماهيرية للنشر والإعلان، الجماهرية العربية الاشتراكية العظمى، ط 1، 1988.

[3]– انظر: جميل الحمداوي، العوالم المُمكنة بين النظريّة والتطبيق، قصة الموناليزا لأحمد المخلوفي أنموذجًا، ط1، 2016، ص 10.

[4]– جميل الحمداوي، العوالم المُمكنة بين النظريّة والتطبيق، قصة الموناليزا لأحمد المخلوفي أنموذجًا، مرجع مذكور، ص10.

[5]– انظر طه عبد الرحمن، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، المركز الثقافي العربي، المغرب ــ الدار البيضاء، ط2، 2000 ، ص136.

[6]– الغزالي، تهافت الفلاسفة، تحقيق الدكتور سليمان دنيا، دار المعارف، مصر، ط 4، ص120.

[7]– طه عبد الرحمن، المناظرة، تجديد السبب في إشكالية السببية هند الغزالي ونظرية العوالم المُمكنة، العدد 1، 1986، ص28-29. وقد أحال الباحث على الغزالي، مشكاة الأنوار في مجموعة رسائل الإمام الغزالي، ج4، ص12.

[8]– تناولنا مسألة التباين في إحالة المؤرخين على المرجع من خلال نماذج من أخبار التاريخ. لمزيد التوسع، انظر: وليد عبد اللاوي، إشكالية التكلم في أخبار التاريخ، بحث لنيل شهادة الدكتوراه في اللغة والآداب والحضارة العربية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس، جامعة صفاقس، تونس، إشراف الأستاذ محمد بن محمد الخبوّ، السنة الجامعية 2019- 2020 ، (بحث مرقون موجود في قاعة الدوريات بمكتبة كليّة الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس )،ص120-194.

[9]–  لمزيد التوسع انظر: Ryan, Possible worlds, Artificial Intelligence and narrative, 1991, p 16.

[10]– انظر: Goodman, manières de faire du monde, op cit, p 135.

[11]– انظر: Thomas Pavel,Univers de la fiction,Paris,seuil,coll, « Poétique » 1988, P. 210.

[12]– انظر: Thomas Pavel, Inconplete Worlds,Ritual Emotions, Fhilosophy and literature, oct, vol 7, n2, 1983, Pp45-50.

[13]-Ryan, Possible worlds, Artificial Intelligence and narrative theory, op cit, p 113.                      

[14]– انظر المرجع السابق ص113-114.

[15]– نوارة محمد عقيلة، الشخصية القصصيّة للأنبياء بين النص القرآني ونصوص قصص الأنبياء ، مكتبة علاء الدين، صفاقس ــــ تونس، ط1، 2018، ص53-54.

[16]– محمد بن محمد الخبوّ، ضمن: معجم السرديات، تأليف مجموعة من الباحثين إشراف محمد القاضي، الرابطة الدولية للناشرين المستقلين، دار محمد علي للنشر تونس،ط1، 2010 ، باب التاء، مادة تخييل، ص74-75.

[17]– لمزيد التوسع انظر:

محمّد نجيب عمامي، “العالم الحكائي في الدراويش يعودون إلى المنفى“، موقع الكتروني: الجمعيّة الدوليّة للمُترجمين واللغويين العرب،http://www.wata.cc/forums/showthread.php?954-  تاريخ  الدخول : يوم 10- 03 -2022.

[18]– محمّد بن محمّد الخبو، مداخل إلى الخطاب الإحالي في الرواية، مكتبة علاء الدين صفاقس تونس ، ص74-75.

[19]– لتوضيح الفرق بين العبارة الإحاليّة والعبارة الحمليّة اشتشهد فراغ بالمثال الآتي “قولنا القط نائمٌ” ، “وتعتبرُ كلمة القطّ عبارة إحاليّة، وكلمة نائم عبارة حمليّة، وفي “أكل القط الفأر” فالقط والفأر عبارتان إحاليتان، وأكل عبارة حمليّة. ومثل هذا التقسيم يقوم في آن واحد لى أسس أنطولوجيّة ونحويّة لأنّه يمنح الاسم ليس مبرّرها لسانيا باعتباره الوحدة الوحيدة التي يمكن لها أن تحيل على الكائن وعلى أسس نحويّة لأنّه يقوم على النقص المنطقي في الفعل (الذي يقتصي فاعلا ليحيل) لينفي عن هذه الوحدة كلّ طاقة إحاليّة” باتريك شارودو ودومينيك منغنو، معجم تحليل الخطاب، ترجمة عبد القادر المهيري وحمادي صمود،  المركز الوطني للترجمة، تونس دار سيناترا. ص474.

[20]– محمد الهادي الطرابلسي، خصائص الأسلوب في الشوقيات، منشورات الجامعة التُونسيّة، (د ت) ص389.

[21]– الجاحظ، البخلاء، دار المعارف، سوسة، 1989، ص36.

[22]– نوارة محمّد عقيلة، الشخصيّة القصصية للأنبياء بين النص القرآني ونصوص قصص الأنبياء، مرجع مذكور، ص328-329.

[23]–  نميزُ في هذا السياق الشخص من الشخصيّة فالشخصُ هو الكائن المرجعي الذي يعيشُ في الواقع ، أمّا الشخصيّة، فهي الكائن التخييلي الذي يعيش في العالم القصصي. لمزيد التوسع انظر:

ـــ أحمد السماوي، ضمن معجم السرديات، مرجع مذكور، باب الشين، مادّة شخصيّة، ص270 .

ـــــ محمد بن محمد الخبوّ، مجنون بني عامر من الشخص إلى الشخصية: بين متباين النصوص والمقامات، ضمن مجلّة بحوث جامعية، جامعة صفاقس، كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بصفاقس، عدد 8، 2010، ص9-21.

Jean Duboit, Dictionnaire de linguistique, librairie Larousse ,  Paris, 1973,p 368.

[24]– محمد بن محمد الخبو، ضمن: معجم السرديات، مرجع مذكور، باب التاء، مادة تخييل، ص73-74.

[25]–  لمزيد التوسع انظر:

Gérard Genette, Fiction et diction, éd, seuil, Paris, 1991 Pp 47- 55.

Dorrit Cohn, Le propre de la fiction, traduit de l’Anglais par Claude Harry, editions du Seuil, Schaeffer,  Pp. 12-14.

[26]– الحوار الجدليّ: يتّسم طرفاهُ بالتكافؤ المعرفيّ. فيُقدّم كُلّ منهُما حُجَجًا لإقناع الآخر. وتنتهي المُحاورة باقتناع أحد الطرفين ورصانة المُتحاورين وتعقّلهم وتوازنهم. لمزيد التوسّع، انظر:

 Sylvie Durrer, Le dialogue dans le Roman, Nathan, université, 1999, Pp 91-92.

[27]– الجاحظ، البخلاء، مصدر سابق، ص36.

[28]–  انظر:

Lubomir Dolezel, Heterocosmica, Fiction and Possible worlds, published by, the Johns Hopkins university press, Baltimore and London, 1998, Pp 3- 4.

[29]– انظر: Pouillon, Temps et Roman, éd Gallimard, Paris 1946, Pp 75 -76. .

[30]– محمد بن محمد الخبوّ، ضمن معجم السرديّات، مرجع مذكور، باب التاء، مادّة خطاب مباشر، ص186.

[31]– إنّ الحوار هو وحُدَّ بأنّهُ الأقوال المُتبادلةُ بين شخصين فأكثر مُنذُ لحظة الالتقاء إلى لحظة الافتراق مع ما يصحبُ هذه الأقوال من هيئات وإيماءات وحركات وكلّ ما يُخبرُ عن ظروف التواصل تردُ جميعها في شكل خطاب إسناديّ”. محمد نجيب عمامي، ضمن معجم السرديات، مرجع مذكور، باب الحاء، مادّة حوار، ص159.

[32] -محمد الخبوّ، هل التبئير من الخارج قائم على الحياد؟ ضمن وجهة النظر في الرواية،  إشراف محمد نجيب العمامي، دار محمد علي الحامي،ط1، ص158.

[33]– المرجع نفسه، ص160.

[34]– الجاحظ البُخلاء، مصدر سابق، ص36.

[35]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[36]المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[37]– المصدر نفسه، ص 36.

[38]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[39]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها

[40]–  المصدر نفسه، الصفحة نفسها.       

[41]– محمّد بن محمّد الخبو، قراءات في القصص، مكتبة علاء الدين، صفاقس، تونس، ط1، 2002، ص212-213.

[42]– الجاحظ، البخلاء، مصدر مذكور، ص36.

[43]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

مقالات أخرى

تعدّد الطّرق الصّوفيّة

جماليّة التّناصّ في الشّعر الصّوفيّ

“زيارة” الضّريح بإفريقيّة مطلع العصور الوسطى

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد