الفرد غير الشفّاف وجدلية الكشف والحجب في الوسط الحضري

الفرد غير الشفّاف

الملخّص:

يشكّل المجال حقلا مثاليّا لدراسة السوسيولوجيا الحضرية للتحولات المجتمعية التي لا تقع إلاّ في سياق مجال ما في الآن ذاته الذي يمارس فيه المجال (ريفي/ قروي/ حضري) تأثيرا متعدّد الأشكال والديناميات على الظواهر الاجتماعية. وقد اخترنا أن نعالج أشكال المؤانسات أو المؤالفات الاجتماعية التي ينتخب لها الأفراد ضمن أكثر المجالات الحضرية فرضا للقرب الاجتماعي (الحي Quartier) استراتيجيات تبادل وتفاوض اجتماعي. واتّخذنا من علاقات الأجوار ميدانا بحثيا لتتبّع دينامية الحجب والكشف لما سميناه بالفرد غير الشّفاف تعبيرا عن توجّه العلاقات في الأحياء الحضرية الجديدة الى استيعاب المسارات الفردية والمفردنة التي تبحث عبر جدلية الحجب والكشف عن تأمين خصوصياتها وضمان أمنها الاجتماعي. وقد اعتمدنا على متغيرات التزاور بين الأجوار والتهادي في المناسبات الاجتماعية والدينية مؤشّرات لفهم اشتغال هذه الدينامية التي تتخّذ جدليةَ الكشف والحجب -في بعديهما المجالي والاجتماعي- نواةً مركزيّةً لها.

الكلمات المفاتيح: الفرد الشفّاف، دينامية الحجب والكشف، التهادي، القرب المجالي، البعد الاجتماعي.

Abstract:

Space is an ideal field for urban sociology, to study societal transformations that only occur within the framework of a space. At the same time as the space (rural / village / urban) exerts a multifaceted and dynamic influence on social phenomena. We have chosen to deal with the forms of sociability or social affiliations for which individuals, within the most imposing urban areas of social proximity (the neighborhood), elect strategies of social exchange and negotiation. We have taken neighborhood relations as a field of research to track down the dynamics of the concealment and unveiling of what we have called the opaque individual, expression of the tendency of relations in new urban neighborhoods to welcome individual and individualized journeys. who seek through the dialectic of concealment and disclosure to secure their privacy and ensure their social security? We relied on the variables of attendance between neighborhoods and donation on social and religious occasions as indicators to understand the functioning of this dynamic, for which the dialectic of disclosure and concealment occupies a central place in its spatial dimensions and social.

Keywords: The Non-Transparent individual, the dynamics of concealment and detection, Donation, spatial proximity, social distension.


1- تقديم:

تفرض مورفولوجيا النسيج الحضري في المدينة الحديثة قربا ماديّا وتمركزا أوسع للكثافة في مساحات ضيّقة. غير أنّ هذا القرب المجالي La proximité Spatiale (التجاور السكني اللصيق) تنمو في رحمه علاقات اجتماعية أدقّ ما توصف به هو التباعد الاجتماعي Distanciation Sociale الذي تتآكل ضمنه شفافية الفرد Transparence Sociale وتتقلّص بالنظر الى الآخر الشريك في المجال المشترك والعام من المدينة أو من “الحي” Quartier، حدّ الغياب الاجتماعي L’absence Socialeفي أوج الحضور الفيزيقي للفرد ضمن مجاله اليومي الحضري. فالمجال المشترك الذي هو “الحيّ” أو أصغر مكوّناته أي “الشارع” أو ما يسمّى “النهج” ضمن المدينة اليوم ليس فيه ما يجسّر علائقيا بين سكانه أو بين شاغليه إلاّ في حدّه الأدنى الذي تقتضيه الكياسة civilité في وضعيات التلاقي والتقاطع أو في الوضعيات غير الاعتيادية[1]. فكلّ شيء في المجال المشترك أو موضوع اشتراك وتقاطع الاستعمال والحركة داخل الساكنة الحضرية وحتى أصغر أجزائها يشي بتضخّم ما يطلق عليه زيمل اللامبالاة أو أيضا سلوك التحفّظ الاجتماعي الذي تصطبغ به علاقات الكلّ مع الكلّ أو تصنع مشتركا خفيّا. فضمن الساكنة الحضرية اليوم، يرى كلّ فرد في القرب الاجتماعي من للآخر سواء المجاور أو الملاصق له مجاليّا، أو الذي يتقاسم معه المجال كشفا Dévoilement لعوالمه الخاصة ولفردانيته التي يشكّل احترام خصوصيتها واستمرار بقائها خارج حدود معرفة الآخر أو اطّلاعه (شفافية/عدم شفافية) أحد أهمّ شروط تطبيعه مع مجاله الحضري انطلاقا من أصغر وحداته المورفولوجية (النهج أو الشارع) وصولا إلى الحيّ ثم المدينة.

إنّ العلاقات الاجتماعيّة في مدن اليوم محكومة بـ المجهولية الاجتماعية Anonymat Social أساسًا[2]. تلك التي تضيّق شفافية الفرد بالنظر للآخر المشارك والمشترك ضمن مجاله وتمتّن في مقابل ذلك دائرة الحجبVoilement والإخفاء الاجتماعي لتتقلّص تبعا لذلك دائرة الكشف والمكشوف. على أنّ هؤلاء القرببين /الغرباء وإن كانوا يلتقون في كونهم مجهولين داخل الحياة الاجتماعية للمدن الكبرى على وجه الخصوص، فإنّهم يحشدون الشعور بالحريّة حشْدَهم الشعور بالقيود[3]. فالرابط الاجتماعي ضمن المدينة وتقسيماتها المورفولوجية إنّما هو منتج اجتماعي لعلاقة اجتماعية لا تفرزها بالضرورة الوحدة المجالية للأفراد (الحي أو الشارع أو النهج أو الزقاق)[4].

إنّ وجودنا المتزامن في المكان ذاته مع آخرين يمنحنا صفة “الجار” غير أنّ هذا التزامن لا يكفي أو لا يصنع آليّا إمكانية خلق رابط اجتماعي أو شكل تفاعل اجتماعي بعينه يجد تجسّداته في سلوكيات يومية، هي التعبيرات أو المؤشّرات في الآن ذاته على شكل العلاقات بين الأجوار داخل الحيّ، مثل تبادل الزيارات وتبادل الحوارات أو التهادي والوهب. وتعتبر هذه السّلوكيات في سياقها اليوميّ جسرًا (صورة الربط أو إيجاد صلة) وبابًا (الفصل والتفكّك أو العزل/ القطيعة) في معناهما الزيملي بين الفردي والجماعي وبين الانغلاق والانفتاح[5]. فالقرب المجالي الذي تصنعه مورفولوجيا الحيّ لا يلزم ضرورة الأجوار بالانخراط في علاقات اجتماعية مع أجوارهم الأكثر التصاقا جغرافيّا ومكانيّا إلاّ إذا حصل اعتراف متبادل بينهم واستعداد لفكّ براديغم التحفّظ الاجتماعي وما يصحبه من ديناميات كشف وحجب تتّخذ أنساقا وأشكالا مختلفة تصطبغ بها الروابط الاجتماعية على نفس قدر تأثّر العمارة وأشكال السكن وكيفيات الفعل في المجال الخاص والعام.

تبعا لذلك يتدبّرُ البحث الروابط الاجتماعية بين الأجوار ضمن الأحياء الجديدة المتّسمة بعدم التجانس وتنوّع الهويات المجالية للمتساكنين التي تفضي بنا إلى التساؤل عن كيفية تعايش سكان المدن في مجالاتهم الحضرية الأكثر فرضا للقرب في بعده الماديّ؟ وما هي أنواع العلاقات الاجتماعية التي ينسجها المتساكنون في سياق هذا القرب المجالي الذي تفرضه المورفولوجيا الحضرية ضمن المدن بأشكال متنوّعة تتوزّع بين التلاصق الأفقي ضمن السكن الفردي أو التقاطع المتعدّد ضمن السكن الجماعي؟ وكيف تتمّ إدارة الاختلافات وما هي أشكال التعايش بينهم؟ واستنادا لفرضية البحث الكبرى بأنّ القرب المجالي في الأحياء السكنية الجديدة ينتج نقيضه اجتماعيا وأنّ علاقات الأجوار تستجيب لنزعة التحفّظ الاجتماعي الذي يبقي للأفراد هامشا أوسع لعدم الشفافية تتوافق وترهّل مؤانسات القرب sociabilités de proximité بعبارة [6]Authier، فإنّ وحدة التحليل هي تتبّع أشكال الحجب الاجتماعي التي يمارسها الأجوار ضمن مجالاتهم السكنية الجديدة لإنتاج عدم شفافية اجتماعية تعبّر مجاليّا بأشكال مادية ورمزية عن التغيرات العميقة في الروابط الاجتماعية والمعاني التي يمنحها الأجوار ذاتهم لسلوكيات التحفّظ الاجتماعي التي تصطبغ بها علاقاتهم مع الآخرين ضمن الحي السكني الجديد. وقد ارتضينا لهذا المبحث وأسئلته الإشكالية أن نتوسّل تقنيات المنهج الكيفي الأقدر على التسلّل إلى البعد الدلالي الخفيّ الذي لا تشي به إلا الممارسة المجالية اليومية للفاعلين وما يعبّرون عنه بأنفسهم من أفكار وتمثّلات ومواقف ومشاعر وتأويلات تضع الباحث في تمرين استثمار حقل المعاني والدلالات التي توجّه الممارسات المجالية للناس. فالتحوّل الهيكلي للمجتمع الحضري يتجلّى في العوالم الروتينية واليومية وفي السرديات الذاتية للأفراد[7]. ولعلّ أقرب تقنيات المنهج الكيفي للموضوع هي الملاحظة بالمشاركة اعتبارا لأنّ الباحث هنا هو أحد أعضاء مجتمع الدراسة الذي هو حي بن يدر بمدينة المرناقية[8] التي تشهد منذ عقدين حركة توسّع عمراني سريع وظهور أحياء جديدة غيّرت الكثير من ملامحها المعمارية والعمرانية. هذا فيما يخص السؤال الاشكالي الأوّل الذي يضعنا أمام الممارسة المجالية للفاعلين في الساكنة الحضرية. أمّا مبحث البعد الدلالي لسلوك التحفّظ الاجتماعي فإنّ استثمار تقنية المقابلة نصف الموجّهة أصوب لبلوغ المقصد البحثي من حيثُ ضرورةُ التوافق بين غايات الدراسة وتقنيات البحث كأحد أهم عناوين التمشي المنهجي الناجح.

فضلا عن طرح الأسئلة الاشكالية وصياغة توجهاتها البحثية يتطلّبُ البحث الميدانيّ تأصيل عمقه النظري عبر مناقشة مفاهيمه المركزية وتدقيقها. وهو ما يفسّر تخصيصنا لقسم نظري نتداول ضمنه علاقة الاجتماعي بالمجالي التي تشكّل البراديغم المؤسس لعلم الاجتماع الحضري عبر أحد تقسيمات المدينة مورفولوجيا وهو “الحي” Le Quartier وما يحيل إليه من تعدّد ديناميات التساكن وتعدّد أشكال المؤالفة الاجتماعية من جهة، والتحوّل الذي تشي به أو تُبينٌهُ أشكال التفاعل الاجتماعي ضمنه من هويات متعايشة للأفراد إلى هويات متخاصمة، ومن هويات اندماجية إلى هويات منفردة تجسيدا للتحوّلات الاجتماعية في تشكيلات البنى الاجتماعية للمجتمع تلك التي تجد تعبيرها ضمن المجال وعبره. فالسوسيولوجيا الحضرية أو سوسيولوجيا المدينة أو سوسيولوجيا المجال تسلّم كلّها بوجود علاقة تبادلية التأثير والتّأثّر بين البنى الاجتماعية والبنى الحضرية المجالية. ففي المدينة أو المجال الحضري بمختلف تقسيماته، تتجلّى التّحوّلات الاجتماعيّة تحوّلات مرئيّة يتسنّى وصفها ميدانيّا. وتشتغل المدن وسكانها في الوقت ذاته كقوى دافعة للتغييرات الهيكلية في المجتمع. وهو ما يصوغ أكثر البراديغمات المؤسسة للسوسيولوجيا الحضرية التي لا يمكن معها مقاربة التشكيلات والبنى الاجتماعية والمجتمعية وتمثّلها إلاّ في ارتباطها بالمعطى المجالي أي كيفيات شغل المجال وتهيئته واستعمال أشيائه وأسلوب الحياة الاجتماعية ضمنه وما يقترن بها من أشكال اجتماعيّة للتّفاعل والتّبادل[9].

2- في التأصيل النظري للبحث:

2- 1- الحي: دينامية التساكن(المجالي) وتعدّد أشكال المؤالفة(الاجتماعي):

تنكشف المدن لدى فرنسوا دوبي Dubet بما هي تمظهرٌ للمشكلات الاجتماعية[10] التي أفرزتها سيرورات تغيّر المجتمعات. ولعلّ أكثرها طلبا للبحث ما يتّصل بالتحوّلات في أشكال التضامنيات والروابط الاجتماعية داخل الأحياء المدينية الجديدة التي تشكّلت خارج المدينة وعلى أحوازها جالبة معها هويات مجالية (أو تمظهرات مجالية للهوية)[11] وانتماءات اجتماعية ورساميل ثقافية ورمزية متخالفة ومتعارضة. وعلاوة على ذلك فإنّ “الحيّ” Quartier هو أحد أكثر المجالات الحضرية التصاقا بمشكلات التحضّر والتحوّلات الاقتصادية والاجتماعية على غرار الفقر والتهميش والاقصاء الاجتماعي والفصل المجالي والاجتماعي والعنف الحضري وكل أشكال عدم المساواة مكانيا أو مجاليا.

لم يكن اهتمام السوسيولوجيا الحضرية بدراسة الحيّ وحدةً مجاليةً محليةً وليد نشأتها بل كان سابقا لها منذ نهاية القرن التاسع عشر مع Patrick Geddes في شكل جرد منهجي للتجهيزات والصناعات والتجارة والسكن ضمنه.[12] ومع بداية القرن العشرين شكّل “الحيّ” موضوع اهتمام الجغرافيين الفرنسيين قبل أن يشغل اهتمام الاقتصاديين بداية خمسينات القرن الماضي. وقد مهّدت كلّ هذه الدراسات إلى جانب أعمال إدغار موران Edgar Morinوهنري مندراسHenri Mendras لدخول مشكلات تأثيرات النمو الحضري وتحوّلات أنماط السكن وأشكال الانتماء إلى المجال[13] عموما، وإلى الحقل البحثي للسوسيولوجيا خصوصا. تأسّست إثرها حقول معرفية جديدة تغايرت عنونتها من السوسيولوجيا الحضرية الى سوسيولوجيا المدينة أو سوسيولوجيا المجال.

ولقد ظلّ الحي منذ عشرينيات القرن الماضي وفيّا لتمثّله “كالقرية داخل المدينة” [14]بتأثير قويّ من سوسيولوجي مدرسة شيكاغو[15] وخاصة البحوث الميدانية الميكروسوسيولوجية التي أجريت ضمن أحياء تقع في مناطق انتقالية وفوضى اجتماعية بدءًا من الثلاثينات وامتدادا إلى خمسينات وستينات القرن الماضي لمناطق تركّز الطبقة العاملة التقليدية في بريطانيا العظمى والولايات المتحدة الامريكية وفرنسا. هذا وقد اعتبرت السوسيولوجيا الحضرية وفقًا لـ Grafmeyer[16] الحيَّ- منذ ثمانينات القرن الماضي- إمّا “جزءًا من المدينة” ، أو “مجال قرب” ، أو “وسط عيش” ، أو إطارا لفعل اجتماعي يتّصف بالتنوّع والتعدّد والاختلاف.

من أجل ذلك لا تستقيم دراسة الحيّ ضمن التحليل السوسيولوجي – في بعده الجغرافي بما هو أحد تقسيمات مورفولوجيا المدينة وجغرافيتها المادية والبشرية- لأنّه ضمن الحي ومورفولوجيته التي تصنع القرب الفيزيقي بين الأفراد وتساكنهم تنكشف تصوّرات آهِلِيهِ وتمثّلاتهم ومواقفهم تُجاه الآخرين سواء الذين يشاركونهم المجال العموميّ المشترك ويقاسمونهم إياه، وذلك من خلال الروابط الاجتماعية التي يقيمونها، أو من خلال شكل المؤالفة[17]sociabilité التي ترافقها أو تصنعها أو تشي بدرجة الاستعداد للانخراط في الفعل الاجتماعيّ. إنّها روابط تتحدّد بها درجة الاندماج في المجال الحضري الجديد ممّا يلزم البحث في الرابط الاجتماعي[18] واستدعاء مسألة الاندماج الاجتماعي مثلما يدفع الى ذلك غيدنز[19].

فالرباط الاجتماعي ضمن المجالات الحضرية الجديدة منفتح بقوّة على تأثير ما يمكن تسميته بالهوية المجالية المتنقّلة للفرد أي هويته المجالية التي تكوّنت وترسّخت داخل مجال قديم (ريفي أو قروي أو حضري – مركزي أو طرفيّ-) احتضن مرحلة أو مراحل عمرية للفرد وتشرّب ضمنها مجموعة من القيم والمعايير التي هندست ممارسته المجالية، أي أشكال تضامنه الاجتماعي واندماجه في مجاله، وتفاعله مع مختلف وجوه الحياة اليومية داخل الحي. فغيدنز[20] في فهمه للمؤالفة الاجتماعية يقترض مفهوم الاطراد (التكرار) في الفعل اليومي زمانيا ومكانيا في ظلّ الوجود المشترك أو التساكن ضمن المجال الحضري. ذلك ما يؤسّس الشّروط الدّنيا لخلق روابط اجتماعية بين شاغلي الحيّ في علاقة تفاعلية ودينامية مع شكليّ القرب Proximitéأو البعد Distanceالاجتماعي بينهم وذلك ضمن هذا المشترك المجالي المدرك أو المتصوّر بعبارة لوفافر[21].

يُوجِدُ الحيّ – بما هو وحدة مجالية اجتماعية تتّخذ بتعبير لادروت Ledrut فردانيتها الجماعية الخاصة[22]– إطارا مجاليا للّقاء الاجتماعي Rencontreبين شخوص حاملة لرؤى ومواقف وهويات وممارسات مجالية تتنوّع حدّ المخالفة أحيانا، وذلك عبر ما يبتكره المجال من فرص القرب أو التباعد الاجتماعيين بمعناهما الزيملي[23]. فالموقف من القرب المكاني والمجالي في الأحياء الجديدة يكيّف الى حدّ كبير مساحة التباعد أو القرب الاجتماعي المُستَقرَأ من شكل المؤالفة الاجتماعية في بعدها الفردي والجماعي وتبعا لذلك الممارسات المجالية. فالحيّ السكني بما هو وحدة اجتماعية-مجالية يمتّن لدى Granovetter[24] الروابط الضعيفة في الآن نفسه الذي يخلق فيه روابط ضعيفة أي روابط لم تغادر – بفعل فجوة تواصلية- العلاقات المصطنعة التي تفتعلها إكراهات القرب المجالي. فهو حقل للتفاعل والتشبيك العلائقي (wellman) والرباط الاجتماعي والمؤالفة الاجتماعية مثلما هو مجالٌ للفصل والعزل والتباعد الاجتماعي واللامبالاة والغربة الاجتماعية[25] والتصحر اللساني[26]. فالموضع المكاني للحي بما هو مساحة جغرافية أو حيّز مكانيّ هو مولّدة غير مناسب لدى Leroux على خلاف تصور غيدنز، للرابط الاجتماعي، أي مجموعة من العلاقات الاجتماعية بين أفراد أو هويات تقترن بجماعات اجتماعية مختلفة[27] يتشاركون نفس المساحة المعيشية، ولكنّهم لا يحملون التمثّلات ذاتها للمجال المشغول ولذواتهم ومكاناتهم الاجتماعية، ولهذا الغير “الشريك/الغريب” في المجال. وضمن هذا الحيّز الجغرافي والعالم الاجتماعي الذي هو الحيّ الجديد تتفاعل ديناميّات هويات فردية وجماعية قلقة في معنى بحثها عن تموقع ضمن المجال الاجتماعي الجديد لها ضمن دينامية القرب والبعد الاجتماعيين[28] لاسيما أنّ القرب المجالي محسوم بعامل الجغرافيا المادية. وقد يكون أحد عناصر استفزاز قلق هذه الهوية المجالية للأفراد الباحثين عن تملك آليات بلورة اختياراتهم في سياق تشكّل ذواتهم. بالتالي رفض مقاومة معقوليات السيطرة بأشكالها المتعدّدة بعبارة Wieviorka [29]. هذا التموقع هو تعبير عن المسافة التي تتّخذها الذوات الاجتماعية من الآخرين في بحثها عن التشكّل أو إعادة التشكّل في الحيّ[30]، تجد تعبيراتها في علاقات الجوار أو العلاقات وجه لوجه، بما أنّ المكان يتحوّل الى رابط لدى Maffesoli[31] ويحتفظ بقدرة على انتاج الأحداث الاجتماعية في نفس الوقت الذي ينتصب فيه سياقا للفعل الاجتماعيّ وإطارًا له. فالحيّ كمجال في مفهومه اللوفافري Lefebvre منتج للفعل الاجتماعي وللتفاعل الروتيني اليومي[32]بما يخلقه من فرص الالتقاء والتلاقي وتبادل أشكال مختلفة للتواصل وتبادل الرسائل والعلامات والرموز. على أنّ مفهوم إنتاج المجال لديه يوصل بين البعد المادي المتجلّي في نشأة المجالات والبعد الاجتماعي الموصل بالممارسات الاجتماعية للنّاس ضمن هذه المجالات الحضرية بمتعدّد مساحاتها وموقعها ضمن الكلّ الحضري الذي هو المدينة.

إنّ مدينة اليوم هي مدينة “لا أحد” بمعنى افتقادها لملامح أو لهوية جامعة ترتقي الى خلق جماعة حضرية. فهي أقرب الى التجمّعات البشرية منها الى الجماعة أو المجتمع بمعناه الكلّي أو المحلّي بعامل وهن روابط الانتماء ضمنها désaffiliationبعبارة روبرت كاستيل[33]. فالنّاس داخل المدينة لا ملامح مشتركة لهم ولا شيء يشدّهم الى المدينة غير ارتباطاتهم الوظيفية وغير الشخصية التي أوجبت وجودهم في هذا المجال أو ذلك. فصلاتهم بالمجال لا تاريخ ولا هوية لها تصنع أرضية صناعة التقاطع الهوياتي. فانتماءات الأفراد تدخل الهويات المنفصلة عن مجالها المُؤسِّس (ماضيها المجالي) في قلق يجد تعبيراته في روابطهم بمجالاتهم الخاصة (الدار وواجهاتها) وبالعام والمشترك (الرصيف والشارع والحي) التي تستوعبها النزاعات والخلافات والصراعات والتباينات[34].

2-2- من هوية متعايشة(اندماجية) الى هوية متخاصمة(منفردة):

ينتقل النّاس لأسباب متعدّدة ضرورةً أو اختيارًا، من مجال تشكّلت ضمنه هوياتهم الفردية والجماعية في توافق مع سيرة حياة اجتماعية وجماعية تراكمت فيه إلى مجالات جديدة قد تمثّل استمرارا أو انقطاعا عن نمط التواجد في المجال وما يقترن به من ممارسات مجالية وأشكال تفاعل مع الآخرين ومع المجالات الخاصة والعامة. فعلاقة النّاس بالحيّ الجديد تستجيب لشكل الرابط الذي يتصوّرونه بالمكان والمجال ومدى توافقه أو تخالفه مع صورتهم عن أنفسهم وتصوّراتهم للآخر. فقد أظهر روبرت بارك Park منذ عشرينات القرن الماضي أنّ التناقضات الاجتماعية وحتى الصراعات والتنشئة الاجتماعية تترسّخ مجاليا في مختلف أحياء المدينة[35]. فالمجال يحتضن ويمظهر المكانة الاجتماعية للأفراد مثلما أنّ المكانة الاجتماعية تتّخذ من المجال سياقا للتمظهر عبر المساحة المشغولة من المجال ونمط السكن وما يملكه الفرد الذي يحتلّ مكانة اجتماعية بعينها. فتواجد أفراد ينتمون لنفس المكانة والموقع الاجتماعي يجعل المجال المشغول (الحي) متمنّعا ومغلقا على غيرهم ممن هم أقلّ مكانة اجتماعية. ثم يعود هذا الحيّ ليتّخذ عبر هذه الصورة أو السمعة التي انتجها اشتراك هؤلاء في نفس المجال، بما هو القيمة المادية والعنوان الاجتماعي الذي يخلق فواصل مجالية هي في أصلها فواصل وموانع اجتماعية (عدم الانتماء لنفس الطبقة أو شغل نفس المكانة الاجتماعية).

تكشف سيرورة التحضّر والحضرنة ضمن المدن تحوّلات كبرى في شكل السكن ونمطه، تفرض مناخا اجتماعيا سمته الرئيس عدم التجانس الاجتماعي والثقافي بين مكوّناته التي تعارض دينامية التباعد الاجتماعي ضمنَه القربَ المادي والجسدي الذي أوجده نمط التحضّر وتشكّل الحواضر الجديدة. هذا التغيّر في المجال يرافقه تغيّر في نمط الحياة الجماعية وأشكال العلاقات التي أصبحت تميل الى الفردية والعقلانية أو العلاقات الباردة بعبارة عبد المالك صياد[36] واتّخاذ مسافة اجتماعية بين الأفراد كقاعدة سلوك معمّمة تعبّر عن نفسها بأشكال مختلفة عمرانيا ومعماريا وسلوكيا وعلائقيا. فالكثافة الديمغرافية والقرب الفيزيقي والنسق المتوتّر والسريع لنسق الحياة داخل المجالات الحضرية الجديدة تدفع بساكن المدينة الى بلورة فردانية وموقف تحفّظ من الآخر أو الغير يتأثّر بما يسميه زيمل بعقلنة الحياة الفردية[37] ضمن المجال الحضري التي تصوغ عقلية المديني وتوسّع ما اسميناه بالفرد غير الشفاف ومساحة الحجب الاجتماعي المعبّر عنه سيميولوجيا عبر أشكال السكن والمعمار وعبر سلوكيات مثل تبادل المعلومات والحوار وتبادل الزيارات والتهادي وأشكال التضامن في الوضعيات غير الاعتيادية. ويقوم سلوك التحفّظ هذا على حدّ أدنى من حماية الذات وخصوصيتها التي تزهرُ في عدم شفافيتها الاجتماعية تجاه الآخرين في المجال الحضري. فتبادل الفعل مع الآخر ضمنه يحافظ دائما على مسافة اجتماعية ما تترجم قلق الهوية وفردنة روابطها في سيرورة إعادة تشكّلها ضمن مجالها الحضري الجديد.

تنتصر هذه المعقولية لأسبقية العقلي والفردي على العاطفي والجماعي الذي يميّز العلاقات في المجالات الحضرية الصغيرة والأقلّ كثافة. وتورّط الفردانية وموقف التحفّظ الاجتماعي الفرد في وضعية غربة ضمن المدينة أي في وضعيات انكفاء على الذات أو انسحاب أو عزلة، وإلى سلوكات غير اندماجية وهامشية تفكّك التنظيم الاجتماعي. ويرمز الغريب إلى القرب وإلى البعد. ويترجم جدلية البعد والقرب في العلاقات الاجتماعية داخل المجال الحضري وخاصة المجال العمومي. يتناسب هذا الرابط بين القرب والبعد مع نموذجين من العلاقات الاجتماعية: العلاقات الودية التي تنعقد بين “نحن” والعلاقات العمومية أي العلاقات بين الغرباء.

تشتغل الأسوار والجدر ضمن الأحياء الحضرية الجديدة في سيميائية تتنوّع بين غاية مظهرة المكانة الاجتماعية عبر ما تتّخذه الواجهات من أشكال معمارية وجمالية وزخارف وألوان يمعن أصحابها في إظهار الوجاهة[38] التي ينسبونها لذواتهم وبين الإنصات إلى هاجسي الأمن والخصوصية[39]. أمّا هاجس الأمن فيحقّقه العلوّ الكافي للأسوار والجدر وتجهيزها بوسائل المراقبة والمتابعة لمنع أو تعطيل الولوج إلى الداخل وأمّا هاجس الخصوصية فيجد تعبيره الرمزي في خلق لا مرئية مادية تعتّم الداخل وتضمن عدم شفافية ما يقع خلف تلك الواجهات والأسوار من المجال الخاص الذي يراد له أن يبقى معتّما للآخر الذي يشكّل قربه المادّي والمجالي القسريّ مصدر توتّر وقلق يبيح الحديث عن ازمة الرابط الاجتماعي[40]. غير أنّ الملاحظ على الميدان أن الحجب الاجتماعي يغادر هذا التلازم مع الترجمة المادية في صيغة تغيير المعمار وشكله ليلتمس دينامية تواصلية تتّخذ من علاقات التزاور وتبادل الحوار والتهادي آليات تنفيذ وتجسيد لها بما يتماهى ورؤية الفرد لموقعه ضمن الحي وتمثّله لعلاقاته بالآخرين ضمن المجال الحضري الأشدّ قربا (الحي).

تغري هذه الأفعال المادية، شديدة التشبّع بالمعاني والرموز، التحليل السوسيولوجي بالبحث خلف المظهر المادّي أو الجمالي أو الفنّي لفعل الذوات الاجتماعية في مجالها الخاص بمتعدّد أشكاله بحثا عن التماهي مع هويات هجرت حضيرتها الجماعية كهويات مندمجة في مجالها ومتعايشة مع سياقاتها الجماعية الماضية لتستقرّ في مسارات فردية ومنفردة تجعلها أقرب إلى أن تكون هويات متخاصمة أي تبدي تباعدا اجتماعيّا أكثر من القرب والتحفظّ الاجتماعي أكثر من الانفتاح على الآخر الشريك المجالي كما ينكشف في علاقات الجيرة كوحدة تحليل تستدعي البعدين المجالي أي الموضوعي (الجار بما هو حقيقة مادية) والاجتماعي أي الذاتي في معنى اقترانه بتمثّلات الفرد لمفهوم وملمح الجار الذي قد يكون لدى البعض هو الغير ملاصق ماديا بالضرورة وبالتالي يتحرّر المفهوم من ارتباطه الفيزيقي بالقرب المجالي بل ويلغي ملزمة القرب المكاني ليستعيض عنه بمعيار التقارب الاجتماعي. فتمفصل البعدين القرب الفيزيقي والقرب الاجتماعي يتّخذ أشكال متنوّعة ضمن المعاش اليومي للأفراد كمادة للتبادل الرمزي بينهم ضمن المجال الحضري.

3- ديناميات الكشف والحجب والممارسات الاجتماعية داخل الساكنة الحضرية:

يخلق التساكن اختلاطا اجتماعيا mixité sociale، يفرض تبادل يتّخذ أشكالا تتدرّج من التعاون إلى التصادم، ومن التقارب إلى التباعد ومن الانفتاح على الغير الذي يتواجد معه ويتقاسم معه المجال المشترك – الذي هو “الحيّ”- إلى التجنّب والتحاشي. فالأجوار يطرحون على بعضهم البعض عبر نسق حياتهم اليومي وضجيجهم وعاداتهم وطرائقهم في التواصل وكيفيات تواجدهم ضمن مجالهم الخاص أو المشترك من الحي، وعبر الروائح المنبعثة من المطبخ، وضعيات يختلف تأويلها وفهمها والتعاطي معها وردّة الفعل تجاهها. وتعبّر أشكال المؤالفة هذه عن نفسها في سلوكات اجتماعية انتقينا من بينها ما اعتبرناه مؤشرا ومقياسا للروابط الاجتماعية بين المتساكنين في الحيّ وهي التهادي وتبادل الزيارات أو التزاور بين الأجوار.

3- 1- التهادي بين الوظيفة الاتصالية ودينامية خلق الرابط الاجتماعي:

يتّخذ التهادي أو تبادل الهدية والهبة[41] – بما هو سلوك سوسيو أنثروبولوجي ونظام اجتماعي للتبادل[42]– بين الأجوار أشكالا ترتبط كلّ منها بوضعيات اجتماعية لها خصوصيتها التي ترسم حدود انتشارها بين الأجوار، وجغرافيا اجتماعية نستقرأ منها مورفولوجيا انتماء الفرد إلى الحي. وقد اعتبر موس Mauss الهبة نظاما اجتماعيّا شاملا وشديد التعقيد يتجاوز اقتصاديّة التبادل. فتبادل الأشياء الماديّة إنّما هو ظاهرة تحيل على حمولة دلالية رمزية مثل تبادل المجاملات والطقوس والنساء والأطفال والولائم وما إلى ذلك[43]. وتنبني الهديّة أو الهبة على الكرم الذي لا تنتفي معه صفة الإكراه والإلزام في المنح والقبول.

تهدف الهبات إلى ترميم العلاقات الاجتماعيّة أو تأكيدها أو تقويتها. ويترتّب عليها نظام من الاكراهات والإلزاميات ثلاثية ” العطاء والأخذ وإعادة العطاء”. ولا تختلف قيمة الهدية والزامية فعل التهادي[44] والوهب بالنظر فقط إلى قوّة الرابط الاجتماعي بين الأجوار أو ضعفه ، ولكن بالنظر أيضا إلى تباين تقييم وتثمين الأجوار للمناسبات ذاتها التي تقترن فيما الاحتفالية الاجتماعية أو الدينية بطقس التبادل. فسلوك التهادي بين الأجوار كآلية مجتمعية لصناعة “الاجتماعي” انّما يتلقّى تأثيرا متعدّد الدلالات والسياقات. فإذا كان نظام التهادي ينسج العلاقات الاجتماعية ويشبّكها داخل الحي في الوقت الذي يخضعها إلى مراجعات في اتّجاه تمتينها أو اضعافها استجابة لتجربة التعايش الجمعيّ مع شركاء المكان وتقييمها دوريّا، فإنّه يتأثّر بتخالف الرساميل الثقافية للناس التي تثمّن بأشكال مختلفة ومتفاوتة المناسبات الاجتماعية والدينية مّما يترتّب عنه استجابات مختلفة الدرجات لها في نسق التهادي الذي يصاحب هذه المناسبات، وتنكشف معه شبكة العلاقات بين الأجوار وأشكال المؤالفات الاجتماعية التي تحرّكها. في هذا السياق تعبّر المستجوبة م.ط “لا تُغيّر دينية المناسبة رأيي وموقفي من بعض الأجوار، أعرف أن المناسبة تحثّ على قيم التسامح والتعاطف والتضامن ولكن ما يقلقني أنني لو خضعت لهذا التفكير سأفتح على نفسي بابا طالما حرصت على غلقه احتفاظا بسطحية العلاقات مع الغالبية العظمى من أجواري. يكفي تبادل السلام والتحية وبعض العبارات التضامنية لنصنع أجواء ودية خالية من المنغصات التي تجلبها الدخول في مناطق الخصوصيات “[45] أو أيضا ما عبّر عنه أحد المستجوبينبربي تحبني ندق عليهم الباب ونقدّم لهم حلوّ العيد أو التهاني بعيد الأضحى مثلا وهم لا يكلّفون أنفسهم حتى رمي السلام علينا عند الالتقاء وجها لوجه”[46].

يقع الخلط بين الاجتماعي والثقافي أثناء تأويل سلوك عدم تبادل الأجوار لمرطبات عيد الفطر أو أجزاء من أضحية “العيد الكبير”[47] مثلا. فسلوك عدم التهادي هنا لا يطلب مباشرة “الاجتماعي” في تفسيره أو تفهّمه. فقد لا يعني ذلك ضعف اندماج الفرد في مجاله القريب أو توتّر علاقاته وضعفها بقدر ما هو ترجمة لتمثّله المختلف لهذه الطقوس ولممارسته الاجتماعية لها. فعديد العائلات بعامل تغيّر ممارستها الطقوسية المقترنة بعيد الفطر مثلا عبر تخلّيها عن صناعة حلويات العيد منزليا وشرائها جاهزة من المحلاّت، لا يرون في التهادي بهذه المناسبة معنى أو دلالة دينية أو اجتماعية اعتبارا إلى أنّ موضوع الهدية هنا لا يمثّل الواهب في شيء بما أنّه مقتنى جاهزا إضافة الى علمه أنّ غالبية الأجوار هم أنفسهم قد اقتنوا حلويات العيد جاهزة.” لماذا أتبادل مع الأجوار حلويات لم أنتجها بنفسي وقد تكون مشتراة من نفس المحلّ أصلا، ثم إنّ هذه الحلويات لا علاقة لها باحتفالية العيد بل انّه أصبح ضرورة تفرضها كياسة استقبال الضيوف من العائلة بهذه المناسبة أو بعض الأجوار القلائل جدّا“. هكذا عبّر أحد المستجوبين في سياق قراءته لهذا الطقس الديني في أصله ووظيفته الاجتماعية المتغيرة بحسب التحوّلات التي تطرأ على نمط ونسق الحياة الحضرية وخاصة ضمن الأحياء الجديدة.

يتأثّر فعل التهادي بين الجوار إذا انتقلنا من حاضنة إلى أخرى ولا يحافظ دائما على نسقه وحمولاته الدلالية. فعندما ننتقل من النسق المناسباتي والظرفي الذي تحكمه مدوّنة قيم تراوح بين الديني والأخلاقي، إلى نسق اليومي والروتين الاجتماعي، نسجّل عودة تحكّم براديغم التحفّظ الاجتماعي وصرامة الاحتفاظ بصلابة عدم الشفافية تجاه الآخر الشريك في المجال الأكثر قربا. هنا يتّخذ نظام التهادي تراتبية لا تستجيب لمنطق القرب المادي والمجالي بل إلى معقولية اجتماعية فردية هي تحصيل التجربة اليومية للفرد وتمثّلاته لمجاله السكني ولشكل انتمائه للمكان وقبوله اقتحام الآخر الشريك المجالي لخصوصياته التي تمجّدها فرديته وتضعها في تعارض مع الحياة العمومية[48]. فمن أشكال التهادي ما ينتهي عند أوّل جار ملاصق على اليمين أو الشمال أو الجار المقابل إذا تعلّق الأمر بأكثر المعلومات خصوصية والتي تقتفي مورفولوجية انتشارها مورفولوجيا مؤانسة أو مؤالفة تقتضي حميمية صلبة (نادرة في الواقع) لا تبرّر فقط انتقال المعلومة بل تجعله واجبا بما هو اعتراف بهذه الحميمية وتثبيت متانتها وديمومتها. فالأجوار لا يتعاملون بنفس المنطق والمعقولية في التحكّم في مسار انتقال أو إخفاء المعلومة المخصوصة باعتبار وعيهم بأثرها الاجتماعي الذي قد يتعارض مع استراتيجيتهم التواصلية ضمن مجال القرب القائمة على مركزية الغموض وعدم الشفافية والتي تبقي الفرد محتكرا لعناصر تحكمه في إدارة علاقاته مع الغير ضمن الحي بما يتوافق وهذه الاستراتيجية. هنا يشتغل نظام التهادي صورةً لشكل المؤانسة الاجتماعية للفرد ضمن مجاله اليومي من جهة وفعلاً سياسيا بما هو أداة وليس غاية لتحقيق أهداف تتجاوز الظاهر لتتوسّل غير المعلن والخفيّ الذي يشكّل دافع الفعل وغايته التي لا يلتزم الفرد دائما – بتأثير من تجربته الحضرية- بالتصريح أو الاعتراف بها. فتقديم الهدية مثلما قبولها (الملزم) يضع الموهوب أو المعطى له في وضعية دين للواهب تلزمه بأن يظلّ يقضا ومتابعا لأحداث حياة الواهب لردّ الهبة بنفس مستوى الوهب أو بأحسن منه وفي كلا الحالتين تحمل عملية ردّ الهدية مدلولات رمزية ثقيلة التأثير على عملية التبادل الاجتماعي داخل الحيّ. وقد تؤسّس لأرضية تغيير مسار العلاقات بين الأجوار. فتبادل الهدايا هو تبادل لرسائل يمتدّ أثرها إلى نسيج العلاقات بين الأجوار في اتجاه بناء علاقات جديدة أو إنهاء علاقات غير محمودة، أو معالجة رتق في نسيج علاقات الفرد أو مراجعات تمسّ دينامية الحجب والانفتاح. لذلك وجدنا أن الناس في “الحيّ” يتعاملون بحذر شديد مع فعل التهادي وذلك في سياق علاقة وثيقة بوعيهم بأثر تبادل الهدايا على استراتيجياتهم الاندماجية ونمط المساكنة التي يستكينون إليها[49] وتوافق نظرتهم للمجال المحيط، وتصورهم لمكانتهم وموقعهم في شبكة العلاقات الأكثر قربا في مجاليتها وليس بالضرورة في اجتماعيتها. فإخفاء خطوبة البنت أو الولد أو نجاحه في امتحان وطني أو الحصول على عقد شغل مهمّ أو على خلاف من ذلك تعرّض الزوج أو الزوجة أو أحد الأبناء إلى وعكة صحية حادّة أو حادث سقوط وما إلى ذلك من الأحداث السعيدة أو المحزنة أو إعلانه هو فعل مثقّل بحمولة دلالات تعبرُ بنا إلى دينامية القرب والبعد، وتعيد انتاج حميمية قائمة، أو تمتّن حميمية مهترئة، أو تخلق حواجز تسيّج علاقات يراد لها أن تظلّ ضعيفة أو منعدمة أو حبيسة مسافة تباعد غير قابلة أو غير مؤهلة للتبدّل. فالإبلاغُ عن الأحداث أو الحوادث أو عدم الإبلاغ بها يُعَدُّ سلوكا غير عفويّ اجتماعيّا بل هو نتاج مورفولوجيا القرب والبعد الاجتماعي للعلاقات داخل الحيّ قابلة لرسمها في سوسيوغرام [50]حضري. فالنّاس داخل المجال القريب جدّا يرسمون الحدود والفواصل العلائقية خارج منطق الضرورة المجالية فينقلون بأنفسهم عبر وسائط تقليدية مثل الإخبار المباشر أو عبر العلاقات القائمة بين الأبناء أو عبر واسطة جار حميم مشترك أو عبر وسائط حديثة مثل الاتصال الهاتفي أو عبر التواصل الاجتماعي أو عبر المجالات المشتركة التي يتقاطع استعمالها مع شركاء المجال. وفي هذا الإخبار القصدي أو السلس بأحداث خصوصية ومخصوصة تأكيد على مؤانسة تتصفّ بحميمية يُراد لها أن تعيد إنتاج أسباب قوّتها أو متانتها أو تملّك عناصر تقويتها عبر أحد مؤشرات القرب الاجتماعي مثل تبادل الزيارات أو التهادي أو المواساة عند الشدائد (التزاور) أو عند المناسبات السعيدة (التهادي). والهدية هي تعبير رمزي عن مؤانسة اجتماعية وسلوك اجتماعي معقّد يستدعي تصوّرا ما للمؤالفة الاجتماعية وللفردية ولمرئية الذات، يعيد صياغة الرابط بالمجال العام وترتيب نطاقات الحميمي[51]. فسلوك التهادي ضمن المجال السكني موصول بتمثّلات الأفراد للعلاقات بين الأجوار أو بصناعتها أكثر منه بالتعبير عن قيم العطاء والكرم ولذلك عندما يرفض الجار أن تكون له علاقة قرب اجتماعي مع أجوار لا يرضيه قربهم الاجتماعي فإنّه يتعمّد الاستمرار في عدم الشفافية وعدم المرئية بالنسبة لهم عبر استراتيجية التحفّظ ودينامية الحجب في معنى خلق حواجز تواصلية تمنع أو تقلّل من إمكانية بلوغ المعلومة لهم حتّى لا يتمّ توظيفها في اختراق هذا السياج الاجتماعي والتواصلي الموضوع من قبله. فالهديّة أو الهبة كنظام اجتماعي تقوم انثروبولوجيا على الزامية القبول والردّ [52]التي إن تورّط فيها الفرد الرافض للقرب الاجتماعي فإنّ القوّة القهرية للقيم الجماعية تفرض عليه التبادل في بعده الرمزي والاجتماعيّ وليس الماديّ. فردّ الهدية أو تبادل فعل التهادي هو فعل اجتماعي مشبّع بحمولة دلالية فيها بثّ لمضامين كثيرة مثل الاستلطاف أو القبول أو فكّ شفرة التباعد الاجتماعي وما إلى ذلك. هذا السلوك غير ملاحظ وغير قابل للملاحظة المباشرة وإنما ينتهي إليه البحث السوسيولوجي استنادا لتأويل خطاب المبحوثين وتواتر مضامينه في عدد من المقابلات. ذلك ما تحيلنا إليه أجوبة عدد من المستجوبين الذين يعتبرون حياتهم الخاصة وما يطرأ عليها من أحداث وحوادث هي عالم شديد الخصوصية وبالتالي فهو أضيق من أن يكون قابلا للتعميم بسهولة ضمن مجالهم الأكثر قربا. فهم يحيطون حياتهم الشخصية ومجالاتهم الخاصة بغموض مفتعل وقصدي، ويضيّقون فرص النفاذ إليه عبر اختصار علاقاتهم القريبة جدّا ضمن الحيّ في مستواه الأدنى الذي يستجيب لتمثّلاتهم ولانتمائهم للمجال الحضري المشغول من جهة، وتحكّمهم في شبكة انتقال المعلومة المتعلّقة بالحياة الخاصة بين الأجوار من جهة ثانية، وذلك عبر تفاهمات يقيمونها مع شبكة علاقاتهم الحميمية تصنّف المعلومة أو الخبر ضمن الأسرار وبالتالي تضييق نطاق المعرفة بها وتداولها من جهة واتخاذها طابع الحميمية من جهة ثانية مضمونها، من ذلك قول (أ. م) “في كثير من الأحيان أمرض وأشفى أو يحصل لي أي حادث أو حتّى في نجاحات أبنائي لا أُعلم ُأجواري بها أبدا ، فقط بعض صديقاتي وأؤكّد عليهم دائما بعدم إعلام الاّ صديقاتنا وهنّ لا يتجاوزن عدد أصابع اليد الواحدة. هناك كثير من الأجوار تصنع لهم هذه المناسبات فرصة مناسبة جدّا لاقتحام حياتنا وفرض أنفسهم علينا عبر إحراجنا بالزيارة أو بتقديم هدايا النجاح والزواج أو غير ذلك وأنا صراحة لا أريد لهذه العلاقات أن تتجاوز حدود تبادل السلام والابتسامات أثناء الدخول والخروج فحسب. لا أريد الاختلاط بهم ولا أريد أن يدخلوا بيتي[53]. في ذات السياق نفهم امتناع بعض الأجوار عن إشهار الفرح الذي يفتح بالنسبة إليهم ثغورا في سياج المباعدة والفصل أو العزل الاجتماعي، إذ ينفذ منها غير المرغوب فيه إلى عالم الخاص وغير القابل لاستقبال غير الحميمي أو غير المكافئ من الأجوار. فسلوك الامتناع عن إقامة احتفالية الفرح بالأحداث والمناسبات السعيدة أو نشر معلومة الخبر الحزين استراتيجي بما أنّه يترك للفرد قدرة أوسع على اللعب والتصرف ومفاوضة اندماجه في مجاله الخاص عبر ما أسميناه بدينامية الشفافية والحجب. فكلّ رؤية للعلاقة بالآخر- الشريك مجاليا- تقترن بشكل مخصوص من الشفافية التي تترجم قرب الفرد أو تباعده الاجتماعي عبر دينامية الكشف والحجب التي تحكم العلاقات وترسم جغرافية اجتماعية لا تتناسب ضرورة مع الجغرافيا المجالية.

3- 2- دينامية تزاور الأجوار: تمثل الحيّ بين مؤانسة القرب وكوزموبوليتانية [54]الرؤيا[55]:

يمنح استدعاء التحفّظ – كبراديغم سلوكي مؤسس لمشترك علائقي بين سكّان الحيّ والأجوار- دلالةً اجتماعيةً لندرة تقليد التزاور بين الأجوار الأكثر أو الأقلّ قربا فيما بينهم في يوميّ الحياة الجماعية ضمن هذه الأحياء. فالنّاس لا يطرقون أبواب بعضهم البعض ولا تلمس أيديهم حديدها أو خشبها ولا تطأ أقدامهم حديقة المسافة الواصلة والفاصلة بين الباب الخارجي المكشوف أو المرئي (عتبة/ الغريب) والباب الداخلي المخفيّ والمعتّم (معبر الأليف اجتماعيا) لمنزل الجارّ إلاّ ضرورة. والأصحّ في القول أن نتحدّث عن الضرورات بما أنّ حكم الضرورة يختلف في تقييم النّاس داخل الحيّ وذلك في تبعية ثابتة لمتانة الروابط الاجتماعية بين الأجوار أو ضعفها. فما يتّخذ قوّة ضغط أوسع تلزم الجار أن يزور في حالة علمه بوضعيات فرح أو حزن يعيشها جاره الملاصق أو المقابل له لا يحمل نفس قوّة الالزام إذا تعلّق الأمر بالأجوار الأبعد مكانيّا، غير أنّ المعادلة قد تنقلب لتلغي أو تضعف أثر القرب المجالي في اتّجاه يجعل الجار أكثر حرصا على زيارة أجوار أبعد مكانيّا وعدم تبادل الزيارات مع الأكثر قربا مجاليّا لكن الأقلّ قربا اجتماعيا. يتكرّر هذا السلوك الذي ينحرف بالمعادلة بين المجالي والاجتماعي ضمن دينامية البعد والقرب في اتّجاه تحييد قوّة تأثير القرب المادي في شكل المؤالفة غير التقليدية (غير القرابية) [56]التي تحكم الروابط الاجتماعي بين الأجوار ويتغاير تأثير معايير القرابة الدموية (الهوية القرابية) أو المجالية (الهوية الجغرافية) أو الانتماء المهني (الهوية المهنية)، ذلك أنّ أكثر من مستجوب ورد على لسانه ” أنا لم أختر جاري ولذلك لست ملزما أن أكون منفتحا على الجار الجنب. التلاصق المادي بيننا واقع مفروض علينا. أنا لا أجد راحتي مع أجواري الملاصقين لي جدا. فعلاقاتي بهم أكثر من سطحية ولا أهتم لأحوالهم ولا أرى ضرورة لزيارتهم ودخول بيوتهم في كل مرة أعرف أنّ لهم حدث سعيد أو محزن. اكتفي في الحقيقة بالتعبير عن التضامن الشفهي عندما اعترضهم خارج المنزل. علاقاتي أكثر حميمية وقربا مع أجواري في الشارع الخلفي للشارع الذي أسكنه ونتبادل الزيارات حتى في الوضعيات العادية، طباعنا متقاربة جدّا وكلانا نحترم كثيرا خصوصية بعضنا البعض، لا أحد منا يعرف أكثر ممّا يجب عليه أن يعرف عن الآخر وهذا صراحة ما يريحنا وما يصنع صداقتنا “[57]. إنّ التجاور المادي أو القرب المجالي بين الأجوار المتلاقين أو المتقابلين إنما يولّد مساحة أوسع للتلاقي وجها لوجه والاحتكاك اليومي الذي يؤدي عدم احترام المبادئ الأخلاقية للكياسة أو انتهاج المعاملة بالكيفيات نفسها إضافة إلى اختلاف الحكم على السلوكات والأفعال، إلى تراكم المضايقات وتوسّع دائرة الضجر والانزعاج يخلق استمرارها لفترة طويلة حالة من عدم اليقين تولّد شعورًا بعدم الأمان[58] يحكم علاقات الأجوار فيما بينهم ويكيّف بعمق ممارساتهم اليومية في اتجاه التمترس بسلوك التحفّظ والتباعد الاجتماعيين الذين يضعفان حضور سلوك التزاور وتواتره كأحد مؤشرات قياس قوة الرابط الاجتماعي بين الأجوار داخل الحي وتقييم تمثّلاتهم لذواتهم ولعلاقاتهم بمجالهم السكني.

يختلف تبادل الزيارات في المناسبات السعيدة جوهريا عن التزاور في المناسبات الحزينة. فلكلّ وضعية منطقها وقيودها ومساحة التصرّف المخصوصة. فإذا كان التزاور في الوضعيات المؤلمة مثل التعرّض للحوادث أو المرض أو الموت يتّخذ قوّة الزامية أقوى ممّا هي عليه في حالة التزاور في الوضعيات السعيدة، فإنّه لا يستقي قوّته الاكراهية من حجم التقارب الشخصي بين الأجوار الذي تتغاير بحسبه درجات التضامن وحجم الحضور عند الوضعيات الاستثنائية وإنّما ممّا للموت في الثقافة الجماعية من قدسية تُعلي طقوس التضامن والتآزر التي تقفز على روتين اليومي وتحيّد مشاكله وتلين معه صلابة التحفّظ والتباعد الاجتماعيين كقاعدة سلوكية مشتركة. فكثيرا ما يتكرّر على لسان مجتمع البحث بمختلف فئاته مثل هذه المضامين: “ ما ينسّي الناس مشاكلهم ويقرّبهم من بعضهم إلاّ الموت الذي تذوب عنده كلّ الخلافات والمسافات ولو لبعض الوقت. المهم أنّها تكسر حاجز العزلة والتردّد بين الأجوار. ومن ينساك في الموت لا يكون له مكان في الأفراح. للموت حرمة وزيارة أهل الميت صدقة وواجب يفرضه الدين والأخلاق[59] مّما يعني أنّنا أمام خطاب يصنعه مشترك ثقافي ينسج وحدة السلوك ويكبت ظرفيا بنية العلاقات والروابط اليومية المتصدّعة ويفترض للحظة تضامنا عابرا تفرضه قوّة تأثير المشترك القيمي الجماعي لكنّها لا تضمن استمراريته ولا تصنع ديمومته في الزمن الاعتيادي. من أجل ذلك لا يكون لهذه الطقوس التضامنية أثر بائن على نسيج الروابط الاجتماعية الروتينية بين الأجوار. فالتزاور المناسباتي ضمن الحياة الحضرية داخل هذه الأحياء كمثل العلاقات الطيّارة التي تميّز الحياة المعاصرة، تنتهي بنفس السرعة التي تتشكّل بها[60] ولا تصمد صلابتها المعلنة أمام اختبار المشاكل اليومية. فهي روابط سائلة أو بعبارة كاترين جارفي” علاقات الجيب العلوي” يمكن للفرد أن يخرجها من جيبه متى شاء[61]. وهي لا تملك شروط إدامة صلابتها أو ضمان صمودها أمام النسق السريع لتبدّل الوضعيات في حياة سائلة “تعلّم أسبقية التخلّص من الأشياء على تملكها صار أحد فنون الحياة الحديثة السائلة وإحدى المهارات اللازمة لممارستها”[62]. فالمدينة عند باومان أصبحت وعاءً مائعًا لجميع أنواع السيولة بما فيها سيولة الحبّ[63].فقد يظلّ الجار منقطعا عن جاره بعد هذا النفاذ الى داخل سكن جاره في المناسبات الفرحة أو الحزينة، لسنوات طوال من انتهاء علاقات الجيرة عند السور الخارجي وبابه. وهو ما عبّرت عنه احدى المبحوثات بقولها “لو كان تمنّي المناسبات الحزينة جائزا لتمنيناه لبعضنا البعض في الحيّ حتى نصنع سببا قويا لفكّ عزلتنا عن بعضنا وغربتنا. فلم يدخل بيتي بعض أجواري منذ سكنت في الحي لأكثر من 10 سنوات تقريبا[64]. يبدو أنّ النسق المتسارع لتشكّل وسقوط العلاقات الاجتماعية بين الأجوار في الساكنة الحضرية في حياتنا الحديثة جعل الخوف السائل بعبارة باومان براديغما سلوكيا بالغ التأثير في أبسط جزئيات حياتنا مع الآخرين الذين لا يحيطوننا فحسب، بل يحاصروننا برغبتهم في تجاوز حدود المرئية التي نرسمها لهم اجتماعيا ونستدعي لها علامات مادية ومجالية تعيد انتاجها وتكرار بثّ رسائلها في محيط مجالنا الخاص. إنّ قبضة الخوف من توسّع مساحة الشفافية بالنظر إلى الآخرين تضع الفرد اجتماعيا في “تدريب مستمرّ على الاختفاء والذوبان والانسحاب والرحيل” [65] تفقد فيه أحيانًا كثيرةً سلوكات مثل التهادي والتزاور، وتعبيرات التضامن والتآزر معانيها ومدلولاتها الاجتماعية الموصولة بالآخر لتستحيل شكلا من أشكال توسيع الباب الذي يفصل وتضييق الجسر الذي يوصل بغاية توسيع مساحة الأمان الاجتماعي التي تحتفظ في حياتنا الحديثة بعلاقة عكسية مع توسّع العلاقات والروابط الاجتماعية مع الأجوار ضمن المجالات الحضرية الجديدة. فأمن الفرد المبدع والمحرّر لذاته عند تورانTourain[66]، لا يتحقّق في توسّع تشبيكه الاجتماعي داخل الحي بل في انحصار شبكة علاقاته الاجتماعية حيث يحتفظ بهامش أوسع بالتحكم في شكل المؤالفة الاجتماعية التي ترتضيها تمثلاته لمجاله المشترك ولتجربته الحياتية في المجال الحضري. هذه التجربة التي تصنع لدى كثير من الأجوار قناعة شديدة الصلابة بدراماتورجية علاقات القرب التي تفرضها مورفولوجيا الحيّ. فهي علاقات هشّة وأساسها أوهن من أن يعقد حولها الفرد حميمية تغري بتعميق وتشبيك علائقي لا يملك مقوّمات ديمومته واستمراريته. لذلك تقول احدى المستجيبات: ” لا يلزمني بالبقاء في هذا الحي سوى ارتباطات ابنائي بمدارسهم ولذلك أنا أحافظ على حد أدني من الاختلاط بالأجوار وأتحاشى تعميقها أو قطعها في نفس الوقت. فالناس هنا لا ثابت لهم كل ما تراه عينك من ظاهر العلاقات خادع لأنه معطى للاستهلاك اليومي ويتكرّر بنفس الشاكلة مع غيرك. أساس العلاقات بين الأجوار هشّ جدا وشديد القابلية للتبدّل إلى الضدّ بمجرّد أن يتعارض نشاطك أو تصرفك مع مصالحهم أو يتكون في حاجة إلى تضامنهم معك. سينفرط عقد الودّ وتكتشف زيف ما يبدو عليهم أو ما يريدون إيهامك به“.[67]

4- خاتمة:

يتأكّد في نهاية البحث أن ما أسميناه بالفرد غير الشفاف هو توصيف قريب جدا من الواقع اليومي للأفراد في نمط حياتهم داخل المجال الحضري الأكثر فرضا للقرب في بعديه المجالي والاجتماعي وهو ” الحيّ”. هذا المجال الذي يخلق حقلا للتفاعلات الاجتماعية ويضع الأفراد في علاقات وجه لوجه لا يستجيبون لها بالشكل ذاته. فما يكشفه تتبّع حياة الناس داخل المجال الحضري هو هذا التلوّن في استراتيجيات الاندماج ضمن المجال، واختلاف ديناميات التعاطي مع ظواهر القرب المجالي والاجتماعي وما يفرضانه من أنماط علاقات ونماذج سلوك اجتماعي أو مؤالفات اجتماعية. ذلك أنّ انتقال النّاس من المجالات القديمة الريفية أو القروية أو الحضرية التي تشكّلت ضمنها هوياتهم المجالية وتمثّلاتهم للعلاقات مع الآخر وتمظهراتها السلوكية إلى مجالات جديدة خلق لديهم شكلا من التحفّظ الاجتماعي الذي فرض على الأفراد أولوية تحقيق الأمان الاجتماعي الذي وجده غالبية المبحوثين في دراستنا هذه في ديناميات التباعد الاجتماعي وما تمليه من اتخاذ مسافات تبقي على مجهوليتهم ولا مرئيتهم الاجتماعية تجاه الآخر الذي ينكشف غريبا، وبالتالي مهدّدا بشفافية تُذكي قلق الهوية لدى الساكنة الحضرية اليوم بأشكال محتلفة. من هذا المنطلق وجدنا كما أسهبنا في شرحه آنفا أنّ الأفراد في الأحياء الحضرية الجديدة لا يتعاطون مع اكراهات القرب المجالي بنفس الاستراتيجيات التواصلية ومعقوليات التبادل الاجتماعي. ينكشف ذلك في مواقفهم المتباينة لا فقط من سلوكيات التزاور بين الأجوار أو التهادي في المناسبات السعيدة اجتماعيا أو المناسبات الدينية وما تفرضه قيميا من معايير تصرّف وتفاعل مع شركاء المكان والمجال، بل أيضا من حيث فهمهم وتأويلهم للحمولات الرمزية والمعاني الاجتماعية لهذه السلوكيات الاجتماعية. ويشكّل هدف الأمان الاجتماعي مركز فعل الذوات الاجتماعية في مجالها وتواصلها مع شركاء المجال، لذلك يستطيب الأفراد المجهولية المجالية لأنّها تمنحهم هامشا أوسع للتصرّف وللتحكم في مورفولوجيا علاقاتهم الاجتماعية داخل الحي. هنا تسجل سلوكات التزاور والتهادي وتبادل الحوار في الآن ذاته مؤشرات لنمط مؤالفة الفرد داخل مجاله الحضري وأدواته لإعادة بنائها وتطويعها لتستوعب المتغيرات التي تتسلل إلى علاقاته بالأجوار. وهو ما حاولنا أن نفكّك رموزه ومدلولاته عبر تقفي ديناميات الكشف والحجب في مضامينها السلوكية.

5- المراجع:

العربية:

  1. باومان، زيجمونت، الحبّ السائل، عن هشاشة الحياة الروابط الإنسانية، ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2016.
  2. باومان، زيجمونت، الحياة السائلة، ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2016.
  3. باومان، زيجمونت، الخوف السائل، ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2017.
  4. بيك، أولريش، مجتمع المخاطرة، ترجمة جورج كتّورة والهام شعراني، المكتبة الشرقية، بيروت ،2009.
  5. زيمل، جورج، الفرد والمجتمع: المشكلات الأساسية للسوسيولوجيا، ترجمة حسن أحجيج، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2017.
  6. المالكي، عبد الرحمان، مدرسة شيكاغو ونشأة سوسيولوجيا التحضّر والهجرة، افريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2016.
  7. مقبول، إدريس، الإنسان والعمران: رسالة في تدهور الأنساق في المدينة العربية، المركز العربي الأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة/ بيروت، 2020.
  8. موسّ، مارسيل، مقالة في الهبة، أشكال التبادل في المجتمعات الأرخيّة وأسبابه، ترجمة محمد الحاج سالم، (بيروت دار الكتاب الجديد المتحدة،2014).
  9. اليحياوي، شهاب، توزيع الفضاء المديني والتغيّر الاجتماعي، مركز النشر الجامعي، تونس، 2013.

الاجنبية:

  1. Ascher, François, Métapolis ou l’avenir des villes, éd Odile Jacob, paris, 1995.
  2. Authier, Jean-Yves, Les citadins et leur quartier. Enquêtes auprès d’habitants de quartiers anciens centraux en France, L’Année sociologique vol 58, paris,2008/1.
  3. Authier, Jean-Yves, Les rapports au quartier, dans, Jean-Yves Authier (dir.), Bensoussan. B., Yves Grafmeyer, LÉVY J.-P., LÉVY-VROELANT C., Du domicile à la ville. Vivre en quartier ancien, Anthropos, coll. « Villes » Paris,2001.
  4. Castel, Robet, la dynamique Des Processus De Marginalisation, De La Vulnérabilité à La Désaffiliation, cahiers de recherche sociologique n°22, paris,1994.
  5. Chantal, Gaulin. M. Young, Wilmott P, Le Village dans la ville. In : Journal d’agriculture traditionnelle et de botanique appliquée, 30ᵉ année, bulletin n°3-4, Juillet-décembre 1983.
  6. Choay, Francoise, Espacements : L’évolution De L’espace En France, éd Skyra, Milan, 2003.
  7. Coulon, Alain, L’école de Chicago, puf, Paris, 2002.
  8. Cusset Pierre-Yves ,Le Lien Social ,Domaines Et Approches Armand Colin, coll. « 128 », Paris, 2007.
  9. Dubet, François, « La Crise De La ville Aujourd’hui », dans Augustin P. et Gillet J. C., éd Quartiers Fragiles, Bordeaux ,1966.
  10. Fijalkow, Yankel, « Martina Löw, Sociologie de l’espace », Lectures [En ligne], Les comptes rendus, mis en ligne le 07 janvier 2016, consulté le 16 mai 2021. URL: http://journals.openedition.org/lectures/19780; DOI: https://doi.org/10.4000/lectures.19780.
  11. Fijalkow, Yankel. Nicolas Amélie, “Quartiers, rues et espaces publics : éléments pour une histoire des Etudes Urbaines francophones”, Environnement Urbain [Online], Vol 13 ( 2018) On line 03 July 2018, consulté le 29 April 2021. URL : http://journals.openedition.org/eue/2144
  12. Giddens, Anthony, la constitution de la société,éléments de la théorie de la structuration, Puf, paris ,1987.
  13. Grafmeyer, Yves, Habiter Lyon. Milieux et quartiers du centre-ville, Presses Universitaires de Lyon/C.N.R.S./P.P.S.H, Lyon ,1991.
  14. Guy, Tapie, Sociologie de l’habitat contemporain Vivre l’architecture, éd Parenthèses, coll. « Eupalinos », 2014.
  15. Haumont, Bernard. Morel Alain,La société des voisins ; La civilité à l’épreuve de l’altérité, Éd de la Maison des sciences de l’homme, Paris, 2005.
  16. Isaac, Joseph, La Ville Sans Qualité,La tour d’algues, Paris ,1998.
  17. Kaufmann, Jean-Claude, La chaleur du foyer : analyse du repli domestique, Méridiens Klincksieck, Paris, 1988.
  18. Ledrut, Raymond, Sociologie Urbaine, Puf, Paris, 1979.
  19. Lefebvre, Henri, La production de L’espace, éd Anthropos, 1974.
  20. Louise Horn, « Pierre-Yves Cusset, François de Singly, Le lien social », Lectures [En ligne], Les comptes rendus, mis en ligne le 22 février 2008, consulté le 21 aout 2021. URL : http://journals.openedition.org/lectures/539.
  21. Löw, Martina, Sociologie de l’espace, Trad. Didier Renault, (Paris, Maison des Sciences de l’Homme, 2015.
  22. Maffesoli, Michel,« Le Quotidien Et Le Local comme Espaces De La Sociabilité », dans M. Audet et H. Bouchikhi, Structuration Du Social Et Modernité avancée, presses de L’université de Laval, Québec, 1993.
  23. Mauss, Marcel, Essai sur le don : Forme et raison de l’échange dans les sociétés archaïques, 1923, 2e éd, Puf, Paris, 2012.
  24. Mercure, Daniel et Marie-Pierre Bourdages-Sylvain, Société Et Subjectivité. Transformations Contemporaines, éd université Laval, Québec, 2021.
  25. Morin(E.M), Lévesque (D), Hogue (J.P), Groupe, Pouvoir, Communication, presses de L’université du Québec, Québec ,1988.
  26. Morin Richard. Rochefort Michel, Quartier et lien social : des pratiques individuelles à l’action collective, Lien social et Politiques, n39, paris, printemps 1998, https://doi.org/10.7202/005194ar,cosulté le 17 juillet 2021.
  27. Oliver, Frey, « Sociologie urbaine ou sociologie de l’espace ? Le concept de milieu urbain », Sociologies [En ligne], Dossiers, ( 15 novembre 2012), consulté le 18 juillet 2021. URL: http://journals.openedition.org/sociologies/4168; DOI: https://doi.org/10.4000/sociologies.4168.
  28. Paugam, Serge, Le lien social, Que sais-je? Presse universitaire de France, paris ,2008.
  29. Pennec Simone, Les pratiques de la ville entre anonymat et proximité, Garder une relation urbaine au monde , Les Annales de la recherche urbaine n°100, 2006.
  30. Simmel, George, « Métropoles et mentalités » (1903), cité par Dussuet. A, « Femmes des villes : des individus ou des personnes ? » dans DenèfleS, (dir.), Femmes et villes, Presses universitaires François Rabelais, Tours ,2005.
  31. Simmel, George, Sociologie et épistémologie, Puf, col sociologies, Paris 1981.
  32. Smyrnelis, Marie-Carmen, “Postface. Réinterroger le(s) cosmopolitisme(s) en contexte urbain dans l’aire méditerranéenne”, Diasporas [Online], 28 | 2016, On line depuis 28 juin 2017, consulté le 31 Mai 2021. URL : http://journals.openedition.org/diasporas/661 ; DOI :
  33. Tourain, Alain, Défense De La Modernité, Seuil, Paris ,2018.
  34. Wieviorka, Michel, La Violence, Balland, Paris ,2004.
  35. Wieviorka, Michel, Neuf Leçons De Sociologie, Fayard, Paris ,2010.

[1]– ونقصد بها غير الروتينية والمتّصلة بالحالات السعيدة كالنجاح في امتحان أو الخطية أو الزواج أو الحصول على شغل أو اقتناء سيارة أو بالحالات الحزينة مثل المرض والموت والضياع والحوادث وما الى ذلك.

[2]– Simone Pennec, Les pratiques de la ville entre anonymat et proximité, Garder une relation urbaine au monde, Les Annales de la recherche urbaine n°100, 2006, Pp.51- 58.

[3]– George Simmel, « Métropoles et mentalités » (1903), cité par Dussuet. A, « Femmes des villes : des individus ou des personnes ? » in (dir.), Femmes et villes, Presses universitaires François Rabelais, Tours, 2005, Pp 359-378.

[4]– François Ascher, Métapolis ou l’avenir des villes, éd Odile Jacob, paris ,1995.

[5]– George Simmel, Sociologie et épistémologie, Puf, col sociologies, Paris 1981, p 15.

[6]– Jean-Yves Authier, Les citadins et leur quartier. Enquêtes auprès d’habitants de quartiers anciens centraux en France, L’Année sociologique 2008/1 (Vol. 58), p 21-46. 

[7]– Frey Oliver, « Sociologie urbaine ou sociologie de l’espace ? Le concept de milieu urbain »Sociologies [En ligne], Dossiers, (15 novembre 2012), consulté le 18 juillet 2021. URL: http://journals.openedition.org/sociologies/4168; DOI: https://doi.org/10.4000/sociologies.4168.

[8]– سمي حي بن يدر نسبة الى مالك الأرض وهو أحد فروع عائلة بن يدر، وهو الأكبرُ والأقدمُ…. ويقع بجانب حي الياسمين الذي يقدمه ببضع سنوات. وقد انطلق البناء ضمن هذا الحي سنة 2011 تقريبا بحسب معاينتنا المباشرة منذ استقرارنا بحي الياسمين سنة 2008. وقد شيد أحد افراد مالكي الأرض جامع النخيل (2014) على مدخل الحي قبالة الشارع الرئيسي الذي يشق المدينة ويربط بينها وبين برج العامري منه باجة وبين أحياء تونس الجنوبية في اتجاه العاصمة. وقد اخترنا من بين مجتمع الدراسة 36 حالة لإجراء مقابلات نصف موجهة. وتستجيب الفئة المبحوثة إلى متغيرات الجنس (نصف إناث ونصف ذكور) ومتغير الفئة العمرية (ثلاث فئات عمرية. 6 اشخاص من كل فئة عمرية) ومتغير الوضعية الاقتصادية.

[9]– Yankel Fijalkow, « Martina Löw, Sociologie de l’espace », Lectures [En ligne], Les comptes rendus, mis en ligne le 07 janvier 2016, consulté le 16 mai 2021. URL : http://journals.openedition.org/lectures/19780 ; DOI : https://doi.org/10.4000/lectures.19780.

[10]– François Dubet, « La Crise De La ville Aujourd’hui », dans Augustin P. et Gillet. J. C., éd Quartiers Fragiles, Bordeaux ,1966, Pp 23-26.

[11]– Richard Morin. Michel Rochefort, Quartier et lien social : des pratiques individuelles à l’action collective, Lien social et Politiques, n39, paris, printemps 1998, p 103–114, https://doi.org/10.7202/005194ar,cosulté le 17 juillet 2021.

[12]– Yankel Fijalkow. Amélie Nicolas, “Quartiers, rues et espaces publics : éléments pour une histoire des Etudes Urbaines francophones”, Environnement Urbain [Online], Vol 13 ( 2018) On line 03 July 2018, consulté le 29 April 2021. URL: http://journals.openedition.org/eue/2144

[13]– Y. Fijalkow. A. Nicolas, op cit.

[14]– Gaulin Chantal. Young M., Wilmott P, Le Village dans la ville. In: Journal d’agriculture traditionnelle et de botanique appliquée, 30 années, bulletin n°3-4, Juillet-décembre 1983, Pp 319-320.

[15]– Alain Coulon, L’école de Chicago, puf, paris, 2002.

[16]– Yves Grafmeyer, Habiter Lyon. Milieux et quartiers du centre-ville, Presses Universitaires de Lyon/C.N.R.S./P.P.S.H, Lyon ,1991.

[17]– Simmel, op cit, Pp 359-378.

[18]– Serge Paugam, Le lien social, coll. Que sais-je ? Presse universitaire de France, paris, 2008, p86-106.

[19]– Anthony Giddens, la constitution de la société, éléments de la théorie de la structuration, Puf, paris ,1987, p75.

[20]– Giddens, op cit.

[21]– Henri. Lefebvre, La production de L’espace, éd Anthropos, 1974, p 44.

[22]– Raymond Ledrut, Sociologie Urbaine, Puf, Paris, 1979, p 117.

[23]– جورج زيمل، الفرد والمجتمع: المشكلات الأساسية للسوسيولوجيا، ترجمة حسن أحجيج، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 207، ص 109.

[24]– Richard Morin. Michel Rochefort, op cit.

[25]– زيمل، مرجع سابق. ص 229-230.

[26]– إدريس مقبول، الإنسان والعمران: رسالة في تدهور الأنساق في المدينة العربية، المركز العربي الأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة/ بيروت، 2020، ص52.

[27]-Tapie Guy, Sociologie de l’habitat contemporain Vivre l’architecture, éd Parenthèses, coll. « Eupalinos », 2014, p 13.

[28]– Joseph Isaac, La Ville Sans Qualité, La tour d’algues, Paris ,1998, p 23.

[29]– Michel Wieviorka, La Violence, Balland, Paris, 2004, p 286.

[30]– Jean-Yves Authier, Les rapports au quartier, dans, Jean-Yves Authier (dir.), Bensoussan. B., Yves Grafmeyer, LÉVY J.-P., LÉVY-VROELANT C., Du domicile à la ville. Vivre en quartier ancien, Anthropos, coll. « Villes », Paris ,2001, Pp 329-331.

[31]– Michel Maffesoli, « Le Quotidien Et Le Local comme Espaces De La Sociabilité », dans M. Audet et H. Bouchikhi, Structuration Du Social Et Modernité avancée, presses de L’université de Laval, Québec ,1993, Pp 103-218.

[32]– Lefebvre. H, op cit.

[33]– Robet Castel, la dynamique Des Processus De Marginalisation, De La Vulnérabilité à La Désaffiliation, cahiers de recherche sociologique n°22, paris, 1994, Pp11-27.

[34]– Francoise Choay, Espacements : L’évolution De L’espace En France, éd Skyra, Milan, 2003, p 27.

[35]– عبد الرحمان المالكي، مدرسة شيكاغو ونشأة سوسيولوجيا التحضّر والهجرة، افريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2016.ص 104-105.

[36]– المالكي، ص 43-45.

[37]– زيمل، مرجع سابق. ص 243-252.

[38]– انظر شهاب اليحياوي، توزيع الفضاء المديني والتغيّر الاجتماعي، مركز النشر الجامعي، تونس، 2013).ص 229-230.

[39]– انتهينا استنادا الى الكم الواسع من الملاحظات المباشرة المدوّنة ضمن مجتمع الدراسة المذكور في مقدمة البحث حول طرق وكيفيات تصرف الناس في مجالهم الخاص الذي هو المسكن وخاصة واجهة المنزل، إلى أنّ أكثر الناس تدخلا في الواجهة وإدخال تحسينات متكررة عليها في اتجاه الضخامة والجمالية هم الذين يجاورون من هم أقلّ منهم مستويات مادية. فكأنّما الاشتراك في نفس الحي مع التفاوت الطبقي مصدر قلق شخصي لهم يدفعهم الى التعبير عن اختلافهم أو تميّزهم الطبقي أو الفئوي عبر واجهة الدار. هم بذلك يعلنون أنهم أعلى طبقة أو انتماء فئوي ويرسمون رؤيتهم لأنفسهم وهويتهم وموقفهم من الغير ضمن الحي عبر التخالف المعمار والجمالي والذي يناسبه تصرّف تواصلي شديد التحفّظ والتباعد والإصرار على شكلية الرابط وعدم خروجه عن الطابع الوقتي والاستثنائي غير القابل للتكرار.

[40]– Louise Horn, « Pierre-Yves Cusset, François de Singly, Le lien social », Lectures [En ligne], Les comptes rendus, mis en ligne le 22 février 2008, consulté le 17 aout 2021. URL : http://journals.openedition.org/lectures/539 ; DOI : https://doi.org/10.4000/lectures.539

[41]– في معنى تبادل المواد الغذائية أو الحلويات أو المرطبات الخاصة بالاحتفالات في المناسبات الدينية أو تبادل الخضر أو الثمار المنتجة محليا في حديقة المنزل أو ثمرة عمل فلاحي. ويشمل أيضا الهدايا الممنوحة للأبناء بمناسبات التفوق أو النجاح الدراسي أو في مناسبات ختان الذكور أو خطبة أو زاج أبناء الجيران.

[42]– Marcel Mauss, Essai sur le don: Forme et raison de l’échange dans les sociétés archaïques, 1923, 2e éd, Puf, Paris, 2012.

[43]– موس. مارسيل، مقالة في الهبة، أشكال التبادل في المجتمعات الأرخيّة وأسبابه، ترجمة محمد الحاج سالم، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2014،ص20.

[44]– المرجع نفسه،ص20.

[45]– مقابلة شخصية أجريت مع أحد الأجوار م. ط بتاريخ 04 أفريل/نيسان 2021.

[46]– مقابلة شخصية أجريت مع ف. ع بتاريخ 04 أفريل/نيسان 2021.

[47]– هكذا هو التقسيم في البلاد التونسية حيث يطلقون على عيد الفطر بالعيد الصغير نسبة الى أنه أقل مشقّة و تطلّبا لكثافة الاستعداد التي نجدها في عيد الأضحى (العيد الكبير) الذي يترافق في ذاكرة الذهنية التونسية مع مشاق شراء الأضحية والاعتناء بها وحراستها، فضلا عن كونه متعب كثيرا للمرأة بالأخص، وذلك ارتباطا بما يفرضه من أحداث وأفعال تتعلق بالذبح والغسل والشواء وتحضير لِما يسمى بالتونسي ” العصبان” الذي يتناول في التقاليد التونسية في اليوم الثاني للعيد.

[48]– Michel Wieviorka, Neuf Leçons De Sociologie, Fayard, Paris, 2010, p 47.

[49]– هذا ما استنتجناه من مقابلاتنا مع عدد مهم من الحالات المدروسة والتي عبّروا فيها عن كفرهم بالعفوية في الفعل الاجتماعي ضمن حيهم السكني لأنّ ذلك قد يورطهم في الانفتاح على علاقات قد تضعهم في التزامات لا يريدونها أو تبادل زيارات تضعف عدم شفافية اجتماعية يريدون أن يحتفظوا بهامش غموضها الذي يسمح لهم بحرية أوسع في التحكم في نسيج العلاقات وفي إحاطة أنفسهم بصورة خارجية يرتاحون لها. وهي نتاج فهم خارجي للأفراد ونتاج علاقات سطحية وغير مطّردة وعقلانية لا تعبّر فيه تبادل الحوارات والابتسامات والعبارات عن مؤانسة حميمية ولكنها تنتج ارتياحا وراحة يستكين لها كثير من المتساكنين اليوم. ولذلك فهم يتعمّدون الإبقاء على غالبية العلاقات في مستوى هذه السطحية التي لا تسمح للآخر الشريك المجالي للولوج الى خصوصياته أو معرفة أخباره وفي نفس الوقت تمنح له مبرّرات عدم التهادي بعامل علمهم بجهله بأخبارهم.

[50]– Morin (E.M), Lévesque (D), Hogue (J.P), Groupe, Pouvoir, Communication, presses de L’université du Québec, Québec ,1988. Pp 34-46.

[51]– Daniel Mercure et Marie-Pierre Bourdages-Sylvain, Société Et Subjectivité. Transformations Contemporaines, éd université Laval, Québec, 2021, p 2.

[52]– Mauss, Marcel, op cit.

[53]– مقابلة شخصية أجريت مع (أ.م) بتاريخ 03 أفريل/نيسان 2021.

[54]– والمقصود هنا بكوزموبوليتانية الحياة الحضرية لا المدينة العالمية، أي بمعنى يحيلنا إلى التنوّع والتعدّد في الرساميل الثقافية وتعايشها ضمن تماسها الذي يوجده القرب المجالي والتواجد المعيّ بالمجال الحضري القريب. فالمدينة اليوم هي مدينة الأفراد تحيل إلى تعدّد في هويات الأفراد وحتى إلى هوياتهم الهجينة. وهو مفهوم يصعد إلى مدرسة شيكاغو مع بارك Park. هو يتخّذ لديه أحيانا معنا إيكولوجيا، وأحيانًا كنوع من العلاقة الاجتماعية الخاصة بالمدينة، وأحيانًا يتم وصفه على أنه أفق سياسي في سياق الحداثة. على أنّ التعايش تحت مظلّة الاختلاف والتعدّد يشترط عنصر الاعتراف المتبادل لشقّ مسارات تواصل يتعالى عن التخالف ولا يلغيه. لا ننظر إليه ضمن هذا السياق التحليلي كمقولة سياسية بل نستدعي بعده الاجتماعي الذي يحيلنا إلى تكوين الروابط ذات الطبيعة المختلفة (التحالفات الزوجية، القرابة، القرابة الروحية، الجوار، التواصل الاجتماعي، العلاقات المهنية، إلخ) التي تتشكل بين السكان مهما كانت خلفيتهم الاجتماعية ومهما كانت انتماءاتهم.

Marie-Carmen Smyrnelis, “Postface. Réinterroger le(s) cosmopolitisme(s) en contexte urbain dans l’aire méditerranéenne”, Diasporas [Online], 28 | 2016, On line depuis 28 juin 2017, consulté le 31 May 2021. URL : http://journals.openedition.org/diasporas/661 ; DOI :

[55] Authier, Les citadins et leur quartier. Enquêtes auprès d’habitants de quartiers anciens centraux en France, Pp 21 – 46.

[56]– Jean-Claude Kaufmann, La chaleur du foyer : analyse du repli domestique, Méridiens Klincksieck, Paris, 1988).

[57]– قمنا بتلخيص ما تقاطع في خطابات أكثر من شخص (08 من 12حالة مدروسة) من فئات عمرية وجنسية مختلفة أجرينا معهم مقابلات في تواريخ متباعدة امتدت من 03 الى 20 أفريل/نيسان 2021.

[58]– Bernard Haumont. Alain Morel, La société des voisins ; La civilité à l’épreuve de l’altérité, Éd de la Maison des sciences de l’homme, Paris ,2005, Pp 1-20.

[59]– مقابلة أجريت السيد (س.بك) بتاريخ 05 أفريل/نيسان 2021.

[60]– أولريش بيك، مجتمع المخاطرة، ترجمة جورج كتّورة والهام شعراني، المكتبة الشرقية، بيروت، 2009، ص 255-261.

[61]– زيجمونت باومان، الحبّ السائل، عن هشاشة الحياة الروابط الإنسانية، ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2016، ص56.

[62]– زيجمونت باومان، الحياة السائلة، ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2016، ص22.

[63]– باومان، الحبّ السائل، عن هشاشة الحياة الروابط الإنسانية، مرجع سابق، ص 51-55.

[64]– مقابلة أجريت مع السيدة (ك.ج) بتاريخ 20 أفريل/نيسان 2021

[65]– زيجمونت باومان، الخوف السائل، ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2017، ص 28.

[66]– Alain Tourain, Défense De La Modernité, Seuil, Paris, 2018, p 21.

[67]– مقابلة شخصية مع ش.م بتاريخ 18 أفريل /نيسان 2021

مقالات أخرى

الفروق الثقافية في التعليم:

قراءة معرفيّة في سوسيولوجيا التّجربة المدرسيّة:

سيميائية التحول الجندري في الرواية التّونسية  بين البحث عن الهوية وتخريبها:

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد