الحرّية الأكاديمية وإشكاليّة إنتاج النّخب في المجتمع الجزائري – في سوسيولوجيا اللّحظة الجيليّة –

    يعلّمنا الدّرس الأركيولوجي ، أن ميلاد نخبة، يخضع لتفاعل صيرورات تاريخية يكتشف فيها العقل الجمعي، أن الزمن السّوسيولوجي قد آذن لميلاد حالة جديدة في التفكير حول منظومات المجتمع السائدة وطريقة مأسستها واشتغالها  في الحقل الاجتماعي.

        ويعلّمنا   تاريخ العلوم ، أن الحرّية الأكاديمية  لا تنفصل عن مشمول الحرّية المجتمعية، فتتحوّل إلى حالة في الثقافة واستجابة في أنماط الخطاب المؤطّر لمؤسّسات إنتاج المعرفة، والمشكّل لمناهج الجدل المولّد للمفاهيم والنظريات ذات العلاقة بالانتظارات المجتمعية.

          لا شك، أن مطلب التحديث، لا يتأتّى دافعه من حالة مزاجية تنتاب عصبة سياسية  أو زعيم ملهم، بل هي مطلب وحالة في العقل النّقدي  يستدعيه منطق التغير الاجتماعي وفواعله الخفيّة   والإكراهات الما فوق اجتماعية ″ تحدّدها عدة متلازمات في أبنية العقل والقوى الكامنة في طبيعة المجتمع ذاته.

       إن التقرير السّوسيولوجي  لحالة ومكانة النّخبة في المجتمع الجزائري وعلاقته ” بالوضعيّة الأكاديمية “ والمؤسّسات المؤطرة  لها، كثيرا ما توصف بأنها “مأزومة  بنيويا”وأن الفاعل السّياسي هو اللاّعب التاريخي الأساس.

   إن الوضعيّة ” المأزومة لحالة النخبة في المجتمع الجزائري انعكس على نتاج خطابها” الذي كرّسته أجيال من الممارسة السياسيّة، حددها “ناصر جابي” في ثلاثة أجيال أساسية، مستندا في ذلك إلى “براديغم” “كارل مانهايم” : فالجيل عنده لا يحدّد بالعمر  والبيولوجيا، ولكن بما يسمّيه “اللحظة الجيليّة أي ذلك الحدث التاريخي الذي يحدّد مسار جيل معيّن يؤثر في ثقافته ورؤيته  للأحداث وتفاعله مع الأجيال الأخرى .. وباختصار يحدّد هويته.

       واستئناسا بأطروحة “ناصر جابي”، تبدو الذخيرة الفكرية والنتاج العلمي والثقافي يمتد على أطراف معادلة ” المكوّن الجيلي” للمجتمع الجزائري فهو مشكّل من ثلاثة أجيال أساسية، احتضنت النّضالية السياسيّة بكل تمظهراتها وتمثلاتها المخياليّة، كما أنتجت في ظل تلك العمليّة – السياسيّة الاجتماعية-مشروعا فكريا يتماهى والرّهانات “المحليّة والما فوق إقليميّة “واضعا هدفا له  إرساء  مرتكزات المشروع التحديثي.

       في إطار هذا التشكيل التاريخي، يقدّر “ناصر جابي”أن المجتمع الجزائري إنبنى على ثلاثة أجيال سياسيّة، أطرت “الحقل الأكاديمي” ومن ثمة إنتاج المعرفة المبررة لوجودها التاريخي. وبالتالي، المتانغمة “أنطولوجيا” مع مفهوم حداثي يرتكن إلى “براديغمات، تضمن إعادة إنتاجه ثقافيا ومؤسّساتيا.

      فالجيل الأول، قاد الحركة الوطنية والثورة، والجيل الثاني، جيل الاستقلال الذي عاش وتعلّم في أحضان الدولة الوطنية، ثم أخيرا الجيل الثالث، جيل أكتوبر 1988، وهو جيل التعددية والحركات الاجتماعية، التي ميّز حضورها جزائر الثمانينات  والتسعينات. إنها ثلاثة أجيال، كوّنت صراعاتها وانتصاراتها وخيباتها الجزائر الحاليّة، بكل ما تعرفه من إيجابيات وسلبيات.

       يتأسّس خطاب سوسيولوجيا التاريخ على مسلّمة مفصليّة مفادها: أن الصراع بين الأجيال ليس بنفس الحدّة دائماً بين كل الأجيال، كما أنه لم يفض إلى أفعال ممأسسة تجلّت على مستوى الفكر.  وهذا ما دفع ” عدّي الهواري “ إلى التّسليم ” إبستيميا  “ بأن التعددية والإصلاحات التي أرسيت بعد الفعل الاحتجاجي لشهر أكتوبر من سنة 1988، يمكن توصيفها “بالصّورية” لأنها لم تلمس الأبنية ومؤسّسات المجتمع الجزائري المؤطرة بعصب مشبعة بثقافة “الاستبداد والاستبعاد” لفكر النخب البديلة، فداومت نفس العصب في المكوّن الجيني لمنظومة      الحكم، على إعادة إنتاج واجهتها النخبويّة ونمط المعرفة والثقافة المتماهية مع قيمها ومشروعها السّلطوي.

       ويعزز “عدّي الهواري” منطوقه في تفسير الحالة الجزائرية المأزومة بالمنتج السّوسيولوجي الذي  انبنى على مصادرة مفادها : أن كل المجتمعات تتأسّس على مصالح وقوى سياسة ويقصد بها القوى الاجتماعية المهيمنة التي تتهيكل في شكل سلطات″، كالسّلطة الاقتصادية والثقافية والدينية والعلميّة”.

   إن الحالة  الجزائرية ” ظاهرة خاصة في سوسيولوجيا النّخبة” فالنخب المهيمنة تبدو خارج التصنيف المتعارف عليه في” معجميّة التّراتب الاجتماعي”، فالنّخب الحاكمة – الظاهر منها  والخفي – لا تريد زعيما ولا دولة قانون، والمجتمع كذلك لا يريد دولة القانون، بدليل أن المواطن الجزائري لا يدفع الضرائب، مثلا ، أو الحقوق الجمركية، وفوق ذلك يعتبر هذه الحقوق ” حرام “ ما كرّس ” ثقافة الاختلاس والرشوة والاستحواذ بغير وجه حق عند الأجيال اللاحقة التي تربّت و صارت تستجيب هابيتوسيا وفق مرتكزات هذه الأبنية الثقافية.

     إن  هذه الحالة تستمد جذورها المؤسّساتيّة من التّشكيل الأوّل لفكرة الدولة الحديثة  في الجزائر، الذي جاء تجسيدا أذاتيا – بسيطا –  فاقدا للقيم الأخلاقية  والسّياسيّة الحديثتين، الذي يشكّل المجال الأكاديمي ونخبه الأداة  المثلى لتحقيق كل القطائع  الإبستيمولوجية، مع معارف الأبنية المهترئة، والانخراط في الحداثة  وإدراك  ما بعدها، بأدواتها الشّرعيّة، وعلى رأسها النّخب المتجليّة عن نفس الشرعيّة التاريخية والفكريّة، ما  أفرز  وضعا نخبويا شاذا، يحرّض  على الاحتماء بالعصبيات، مناوئ لكل نضاليّة تنبني على إعمال العقل العلمي النّقدي فالتقفتها العصب الحاكمة واحتضنتها إستراتيجيا، وحوّلتها لاحقا أداة لمغالبة النخب التّوّاقة للتغيير، ما فوّت على المجتمع الجزائري اللحظة الجيليّة التّاريخيّة، حيث  تم إجهاض مشروع النّخبة في مرحلتها الجنينيّة . ومنه، إعاقة الفكر الأكاديمي الناشئ عن تشكيل عقلاني لأي إدارة عصريّة ومتحضّرة لمكوّنات  ومصالح ومشكلات المجتمع الجزائري وقضايا شأنه العام.

        كما أظهرت النّخب الشّاذة المتحالفة مع المقاولة السّياسيّة المهيمنة على الحقل الاجتماعي الجزائري، عجزها على تأسيس أي ثقافة ديمقراطية معممّة اجتماعيا، مكرّسة لقيم الاختلاف والحوار والتبادل وممثلة لمختلف المكوّنات  والقوى الفاعلة في المجتمع الجزائري.

         إذا، نحن أمام إشكاليّة بنيويّة السّلطة وتمثلاتها للمجتمع الجزائري. دون أن نغفل مفهومها المشوّه للحداثة، الذي أنتج نقيضه الثقافي، الموغل  في الماورائيات والقدريّة، والترويج لثقافة إحياء السّلفيات الميّتة.

 إن هذا الانحباس الفكري، عزّز” فوبيا التغيير”، ما جعل المجتمع بأغلب مكوّناته، يرتكن دون وعي إلى الرّكود العقدي والمقدّس.

        كما أدى الغلق الممنهج  للمجال الأكاديمي ، وتسييجه بيروقراطية تكرّس الانضباط  البافلوفي   حيث اختزلت فواعل الأكاديميات إلى – صفر اجتماعي    وثقافي – وحوّلتهم إلى أجساد يسهل التحكم فيهم بآلية الإجراءات الإدارية.ما فتح المجال للانتماء إلى العصبيات التي بدأت تكثف نشاطها وتنظم نفسها خارج الدولة، ما يؤشّر على بداية تفكك النسيج الاجتماعي الوطني، و تشرذم الفاعلين فيه،  حيث تجلّت الأدوات العنيفة بديلا  لأدوات الحوار الفكري والأكاديمي .

     نخلص القول : حيث توقفت سوسيولوجيا الواقععند محاولة فهم ظاهرة تنامي” منسوب العصبيات” المتصارعة في المجتمع الجزائري، حيث يتجه مؤشّر الصراع باتجاه تدمير السلطة المركزية وتخريب مفهومها، بأدوات معرفية لا تجيد العصب الحاكمة استعمالها، لأنها  أضحت خارج الزمن السّوسيولوجي ومن تلك اللّحظة المفصليّة، أبانت عن عجزها البنيوي والمعرفي. ومنه ، عدم قدرتها على إدارة مجتمع، بكل تناقضات تشكيلته الهوّياتيّة.      

 

مقالات أخرى

أيّ نموذج إيتيقي للإنسانيّة المعاصرة

معطّلات الفهم في الشعر العربي المعاصر

شعريّة اللّباس

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد