العوائق الداخلية التي تحدّ من طموح إيران الإقليمي

Mapa-Iran

منذ توقيع الاتفاق النووي ، ساد اعتقاد لدى المحللين الملمين بقضايا الشرق الأوسط، بأن هذا الإقليم  ما قبل الاتفاق النووي، لن يكون كما بعده، بسبب ما سيفرزه الاتفاق النووي من تحولات في المشهد الإقليمي ،و التي تبقى موضع تباين في ظل الاصطفافات الثابتة والمتغيّرة التي يشهدها الشرق الأوسط منذ ما يقارب الأربعة عقود.

و يشكّل التهديد بتدخّلٍ عسكريّ تركيّ ضد مقاتلي حزب العمّال الكردستاني PKK الذين لجؤوا إلى العراق آخر مرحلة في صعود التوتّر في الشرق الأوسط . فمن الأزمة السورية إلى الأزمة اليمنية ، مروراً بالعراق ولبنان، لقد غيّرت «الحرب الدائرة ضد الإرهاب» التي أطلقها ما بات يعرفي الخطاب السياسي العربي ب«ثورات الربيع العربي » المنطقة برمّتها في الأعماق. ولكن ليس كما حلم به مخططوالانتفاضات ،وداعميهم من قوى إقليمية و دولية   . فما يشكّل اليوم خصوصيّةً في «الشرق الأوسط الكبير» هو إضعاف هياكل الدول الوطنية ، وربما إسقاطها، وتكاثر النزاعات، والتدخّل المتزايد للقوّات العسكريّة الإقليمية ، ودور المجموعات الإرهابية ، التي تستهدف تقسيم الدول الشرق أوسطية ، التي قامت على أرضية اتقاقيات سايكس بيكو  .

          و هكذا ،ومنذ بداية «الربيع العربي »في سنة 2011، أصبح «الشرق الأوسط الكبير» – وهي منطقة غير واضحة المعالم، تمتدّ من أفغانستان إلى المغرب مروراً بالقرن الإفريقيّ- المنطقة الأساسيّة لانتشار الحركات الإرهابية ،وحلبة المواجهة الأساسيّة، لا بل حتى الوحيدة، بين القوى الإقليمية و الدولية لما يصفه  المحللون بالصراع العالميّ، على إقليم الشرق الأوسط. ونظراً لتعقيدات الأزمة السورية ، وتفجر الصراع الطائفي في العراق، وصولاً إلى الأزمة اليمنية ، و غنى منطقة الشرق الأوسط بمصادرها النفطيّة، وموقعها الاستراتيجيّ ووجود إسرائيل، احتلت هذه المنطقة أولويّات الاستراتيجية الكونية للولايات المتحدة، لا سيما منذ العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 والضمور التدريجيّ لنفوذ فرنسا والمملكة المتّحدة. فوفق شرح فيليب دروز- فينسان في تحليلٍ حذِق لـ«اللحظة الأميركية» في الشرق الأوسط، باتت هذه المنطقة تشغل مكان أميركا اللاتينية في كونها «حديقة خلفيّة مباشرة » للولايات المتحدة؛ مع منحى إضافيّ، لم يسبق لأميركا الجنوبية أن شهدته من قبل، وهو أن تكون حلبة صراع حيويّة لحرب عالميّة ثالثة ،في ظل تفجر الحروب الأهلية في دول كل من سوريا، و العراق، و اليمن ، وليبيا، التي أضعفتها عقودٌ من الديكتاتوريّة والفساد، على تقلّصٍ لدور الدولة. بل في بعض الحالات اختفت الدولة بكلّ بساطة، كما في ليبيا، و اليمن.

          ومع ذلك، فإن الاتفاق النووي بين إيران و الدول الخمس الكبرى +ألمانيا، أصبح يشكل تسوية  إقليمية ودولية محورية لإعادة رسم المشهد الجيوستراتيجي في الشرق الاوسط على المدى المنظور، إن على المستوى الداخلي في هذا البلد او ذاك، او على مستوى العلاقات العابرة لـ «حدود سايك-بيكو» التي تزداد هشاشة يوماً بعد يوم.و باتت إيران قوة إقليمية معترف بها من قبل الولايات المتحدة الأميركية ، من دون أن يعني ذلك أن إيران أصبحت قادرة أن تقود النظام الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط.فإذا أرادت إيران أن تلعب دور القائد في النظام الإقليمي  الجديد قيد التشكل في الشرق الأوسط، فإن هذا يتطلب منها أن تمتلك مجموعة من المقومات لكي تقوم بهذا الأداء ، و يكون مقبولاً إقليمياً و دولياً.

إيران دولة إسلامية جارة للعالم العربي، تقع في القسم الجنوبي الغربي لقارة آسيا، تَحُدُّها روسيا و بحر قزوين من الشمال، و أفغانستان و باكستان من الشرق ، و خليج عمان ، والخليج العربي في الجنوب، وكل من العراق و سوريا و تركيا ، من الغرب. وتتماس إيران مع العالم العربي من جهة الغرب، إذ تمتلك  حدوداً برية طويلة مع العراق ، يبلغ طولها 1458 كيلومتراً،وحدوداً بحرية مع دول الخليج العربية الست: المملكة العربية السعودية، دولة الكويت، دولة قطر، دولة الإمارات العربية المتحدة، سلطنة عمان ، ومملكة البحرين .وارتفعت نسبة الحضر من السكان من 50في المئة سنة 1979إلى أكثر من 70في المئة  اليوم. وقبيل الثورة كان أكثر من نصف الإيرانيين أميين ، في حين انخفضت النسبة اليوم إلى أقل من 15في المئة.وبالتوازي عرفت البلاد ثورة ديموغرافية: فمن30مليون سنة 1979، ارتفع عدد السكان اليوم إلى أكثر من 80مليون: أكثر من نصفهم دون الخامسة و العشرين، أي أن أغلبية الإيرانيين اليوم قد ولدوا بعد الثورة.وفيما ولّدت الحياة المدينية حاجات جديدة، لم تتمكن الحكومة من الاستجابة لها.فخلال السنوات العشر الماضية ، ارتفعت نسبة البطالة لدى الشبان دون  الخامسة و العشرين إلى 35 في المئة، و40في المئة لدى النساء.و أدى غياب الأفق المهني للطلاب و حملة الشهادات إلى تسريع هجرة الأدمغة طوال السنوات الماضية.فوفق إحصائيات صندوق النقد الدولي، يقيم في الولايات المتحدة الأميركية 250ألف مهندس وطبيب إيراني، إضافة إلى 170 ألفاً من تابعوا دراساتهم العليا.

يصطدم الدور الإقليمي الإيراني الفاعل بصورة إيجابية بطبيعة السلطة القائمة في طهران، التي لا تمتلك  مشروعَا ديمقراطياً راديكاليًا مناهضاً للهيمنة الغربية، وقادراً  أن يكون نموذجاً يحتذى به في العالم العربي،ويشكل قوة فاعلة و مشاركة في إطار التأثيرالمتبادل مع فواعل النظام الدولي الجديد ، لا سيما أن إقليم الشرق الأوسط ، يشهد منذ سقوط نظام البعث في العراق هيمنة شيعيّة في بغداد  تعتبرها إيران مسألة ضروريّة لإرساء الاستقرار ومقدّمة لأيّ تعاونٍ بين واشنطن وطهران، إضافة إلى انبعاث الهويّات الإثنيّة-الدينيّة – وهو انبعاثٌ تشجّعه الدول الغربية و الإقليمية. فتقليص إقليم الشرق الأوسط إلى مجرد فسيفساء من «الأقليّات الطائفية »، بات يسيطر على السياسة  الغربية و الصهيونية بمجملها، وهو يدفع كلّ واحدٍ إلى التماهي مع طائفته، على حساب أيّ انتماءٍ وطنيّ ، ويقود إلى سقوط الدول الوطنية العربية ، في العراق ،سورية ، و اليمن ، وليبيا.كما يشجّع على جميع أنواع التدخّلات الأجنبيّة، الإقليميّة والدوليّة، التي يتلاعب كلٌّ منها بالأطراف المحلّية، لما فيه خدمة مصالحها الخاصّة. فإيران ، الدولة التمامية بينويا دائما ، والمستعجلة دائما، تُعيد اكتشاف التيوقراطية أي الطابع الكهنوتي للدولة الإيرانية ، من خلال تبنيها لنظرية «ولاية الفقيه» كما صاغها الإمام الراحل الخميني  على الرغم من أنها تجسد قطيعة فقهية و معرفية باترة  مع «نظرية ولاية الأمة على نفسها» و هي النظرية الشيعية الإصلاحية المستنيرة التي صاغها  المصلح الإيراني الكبير الإمام الميرزا محمد حسن الغروى النائيني (1860-1936) منظر  الثورة  الدستورية الإيرانية  المعروفة تاريخيا ب«ثورة المشروطة»سنة 1906، في كتابه المهم والجريء«تنبيه الأمة وتنزيه الملة».

إن تحول نظرية «ولاية الفقيه » الخمينية إلى أيديولوجية رسمية للجمهورية الإسلامية الإيرانية  التي تمنح السلطة المطلقة لمرشد الثورة (بالأمس آية الله الخميني، واليوم آية الله خامنئي) ،أطاح بعصر الأنواروحركة  الإصلاح الإسلامي للأمة بشيعيّها و سنييّها  ، وأسقط  مفهوم بناء الدولة الديمقراطية التعددية ، أي دولة القانون.ومع ذلك، هنالك ،مثلما في مكان آخر، فَتَحتَ النزعة الثأرية للمقدس تَحضُنُ عودة الدولة –الأمة في بعدها القومي الفارسي ، لإخماد المحاولات الانفصالية من جانب الأقليات الرامية للاستئثار بموارد حيوية للدولة. فإيران المنهارة القوى ظاهريا غداة  ثورة الخميني زجت بجميع قواها في المعركة  لاحتواء اضطرابات كردستان (سانانداج) من دون أن تمنح أدنى بداية إرضاء لمطالب الأكراد في الحكم الذاتي، وقدرتها التي لا تقل إثارة للدهشةعلى تحجيم آثار كفاح العرب في خوزستان( عربستان )  من أجل الحكم الذاتي ( جبهة تحرير الأهواز) وعلى استدراك انضمامها إلى الجيش العراقي في بدايات الحرب الإيرانية ـ العراقية الأولى بترحيل مكثف للسكان العرب من مراكز المدن مثل خورمشاه كل ذلك يشهد على هذا العزم من جانب الدولة الإيرانية  على ألا تتخلى عن شبر من الأرض.

يقتضي الدور الإقليمي لإيران ، أن تفسح السلطة القائمة في طهران في المجال لكي تمارس المعارضة الإصلاحية دورها الحقيقي من أجل إعادة بناء الدولة الوطنية الإيرانية وفق مقتضيات العصر ، لاسيما أن الجمهورية الإسلامية ليست نموذجاً للديمقراطية، نظراً لما تشهده من قمع   لحريات التعبير باسم الأمن القومي و المبادىء الأخلاقية، ومن رقابة للسلطة على حرية الترشح للانتخابات . فالتيار الإصلاحي ، الذي صعد في السياسة الإيرانية في عهد الرئيس السابق محمد خاتمي ، تراجع كثيرا، وتم قمعه بشدة في الانتخابات الرئاسية سنة 2009، بسبب طرحه المتقدم الذي يزاوج بين الأساس الديني والمفاهيم الديمقراطية-الليبرالية واقتصاد السوق الحر،ويطالب بإرساء  دولة القانون، والحريات العامة، وحقوق الفرد، والتعددية، ونقد آلية عمل نظام ولاية الفقيه .. وعلى نقيض ولاية الفقيه التي شكلت الأساس الإيديولوجي الذي يقوم عليه نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية طورت عدة مراجع دينية في إيران مرتبطة بالتيار الإصلاحي  نظرية «ولاية الأمة على نفسها»، وتعتمد خط الشورى في المسألة السياسية والتنظيمية المتعلقة بالمجتمع السياسي، باعتبارها دولة زمنية لا يجوز للفقهاء أي رجال الدين أن يتولوا السلطة فيها، أو أن يكون جميع جسمها وبخاصة جميع مفاصلها وقيادتها مكونة من رجال الدين. بل إن هذه الدولة يجب أن تدار بحكمة عالية، وأن يتولى قيادتها رجال سياسة مختصون، لأن رجال الدين عادة غير مختصين في حقول ممارسة الحكم في الدولة، والحال هذه تصبح الدولة من مناطق «الفراغ التشريعي» المحالة للأمة. فلا مجال لأن يسند بها شخص واحد إذا كان هو الفقيه العادل.

في ظل العولمة الرأسمالية الليبرااية ، التي قوامها الاقتصاد المندمج و المال ، و التي تتضمن الانخراط في نهج الليبرالية الاقتصادية ، يبدو الاقتصاد الاقتصادي الإيراني ضعيفاً لأنه  مرتبط بسعر النفط، ولأن الدولة المركزية الإيرانية تمارس اللعبة المذهبية وتستثمر فيها. هذه اللعبة لا يمكن إلّا أن ترتدّ عليها عاجلاً أم آجلاً. ويقتضي بناء الاقتصاد الإيراني وفق مقتضيات العصر، القيام بالإصلاحات النيوليبرالية ، وهو ما سيقود إلى الإصطدام بمؤسسة الحرس الثوري  التي تعتبر دولة داخل الدولة ،وتتحكم  بثلث الواردات الإيرانية: حوالي 60 ميناء على شواطىء الخليج العربي، و حوالي 10 مطارات، إضافة إلى 25مركزا للتخليص الجمركي في مطار مهاباد الدولي . ويعتمد النظام الإيراني الحالي على المؤسسة الأمنية- العسكرية التي يشكل «الحرس الثوري» ، أو «البسدران» بالفارسية ، عمودها الفقري ، نظرا لعدم ثقة النظام الإسلامي بالجيش النظامي التقليدي. ووزّع النظام مبالغ ضخمة (بشكل عقودٍ محرّرة بالدولار) على الحرس الثوريّ الذي دعمه. وتمّ تخصيص مليارات الدولارات لبناء شبكاتٍ لنقل الغاز لشركة مؤسسة «خاتم الأنبياء» التابعة للحرس الثوريّ. وقد أصبح هذا الجهاز عملاقاً إقتصادياً (يمكنه إستيراد البضائع دون الرضوخ لضرائب الدولة، كما يمكنه بيعها بحرّية في الأسواق)، وغدا «البسدران» أحد أهمّ الأطراف الفاعلين في مجال النفط. وساهم سخاء الدولة، الموجّه لقسمٍ من أنصارها من جهة، وسياسة «طبع الأوراق النّقدية» من جهة أخرى، إلى تضخّمٍ أدى من خلال زيادة أسعار السلع الضرورية، إلى تقليص القدرة الشرائية للمُستضعفين، وبذلك خيّب آمال قسمٍ كبيرٍ من الطبقات الأكثر فقراً، كما الطبقات المدينيّة الوسطى والدُّنيا، ذات الموارد المحدودة جداً، والتي كانت قد أَمِلَتْ بتحسّنٍ في مستوى معيشتها في عهد أحمدي نجاد».

فقد تحولت مؤسسة «الحرس الثوري» إلى طبقة مهيمنة في المجتمع الإيراني تمتلك مصادر القوة العسكرية و الأمنية و الثقافية و الإعلامية و الثروة في المجتمع ،حيث لم يعد خافيا على أحد في إيران أن كل مشروع  اقتصادي تتجاوزقيمته 10 ملايين دولار، لابد أن تتدخل مؤسسة الحرس الثوري فيه أو تسيطر عليه.وحسب تقدير  الخبراء يصل عدد كوادر هذه المؤسسة  الأمنية ـ العسكرية إلى نحو 125 ألف كادر، وتصل طاقتها التعبوية إلى نحو ثلاثة ملايين شخص.  هذه القوة القديمة – الجديدة هي التي ستقف بقوة أمام تحول إيران ، بعد إنجاز الاتفاق النووي،و استعادة الأموال  المجمدة في البنوك و المصارف الغربية،  إلى قوة اقتصادية نامية مندمجة في نظام العولمة الليبرالية .

و لا يمكن لإيران أن تلعب دورا إقليميا فاعلاً، كما كان الحال في عهد النظام الإقليمي العربي ، في عقود الخمسينيات و الستينيات و السبعينيات من القرن الماضي ، مادام  التيار المحافظ المتشدد  في طهران لا يزال متمسكاً بالمفاصل الأساسية للنظام ويعمل من مواقعه المحصنة على كبح أي إصلاح أو تغيير أو إطلاق حرية التعبير ولو من داخل النظام، نفسه، والقيم نفسها التي انفصلت من أجل الثورة الإسلامية.و مادامت إيران تريد أن ترث الأمراض العربية  ، في ظل سقوط أكثر من دولة وطنية عربية حتى الآن في براثن المذهبية، وزوال الحدود الموروثة من اتفاقيات سايكس بيكو..

فالمعركة التي يخوضها المجتمع المدني الإيراني بكل أطيافه من طلاب وموظفين وأساتذة جامعات، ومهندسين، وأطباء، وكبار تجار البزار، الذين مولوا في السابق الثورة الإسلامية، وهم الآن من ضحايا العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على إيران، من جراء عدم شفافية ملفها النووي، هي معركة جبهة الإصلاحيين والمحافظين الدينيين البراغماتيين التي تمتد من المرشح مهدي كروبي، والرئيسين السابقين رفسنجاني وخاتمي، مرورا بالمرشح المهزوم مير حسين موسوي، التي تدعو إلى إرساء دولة القانون، والحريات العامة، وحقوق الفرد، والتعددية، والسماح بنشاط جميع الأحزاب شرط موالاتها للدستور.

مقالات أخرى

ماجد الغرباوي : سلطة الفقيه والتشريع وفق منهج مقتضيات الحكمة

بيداغوجيا البرهان في فضاء الثورة الرقمية

ثوابت العدوان في العقيدة الصهيونية

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد