مقدمات في مراجعات الفكر العربي وتجديد طروحاته الإيديولوجية مع منعطف الحراكات العربيّة الرّاهنة

طبعا لا يمكن أن نختلف على أن ما تعيشه بلداننا العربية منذ بدايات العقد الثّاني من هذا القرن الحادي والعشرين هو منعطف من المنعطفات الكبرى في تاريخها الحديث والمعاصر. فالحراكات التي بدأت بالثورة التونسية (17 ديسمبر 2010/14 جانفي 2011) وعمّت شطرا واسعا من وطننا العربي، ومخاضاتها المتواصلة إلى يوم الناس هذا، هي من جنس الأحداث التي تدفع بالضّرورة إلى حدوث متغيّرات بنيوية في منطقتنا وتحوّلات في سيرورات تاريخيتها سواء على الصّعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أو في عوالم الثّقافة: الفنون والآداب والأفكار… إلخ. وبالنسبة إلى سيرورة تطوّر البنى الفكريّة والأيديولوجية العربية بالتّحديد، وفي الفترة المعاصرة بالذات، يكاد لا يوجد خلاف حول اقترانها البنيوي والصّميميّ بالمنعطفات التاريخية الكبرى. يكفي فقط أن نذكر أنّ ما نسمّيه بفكر النهضة العربية (الفكر الإصلاحي في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين) كان وليد احتكاكنا بالحداثة الأوروبيّة والحدث الاستعماري (بداية من غزوة بونبارت)، وأنّ حدثا في حجم نكبة الاحتلال الصهيوني لفلسطين عام 1948 كان خلف الصّعود الهائل الذي عرفته الأفكار الإيديولوجية التحرّرية القومية والاشتراكية في أواسط القرن الماضي، وأنّ هزيمة جيوش الأنظمة التي رفعت عاليا راية هذه الأفكار (النّاصرية والبعثية) في عام 1967، قد شكّلت أيضا منعطفا كبيرا لما ستشهده إيديولوجيا الإسلام السياسيّ بأشكالها المختلفة … إلخ.

اعتادت ثقافتنا العربية المعاصرة أن تخوض غمار المراجعات الكبرى، وأن تعيد بناء أسئلة النّهوض العربي الكلاسيكيّة على نحو مغاير، وأن تسوّد، من ثمّة، طروحات فكرية وإيديولوجية جديدة مع كلّ منعطف مفصليّ في تاريخها المعاصر، وفي ضوء ما يفرز من حقائق في الوقائع السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ولا أظنّ أنّ الأمر سيختلف مع منعطف الثورات والحراكات الراهنة. ولعلّ مخاضات المراجعة وإعادة التّفكير قد بدأت في التشكّل والتبلّور في ثنايا تفاعلاتنا الآنية والمباشرة مع مجريات الأحداث وتطوّراتها الدراماتيكيّة في بلداننا التي ثارت شعوبها على أنظمة الاستبداد.

في قادم سطور هذه الافتتاحيّة الموجزة تأمّلات أولى منخرطة في هذا الباب. وأنا أقدّمها للقارئ باعتبارها اجتهادا في وضع بعض المقدمات أو النواظم التي أرى من الجدير بالمثقفين العرب أن يأخذوا بها في أيّ حركة مراجعة للطّروحات والأفكار السائدة في فكر العربي الراهن، وخاصّة منها الإيديولوجية (التي تتغذّى منها الممارسات السياسيّة بشكل مباشر)، وفي محاولة لتجديدها. وهي مقدّمات ثمان تتوزّع بنيويّا، بالتّساوي إلى شطرين: شطر عبارة عن مقدّمات في تأمّل الحدث التاريخيّ المفصليّ الذي نعيش غماره عربيّا اليوم، ولماذا هو موجب لحركة ثقافيّة وفكريّة عربية جديدة، وشطر آخر هو مقدّمات لبعض المحدّدات والنّواظم التي نرى أنّها يجب أن تؤطّر مدارات النّظر والتّفكير في هذه الحركة.

أوّلا: إذا آمنّا أنّ الحراكات العربيّة الرّاهنة حدث مفصليّ توجب حقائقه إطلاق سيرورة ثقافيّة جديدة تفضي إلى مراجعات جذريّة في طروحاتنا الفكريّة والإيديولوجيّة السّائدة، فلابدّ أن نعتبر، أوّلا وقبل كل شيء، بحقيقة تفرّد هذا الحدث التاريخي عن بقية الأحداث المفصليّة التي عرفها تاريخنا المعاصر من حيث أنّه صناعة لحراك جماهيريّ عربيّ أصيل وواسع بالأساس. فلا هو ترجمة لفعل وإرادة أجنبيّتين على نحو الحدث الذي فجّر أسئلة النهضة العربية الحديثة في القرن التاسع عشر، ولا هو نتاج لفعل نخبة (أنظمة حكم فرديّ) كما هو الشأن بالنسبة إلى الهزيمة الحزيرانية في 1967 التي كانت منطلقَ تحوّلات فكرية وإيديولوجية في ثقافتنا العربيّة المعاصرة. وليست هذه الحراكات العربية الرّاهنة حدثا جماهيريّا أصيلا فحسب، بل ثمة مؤشرات تفيد كذلك أنّه ليس بالحدث العارض. فالانتفاضات التي شهدتها كلّ من العراق ولبنان والسّودان والجزائر في أواخر العشريّة، أو ما عُرف بالموجة الثّانية من الحراكات العربية، تفيد أنّ شعوبنا مصمّمة على تحقيق التّغيير الإيجابيّ في بلدانها، وأنّه لا مجال لإغلاق القوس واستمرار الأوضاع على ما هي عليه.

ثانيا: إنّ الجماهير الواسعة التي خرجت في الأقطار العربيّة مطالبة بتنحّي الأنظمة القائمة قد رفعت شعارات تدلّ على بدائل واضحة عندها. وهي بدائل ذات مضامين إنسانيّة كونيّة لا لَبْس فيها، فمطالب الديمقراطيّة والحرّيّة والكرامة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعيّة ومحاربة الفساد وغيرها من الشّعارات التي لهجت بها الجماهير العربية هي بلا شكّ قيم كونيّة باتت “متاحة للبشرية جمعاء” (على حدّ التعبير الشّهير لعبد الله العروي). إنّ انتفاضات الشّعوب العربية مأخوذة في دلالاتها الأصلية، أي مأخوذة باعتبارها رفضا لأنظمة الاستبداد والفساد القائمة عربيّا، هي تعبير أصيل عن انخراط واضح فيهذه القيم والمبادئ السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكونيّة المطبّقة اليوم، بنسب وأقدار متفاوتة، في شطر مهمّ من دول عالمنا المعاصر التي تجسّد في الواقع المتعيّن ما يعرف بنموذج الدّولة الأمّة المواطنيّة الديمقراطية. 

ثالثا: هذه القيم والمبادئ السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة الكونيّة التي كرّستها شعارات الحراكات العربيّة الرّاهنة ليست إلا جزءا لا يتجزّأ من الوجه العمليّ المتعيّن لصيرورة الحداثة التي نشأت في الغرب الحديث وتعمّمت تدريجيّا حتى باتت ذات طابع إنسانيّ عامّ. بمعنى آخر إنّ ثورات الشّعوب العربيّة وانتفاضاتها الرّاهنة قد ترجمت، ومازالت تترجم، تطلّعاتٍ واضحةً إلى بدائل من الحداثة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، وحتّى الثقافيّة. غير أنّ المؤكّد هو كون الشّطر الأوسع من الجماهير العربيّة المنتفضة والثّائرة، ونخصّ بالذّكر الفئات الشبابيّة التي مثّلت عمدة هذه الحراكات، قد استوعبت هذه البدائل مباشرة في تجلّياتها التّطبيقية وظواهرها العمليّة كما تتكرّس في جزء مهمّ من بلدان عالمنا الرّاهن. نحن إذن تجاه أجيال عربيّة جديدة مندفعة نحو التّغيير بتمثّلات للقيّم الكونية الحديثة في وجها العملي التطبيقيّ وذلك بفضل الثّورة الاتّصالية الرّاهنة التي جعلت عالمنا قرية صغيرة. فلا أحد يستطيع أن يزعم أن لوعي هذه الأجيال صلةً مباشرةً بالجدالات الفكرية والمطارحات الإيديولوجيّة التي شغلت النّخب العربيّة منذ أكثر من قرنين والتي دارت حول ثنائيات متقاطبة ومتداخلة فيما بينها: الأنا والآخر، والتقدّم والتخلّف، والاقتباس والتّوفيق، والهوّية والتّغريب، والدين والعلمانية، والإسلام والحداثة، والتراث والمعاصرة، والسلفية والعصرانيّة، التّمجيد والنّقد … إلخ. لا أحد بمقدوره أن يدّعي بأنّ الوعي الذي حرّك، ويحرّك، الجماهير العربية الرّاهنة هو ثمرة من ثمار الطّروحات أو الأفكار التي خرجت من عباءات هذه الجدالات.

رابعا: أن تكون الجماهير العربيّة الواسعة المسلّحة بوعي تغييريّ حداثيّ مشتقّ مباشرة من الواقع العيانيّ الكونيّ هي الصّانع الرئيس للحراكات العربيّة الرّاهنة في أصلها ومنطلقها، فهذا لا ينفي أنّه مع تطوّر هذه الحراكات بات الدّور الرئيسيّ تضطلع به النّخب المثقّفة والمسيّسة المتسلّحة بأنماط وعيها الإيديولوجيّة الكلاسيكيّة والمتمترسة في اصطفافاتها التقليديّة المتولّدة من رحم تلك الجدالات التي طبعت مسار الفكر العربيّ المعاصر، أعني النّخب الإسلاميّة (بمختلف تيّاراتها) والقومية العربية واليساريّة الماركسية واللّيبراليّة الحقوقيّة. حدث هذا في سياق الثّورة السوريّة المجهضة التي تدخّلت فيها هذه النّخب (وخاصّة الإسلاميّة) وأصبحت لاعبا رئيسيّا قبل النّجاح في إسقاط النّظام. أما في ثورات تونس ومصر وليبيا واليمن، فلم تظهر فاعلية هذه النّخب المتأدلجة، عموما، إلاّ بعد نجاح الجماهير الواسعة الموحَّدة خلف شعاراتها الواضحة في تنحية رؤوس الأنظمة المستبدّة وفرض الدّخول في مسارات انتقاليّة إلى الديمقراطية. ومثل هذا التطوّر كان، في وجه منه، طبيعيا، لأنّ الحراك الجماهيريّ غير المقود بطلائع تنظيمية وحزبيّة يستطيع أن يسقط نظاما سياسيّا، لكنّه لا يقدر أن يبني نظاما بديلا منه، وبالذّات النّظام الدّيمقراطيّ الذي يقوم بالأساس على التعدّدية والتنافسيّة الحزبيّة. لسنا في حاجة إلى تفصيل القول في المآلات المأسويّة التي تدرّجت إليها المسارات الانتقاليّة في بلدان الثورة العربية، إذ يمكن القول ببساطة وبوثوق أنّنا تجاه تجارب مجهضة أو فاشلة في الانتقال الديمقراطيّ وتحقيق المطالب التي خرجت، ومازالت تخرج، من أجلها الجماهير العربيّة، بما فيها التّجربة التونسية التي أبدت قدرة على الصّمود مقارنة بالتّجارب الأخرى، لكنّها تعيش اليوم أزمة خانقة قد تعصف بمكاسبها المتحقّقة.

لقد هيّأت الجماهير العربيّة المنتفضة، والفئات الشبابيّة (الأجيال الجديدة) بالذّات، شروط التّغيير في أكثر من بلد عربي عندما أسقطت أنظمة الاستبداد، لكنّ النّخب الكلاسيكيّة التي طالما قدّمت نفسها باعتبارها الطّلائع الحاملة لبدائل من هذه الأنظمة لم تستطعأن تستكمل مسار هذا التغيير حينما حوّلت التّجارب الدّيمقراطيّة إلى حروب أهليّة وصراعات عصبويّة طائفيّة ومذهبيّة وحزبيّة مدارها على المصالح الفئويّة والفرديّة بدل أن تكون منافسات على خدمة الشّأن العام وتحقيق مصالح بلدانها.

خامسا: هنا نصل إلى المقدّمة الخامسة المفصليّة في هذه المقدّمات التي نقترحها للتأمّل والتّفكير. إذ معها سننتقل من شطر التّأملات في وقائع هذا الحدث التّاريخيّ المفصليّ الذي نعيش غماره عربيّا اليوم ونتائجه، إلى منعطف السّؤال: لماذا نحن تجاه حدث يوجب ضرورة حركة مراجعة للطّروحات والأفكار الإيديولوجيّة السّائدة في فكر العربي الراهن وتجديدها تجديدا جذريا؟ فالإجابة عن هذا السؤال هو عندنا قاعدة المقدّمات اللاّحقة التي نقترحها باعتبارها محدّدات ونواظم نرى أنها يجب أن تؤطّر مدارات النّظر والتّفكير في هذه الحركة. وهذه القاعدة مؤدّاها باختصار أنّ مختبر الحراكات العربية، ومسارات ما بعد إسقاط رؤوس الاستبداد بالتّحديد، قد أبانت بوضوح عن أنّ جلّ الطّروحات الإيديولوجية التي راكمها وسوّدها الفكر العربي المعاصر لا تطابق ولا تخدم مطالب التّغيير التي من أجلها خرجت، ومازالت تخرج، الجماهير العربية الواسعة، وفي طليعتها القوى الشّبابيّة من الأجيال الجديدة. إنّ شطرا مهمّا من الانحرافات الدراماتيكيّة التي عرفتها المسارات الانتقالية في بلدان الثورات العربية التي نجحت في إسقاط نظام الاستبداد يعود، في تقديرنا، إلى أنّ النّخب التيكانت الفاعل الرّئيس في هذه المسارات قد جرّبت، باسم الممارسة الدّيمقراطيّة و”حكم الأغلبيّة” و”المعارضة”، تطبيق مخارج طروحاتها الإيديولوجية الكلاسيكية (الإسلامية والقومية والماركسية والليبرالية) على أرض الواقع، ملبّسة شعارات الثّورات العربيّة وأهدافها بالمقولات النّظريّة الخلافيّة المألوفة حول الهوية والتّغريب والإسلام والحداثة والشّريعة والعلمانية … إلخ. أثبت المساران التونسي والمصري بالذّات أنّ ممارسة التعدّدية الحزبيّة والمدنيّة والتّنافسيّة الانتخابيّة باسم هذه العناوين الإيديولوجية وبمضامينها المتعيّنة في الفكر العربيّ هو عائق رئيس في وجه نجاح تجربة الانتقال الديمقراطيّ.

سادسا: من المقدّمات الأساسية التي نرى ضرورة الأخذ بها في أيّ حراك فكريّ إيديولوجيّ عربيّ قادم هي حقيقة كون الحراكات العربيّة الراهنة قد حسمت بشكل واضح، في تقديرنا، مسألة نموذج البديل السّياسيّ المجتمعيّ المتشوّف له عربيّا على الأقلّ في المستقبل المنظور. وهي المسألة التي كانت مشغلا مركزيّا، بل لنقل المشغل المركزيّ، في الجدالات الفكريّة والإيديولوجيّة التي استقطبت النّخب العربيّة. فالرّسائل المستقرأة من مجمل هذه الحراكات تصبّ جميعها في أنّ أفق التّغيير المنشود عربيّا هو النّموذج المتاح للبشريّة جمعاء اليوم، ألا وهو نموذج الدّولة الدّيمقراطية الذي يستبطن بالضّرورة مفهوم الأمّة المواطنيّة والمجتمع المدنيّ (وهذا مضمون الطّرح الرّائد الذي صاغه المفكّر عربي عزمي بشارة قبل عقود). ولكي ندرك هذه الحقيقة، يجدر بنا أن نتأمّل أوّلا النّماذج السلطويّة السياسيّة التي انتفضت ضدّها الجماهير العربيّة في سياق هذه الحراكات العربيّة بموجتيها. فالجماهير انتفضت ضدّ نموذج النّظام السلطويّ الاستبداديّ ذي النّزعة الحداثيّة العلمانيّة، وضدّ نظام حكم العسكر المغلّف بغلاف جمهوريّ، وضدّ النّظام الملكيّ المطلق والنّظام القائم على الأيديولوجيا القوميّة العربيّة الاشتراكية في صيغتها الأقرب إلى الشّعوبيّة والفوضويّة وفي صيغتها القائمة على بروباغندا المقاومة والممانعة. من جهة أخرى ثارت الجماهير العربيّة على نظام ضدّ حكم الإسلام السّياسيّ في صيغته السّنيّة الإخوانية وفي صيغته الشّيعية الطائفية، وثارت كذلك ضدّ نظام المحاصصة الطّائفية. على هذا النحو نرى أنّ الحراكات العربيّة الرّاهنة قد عبّرت عن رفضها لأشكال مختلفة من النّظم السياسيّة، منها النّماذج التي كرسّها الواقع العربيّ خلال عقود طويلة، ولكن منها أيضا نماذج قدّمها، وما يزال يقدّمها، جزء مهمّ من الفكر الإيديولوجيّ العربيّ باعتبارها بدائل، وفي مقدّمتها نماذج السّلطة التي تحكم باسم الهويّة الإسلامية ونماذج السلطة التي تحكم باسم الاشتراكية والمشروع القومي.

لقد أبانت الجماهير العربيّة الواسعة، وفي طليعتها الأجيال الشبابيّة الصّاعدة، عن أنّها تتطلّع إلى التّغيير في دولها القطريّة الحديثة القائمة وأنّها ترفض نظام الكيانات السياسية المفتّتة لهذه الدّول، نعني الجماعات الدّينية والطّائفيّة والقبليّة، كما أنّها لا تشرئبّ، حاليا على الأقل، إلى الكيانات السياسية الما فوق هذه الكيانات الدولتيّة القائمة، نعني كيان الدّولة الأمّة الدّينيّة الذي ترتكز عليه إيديولوجيا الإسلام السّياسيّ وكيان الدّولة الأمّة القوميّة الذي تستند إليه الإيديولوجيا العروبيّة. النّموذج التغييريّ الذي رسمت ملامحُه الجماهير المنتفضة في حراكها العمليّ هو النّموذج المعبّر عنه بالدولة الديمقراطية المواطنيّة المدنيّة وهو النّموذج الغائب في كلّ أنماط الحكم التي خرجت، ومازالت تخرج، عليها. والدّولة في هذا النّموذج ليست تلك التي تكون سلطاتها منتخبة بالطّريق الديمقراطية المتعارف عليها فقط، فالملاحظ أنّ شطرا من انتفاضات الجماهير العربيّة كان ضدّ سلطات جاءت بها انتخابات تستجيب عموما لشروط الانتخابات الدّيمقراطيّة: حرّيّة العمل السّياسيّ والتّرشّح والاقتراع وحرّية الاعلام والدّعاية وعدم تزوير نتائج الصندوق وتسلّم الفائزين للسّلطة … (انتفاضة 30 جوان 2013 بمصر والانتفاضتان العراقية واللبنانية في تشرين الأول 2019 وربّما بعض التحركات الاجتماعيّة الواسعة المتزامنة التي عرفتها تونس 2012 و2013). نعم طالبت الجماهير العربيّة بأن تحكمها سلطات سياسيّة منتخبة بطريقة شفّافة ونزيهة، لكنّ الانتخاب ليس تفويضا لأن يفعل المنتخبون ما يشاؤون، بل هو تفويض لخدمة الشّأن العامّ ومصلحة البلد بكلّ فئاته. لذلك لم تتوان الجماهير العربية عن الانتفاض ضدّ سلطات أتت بها صناديق الاقتراع، لكنّها انحرفت لخدمة المصالح الطائفيّة والفئويّة والفرديّة.

سابعا: علاقة الجماهير العربيّة الواسعة بالنّخب المثقّفة والمسيّسة، وعلاقة الأجيال الشبابيّة الصّاعدة بحاملي لواء الأفكار الإيديولوجيّة العربيّة الكلاسيكيّة، ستكون كذلك إحدى المحدّدات والنواظم، في تقديرنا، التي يجب أن تؤطّر حركة المراجعات والتّجديد الإيديولوجيّ المنشودة عربيا. كانت هذه الموضوعة، علاقة ثقافة النّخبة بثقافة الجماهير، موضوعة أساسيّة، إذا لم نقل الموضوعة الأساسية، في تأطير حراك الفكر العربيّ وتحوّلاته بعد هزيمة 1967. وذلك على خلفية قراءة منظّري الإسلام السياسيّ للحدث ومقاربتهم القائمة على القول بأن أسباب الهزيمة كامنة في تسليط “ّخيارات تغريبيّة” و”حلول مستوردة” على “الأمّة”. ففي نظرهم، إنّ النّخب العلمانية ممثّلة في الأنظمة ذات التوجّهات اليساريّة القوميّة الاشتراكيّة فشلت في تحقيق أهداف النّهوض العربيّ، كما فشلت قبلهم القوى اللّيبرالية في المسعى ذاته، بسبب كون هذه الإيديولوجيّات الغربيّة مسقطة على الشّعوب العربيّة ومغتربة عن هويّتها وثقافتها الإسلاميّة. من هنا طرح الإسلاميّون أنفسهم باعتبارهم قوى نهضويّة بديلة، وحازوا كلّ ذاك الزّخم الذي حازوه منذ ذلك الحين، من جهة أنّهم حاملو بدائل إيديولوجيّة مستندة إلى دين جماهير الأمّة ونابعة من هويّتها وذاتيّتها … إلخ. لم تحكم مقاربة علاقة إيديولوجيا النّخبة بثقافة الجماهير على هذا النّحو تفكير الجماعات الإسلاميّة بمختلف توجّهاتها فحسب، بل يمكن القول إنّها سيّجت، إلى حدّ بعيد، حدود المفكّر فيه، عند قطاع واسع من النّخبة المفكّرة والمثقّفة ذات التّوجّهات الحداثيّة. يكفي أن نستحضر الزّخم الكبير الذي عرفته نزوعات البحث في التّاريخ الإسلاميّ و”إعادة قراءة التراث” و”نقد العقل” عند أبرز روّاد هذه النخبة. وهي نزوعات هدفت إلى البحث عن “الجوانب المشرقة” في هذا التّاريخ وهذا التراث و”ّتأصيل” قيم الحداثة فيها، وذلك على سبيل مواجهة الإسلاميّين على نفس أرضية مسلّمتهم التي مفادها أنّ الجماهير الواسعة لا تقبل الانخراط في بدائل “غريبة عن هويتها”. غير أنّ الحراكات العربية الرّاهنة جاءت لتربك هذه المسلّمة، بل لتنسفها من الأصل في رأينا، ذلك أنّ الجماهير العربية الواسعة، والفئات الشبابيّة الصّاعدة بالذّات، عبّرت، من خلال انتفاضها على نظم الاستبداد والفساد، عن انخراط واضح في القيم الكونيّة الحديثة، وإن فعلت ذلك بـ “حسّ عمليّ” مباشر متولّد عن معرفة عيانية مباشرة بما بات سائدا في شطر واسع من عالمنا المعاصر، وهي المعرفة التي تتيحها العولمة الاتّصالية الراهنة. إنّ هذه الجماهير الواسعة، وهي مسلمة في غالبيّتها الأعمّ وغير متفصّية من انتمائها الحضاري العربيّ الإسلاميّ بلا شكّ، تحرّكت من أجل المطالب التي أصبحت قواسم مشتركة بين كلّ شعوب العالم، دون أن تكون مسكونة بهواجس تلك الثنائيّات المتقاطبة التي شغلت النّخب العربية لعقود. وهذا يعني في المطاف الأخير أنّ إحدى أهمّ المقدمات التي يجب أن نأخذ بها في مراجعتنا الفكريّة والإيديولوجية المنشودة مفادُها أنّ إشكالية استيعاب الحداثة تتعلّق بالنّخب أساسا أكثر من تعلّقها بالجماهير، وأنّ “الحسّ العملي” للجماهير يبدو أكثر “تقدّما” من “الوعي النظريّ” للنّخب في هذا الصدد.

ثامنا: قد يستشفّ القارئ ممّا سلف من خطابنا نزعة “جماهيرويّة” أو “شعوبيّة” مؤدّاها أن الجماهير العربية سيّدة صنع التاريخ القادم وأنّه لا مكان لدور النّخب المفكّرة والمثقّفة والمسيّسة في هذه الصّيرورة. لكنّ ما عبّرنا عنه، إلى حدّ الآن، ليس إلاّ الشطر الأوّل من الدّلالات التي استقرأناها من وقائع الحراكات العربيّة الرّاهنة ومخاضاتها. صحيح أنّنا نعتقد أنّ الجماهير العربيّة الواسعة، وفي مقدّمتها الأجيال الشبابيّة الصّاعدة، قد حسمت موضوعة البدائل، لأنّها ترجمت في انتفاضاتها وفي شعارات الحرّية والكرامة والعدالة الاجتماعية انخراطا واضحا في المطلب الذي يمكن تكثيفه تحت عنوان الدّولة الديمقراطيّة المواطنيّة. وصحيح كذلك أنّنا نرى أنّ “الحسّ العملي” لهذه الجماهير بدا أكثر تطوّرا من وعي النّخب في علاقة بموضوعة الحداثة والقيم الكونيّة. لكن في مقابل هذا كشفت مآلات الحراكات العربية الراهنة أنّ الفعل الجماهيريّ الواسع، ومهما كان زخمه وكانت تضحياته، لا يستطيع أن يصنع لوحده تاريخا جديدا، ومن ثمّة فإنّه من الوهم تخيّل إمكانيّة الاستغناء عن دور النّخب من جهة كونها طلائع تؤطّر حركة الجماهير في أيّ حراك تاريخيّ يفضي إلى نقلة نوعيّة في حياة الشّعوب.

على أساس، نرى أنّ مقدّمة أساسيّة من مقدّمات حركة المراجعات والتّجديدات الفكريّة والإيديولوجيّة المنشودة عربيا مؤدّاها أنّ مهمّة هذه الحركة تكمن بالأساس في خلق نخب جديدة مؤهّلة للاضطلاع بالدّور المحوري للنّخب الذي ما يزال معطّلا في مسارات الحراك العربيّ الرّاهن. وخلق نخبة جديدة مرتهن، بطبيعة الحال، بنشوء أفكار جديدة ونماذج تفكير جديدة، وأولى شروط ذلك هو، بكلّ تأكيد، تجديد الأسئلة. لذلك نصّصنا في ما سلف على أنّ شطرا، إذا لم نقل الشطر الأهمّ، من الأسئلة التي شغلت الفكر العربيّ المعاصر خلال عقود قد تجاوزته حقائق الحراكات العربيّة الرّاهنة، وفي طليعة ذلك الأسئلة التي مدارها على نماذج البدائل السّياسيّة الاجتماعيّة المنشودة والأسئلة التي مدارها سبل الاختيار بين الهويّة (الإسلام، التراث، السلف …) والحداثة أو التوفيق والملاءمة بينها بالطريقة الكلاسيكية المتداولة.

خلفية تجديد أسئلة الفكر العربيّ تكمن، حسب تقديرنا، في التّسليم أولا بأنّ النّموذج التّغييري المنشود عربيّا، على الأقل في المدى المنظور، هو تحويل الدّول العربيّة القطريّة القائمة إلى دول ديمقراطيّة مواطنيّة، وهو النّموذج المتاح اليوم للبشريّة جمعاء. وبناء عليه فإنّ مدار الإشكال الحقيقيّ الذي يجب أن تفجّر من خلاله النّخب العربيّة هذه الأسئلة لم يعد فرضيّة اختيار الانخراط في صيرورة العالم الحديث من عدمها، بل مداره كيف نحقّق هذا الانخراط ونجسّمه على أرض الواقع. تثبت تجارب الحراكات العربيّة الراهنة أنّ الحسّ العمليّ والمعرفة المباشرة لأوسع الجماهير لا يكفي لاستيعاب كلّ كنه الحداثة السّياسيّة المجسّمة في أنموذج الدّولة المواطنية الديمقراطيّة. فهذه الحداثة وليدة صيرورة طويلة الأمد قطعها العالم الحديث. ومن مهام النّخب العربيّة الفاعلة والمنخرطة في مشروع التّغيير العربيّ أن تزوّد الثقافة العربيّة في مستقبل الأعوام والعقود بفهم تاريخيّ لمجربات صيرورة هذا العالم الحديث وفواعل تطوّراتها. فمثل هذا الفهم هو الذي يساعد النّخب العربيّة المسيّسة والفاعلة بشكل مباشر على التخيّل السّياسيّ، ومن ثمّة على الفعل السّياسيّ، المطابق لأهداف التّغيير المطروحة في الوطن العربيّ اليوم. على هذا النحو، يبدو لنا أنّ التحدّي يكمن اليوم في تجديد أسئلة الثقافة العربية وإعادة بناء حتّى الأسئلة الكلاسيكيّة المتداولة فيها بخلفيّة استكناه فهم الصّيرورات السّياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة التي أدّت إلى بروز العالم الحديث وتطوّر مجتمعاته إلى دول أمم مواطنيّة ديمقراطيّة.

مقالات أخرى

أيّ نموذج إيتيقي للإنسانيّة المعاصرة

معطّلات الفهم في الشعر العربي المعاصر

شعريّة اللّباس

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد